المسيحيّة والثورة: ثورة الإنسان المُشارِك
مجلّة تيلوس العدد ١ حزيران/يونيو ٢٠٢٠
خريستو المرّ
"ثورة المسيح ليست فرديّة، إنّها ثورة الشخص المشارِك" (أوليفيه كليمان)
في زمن الانتفاضات المتتالية في الدول العربية يتساءل المرء ماذا من المفترض أن يكون موقف المسيحيّات والمسيحيّين. كشفت الانتفاضة اللبنانيّة التي تسنّى لنا مراقبتها عن كثب مواقف مذهلة في قلب الكنائس وانشطار في المواقف المتّخذة، فيقف من جهة الذين يتبنّون بشكل غير مشروط وغير نقديّ خطاب السلطات القائمة عندما يكون مؤيّدوهم فيه، أو يعارضونه انحيازا لفاسدين آخرين خارج السلطة (وهاتان الفئتان وجهان لعملة واحدة هي عملة التبعيّة والعصبيّة)، ومن جهة أخرى وقفت مجموعات في مواجهة السلطات القائمة غير منحازين لأطراف النظام القائم الذي يشدّ البلاد إلى الهاوية، مشاركين في تحرّكات الانتفاضة التي لم تنته فصولها بعد، برأينا.
1 المسيحيّات والمسيحيّون مطالبون بالحرّيةبرأينا أيّة مقاربة مسيحيّة للأوضاع الإنسانيّة يجب أن تتفحّص تلك الأوضاع من زاوية هدف الخليقة كما قرأته المسيحيّة، ألا وهو الاتحاد بالله-المحبّة. هذا الاتحاد لا يمكنه أن يكون إلاّ عن طريق المحبّة التي هي طبيعة الله، طريقة وجود الله (الله ليس فقط يحبّ وإنّما هو محبّة)، وبالتالي فإنّ المحبّة الإنسانيّة هي شرط الاتّحاد بالله، ونعلم من خبرتنا البشريّة أنّ شرط المحبّة هو الحرّية. الله هو محبّة حرّة، وجعل نفسه بحاجة لبشر محبّين أحرارًا ليتّحدوا معا في وحدة محبّة-حرّة.
من وجهة النظر المسيحيّة هذه الحرّية ليست فقط حقّاً بل هي واجبٌ؛ فالله، كما قرأنا إرادته في وجه يسوع المسيح، يريدنا أحرارا، بحيث أنّ الابن تجسّد ومات وقام لكي نتحرّر من الخطيئة أي أساسًا لنكون قادرين على الحبّ، وإلاّ كيف سيبادلُ البشرُ اللهَ حبَّه بحبّ؟ الخطيئة هي إخطاء هدف وحدة الحبّ مع الله، والتوبة هي تصحيح المسار، هي تمرين على الحبّ، لكي نستطيع أن نتّحد بالله، والبشر، بمحبّة أعمق فأعمق.
ولكن التحرّر من الخطيئة له ترجمة عمليّة اجتماعيّة تكمن في الوقوف إلى جانب الحقّ: كالحرّية الفكريّة، حرّية الضمير، حقّ التعليم، حقّ الطبابة، حقّ العمل، أي باختصار الكرامة الإنسانيّة. وتكمن بالتالي في ممارسة حرّية التعبير والحرّية السياسيّة ليتمكّن الإنسان من اختيار المشاريع التي تناسب الكرامة الإنسانيّة. قد يقول قائل أنّ حرّية الاختيار ليس ضروريّة، وأنّ الحرّية "الداخليّة" هي الأهمّ، وأنّ هذه الأخيرة ممكنة حتّى في ظلّ الديكتاتوريّات وانعدام حرّية الاختيار السياسيّة. برأينا، قد يصحّ هذا الكلام بشكل استثنائيّ في حفنة صغيرة من البشر المتميّزين بشكل كبير، لكنّ علوم التربية والنفس والاجتماع تدلّ كلّها أنّ البيئة التي ينمو فيها الشخص لا بدّ أن تؤثّر على نظرته في الحياة وعلى مشاعره وعلى توجّهاته "الداخليّة" النفسيّة والروحيّة: مثلاً، القاعدة تقول بأنّ التربية في جوّ قمعيّ تنشئ أجيالا تستبطن القمع وتمارسه في العائلة ومجال العمل إلخ. وتغيير هذا المنحى يتطلّب جهودا تربويّة ونفسيّة هائلة. الاستثناء هنا يؤكّد القاعدة.
لهذا فإنّ سلب حرّية التعبير هو شرّ لأسباب كثيرة، وعلى الأقلّ لأنه يجبر الانسان أن يختار ما هو مدمّر للحياة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة، عدا عن أنّ القمع مُهين للكرامة الانسانيّة، للجسد وللنفس، يذلّ الإنسان، ويسبّب آلاما نفسيّة مبرحة، ولذلك لا بدّ من مواجهته بجميع الأحوال كشرّ.
وقد يقول قائل أنّ الحرّية "الداخليّة" ممكنة حتّى في ظلّ القمع الاقتصاديّ في ظلّ نظام استغلاليّ، ولكن القمع الاقتصاديّ يؤثّر - حتّى حدّ التخريب والتدمير أحيانًا - في العيش، والجسد، والقدرة على التعلّم، والصحّة، والبيئة، ومستويات الذكاء، والقدرة على العمل المنتج، والاستقلاليّة (بسبب الخوف من البطالة)، إلخ. هل هكذا أوضاع يرضى عنها الضمير؟ هل هي أوضاع تسمح بنموّ الحرّية الداخليّة أم هي تحاصرها؟ هل هي أوضاع منسجمة مع المشاركة التي عاشتها الكنيسة الأولى؟ هل هي أوضاع منسجمة مع خطّ ذاك الذي جاء «لتكون الحياة وتكون أوفر» فاهتمَّ بجوع الجائعين والجائعات، وأجسادهم وأجسادهنّ، وحزن الحزانى، ولوعة الذين فرّقهم الموت؟ أليست هذه الأوضاع الجائرة هي ترجمة للخطيئة الجماعيّة المعشّشة في البُنى القائمة؟ ألا يجب على من اتّبع يسوع مواجهة الخطيئة بكلّ أشكالها ونتائجها؟ إنّنا نعتقد أنّ الجواب هو: بلى وإلاّ نكون نغضّ النظر عن الوحشيّة والتدمير والقتل البطيء الذي نراه حولنا.
يجب الدفاع عن الكرامة الإنسانيّة في وجه كلّ ما يقمعها، أكان نظامًا تربويّا أو سياسيّا أو اقتصاديّا أو غير ذلك. الدفاع عن حرّية التعبير لا يكفي، فبعض الانظمة الاستغلاليّة قد تعطي حرّية تعبير كبيرة ولكنّها تبقيها حرّية شكليّة، فما هي حرّية إنسان لا يستطيع أن يؤمّن قوت يومه، وما هي حرّية تعبير إنسان لا يتمكّن من القراءة أو لا يملك ثمن الحصول على معلومات صحيحة؟ إنّ الأوضاع القمعيّة كما الأوضاع الاستغلاليّة، هي نتيجة بُنى وليس مجرّد صدف أو ترجمة لإرادة إلهيّة (حاشا أن نلصق ذلك بإله يسوع المسيح الذي «يشرق شمسه على الأخيار والأشرار»). هذه البنى غير مناسبة لنموّ الحرّية ولا لنموّ المحبّة، وبالتالي غير مناسبة لنموّ الملكوت في هذا العالم. لأجل ذلك، تجب مواجهة الأنظمة القمعيّة كما تلك الاستغلاليّة. المساهمة المسيحيّة في هذا المجال تكون بالتأكيد على ضرورة جمع الحرّية بالـ«خبز»، أي الحرّية بكلّ الضرورات المادّية لحياة إنسانيّة كريمة، وتكون بضرورة أن يكون كلّ ذلك مُلحقًا بالرغبة باللقاء بوجه يسوع الحبيب.
صحيح بالطبع أنّه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ولكن بكلّ كلمة تخرج من فم الله»، ولكن هذا لا يعني أنّ الخبز غير مهمّ، الجملة لا تنفي ضرورة الخبز، تنفي كفايته، الخبز ليس كاف للحياة ولكنّه شرط ضروريّ لا يمكن تسخيفه؛ فإن كانت حاجاتي المادّية غير مهمّة بالنسبة لي، فإنّ حاجات الآخر يجب أن تكون بالنسبة لي «سرًّا» روحيًّا ينبع من «سرّ الآخر» الذي يجب أن يمتدّ بعد سرّ المذبح، كما علّم يوحنا ذهبي الفم. خلاصي لا يمكن أن يكون فرديّا، بل هو يمرّ عبر الآخر حكمًا. وكذلك خلاص الكنيسة لا يمكن أن يكون إلاّ إذا غدت فعلاً جسد المسيح الممتدّ في أجساد ونفوس المعذّبين حول الأرض. الكنيسة كجماعة لن تخلص إلاّ إذا صارت جماعة الذين يحبّون.
2 ضرورة جمع الخبز والحرّيةإنّ التوازن الذي يفرضه تجسّد الكلمة في يسوع المسيح، بطبيعتين إلهيّة وإنسانيّة «دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال» يمنعنا من تطرّفين: تطرّف الاستهتار بـ"الخبز"، أي الاستهتار بالحياة على هذه الأرض ومتطلّباتها المادّية، وتطرّف الاستهتار بالروح، الاستهتار بالحرّية، بالذي يصرخ فينا أنا لست شيئا، أنا أبعد من مجرّد وسيلة ومُستَخدم لمستخدِم، أنا أبعد من كوني أنتمي إلى كتلة اجتماعيّة، من كوني عضوا في جماعة، إلى ما هنالك... هو باختصار تطرّف الاستهتار بالوجه، بالأنا التي تدلّنا علوم النفس أنّها لا تكون إلاّ بالمحبة في الجماعة، أي بوحدة مع الآخرين تحترم التمايز.
الإيمان بطبيعتي المسيح يلزمنا أن نبتكر حلولا تحترم ملكوت الضرورة وملكوت الحرّية والمحبّة، البعد المادّي والعمق الروحيّ. حاولت أنظمة أن تعطي الناس خبزا وتستولي على حرّيتهم فكانت تمثّل تجربة المفتّش الأكبر لدى دوستويفسكي في روايته الإخوة كرامازوف؛ وحاولت أنظمة أخرى أن تعطيهم حرّية شكليّة وتأكل أجسامهم ونفوسهم وكرامتهم، وكانت تمثّل تجربة ميفيستوفيليس في نصّ "الدكتور فاوست" للشاعر الألمانيّ غوته.
ولنؤكّد من جديد، أنّ من لا تهمّه هذه الأمور لنفسه فيجب أن تهمّه من أجل غيره، فوجه الآخر هو باب المـَلَكوت، والآخر هو وجه الله إلينا. المـَلَكوت لا يُبلغ إلاّ من خلال الالتزام بالأرض وليس بالهروب منها، لا يُبلغ إلاّ من خلال الدفاع عن الإنسان، عن حرّيته وخبزه. الكنيسة نفسها هي غرسُ خميرةِ يسوع في الأرض لكي تشارك وَحْل الناس ومآسيهم، وتحملهم في قلبها وتشير إليهم من قلب العتمة إلى طريق «العبور» نحو ضوء المشاركة.
الكنيسة ليست هنا على هذه الأرض لكي تتكوّر حول نفسها، وترتاح لتراتيلها وصلواتها وطقوسها وإنّما لكي تحوّل هذه الأرض إلى قصيدةِ مشاركةٍ تخاطب بها شاعر الكون. لن ينجو المسيحيّون والمسيحيّات من الخطيئة إلاّ إذا عملوا مع غيرهم على نجاة المجتمع من عبء الخطيئة الرابضة في البُنى التي تسحق الإنسان.
3 الواقع في لبنان وموقف الكنيسة الرسميةينوء المواطنين والمواطنات في العالم العربي تحت عبء الكثير. القمع أولاً، السجون متخمة بالمعتقلين السياسيين. ثمّ هناك الأمّية، فنسبة الأمّية فيها تناهز 43%. هناك حوالي 60 مليون بالغ أمّي، معظمهم من النساء. وهناك التفاوت المرعب في توزيع الثروات الوطنيّة عبر العالم العربيّ. في لبنان، نعرف أنّ نصيب 3 آلاف لبناني من الدخل أكثر من حصة نصف السكّان، بينما لا يمتلك نصف اللبنانيّون واللبنانيّات أي تغطية صحيّة، وحوالي نصف العمّال غير مشمولين بالضمان الصحي وتعويضات نهاية الخدمة، و75% منهم لا نظام تقاعد يحميهم.
في أيّة جهة وقفت الكنائس عند انتفاضة 17 تشرين أوّل في لبنان؟ صدر بيان للكنائس المسيحيّة يمثّل رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة في 25 تشرين أوّل 2019 (بعد أسبوع من اندلاع الانتفاضة الشعبيّة). يبدأ البيان بفوقيّة وتمنين للناس بأنّ «الكنيسة لطالما وقفت إلى جانبه [الشعب] واحتضنت حاجاته... وهي تلتزم... المزيد من الخدمات«. وبعد بضع كلمات عاطفيّة بأنّ «الـمُسكِّنات لا تَمرّ بعد الآن» وبأنّ وجع الشعب بلغ «حدّه الأقصى» وأنّ السلطة «أمعنت في الانحراف والعناد»، والكلام الإنشائيّ على ضرورة "العمل الفوري على معالجة أسبابه[الوضع]"، و«اتّخاذ مواقف تاريخيَّة وتدابير استثنائيَّة»؛ يلج البيان إلى لبّ المقصود الحقيقيّ منه ألا وهو محاولة تخدير همّة الناس لإخماد الانتفاضة. إذ يتضمّن البيان تنصيب رؤساء الطوائف الدينيين ولاةً على حياة الناس السياسيّة، فيدعون رئيس الجمهوريّة فورًا إلى التشاور «مع القادة السياسيِّين ورؤساء الطوائف» وبذلك يعلنون قصدهم الفعليّ، ألا وهو تأكيد سلطتهم وتعاونهم مع الحكّام وحماية النظام الطائفيّ. فهكذا دعوة لاستشارة رؤساء الطوائف ستثبّت أكثر النظام الطائفيّ المسؤول عن حماية النظام الاقتصاديّ، الذي يولّد الفقر والبطالة والزبائنيّة ونهب الدولة ومقدّراتها وشلّ أدواتها. لا يمكن، برأيي، أن نقرأ هكذا دعوة إلاّ كمحاولة انقلاب على طموح الناس والفقراء تحديدًا، وكتعبيرٍ عن رغبة واضعي البيان باستمرار النظام، الذي لا هو أفقرهم ولا أقلق نفوسهم ولا مسّ بكرامتهم.
ثمّ إنَّ يدعم البيان سلسة من القرارات وضعتها الحكومة من أجل متابعة نهب ما تبقّى من مقدّرات الدولة تحت مسمّى الخصخصة. من ثمّ يخلص البيان إلى ضرورة «تعديل الفريق الوزاريّ»، كأنّ الفريق الحاكم الذي نهب البلاد يتغيّر حين يُغيّر وزيرا أو آخر.
هكذا نرى، أنّ اقتراحات واضعي البيان العمليّة هي على نقيض الديباجة العاطفيّة البهلوانيّة التي بدأ بها، وهذا لا يدلّ إلاّ على وقوف رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة إلى جانب النظام القائم كما هو. كان هذا دأبُ العديد من الكنائس في أكثر من بلد عبر التاريخ. تناغمت الكنيسة الرسميّة عبر محطاتٍ من تاريخها مع مصالح الطبقات المـُسيطِرة، واصطبغت بصبغةَ الإقطاعيّة والبرجوازيّة عوض أن تتمسّك بصبغة الروح القدس. وقد مالت أحياناً إلى تقدّيس أبشع الإيديولوجيّات الفاشيّة وبينما أوصاها سيّدها بالوقوف إلى جانب المظلومين، وقفت إلى جانب الظالمين، وغطّت الضحايا بمعطف من الكلمات المدبّجة. الكنيسة الرسمية، كانت وما تزال، ترفع صلوات الشكر احتفالا بهزائم الثورات الشعبيّة وتبارك الفاشيين: موسوليني في أيطاليا، وفرانكو في أسبانيا، وبافليتش في كرواتيا، وديكتاتوريّة اليونان في السبعينات، والحكّام الروس من القرن التاسع عشر إلى يومنا، وبطّاشي ونهّابي البلاد العربيّة.
اليوم مثلاً تصرّ الكنائس على حماية النظام الطائفيّ اللبنانيّ وترفض إقرار الزواج المدني الاختياري وتُكرِه نساءً ورجالاً أن يتسمّوا على اسمها وأن يتزوّجوا فيها في ضرب واضح لحرّيتهم الشخصيّة، واحتقارٍ لكرامتهم كبشر ولإيمان الكنيسةِ نفسه. لقد نسي كثير من المسؤولين في الكنائس الرسميّة دعوة الإنجيل للحرّية وارتاحوا للسلطة وأحبّوا الإكراه، لقد فقدوا الإحساس بما يعيشه الناس لقربهم من مصادر النفوذ والسلطة. هؤلاء يمنعون أيّ نقاش وحوار فكريّ داخل المؤسّسات الكنسيّة تحت ذريعة توحيد الخطاب الكنسيّ، ولا يردعون مَن يدخل في صفوف رهبناتها ويرتكب ممارسات لاأخلاقية. ويتركون الفكر الانهزاميّ والمهلوس بمكائد كونيّة ضدّ الإيمان القويم ينمو دون رادع بين ظهرانيها، ويسكتون عن نموّ التيّارات الأصوليّة التي تهاجم العقل، وتبثّ هلوسات تقيّم النظريّات العلميّة، خالطة بين المستوى الإيمانيّ والمستوى العلميّ في الحياة، وينحون نحو ممارسات تسلّطية فيزرعون ذهنية زبائنيّة تشبه ما نراه في دهاليز السياسة.
في قلب الكنيسة، حان الوقت لثورة مشاركة تسمح للفقراء بأن يكونوا مجدّدا في وسطها. حان الوقت لمشاركة حقيقيّة للمرأة في الكنيسة. حان الوقت لإطلاق روح الحرّية والابداع في الشباب والشابات المتحفّزين والمتحفّزات لتغيير العالم حولهم. حان وقت استخدام العلوم في التخطيط والتنفيذ في حياة الكنيسة. حان وقت اعتماد آليّات واضحة وعصريّة في طريقة العمل داخل المؤسّسات الكنسيّة بدءا من البطريركيّات وحتّى الرعايا والجمعيّات. حان وقت بناء هذا العمل على أساس دراسات استقصائيّة لفهم رأي الرعايا، وأولويّاتها المختلفة باختلاف الظروف الموضوعيّة المحيطة بها، حان الوقت لبناء منتديات دائمة ومؤتمرات سنويّة مفتوحة على جميع المعتقدات، وعلى العاملين في العلوم المختلفة للتفكير في كيفيّة خروج المجتمعات من الفقر والفساد وكيفيّة بناء مجتمع مشاركة في كلّ بلد، مجتمع يترجم رؤى الملكوت في واقع اليوم، فتكون الكنائس - دون أن ترتبط بمشروع سياسيّ محدّد - العاملَ المحفّز للقاء والعمل، وتكون حقّا خميرة الملكوت في عجينة المجتمع، عوض العزلة الطقوسيّة التي هي عليها الآن. هناك ثورة في الكنائس، ثورة مشاركة تأخّرت كثيرًا.
4 خلاصةلقد بتّ على قناعة بأنّ المسيحيّة ما تزال في بداياتها "فالمسيحيّة مثل التيّار الإنسانيّ، لم تبلغ الأعماق، لم تعانق معظم الإنسانيّة، حتّى ولا هؤلاء الذين يعترفون ظاهريّاً بالإيمان المسيحيّ" كما لاحظ الفيلسوف المسيحيّ الوجوديّ بردياييف.
الكنائس تقف على مفترق طرق وجوديّة، وإن لم تقرأ علامات هذه الأزمنة، علامات الحرّية والعدالة الاجتماعيّة، فستبتعد عن سيّدها الممزّق في الممزّقين، وتخسر مصداقيّتها، إلى أن يأتي محبّين من داخلها ومن خارجها ليقرأوا نداء الله في آهات الموجوعين، فيحتضنوهم، ويشعّون ثورة مشاركة في هذا العالم، مشاركة جذريّة، وهي بالنسبة للمسيحيّين والمسيحيّات متجذّرة في الكأس المقدّسة التي تجعل المتفرّقين واحدًا.
إنّ وجه يسوع المسيح المعلّق على الصليب يفرض علينا أن نعارض الفقر والبؤس ونطلب الخير للجميع (1 تسالونيكية 5: 15) "ومثلما تصنع الإفخارستيا الكنيسة، فإن المحبة تعد البشرية جمعاء لتصبح كنيسة الله"، كما يقول المطران جورج خضر. الثورة الكبرى، وربّما الوحيدة، هي ثورة المشاركة؛ وكلّ عمل يصبّ فيها هو ثورة. وفي زمننا، لم يعد بالإمكان الاكتفاء بالعمل الاجتماعيّ وغضّ النظر عن الظلم القائم في البنى السياسيّة والاقتصاديّة، إنّ علامات الأزمنة تنادي بأنّ التوبة الذاتية عن الخطايا الذاتيّة يجب أن تترافق مع توبة فاعلة عن الخطايا الجماعيّة القائمة في بنى الظُلم حولنا.
"ثورة المسيح ليست فرديّة، إنّها ثورة الشخص المشارِك" (أوليفيه كليمان)
في زمن الانتفاضات المتتالية في الدول العربية يتساءل المرء ماذا من المفترض أن يكون موقف المسيحيّات والمسيحيّين. كشفت الانتفاضة اللبنانيّة التي تسنّى لنا مراقبتها عن كثب مواقف مذهلة في قلب الكنائس وانشطار في المواقف المتّخذة، فيقف من جهة الذين يتبنّون بشكل غير مشروط وغير نقديّ خطاب السلطات القائمة عندما يكون مؤيّدوهم فيه، أو يعارضونه انحيازا لفاسدين آخرين خارج السلطة (وهاتان الفئتان وجهان لعملة واحدة هي عملة التبعيّة والعصبيّة)، ومن جهة أخرى وقفت مجموعات في مواجهة السلطات القائمة غير منحازين لأطراف النظام القائم الذي يشدّ البلاد إلى الهاوية، مشاركين في تحرّكات الانتفاضة التي لم تنته فصولها بعد، برأينا.
1 المسيحيّات والمسيحيّون مطالبون بالحرّيةبرأينا أيّة مقاربة مسيحيّة للأوضاع الإنسانيّة يجب أن تتفحّص تلك الأوضاع من زاوية هدف الخليقة كما قرأته المسيحيّة، ألا وهو الاتحاد بالله-المحبّة. هذا الاتحاد لا يمكنه أن يكون إلاّ عن طريق المحبّة التي هي طبيعة الله، طريقة وجود الله (الله ليس فقط يحبّ وإنّما هو محبّة)، وبالتالي فإنّ المحبّة الإنسانيّة هي شرط الاتّحاد بالله، ونعلم من خبرتنا البشريّة أنّ شرط المحبّة هو الحرّية. الله هو محبّة حرّة، وجعل نفسه بحاجة لبشر محبّين أحرارًا ليتّحدوا معا في وحدة محبّة-حرّة.
من وجهة النظر المسيحيّة هذه الحرّية ليست فقط حقّاً بل هي واجبٌ؛ فالله، كما قرأنا إرادته في وجه يسوع المسيح، يريدنا أحرارا، بحيث أنّ الابن تجسّد ومات وقام لكي نتحرّر من الخطيئة أي أساسًا لنكون قادرين على الحبّ، وإلاّ كيف سيبادلُ البشرُ اللهَ حبَّه بحبّ؟ الخطيئة هي إخطاء هدف وحدة الحبّ مع الله، والتوبة هي تصحيح المسار، هي تمرين على الحبّ، لكي نستطيع أن نتّحد بالله، والبشر، بمحبّة أعمق فأعمق.
ولكن التحرّر من الخطيئة له ترجمة عمليّة اجتماعيّة تكمن في الوقوف إلى جانب الحقّ: كالحرّية الفكريّة، حرّية الضمير، حقّ التعليم، حقّ الطبابة، حقّ العمل، أي باختصار الكرامة الإنسانيّة. وتكمن بالتالي في ممارسة حرّية التعبير والحرّية السياسيّة ليتمكّن الإنسان من اختيار المشاريع التي تناسب الكرامة الإنسانيّة. قد يقول قائل أنّ حرّية الاختيار ليس ضروريّة، وأنّ الحرّية "الداخليّة" هي الأهمّ، وأنّ هذه الأخيرة ممكنة حتّى في ظلّ الديكتاتوريّات وانعدام حرّية الاختيار السياسيّة. برأينا، قد يصحّ هذا الكلام بشكل استثنائيّ في حفنة صغيرة من البشر المتميّزين بشكل كبير، لكنّ علوم التربية والنفس والاجتماع تدلّ كلّها أنّ البيئة التي ينمو فيها الشخص لا بدّ أن تؤثّر على نظرته في الحياة وعلى مشاعره وعلى توجّهاته "الداخليّة" النفسيّة والروحيّة: مثلاً، القاعدة تقول بأنّ التربية في جوّ قمعيّ تنشئ أجيالا تستبطن القمع وتمارسه في العائلة ومجال العمل إلخ. وتغيير هذا المنحى يتطلّب جهودا تربويّة ونفسيّة هائلة. الاستثناء هنا يؤكّد القاعدة.
لهذا فإنّ سلب حرّية التعبير هو شرّ لأسباب كثيرة، وعلى الأقلّ لأنه يجبر الانسان أن يختار ما هو مدمّر للحياة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة، عدا عن أنّ القمع مُهين للكرامة الانسانيّة، للجسد وللنفس، يذلّ الإنسان، ويسبّب آلاما نفسيّة مبرحة، ولذلك لا بدّ من مواجهته بجميع الأحوال كشرّ.
وقد يقول قائل أنّ الحرّية "الداخليّة" ممكنة حتّى في ظلّ القمع الاقتصاديّ في ظلّ نظام استغلاليّ، ولكن القمع الاقتصاديّ يؤثّر - حتّى حدّ التخريب والتدمير أحيانًا - في العيش، والجسد، والقدرة على التعلّم، والصحّة، والبيئة، ومستويات الذكاء، والقدرة على العمل المنتج، والاستقلاليّة (بسبب الخوف من البطالة)، إلخ. هل هكذا أوضاع يرضى عنها الضمير؟ هل هي أوضاع تسمح بنموّ الحرّية الداخليّة أم هي تحاصرها؟ هل هي أوضاع منسجمة مع المشاركة التي عاشتها الكنيسة الأولى؟ هل هي أوضاع منسجمة مع خطّ ذاك الذي جاء «لتكون الحياة وتكون أوفر» فاهتمَّ بجوع الجائعين والجائعات، وأجسادهم وأجسادهنّ، وحزن الحزانى، ولوعة الذين فرّقهم الموت؟ أليست هذه الأوضاع الجائرة هي ترجمة للخطيئة الجماعيّة المعشّشة في البُنى القائمة؟ ألا يجب على من اتّبع يسوع مواجهة الخطيئة بكلّ أشكالها ونتائجها؟ إنّنا نعتقد أنّ الجواب هو: بلى وإلاّ نكون نغضّ النظر عن الوحشيّة والتدمير والقتل البطيء الذي نراه حولنا.
يجب الدفاع عن الكرامة الإنسانيّة في وجه كلّ ما يقمعها، أكان نظامًا تربويّا أو سياسيّا أو اقتصاديّا أو غير ذلك. الدفاع عن حرّية التعبير لا يكفي، فبعض الانظمة الاستغلاليّة قد تعطي حرّية تعبير كبيرة ولكنّها تبقيها حرّية شكليّة، فما هي حرّية إنسان لا يستطيع أن يؤمّن قوت يومه، وما هي حرّية تعبير إنسان لا يتمكّن من القراءة أو لا يملك ثمن الحصول على معلومات صحيحة؟ إنّ الأوضاع القمعيّة كما الأوضاع الاستغلاليّة، هي نتيجة بُنى وليس مجرّد صدف أو ترجمة لإرادة إلهيّة (حاشا أن نلصق ذلك بإله يسوع المسيح الذي «يشرق شمسه على الأخيار والأشرار»). هذه البنى غير مناسبة لنموّ الحرّية ولا لنموّ المحبّة، وبالتالي غير مناسبة لنموّ الملكوت في هذا العالم. لأجل ذلك، تجب مواجهة الأنظمة القمعيّة كما تلك الاستغلاليّة. المساهمة المسيحيّة في هذا المجال تكون بالتأكيد على ضرورة جمع الحرّية بالـ«خبز»، أي الحرّية بكلّ الضرورات المادّية لحياة إنسانيّة كريمة، وتكون بضرورة أن يكون كلّ ذلك مُلحقًا بالرغبة باللقاء بوجه يسوع الحبيب.
صحيح بالطبع أنّه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ولكن بكلّ كلمة تخرج من فم الله»، ولكن هذا لا يعني أنّ الخبز غير مهمّ، الجملة لا تنفي ضرورة الخبز، تنفي كفايته، الخبز ليس كاف للحياة ولكنّه شرط ضروريّ لا يمكن تسخيفه؛ فإن كانت حاجاتي المادّية غير مهمّة بالنسبة لي، فإنّ حاجات الآخر يجب أن تكون بالنسبة لي «سرًّا» روحيًّا ينبع من «سرّ الآخر» الذي يجب أن يمتدّ بعد سرّ المذبح، كما علّم يوحنا ذهبي الفم. خلاصي لا يمكن أن يكون فرديّا، بل هو يمرّ عبر الآخر حكمًا. وكذلك خلاص الكنيسة لا يمكن أن يكون إلاّ إذا غدت فعلاً جسد المسيح الممتدّ في أجساد ونفوس المعذّبين حول الأرض. الكنيسة كجماعة لن تخلص إلاّ إذا صارت جماعة الذين يحبّون.
2 ضرورة جمع الخبز والحرّيةإنّ التوازن الذي يفرضه تجسّد الكلمة في يسوع المسيح، بطبيعتين إلهيّة وإنسانيّة «دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال» يمنعنا من تطرّفين: تطرّف الاستهتار بـ"الخبز"، أي الاستهتار بالحياة على هذه الأرض ومتطلّباتها المادّية، وتطرّف الاستهتار بالروح، الاستهتار بالحرّية، بالذي يصرخ فينا أنا لست شيئا، أنا أبعد من مجرّد وسيلة ومُستَخدم لمستخدِم، أنا أبعد من كوني أنتمي إلى كتلة اجتماعيّة، من كوني عضوا في جماعة، إلى ما هنالك... هو باختصار تطرّف الاستهتار بالوجه، بالأنا التي تدلّنا علوم النفس أنّها لا تكون إلاّ بالمحبة في الجماعة، أي بوحدة مع الآخرين تحترم التمايز.
الإيمان بطبيعتي المسيح يلزمنا أن نبتكر حلولا تحترم ملكوت الضرورة وملكوت الحرّية والمحبّة، البعد المادّي والعمق الروحيّ. حاولت أنظمة أن تعطي الناس خبزا وتستولي على حرّيتهم فكانت تمثّل تجربة المفتّش الأكبر لدى دوستويفسكي في روايته الإخوة كرامازوف؛ وحاولت أنظمة أخرى أن تعطيهم حرّية شكليّة وتأكل أجسامهم ونفوسهم وكرامتهم، وكانت تمثّل تجربة ميفيستوفيليس في نصّ "الدكتور فاوست" للشاعر الألمانيّ غوته.
ولنؤكّد من جديد، أنّ من لا تهمّه هذه الأمور لنفسه فيجب أن تهمّه من أجل غيره، فوجه الآخر هو باب المـَلَكوت، والآخر هو وجه الله إلينا. المـَلَكوت لا يُبلغ إلاّ من خلال الالتزام بالأرض وليس بالهروب منها، لا يُبلغ إلاّ من خلال الدفاع عن الإنسان، عن حرّيته وخبزه. الكنيسة نفسها هي غرسُ خميرةِ يسوع في الأرض لكي تشارك وَحْل الناس ومآسيهم، وتحملهم في قلبها وتشير إليهم من قلب العتمة إلى طريق «العبور» نحو ضوء المشاركة.
الكنيسة ليست هنا على هذه الأرض لكي تتكوّر حول نفسها، وترتاح لتراتيلها وصلواتها وطقوسها وإنّما لكي تحوّل هذه الأرض إلى قصيدةِ مشاركةٍ تخاطب بها شاعر الكون. لن ينجو المسيحيّون والمسيحيّات من الخطيئة إلاّ إذا عملوا مع غيرهم على نجاة المجتمع من عبء الخطيئة الرابضة في البُنى التي تسحق الإنسان.
3 الواقع في لبنان وموقف الكنيسة الرسميةينوء المواطنين والمواطنات في العالم العربي تحت عبء الكثير. القمع أولاً، السجون متخمة بالمعتقلين السياسيين. ثمّ هناك الأمّية، فنسبة الأمّية فيها تناهز 43%. هناك حوالي 60 مليون بالغ أمّي، معظمهم من النساء. وهناك التفاوت المرعب في توزيع الثروات الوطنيّة عبر العالم العربيّ. في لبنان، نعرف أنّ نصيب 3 آلاف لبناني من الدخل أكثر من حصة نصف السكّان، بينما لا يمتلك نصف اللبنانيّون واللبنانيّات أي تغطية صحيّة، وحوالي نصف العمّال غير مشمولين بالضمان الصحي وتعويضات نهاية الخدمة، و75% منهم لا نظام تقاعد يحميهم.
في أيّة جهة وقفت الكنائس عند انتفاضة 17 تشرين أوّل في لبنان؟ صدر بيان للكنائس المسيحيّة يمثّل رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة في 25 تشرين أوّل 2019 (بعد أسبوع من اندلاع الانتفاضة الشعبيّة). يبدأ البيان بفوقيّة وتمنين للناس بأنّ «الكنيسة لطالما وقفت إلى جانبه [الشعب] واحتضنت حاجاته... وهي تلتزم... المزيد من الخدمات«. وبعد بضع كلمات عاطفيّة بأنّ «الـمُسكِّنات لا تَمرّ بعد الآن» وبأنّ وجع الشعب بلغ «حدّه الأقصى» وأنّ السلطة «أمعنت في الانحراف والعناد»، والكلام الإنشائيّ على ضرورة "العمل الفوري على معالجة أسبابه[الوضع]"، و«اتّخاذ مواقف تاريخيَّة وتدابير استثنائيَّة»؛ يلج البيان إلى لبّ المقصود الحقيقيّ منه ألا وهو محاولة تخدير همّة الناس لإخماد الانتفاضة. إذ يتضمّن البيان تنصيب رؤساء الطوائف الدينيين ولاةً على حياة الناس السياسيّة، فيدعون رئيس الجمهوريّة فورًا إلى التشاور «مع القادة السياسيِّين ورؤساء الطوائف» وبذلك يعلنون قصدهم الفعليّ، ألا وهو تأكيد سلطتهم وتعاونهم مع الحكّام وحماية النظام الطائفيّ. فهكذا دعوة لاستشارة رؤساء الطوائف ستثبّت أكثر النظام الطائفيّ المسؤول عن حماية النظام الاقتصاديّ، الذي يولّد الفقر والبطالة والزبائنيّة ونهب الدولة ومقدّراتها وشلّ أدواتها. لا يمكن، برأيي، أن نقرأ هكذا دعوة إلاّ كمحاولة انقلاب على طموح الناس والفقراء تحديدًا، وكتعبيرٍ عن رغبة واضعي البيان باستمرار النظام، الذي لا هو أفقرهم ولا أقلق نفوسهم ولا مسّ بكرامتهم.
ثمّ إنَّ يدعم البيان سلسة من القرارات وضعتها الحكومة من أجل متابعة نهب ما تبقّى من مقدّرات الدولة تحت مسمّى الخصخصة. من ثمّ يخلص البيان إلى ضرورة «تعديل الفريق الوزاريّ»، كأنّ الفريق الحاكم الذي نهب البلاد يتغيّر حين يُغيّر وزيرا أو آخر.
هكذا نرى، أنّ اقتراحات واضعي البيان العمليّة هي على نقيض الديباجة العاطفيّة البهلوانيّة التي بدأ بها، وهذا لا يدلّ إلاّ على وقوف رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة إلى جانب النظام القائم كما هو. كان هذا دأبُ العديد من الكنائس في أكثر من بلد عبر التاريخ. تناغمت الكنيسة الرسميّة عبر محطاتٍ من تاريخها مع مصالح الطبقات المـُسيطِرة، واصطبغت بصبغةَ الإقطاعيّة والبرجوازيّة عوض أن تتمسّك بصبغة الروح القدس. وقد مالت أحياناً إلى تقدّيس أبشع الإيديولوجيّات الفاشيّة وبينما أوصاها سيّدها بالوقوف إلى جانب المظلومين، وقفت إلى جانب الظالمين، وغطّت الضحايا بمعطف من الكلمات المدبّجة. الكنيسة الرسمية، كانت وما تزال، ترفع صلوات الشكر احتفالا بهزائم الثورات الشعبيّة وتبارك الفاشيين: موسوليني في أيطاليا، وفرانكو في أسبانيا، وبافليتش في كرواتيا، وديكتاتوريّة اليونان في السبعينات، والحكّام الروس من القرن التاسع عشر إلى يومنا، وبطّاشي ونهّابي البلاد العربيّة.
اليوم مثلاً تصرّ الكنائس على حماية النظام الطائفيّ اللبنانيّ وترفض إقرار الزواج المدني الاختياري وتُكرِه نساءً ورجالاً أن يتسمّوا على اسمها وأن يتزوّجوا فيها في ضرب واضح لحرّيتهم الشخصيّة، واحتقارٍ لكرامتهم كبشر ولإيمان الكنيسةِ نفسه. لقد نسي كثير من المسؤولين في الكنائس الرسميّة دعوة الإنجيل للحرّية وارتاحوا للسلطة وأحبّوا الإكراه، لقد فقدوا الإحساس بما يعيشه الناس لقربهم من مصادر النفوذ والسلطة. هؤلاء يمنعون أيّ نقاش وحوار فكريّ داخل المؤسّسات الكنسيّة تحت ذريعة توحيد الخطاب الكنسيّ، ولا يردعون مَن يدخل في صفوف رهبناتها ويرتكب ممارسات لاأخلاقية. ويتركون الفكر الانهزاميّ والمهلوس بمكائد كونيّة ضدّ الإيمان القويم ينمو دون رادع بين ظهرانيها، ويسكتون عن نموّ التيّارات الأصوليّة التي تهاجم العقل، وتبثّ هلوسات تقيّم النظريّات العلميّة، خالطة بين المستوى الإيمانيّ والمستوى العلميّ في الحياة، وينحون نحو ممارسات تسلّطية فيزرعون ذهنية زبائنيّة تشبه ما نراه في دهاليز السياسة.
في قلب الكنيسة، حان الوقت لثورة مشاركة تسمح للفقراء بأن يكونوا مجدّدا في وسطها. حان الوقت لمشاركة حقيقيّة للمرأة في الكنيسة. حان الوقت لإطلاق روح الحرّية والابداع في الشباب والشابات المتحفّزين والمتحفّزات لتغيير العالم حولهم. حان وقت استخدام العلوم في التخطيط والتنفيذ في حياة الكنيسة. حان وقت اعتماد آليّات واضحة وعصريّة في طريقة العمل داخل المؤسّسات الكنسيّة بدءا من البطريركيّات وحتّى الرعايا والجمعيّات. حان وقت بناء هذا العمل على أساس دراسات استقصائيّة لفهم رأي الرعايا، وأولويّاتها المختلفة باختلاف الظروف الموضوعيّة المحيطة بها، حان الوقت لبناء منتديات دائمة ومؤتمرات سنويّة مفتوحة على جميع المعتقدات، وعلى العاملين في العلوم المختلفة للتفكير في كيفيّة خروج المجتمعات من الفقر والفساد وكيفيّة بناء مجتمع مشاركة في كلّ بلد، مجتمع يترجم رؤى الملكوت في واقع اليوم، فتكون الكنائس - دون أن ترتبط بمشروع سياسيّ محدّد - العاملَ المحفّز للقاء والعمل، وتكون حقّا خميرة الملكوت في عجينة المجتمع، عوض العزلة الطقوسيّة التي هي عليها الآن. هناك ثورة في الكنائس، ثورة مشاركة تأخّرت كثيرًا.
4 خلاصةلقد بتّ على قناعة بأنّ المسيحيّة ما تزال في بداياتها "فالمسيحيّة مثل التيّار الإنسانيّ، لم تبلغ الأعماق، لم تعانق معظم الإنسانيّة، حتّى ولا هؤلاء الذين يعترفون ظاهريّاً بالإيمان المسيحيّ" كما لاحظ الفيلسوف المسيحيّ الوجوديّ بردياييف.
الكنائس تقف على مفترق طرق وجوديّة، وإن لم تقرأ علامات هذه الأزمنة، علامات الحرّية والعدالة الاجتماعيّة، فستبتعد عن سيّدها الممزّق في الممزّقين، وتخسر مصداقيّتها، إلى أن يأتي محبّين من داخلها ومن خارجها ليقرأوا نداء الله في آهات الموجوعين، فيحتضنوهم، ويشعّون ثورة مشاركة في هذا العالم، مشاركة جذريّة، وهي بالنسبة للمسيحيّين والمسيحيّات متجذّرة في الكأس المقدّسة التي تجعل المتفرّقين واحدًا.
إنّ وجه يسوع المسيح المعلّق على الصليب يفرض علينا أن نعارض الفقر والبؤس ونطلب الخير للجميع (1 تسالونيكية 5: 15) "ومثلما تصنع الإفخارستيا الكنيسة، فإن المحبة تعد البشرية جمعاء لتصبح كنيسة الله"، كما يقول المطران جورج خضر. الثورة الكبرى، وربّما الوحيدة، هي ثورة المشاركة؛ وكلّ عمل يصبّ فيها هو ثورة. وفي زمننا، لم يعد بالإمكان الاكتفاء بالعمل الاجتماعيّ وغضّ النظر عن الظلم القائم في البنى السياسيّة والاقتصاديّة، إنّ علامات الأزمنة تنادي بأنّ التوبة الذاتية عن الخطايا الذاتيّة يجب أن تترافق مع توبة فاعلة عن الخطايا الجماعيّة القائمة في بنى الظُلم حولنا.