الكنيسة والسلطة
مجلّة تيلوس العدد ٦ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٢
خريستو المرّ
ليست السلطة شيئًا مادّيا هي علاقة بين أناس مختلفين وبعد تحديد السلطة سنحلّل في هذه المقالة علاقة الكنيسة بالسلطة داخلها وخارجها.
تحديد السلطة: السلطة العقلانيّة والسلطة اللاعقلانيّةيعتبر كاتب هذه السطور أنّ حقيقة الثالوث هي مفتاح لفهم طبيعة العلاقات الإنسانيّة وللحكم عليها، لفرزها بين فاسد وصالح. فهمنا للثالوث يقول أنّه ثالوث محبّة يحيا فيه ثلاث أشخاص متمايزين بشكل كامل في وحدة كاملة. هذا الاتّحاد في التمايز هو برأينا لبّ صورة الله في الإنسان، إن عاشها الإنسان، بشكل محدود بالطبع، يكون قد سار في طريق الملكوت وحقّق مع غيره مثال الله.
ولهذا فالاتّحاد في التمايز هو مفتاح للحكم إن كانت العلاقات بين الناس أكنّا نسمّيها حبًّا، أم صداقةً، أم سلطة، هي علاقات على حسب قلب الله أم لا. كلّ ما يجمع الناس في علاقات تنمّي فيهم المحبّة وما تعنيه من تعاضد وتعاطف ومعرفة للآخر ومسؤوليّة عنه واحترام لتمايزه، دون أن يخسروا تمايزهم الراديكاليّ الذي لا يُمحى، هي علاقة على صورة الثالوث وبالتالي هي في انسجام مع الله، وتحيا على هذه الأرض، منذ الآن، شيئًا من ملكوته. وكلّ ما ذهب عكس ذلك هو فاسد ويضلّل الإنسان. من هذه الزاوية سنرى السلطة (راجع كتابنا: الإيمان بين المحبّة وعبادة الأصنام).
نرى في خطّ المحلّل النفسيّ أريك فروم، أنّ السلطة يمكنها أن تكون لاعقلانيّة وعقلانيّة. السلطة العقلانيّة تسعى إلى تنمية الآخر المرتبط بعلاقة سلطة مع صاحب سلطة، كي ينمو ليصبح مستقلّا عن صاحب السلطة، كما هي حال سلطة الأستاذ والطالب (ة) مثلًا، بحيث في نهاية المطاف يغدو الطالب فاهمًا ومستقلّا، وليس فقط قادرا على متابعة علمه بشكل مستقلّ وإنّما أيضًا قادرٌ على نقد الأستاذ. وبالطبع الميزّة الأساس هنا أنّ الطالب والأستاذ هما متساويين في الكرامة، والفرق الذي يجعل الثاني صاحب سلطة هو أمرٌ حقيقيّ قائم على معرفته الأوسع، وقائمة على الحرّية، إذ يدخل كلا الطرفين في هذه العالقة بشكل حرّ ولكن على الأساس الذي أرسيناه: الفرق هو في المعرفة التي تتضاءل مع الوقت، والعلاقة حرّة، والكرامة متساوية. لهذا يمكن للطالب أن يكون هو صاحب السلطة في مجال لا يعرفه الأستاذ، بحيث يكون الأستاذ تلميذه مثلا في لعبة رياضيّة. إن استخدمنا اللغة اللاهوتيّة لقلنا أنّ السلطة في مجال محدّد هي علاقة حرّة بين طرفين متمايزين، يختلفان في مدى تقدّمهما في ذلك المجال، تجعل الواحد خادمًا لنموّ الآخر كي يتمكّن من التقدّم بنفسه، يهتمّ فيها صاحب السلطة لأمر الآخر بسبب من إحساسه بمسؤوليّته عنه، ولكن يبقى محترمًا لتمايز الآخر لكي لا تتحوّل المسؤوليّة إلى تسلّط، ويحاول فيها صاحب السلطة أن يعرف الآخر كيف يخدم أهداف العلاقة (المعرفة العلميّة مثلًا) بطريقة أفضل، ويحكم الطرفين الإخلاصُ لأهداف علاقة السلطة بينهما. لكن هذا بالضبط تعريف المحبّة: اهتمام، مسؤولٌ، محترِمٌ للتمايز، يسعى لمعرفته الآخر من الداخل معرفة تعاطف عميق، لخدمة حياته. السلطة العقلانيّة هي علاقة تخدم المحبّة، هي علاقة على صورة الثالوث.
السلطة اللاعقلانيّة مختلفة تمامًا في النوعيّة. السلطة اللاعقلانيّة هي (١) علاقة لا تقوم على فرق في التقدّم بين الطرفين، (٢) وهي قهريّة لا تقوم على الحرّية، (٣) ولا يسعى فيها صاحب السلطة القهريّة إلى تحقيق أهداف الخاضع للسلطة بل استخدامه لأهداف صاحب السلطة (٤) كما لا يسعى إلى استقلال الخاضع عنه بل إلى تبعيّته الدائمة. السلطة اللاعقلانيّة استغلاليّة وتسلّطيّة أساسًا، لا تهتمّ للآخر ولا تشعر بالمسؤوليّة عنه ولا تحترم تمايزه ولا تسعى إلى أن يحيا كيانه كإنسان. السلطة اللاعقلانيّة هي عكس المحبّة، وتقدّم نموذجا للعيش معاكسٌ بشكا تام لصورة الثالوث.
السلطة في الكنيسةبناء عليه، لا يسعنا سوى أن نميّز بين سلطة عقلانيّة في الكنيسة وسلطة لا عقلانيّة، وأن نسمّي الأخيرة تسلّطا ونحكم عليها من منظور الإيمان أنّها في تضاد مع الإيمان ويسوع المسيح.
وهنا نعيد ملاحظة كتبناها مرّة (مع المسيح في جحيم هذا العالم: نصوصٌ في محوريّة الإنسان، ٢٠٢١). إنّ غسل المسيح لأرجل تلاميذه وموته على الصليب محبّة بنا، حدثان إيمانيّان لهما امتدادات حياتيّة. بهذين الحدثين أعلن يسوع بما لا لُبس فيه أنّ السلطة الكلّية – سلطة الله – هي المحبّة الخادمة، الباذلة. ولأنّ كلّ محبّة هي دائما معلّقة على الصليب من أجل نموّ الآخرين، فإنّ إعلانه يعني أنّ السلطة الكلّية هي تلك الخادمة للفرح وللحياة في الآخرين، وأنّها تلك المستعدّة أن تتجرّع الموت من أجل نموّ الآخرين في الفرح والحياة. كلّ أمٍّ أصيلةٍ، وأبٍ أصيلٍ، وشهيدٍ أصيلٍ، يفهم تمامًا هذا الكلام.
إعلان يسوع هذا الذي تمّمه بهذين الحدثين على الأقلّ، هو جواب على سؤال بيلاطس ما هو الحقّ؟ إعلانُ يسوع جواب يقول: الحقّ هو الحياة، هو أن يحيا الآخرون وأن تحيا الذات بالسلطة الكلّية للحبّ. أمّا الحبّ فنعرف أنّه وحدة تحترم التمايز وأنّه بالضرورة معلّق على صليب الآخر، وبالنسبة لله الحبّ معلّق على صليب "منذ انشاء العالم".
من هنا يمكننا أن نحدّد السلطة الكنسيّة (والمدنيّة) المنسجمة مع المسيحيّة بأنّها تلك السلطة التي تسعى إلى حياة الآخر ونموّه كغاية، أمّا تلك المتعارضة مع الإيمان المسيحي فهي تلك التي تستغلّ الآخر وحياته كوسيلة لتحقيق مصالحها، والتي تؤدّي في النهاية أن يتضاءل نموّ الآخر فيها، وأن تضمر حرّيته وقدراته.
إنّ سلطة رجال الدين (يكاد الموضوع يكون حكرا على الرجال في بلادنا)، فهي تكمن بتعاونهم مع "العلمانيّين" للسهر على الإيمان، وخدمة كرامة الناس جميعًا مثلما فعل يسوع والأنبياء، أمّا تسلّطهم فيمكن باستخدام موقعهم وعلاقاتهم وما توفّر من أدوات لديهم لإخضاع غيرهم، بالترغيب بمنصبٍ أو بالتهديد بعقابٍ، وحتّى بتحوير الرسالة الدينيّة نفسها لخداع العقول واستلاب حرّية الناس. عندها تصبح العلاقات علاقات عبوديّة لجميع من يرضخ لها : عبوديّة الخاضعين للسلطة الكنسيّة وعبوديّة أصحاب السلطة أنفسهم لشهوة التسلّط ولحاجتهم الـمَرَضيّة إلى خاضعين.
وإن احتاج الإنسان للمزيد من التفكير في الموضوع، يمكنه العودة بالطبع لمفاهيم أخرى أرثوذكسيّة لإيضاح طبيعة السلطة للكنيسة كالقول والطاعة في الكنيسة، يجب أن تُفهّم على أنّها "طاعة متبادلة" أو هي طاعة للحق، أي للمسيح لأنّه "يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أعمال 5: 29)، وإدارة الكنيسة نفسها هي عمل مجمعيّ. "والأساقفة الذين يقفون على رأس القطيع هم أيضاً خراف يقودهم المسيح... ولا يمكن أن يكونوا قدوة للقطيع إلاّ بإتمام مشيئة الله الذي يقوده"، كما يقول نيقولا أفاناسييف ("كنيسة الروح القدس"، 1986، ص. 114-115).
للأسف، ما نلاحظه حاليًّا في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة التي نعرفها بشكل دقيق، هو تململٌ عام ونقد صريح للتسلّط في الكنيسة ولغياب المجمعيّة التي تتضمّن حكما شعب الله ولا تقتصر على اجتماع المطارنة والأساقفة، وما من تغيير متوقّع في المدى المنظور.
الكنيسة والسلطة السياسيّةيحكم العالم العربيّ من مغربه إلى مشرقه التعسّف والجور. إنّ دور الكنيسة لا أن تتدخّل في تفاصيل البرامج السياسة فالسياسة هي عمل جميع أبناء وبنات الأوطان من مختلف الأديان والفلسفات، وهم من المفترض أن يشكّلوا أحزابا سياسيّة لتقديم برامج سياسيّة تخدم الخير العام (لا مصالح القلّة). لذلك يجب أن تمتنع الكنيسة عن دعم مرشّح أو آخر، وبرنامج انتخابيّ أو آخر، ولكن للآسف هذا ما نراه سائدا في بلد كلبنان أكان مباشرة في الكنيسة المارونيّة أو غير مباشرة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. وبينما من دور الكنائس أن تنتقد الظلم وتدافع عن ضرورة تحقيق العدالة والحرّية نراها تصمت في سوريّة ولبنان عن الظلم والتعسّف، وتكتفي باجترار الكلام الخشبيّ الذي صار بلا معنى لاستهلاكه.
الكنيسة يجب أن تكون على مسافة من السلطة السياسيّة بحيث لا تسمع لهذه بأن تدّعي سلطة على الضمائر، عملا بوصيّة يسوع أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. لا يحقّ لقيصر أن يتسلّط على صورة الله في الإنسان ومنها الحرّية والإرادة النابعة منها. أن تقول الحقّ في وجه الباطل وترفع الصوت للدفاع عن المبادئ المسيحيّة الإيمانيّة ضدّ ما يشوّهها، هذا دور الكنائس وقد أخفقت به. لا يمكننا ألاّ أن نلاحظ بأنّ الكنائس الرسميّة في البلدان العربيّة كانت ولم تزل شريكة في بطش الأنظمة القائمة، بالسكوت عنها، ومسايرتها، والإفادة منها، مقابل السكوت عن الظلم الـمُنَظَّم. إنّ المسؤولين الرسميّين للكنيسة إمّا صمتوا، أو عملوا ويعملون بالتكافل والتعاضد مع «أباطرة» هذا الزمن، وباتت أوجاع الناس عندهم مجالَ شعورٍ عاطفيٍّ سطحيٍّ، وكلامٍ منمّق، لا يتحوّل إلى عملٍّ فعليّ من أجل رفع هذه الأوجاع عن طريق معالجة جذورها البنيويّة، فاكتفوا بالمسكّنات عن طريق خدمات نعرف ويعرفون مسبقًا أنّها لن تكفي أبدًا. هذا في الوقت الذي يشكّل بذخ بعض المطارنة بصقةً في وجه رعايا يأكلها الفقر.
لكنّ الله لا يتركنا بلا تعزية، والعزية تأتي من فلسطين، حيث عملت الكنائس مجتمعة على رفع الصوت ضدّ الاحتلال، وإذ بدأت في وثيقة "وقفة حقّ" برفع صوت لتحقيق العدالة والسلام القائم عليها وصلت لتسميّة الأمور بأسمائها وإدانة الاحتلال كتمييز عنصريّ (أبارتهايد) لا يمكن التصالح معه.
خلاصةبشكل عام، يبدو أنّ السلطة في الكنيسة تُمارَس هنا وثمّة بشكل تسلّط، بل وفجور قائم على الدفاع عن كلّ ارتكاب يقوم به الرسميّون فيها. وتبدو السلطة الكنسيّة كأنّها قد حنّطت كلمات يسوع والساطعة والمتفجّرة من قلب الله لتتوافق مع جور السلطة السياسيّة بحيث لم تعد تشهد للمبادئ الإيمانيّة وضرورة تأوينها في حياة الشعوب وبُنى الدول. وتقديري أنّ السلطة السياسيّة تندفع في هذا المنحى إمّا بسبب استهتارها وصلفها وانغماسها في لعبة التسلّط والمال، وإمّا لخوفها وانكفائها في تكرار بليد لما هو مجرّب سابقا ساعية إلى أمان يشابه الموت، وإمّا لتفرّدها وتغييب المجمعيّة وبالتالي خسارة القدرة على تخيّل واقع أفضل بالتعاون مع سائر المؤمنات والمؤمنين وما يختزونه من طاقات وإمكانات.
السلطة الكنسيّة تحتاج أن تُعاش من منظور ثالوثيّ، منظور خدمة الحياة، منظور التمايز في الوحدة، الذي وحدة يسمح بهبوب الروح وتفتّق الفرح والحياة في علامات الأزمنة.
ليست السلطة شيئًا مادّيا هي علاقة بين أناس مختلفين وبعد تحديد السلطة سنحلّل في هذه المقالة علاقة الكنيسة بالسلطة داخلها وخارجها.
تحديد السلطة: السلطة العقلانيّة والسلطة اللاعقلانيّةيعتبر كاتب هذه السطور أنّ حقيقة الثالوث هي مفتاح لفهم طبيعة العلاقات الإنسانيّة وللحكم عليها، لفرزها بين فاسد وصالح. فهمنا للثالوث يقول أنّه ثالوث محبّة يحيا فيه ثلاث أشخاص متمايزين بشكل كامل في وحدة كاملة. هذا الاتّحاد في التمايز هو برأينا لبّ صورة الله في الإنسان، إن عاشها الإنسان، بشكل محدود بالطبع، يكون قد سار في طريق الملكوت وحقّق مع غيره مثال الله.
ولهذا فالاتّحاد في التمايز هو مفتاح للحكم إن كانت العلاقات بين الناس أكنّا نسمّيها حبًّا، أم صداقةً، أم سلطة، هي علاقات على حسب قلب الله أم لا. كلّ ما يجمع الناس في علاقات تنمّي فيهم المحبّة وما تعنيه من تعاضد وتعاطف ومعرفة للآخر ومسؤوليّة عنه واحترام لتمايزه، دون أن يخسروا تمايزهم الراديكاليّ الذي لا يُمحى، هي علاقة على صورة الثالوث وبالتالي هي في انسجام مع الله، وتحيا على هذه الأرض، منذ الآن، شيئًا من ملكوته. وكلّ ما ذهب عكس ذلك هو فاسد ويضلّل الإنسان. من هذه الزاوية سنرى السلطة (راجع كتابنا: الإيمان بين المحبّة وعبادة الأصنام).
نرى في خطّ المحلّل النفسيّ أريك فروم، أنّ السلطة يمكنها أن تكون لاعقلانيّة وعقلانيّة. السلطة العقلانيّة تسعى إلى تنمية الآخر المرتبط بعلاقة سلطة مع صاحب سلطة، كي ينمو ليصبح مستقلّا عن صاحب السلطة، كما هي حال سلطة الأستاذ والطالب (ة) مثلًا، بحيث في نهاية المطاف يغدو الطالب فاهمًا ومستقلّا، وليس فقط قادرا على متابعة علمه بشكل مستقلّ وإنّما أيضًا قادرٌ على نقد الأستاذ. وبالطبع الميزّة الأساس هنا أنّ الطالب والأستاذ هما متساويين في الكرامة، والفرق الذي يجعل الثاني صاحب سلطة هو أمرٌ حقيقيّ قائم على معرفته الأوسع، وقائمة على الحرّية، إذ يدخل كلا الطرفين في هذه العالقة بشكل حرّ ولكن على الأساس الذي أرسيناه: الفرق هو في المعرفة التي تتضاءل مع الوقت، والعلاقة حرّة، والكرامة متساوية. لهذا يمكن للطالب أن يكون هو صاحب السلطة في مجال لا يعرفه الأستاذ، بحيث يكون الأستاذ تلميذه مثلا في لعبة رياضيّة. إن استخدمنا اللغة اللاهوتيّة لقلنا أنّ السلطة في مجال محدّد هي علاقة حرّة بين طرفين متمايزين، يختلفان في مدى تقدّمهما في ذلك المجال، تجعل الواحد خادمًا لنموّ الآخر كي يتمكّن من التقدّم بنفسه، يهتمّ فيها صاحب السلطة لأمر الآخر بسبب من إحساسه بمسؤوليّته عنه، ولكن يبقى محترمًا لتمايز الآخر لكي لا تتحوّل المسؤوليّة إلى تسلّط، ويحاول فيها صاحب السلطة أن يعرف الآخر كيف يخدم أهداف العلاقة (المعرفة العلميّة مثلًا) بطريقة أفضل، ويحكم الطرفين الإخلاصُ لأهداف علاقة السلطة بينهما. لكن هذا بالضبط تعريف المحبّة: اهتمام، مسؤولٌ، محترِمٌ للتمايز، يسعى لمعرفته الآخر من الداخل معرفة تعاطف عميق، لخدمة حياته. السلطة العقلانيّة هي علاقة تخدم المحبّة، هي علاقة على صورة الثالوث.
السلطة اللاعقلانيّة مختلفة تمامًا في النوعيّة. السلطة اللاعقلانيّة هي (١) علاقة لا تقوم على فرق في التقدّم بين الطرفين، (٢) وهي قهريّة لا تقوم على الحرّية، (٣) ولا يسعى فيها صاحب السلطة القهريّة إلى تحقيق أهداف الخاضع للسلطة بل استخدامه لأهداف صاحب السلطة (٤) كما لا يسعى إلى استقلال الخاضع عنه بل إلى تبعيّته الدائمة. السلطة اللاعقلانيّة استغلاليّة وتسلّطيّة أساسًا، لا تهتمّ للآخر ولا تشعر بالمسؤوليّة عنه ولا تحترم تمايزه ولا تسعى إلى أن يحيا كيانه كإنسان. السلطة اللاعقلانيّة هي عكس المحبّة، وتقدّم نموذجا للعيش معاكسٌ بشكا تام لصورة الثالوث.
السلطة في الكنيسةبناء عليه، لا يسعنا سوى أن نميّز بين سلطة عقلانيّة في الكنيسة وسلطة لا عقلانيّة، وأن نسمّي الأخيرة تسلّطا ونحكم عليها من منظور الإيمان أنّها في تضاد مع الإيمان ويسوع المسيح.
وهنا نعيد ملاحظة كتبناها مرّة (مع المسيح في جحيم هذا العالم: نصوصٌ في محوريّة الإنسان، ٢٠٢١). إنّ غسل المسيح لأرجل تلاميذه وموته على الصليب محبّة بنا، حدثان إيمانيّان لهما امتدادات حياتيّة. بهذين الحدثين أعلن يسوع بما لا لُبس فيه أنّ السلطة الكلّية – سلطة الله – هي المحبّة الخادمة، الباذلة. ولأنّ كلّ محبّة هي دائما معلّقة على الصليب من أجل نموّ الآخرين، فإنّ إعلانه يعني أنّ السلطة الكلّية هي تلك الخادمة للفرح وللحياة في الآخرين، وأنّها تلك المستعدّة أن تتجرّع الموت من أجل نموّ الآخرين في الفرح والحياة. كلّ أمٍّ أصيلةٍ، وأبٍ أصيلٍ، وشهيدٍ أصيلٍ، يفهم تمامًا هذا الكلام.
إعلان يسوع هذا الذي تمّمه بهذين الحدثين على الأقلّ، هو جواب على سؤال بيلاطس ما هو الحقّ؟ إعلانُ يسوع جواب يقول: الحقّ هو الحياة، هو أن يحيا الآخرون وأن تحيا الذات بالسلطة الكلّية للحبّ. أمّا الحبّ فنعرف أنّه وحدة تحترم التمايز وأنّه بالضرورة معلّق على صليب الآخر، وبالنسبة لله الحبّ معلّق على صليب "منذ انشاء العالم".
من هنا يمكننا أن نحدّد السلطة الكنسيّة (والمدنيّة) المنسجمة مع المسيحيّة بأنّها تلك السلطة التي تسعى إلى حياة الآخر ونموّه كغاية، أمّا تلك المتعارضة مع الإيمان المسيحي فهي تلك التي تستغلّ الآخر وحياته كوسيلة لتحقيق مصالحها، والتي تؤدّي في النهاية أن يتضاءل نموّ الآخر فيها، وأن تضمر حرّيته وقدراته.
إنّ سلطة رجال الدين (يكاد الموضوع يكون حكرا على الرجال في بلادنا)، فهي تكمن بتعاونهم مع "العلمانيّين" للسهر على الإيمان، وخدمة كرامة الناس جميعًا مثلما فعل يسوع والأنبياء، أمّا تسلّطهم فيمكن باستخدام موقعهم وعلاقاتهم وما توفّر من أدوات لديهم لإخضاع غيرهم، بالترغيب بمنصبٍ أو بالتهديد بعقابٍ، وحتّى بتحوير الرسالة الدينيّة نفسها لخداع العقول واستلاب حرّية الناس. عندها تصبح العلاقات علاقات عبوديّة لجميع من يرضخ لها : عبوديّة الخاضعين للسلطة الكنسيّة وعبوديّة أصحاب السلطة أنفسهم لشهوة التسلّط ولحاجتهم الـمَرَضيّة إلى خاضعين.
وإن احتاج الإنسان للمزيد من التفكير في الموضوع، يمكنه العودة بالطبع لمفاهيم أخرى أرثوذكسيّة لإيضاح طبيعة السلطة للكنيسة كالقول والطاعة في الكنيسة، يجب أن تُفهّم على أنّها "طاعة متبادلة" أو هي طاعة للحق، أي للمسيح لأنّه "يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أعمال 5: 29)، وإدارة الكنيسة نفسها هي عمل مجمعيّ. "والأساقفة الذين يقفون على رأس القطيع هم أيضاً خراف يقودهم المسيح... ولا يمكن أن يكونوا قدوة للقطيع إلاّ بإتمام مشيئة الله الذي يقوده"، كما يقول نيقولا أفاناسييف ("كنيسة الروح القدس"، 1986، ص. 114-115).
للأسف، ما نلاحظه حاليًّا في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة التي نعرفها بشكل دقيق، هو تململٌ عام ونقد صريح للتسلّط في الكنيسة ولغياب المجمعيّة التي تتضمّن حكما شعب الله ولا تقتصر على اجتماع المطارنة والأساقفة، وما من تغيير متوقّع في المدى المنظور.
الكنيسة والسلطة السياسيّةيحكم العالم العربيّ من مغربه إلى مشرقه التعسّف والجور. إنّ دور الكنيسة لا أن تتدخّل في تفاصيل البرامج السياسة فالسياسة هي عمل جميع أبناء وبنات الأوطان من مختلف الأديان والفلسفات، وهم من المفترض أن يشكّلوا أحزابا سياسيّة لتقديم برامج سياسيّة تخدم الخير العام (لا مصالح القلّة). لذلك يجب أن تمتنع الكنيسة عن دعم مرشّح أو آخر، وبرنامج انتخابيّ أو آخر، ولكن للآسف هذا ما نراه سائدا في بلد كلبنان أكان مباشرة في الكنيسة المارونيّة أو غير مباشرة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. وبينما من دور الكنائس أن تنتقد الظلم وتدافع عن ضرورة تحقيق العدالة والحرّية نراها تصمت في سوريّة ولبنان عن الظلم والتعسّف، وتكتفي باجترار الكلام الخشبيّ الذي صار بلا معنى لاستهلاكه.
الكنيسة يجب أن تكون على مسافة من السلطة السياسيّة بحيث لا تسمع لهذه بأن تدّعي سلطة على الضمائر، عملا بوصيّة يسوع أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. لا يحقّ لقيصر أن يتسلّط على صورة الله في الإنسان ومنها الحرّية والإرادة النابعة منها. أن تقول الحقّ في وجه الباطل وترفع الصوت للدفاع عن المبادئ المسيحيّة الإيمانيّة ضدّ ما يشوّهها، هذا دور الكنائس وقد أخفقت به. لا يمكننا ألاّ أن نلاحظ بأنّ الكنائس الرسميّة في البلدان العربيّة كانت ولم تزل شريكة في بطش الأنظمة القائمة، بالسكوت عنها، ومسايرتها، والإفادة منها، مقابل السكوت عن الظلم الـمُنَظَّم. إنّ المسؤولين الرسميّين للكنيسة إمّا صمتوا، أو عملوا ويعملون بالتكافل والتعاضد مع «أباطرة» هذا الزمن، وباتت أوجاع الناس عندهم مجالَ شعورٍ عاطفيٍّ سطحيٍّ، وكلامٍ منمّق، لا يتحوّل إلى عملٍّ فعليّ من أجل رفع هذه الأوجاع عن طريق معالجة جذورها البنيويّة، فاكتفوا بالمسكّنات عن طريق خدمات نعرف ويعرفون مسبقًا أنّها لن تكفي أبدًا. هذا في الوقت الذي يشكّل بذخ بعض المطارنة بصقةً في وجه رعايا يأكلها الفقر.
لكنّ الله لا يتركنا بلا تعزية، والعزية تأتي من فلسطين، حيث عملت الكنائس مجتمعة على رفع الصوت ضدّ الاحتلال، وإذ بدأت في وثيقة "وقفة حقّ" برفع صوت لتحقيق العدالة والسلام القائم عليها وصلت لتسميّة الأمور بأسمائها وإدانة الاحتلال كتمييز عنصريّ (أبارتهايد) لا يمكن التصالح معه.
خلاصةبشكل عام، يبدو أنّ السلطة في الكنيسة تُمارَس هنا وثمّة بشكل تسلّط، بل وفجور قائم على الدفاع عن كلّ ارتكاب يقوم به الرسميّون فيها. وتبدو السلطة الكنسيّة كأنّها قد حنّطت كلمات يسوع والساطعة والمتفجّرة من قلب الله لتتوافق مع جور السلطة السياسيّة بحيث لم تعد تشهد للمبادئ الإيمانيّة وضرورة تأوينها في حياة الشعوب وبُنى الدول. وتقديري أنّ السلطة السياسيّة تندفع في هذا المنحى إمّا بسبب استهتارها وصلفها وانغماسها في لعبة التسلّط والمال، وإمّا لخوفها وانكفائها في تكرار بليد لما هو مجرّب سابقا ساعية إلى أمان يشابه الموت، وإمّا لتفرّدها وتغييب المجمعيّة وبالتالي خسارة القدرة على تخيّل واقع أفضل بالتعاون مع سائر المؤمنات والمؤمنين وما يختزونه من طاقات وإمكانات.
السلطة الكنسيّة تحتاج أن تُعاش من منظور ثالوثيّ، منظور خدمة الحياة، منظور التمايز في الوحدة، الذي وحدة يسمح بهبوب الروح وتفتّق الفرح والحياة في علامات الأزمنة.