موقف المسيحي في هذا العالم: اكتفاء، انكفاء أم تجديد؟
ملاحظة: المقالة هذه ترتكز على كلمة ألقيت في لقاء أسرة الطلاّب من فرع الميناء، بكفيّا، 30 تمّوز 2011، والذين أبدوا جرأة وتحليلاً ثاقبين وإيماناً متحرّكاً نحو الحقيقة؛ وإليهم أهديها.
1 مقدّمة
ما يزال يشوب نظرتنا كمسيحيّين إلى هذا العالم، الكثير من سوء الفهم الذي تزرعه فينا رؤية ملتوية متأثّرة بالفلسفات القديمة، ومنها الفلسفة اليونانيّة، التي ترى هذا العالم على أنّه هامشيّ، أو شرّير، أو غير مهمّ، أي باختصار تنظر إليه عمليّاً ولكأنّه شرّ لا بدّ منه في الحياة "الروحيّة". وبالتالي ترى الحياة الروحيّة أنّها محصورة بالممارسات الطقسيّة كالصلاة والصوم والأعمال التقويّة.
هذه النظرة العمليّة، أي هذا التوجّه لبعض المسيحيّين أمام هذا العالم، يكون مترافقاً مع كلام إنشائيّ عن المحبّة وأهمّيتها. فنجد هكذا عند هؤلاء الإخوة والأخوات، موقفين متضاربين متواجدين معاً: تنكّر لهذا العالم وللجسد، من جهة، ودعوة للمحبّة من جهة أخرى، ولكأنّ المحبّة هي خبرة يمكن أن يعيشها البشر، الموجودون اليوم في هذا العالم، خارج هذا العالم وخارج أجسادهم المصنوعة من مادة هذا العالم!
سنحاول في هذه الورقة أن نبيّن :
- بأنّ الحياة الروحيّة هي هذه الحياة في هذا العالم مُعاشة في كنف الروح القدس، وأنّ من ضمن ما يتهدّدها موقفين هما: الاكتفاء بهذا العالم والانكفاء عن هذا العالم؛ وبأنّ هذين الموقفين يشكّلان وجهين لحالة واحدة: إدارة الظهر للروح القدس.
- بأنّ محبّة المؤمن لله تقتضي محبّته لهذا العالم، تقتضي أن يشارك الله في تغيير هذا العالم ليشكّل مكاناً لعيش المحبّة، واثقاً بالروح القدس الساكن في كلّ قلب، ومشاركاً في ورشة تجديد العالم التي أطلقها المسيح (تيطس 3: 5، رؤ 21: 5).
- بأنّ حياة روحيّة سليمة وإيمان مستقيم يدفعا الإنسان كي يلتزما كلّ ما في هذا العالم فيعمّده بالروح كي يتجلّى، لأنّ الملكوت ليس أمراً أو مكاناً ما ورائيّاً سيأتي لاحقاً وإنّما هو حاضرٌ هنا ويبدأ هنا.
2 ما هي الحياة الروحيّة، وأيّ خطرَيْن يتهدّدانها؟
إنّ صلاة يسوع إلى الآب كانت ألاّ يأخذ الآب التلاميذ وأتباعه من هذا العالم لكن أن يحفظهم من الشرير: "لَستُ أسألُ أنْ تأخُذَهُمْ مِنَ العالَمِ بل أنْ تحفَظَهُمْ مِنَ الشّرّيرِ" (يو 17: 15)، كما أنّ حقيقة رسالة كلمة الله المتجسّد كانت أنْ نهتم بأخوته الصغار، بوجودهم في هذا العالم، من أي جنس أو طائفة، وهو ما نفهمه من مثل السامري الشفوق الذي كوّن قريبه بصنع الرحمة معه.
الحياة الروحيّة لا تعني إذاً أن نخرج من هذا العالم، أو أن لا نلتزم به، وإنّما أن نجعل الله أولويّة ومركزاً لحياتنا، أن نقبل أن يكون ملهمنا ومصبّ أشواقنا، فننفتح إليه يوميّاً، لنصير محبّين على شبهه. ونحن في هذا التوجّه، نحاول أن نتغيّر دائماً (أي أن نتوب)، كي ننقّي قلبنا من شوائب الانغلاق على الذات بعد سقوطنا في كلّ خطيئة تعثرنا على طريق المحبّة؛ وبهذا التغيير للقلب والذهن، بهذه التوبة، نتقدّم في عيش حياة محبّة، في الله، في الحياة معه.
أولويّة الله هذه في حياتنا، هي أولويّة اتّجاه وليست أولويّة زمنيّة بحيث انّها يجب أن تسبق كلّ الأمور الأخرى زمنيّاً فتأتي الأمور الأخرى بعدها زمنيّاً. فمن المعروف كما يشير يوحنّا (1 يو 4: 20 )، بأنّه لا يمكننا أن نعرف بأنّنا نحبّ الله إن لم نحبّ الإخوة، أي إن لم نكن نتغيّر بالممارسة اليوميّة مع الناس فنجذّر بمحبّتنا لهم محبّتَنا لله. هكذا، فإنّ أولويّة الله في حياتنا هي أولويّة كيانيّة وليست زمنيّة، كما يقول كوستي بندلي في كتابه "الإيمان والتحرير".
كلّ هذا يعني في النهاية بأنّ حياتنا الروحيّة هي حياتنا كلّها في هذا العالم، بأبعادها جميعاً، مُعاشة في الروح القدس الذي يجعلنا نحيا في المسيح، يجعلنا نتوحّد معه، يجعلنا "جسده"، يجعلنا في كنف الله‑الثالوث‑المحبّة. حياتنا الروحية في كنيسة الروح القدس، هي حياة لا تكتنف فقط الصلاة والصوم والبعد الطقوسيّ، وإنّما أيضاً كلّ الأبعاد الأخرى كالصداقة والزواج والرهبنة والإرشاد والعلوم والخدمة والاقتصاد والسياسة، والفنّ، إلخ... إنّها على شكل حياة المسيح نفسه الذي صلّى وصام وانكبّ على محبّة الناس آخذاً بيدهم كي يعودوا عن الخطيئة، مهتمّاً في الآن عينه بجوعهم وعطشهم ومرضهم؛ حتّى أعطانا، بقيامته وبسكبه الروح القدس، إمكانيّة التحرّر من كلّ عبوديّة: عبوديّة الخطيئة، والعبوديّة لأيّ شخص (1 كو 7 : 23)، أو شيء، فـ"إنّ الربّ هو الروح، وحيث يكون روح الربّ هناك تكون الحرّية"(2كورنثوس 3: 17).
أمام هذا الواقع الإنجيليّ، أمام مسيح الأناجيل، أمام ما تتطلّبه الوحدة معه من معانقةٍ لهذا العالم ونقلٍ لروح الله إليه، هناك خطران إيـمانيّان يتهدّدانا كمسيحيّين: الخطر الأوّل هو نسيان أولويّة الله الكيانيّة والانغماس في هذا العالم والبقاء في حدوده، ممّا يجعلنا على شاكلة هذا العالم، من هذا العالم (مخالفين بذلك الرؤية القائمة في صلاة يسوع)؛ والخطر الثاني هو الهروب من هذا العالم في نوع من أنواع المونوفيزيّة، في طهريّة (وليس طهارة) تتنكّر للعالم المخلوق والمُفتدى، طهريّة تتصرّف وكأنّ هذا العالم شرّ لا بدّ منه بينما هو مخلوق محبوب من الله الذي تجسّد متّخذاً مادة هذا العالم، هذه المادّة التي صارت بعد قيامة يسوع بالجسد، في قلب الثالوث.
الخطر الأوّل يتهدّد المؤمن الذي سمع كلام الله ولكنّه نسي مركزيّته في الحياة، فغرق في الاهتمام بالعالم ومشاكله كحبّة الحنطة بين الشوك (لو 8: 14)، والخطر الثاني يقع فيه المؤمن، أحياناً خوفاً من المسؤوليّة والحياة والمحبّة، وأحياناً بسبب سوء فهمه لمسيح الإنجيل، ولإنجيل المسيح، للخبر السار الذي أتى به، خبر تحرير الإنسان والخليقة كلّها "التي تئنّ وتتوجّع" لأنّها تنتظر أيضاً مع البشر أن تنعتق من العبوديّة إلى "حرّية مجد أولاد الله" (رو 8: 22).
الخطر الأوّل هو اكتفاء بهذا العالم، والثاني هو انكفاء عنه؛ الخطر الأوّل هو غياب الإنسان عن الله، والثاني هو غياب الإنسان عن العالم. إنّ المسيحيّة هي ديانة التجسّد، ديانة لقاء الإلهيّ بالإنسانيّ، ديانة كلمة الله المتجسّد، وهذان الخطران كلاهما - كلّ بطريقته - يتنكّران للمسيحيّة، لأنّهما يتنكّران للّقاء الفريد الذي حقّقه الله بكلمته المتجسّد، بين الثالوث وبين الخليقة. لهذا فإنّ هذين الانحرافين، المتعاكسين ظاهريّاً، يشكّلان وجهين لحالة واحدة، حالة التنكّر العمليّ للتجسّد.
مقابل هذين الانحرافين، هناك الإيمان المستقيم الذي يقتضي أن يلاقي الإنسان ذاتيّاً وجماعيّاً الله، أي أن يحقّق في حياته ما قاله الآباء عندما واجهوا البدع التي أنكرت أنّ المسيح إنسان كامل : "إنّ ما لا يُتَّخَذ لا يُخَلَّص". بتجسّد الكلمة، اتّخذ الثالوث الإنسان كلّه، ولهذا منحه الخلاص كلّه (بجسده)، والكون نفسه يُفتدى أيضاً وينتقل إلى حرّية مجد أبناء الله لأنّ الكلمة، بتجسّده، اتّخذ مادة هذا الكون فـ"الخَليقَةَ نَفسَها أيضًا ستُعتَقُ مِنْ عُبوديَّةِ الفَسادِ إلى حُرّيَّةِ مَجدِ أولادِ اللهِ" (رومية 8: 21). الإيمان المستقيم إيمان بتجسّد الكلمة وسعيٌ لتجلّي الإنسان والكون على شاكلة تجلّي يسوع على ثابور.
3 مفاعيل الحياة الروحيّة: تألّه وملكوت يتجسّدان بالتزام الآخر والكون
هذا الإيمان بأنّ الحياة الروحيّة هي حياة في الروح، وسعيٌ لتجلّي الإنسان والكون، يعني من جملة ما يعنيه، أمرين:
- أنّ التألّه، وهو هدف الحياة المسيحيّة، يقتضي محبّة الله والآخر في هذا العالم، محبّته بشكل فرديّ وجماعيّ (1يو 4: 20 - 21)
- وأنّ الملكوت ليس أمراً مُرجأً وإنّما حاضرٌ الآن (يو 5: 25)
وهذا الأمران يترتّب عنهما مباشرة التزام شؤون الإنسان الفرديّة والجماعيّة، بل التزام شؤون الكون كلّه لأنّ هذا الكون كلّه محبوب من الله.
4 التألّه يعني التزام محبّة الآخر في هذا العالم، فرديّاً وجماعيّاً
إن هدف الإنسان في المسيحيّة هو التألّه، وذاك لا يكون إلاّ في الله-المحبّة، بممارسة المحبّة نمط حياة، المحبّة لا تُعاش على صعيد العلاقات الفرديّة الشخصيّة فقط، وإنّما أيضاً على صعيد المجتمع، فتتجسّد محبّتنا بالتزامٍ للآخرين على صعيد العلاقات الجماعيّة. هذا الالتزام للآخر على صعيد المجتمع، يحتاج، لا محالة، إلى أطر سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتربويّة لكي يكون. فإن كانت المحبّة على الصعيد الشخصيّ الفرديّ تعني العناية بالآخر، والمسؤوليّة عنه، واحترامه، ومعرفته، ومشاركته؛ فعلى الصعيد الجماعيّ الأمر نفسه يجب أن يكون لكي يكون نمط الحياة الجماعيّة نمط معرفة وعناية ومسؤوليّة واحترام للآخرين، أي نمط حياة مشاركة مسؤولة عن الآخرين، معتنيةً ومحتَرٍمَة لهم؛ هذا النمط من الحياة يجب أن يجد له ترجمةً في السياسة والاقتصاد والتربية والتطبيقات العلميّة، إلخ... كي تترجم جميعها نمط حياة المحبّة.
الملكوت هو ملكوت الروح، ملكوت المحبّة، مَنْ يُـحبّ الله يُـحبّ الإنسانَ، يحبّ ذاته والناس، ككائناتٍ متجسّدةٍ علائقيّةٍ، مفطورة على صورة الثالوث، أي على نمط المحبّة والمشاركة. من يحبّ الله يحبّ غيره من خلال علاقات خاصّة فرديّة، ومن خلال العلاقات الجماعيّة التي تحكم المجتمع. هذا الحبّ للآخر لا يمكن إلاّ أن يتجسّد في هذا العالم بكلّ تفاصيله.
إنّ طريق التألّه هو طريق التزام محبّة الآخر في هذا العالم، فرديّاً وجماعيّاً، من خلال كلّ جوانب الحياة البشريّة، مشاركين الله في متابعة عمله في هذا الكون، هو الذي خلقنا على صورته، قادرين على الخلق مثله كي نشاركه عمله في هذا الكون فنكون "عاملين معه" (2 كورنثوس 6: 1).
صحيح إنّ هذا العالم ليس هو عالمنا النهائيّ بحالته الحاضرة، وأنّنا مدعوّون إلى رؤية الله فيه وأبعد منه، مدعوّون إلى القبول بأنّنا لا نحيا بذاتنا وإنّما بالله، وكلّ منّا مدعوّ أن يختبر شخصياً هذا الخبر السار: الله يحبّنا مجّاناً، ودعانا كي نصير آلهة بالنعمة[1]. نعم، نحن مدعوّون أن نستقبل محبّة الله لنا وأن نحبّه بدورنا، ونتّحد به فنتألّه، ولكنّنا لسنا مدعوّين أن نتألّه فرديّاً، وإنّما في الشركة في هذا العالم.
هكذا، نحن مدعوّون أن نسير في خطّ التألّه، خطّ المحبّة: محبّة الله، وهذه المحبّة تفترض ليس فقط محبّة الأخوات والإخوة وإنّما أيضاً محبّة هذا العالم بإعداده كي يكون ملكوتيّاً قدر الإمكان، "معتقاً من عبوديّة الفساد" الموجود في الطبيعة، وفي الإنسان، ولكن أيضاً معتقاً من "عبوديّة الفساد" الموجود في النُظُم التي يبتكرها الإنسان، في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والدراسة والأعمال كلّها، وذلك عندما نعمل على أن تصير هذه مكاناً لعيش علاقات المحبّة وبالتالي مكاناً لتمجيد الله، لحضور الروح المقدِّس لكلّ إنسان ولكلّ شيء[2].
قد يتصوّر المرء بأنّ المسيحيّة دعوة للخلاص من خطايا الذات فقط، لكنّ التركيز على خطايا الذات فقط وكأنّ الخلاص هو خلاص فرديّ، والتألّه تألّه فرديّ، هو نوع من التلهّي بالذات والتمحور حول الذات، ويعكس في العمق نرجسيّة. المسيحيّ يخلص في الكنيسة، في الجماعة، في جسد المسيح الكونيّ، المسيحيّ مدعوّ ليس فقط إلى خلاص نفسه ومواجهة خطيئته الفرديّة، وإنّما مدعوّ أيضاً إلى المشاركة لأنّ المسيحيّة هي "ثورة الإنسان المشارك" كما يقول أوليفيه كليمان.
لا أقول فقط بأنّ المسيحيّ مدعوّ إلى المساهمة بخلاص الآخرين، وإنّما أيضاً إلى مواجهة نتائج خطاياه الشخصيّة، هذه النتائج التي تنعكس بالخطايا الجماعيّة التي نولّدها معاً (بسكوتنا إن لم يكن بمساهمتنا الفعّالة) في الظُلم القائم في بُنى مجتمعاتنا ودولنا. المسيحيّ مدعوّ إلى المحبّة بتجسيدها فرديّاً وجماعيّاً، مدعوّ إلى المساهمة في خلاص نفسه بالتوبة، أي بتغيير ذهنه[3] كي يصير ذهن محبّة، ولهذا فمن مسؤوليّته المساهمة بخلاص نفسه في الجماعة، والمساهمة بخلاص غيره، وبالتوبة الجماعيّة بتغيير جماعيّ لبُنى المجتمع الظالمة، لكي تصير بُنى محبّة. هكذا يتجسّد الملكوت في اليوم الحاضر. بالطبع، الجماعة التي نحن مسؤولون عنها كمسيحيّات ومسيحيّين، ليست هي فقط جماعة المسيحيّين، بل كلّ البشر فنحن كلّنا معاً نشكّل جماعة الذين خلقهم الله على صورته، والمدعوّين أن يكونوا على مثاله كائنات مُشارِكَة، مُحِبَّة.
في هذا الإطار يمكننا ان نفهم كلمة يسوع التي غالباً ما ننساها، بأنّنا سوف نُسأل ليس فقط عمّا فعلناه ولكن عمّا كان بإمكاننا أن نفعله ولم نفعله (متى 25: 41 - 45)، " ثُمَّ يَقولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمالِهِ ابتَعِدوا عنِّي، يا ملاعينُ، إلى النّارِ الأبدِيَّةِ المُهيّـأةِ لإبليسَ وأعوانِهِ؛ لأنِّي جُعتُ فما أطعَمْتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيْتُموني، وكُنتُ غَريبًا فما آوَيْتموني، وعُريانًا فما كَسَوْتُموني، ومريضًا وسَجينًا فما زُرْتُموني. فيُجيبُهُ هؤُلاءِ يا ربُّ، متى رأيناكَ جوعانًا أو عَطشانًا، غريبًا أو عُريانًا، مريضًا أو سَجينًا، وما أسْعَفْناكَ، فيُجيبُهُم المَلِكُ الحقَّ أقولُ لكُم كُلَّ مرَّةٍ ما عَمِلتُم هذا لِواحدٍ مِنْ إخوتي هؤلاءِ الصِّغارِ، فلي ما عمِلتُموهُ."
5 الملكوت الحاضر طريقة حياة يتجلّى بها الإنسان والكون بواسطة الروح القدس
لأجل كلّ ما تقدّم، يقول يسوع أنّ الملكوت حاضر "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُم: إنَّهُ تأتي ساعَةٌ وهي الآنَ، حينَ يَسمَعُ الأمواتُ صوتَ ابنِ اللهِ، والسّامِعونَ يَحيَوْنَ"(يو 5: 25). فالملكوت هو ملكوت الروح القدس، هو الحياة في الروح، المدعوّون ان نعيشها بدءأً من اليوم، في كلّ يوم؛ وإن أخطأنا نتوب، نسعى كي تتغيّر قلوبنا حتّى نتقدّم في طريق المحبّة، أي حتّى نتقدّم في حياة الاتّحاد بيسوع، بالروح القدس.
لهذا فالكنيسة ليست مدعوّة إلى الانسحاب من هذا العالم، وإنّما إلى تعميده، إلى بثّ روح الله فيه كي يتجلّى، أي إلى تحويله بالروح القدس عالماً يهجّئ الملكوت، يهجّئ علاقات المحبّة. هذه الرؤية اللاهوتيّة تنبع من إيماننا بتجسّد كلمة الله، وبتجلّيه على جبل ثابور، وبصعوده، وبإرساله الروح القدس كي نصير أبناء الله (بالتبنّي)، محبّين مثله، كاملين مثله، به هو، بروحه القدس: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل" (متى 5: 48).
إنّ كون كلمة الله تجسّد في التاريخ، صائراً إنساناً تامّاً مثلنا، متّخذاً جسداً من مادة هذا العالم، وكونه مات وقام، وصعد إلى السماء، يعني أنّ الله اتّخذ العالم في ذاته، ولم يعد هذا العالم خارج الله بل في "قلبه". إنّ الله افتدى الخليقة كلّها وصارت الخليقة كلّها تنتظر اليوم الأخير كي تشترك في هذا الفداء. وبالتالي فإنّ هذه الخليقة، هذا العالم المخلوق، ليس شرّيراً، أو هو منام، أو مجرّد مكان للعبور؛ العالم مدعوّ إلى الفداء لا إلى الفناء، وهو كريم في عينيّ الربّ، الذي سيجدّد كلّ شيء يوم التجديد، فتكون سماء جديدة وأرض جديدة. العالم، مادّة هذا العالم، هي اليوم في أرفع حالة يمكن أن تصلها مطلق أيّ خليقة، إنّها في قلب الثالوث، في الإنسان يسوع المسيح القائم و"الجالس عن يمين الآب"!! هل نفهم؟ هل نستوعب؟ هل نؤمن بأن الكلمة تجسّد وصلب وقام وصعد وأرسل روحه القدس؟
ليس المطلوب منّا إهمال هذا العالم وتركه، بل تعميده والمساهمة في تجلّيه. إنّ تجلّي يسوع يدلّنا على أنّ جسدنا (وليس روحنا فقط)، ومادّة هذا العالم، مدعوّة إلى التجلّي، منذ اليوم، مدعوّة أن تشارك بنور الله غير المخلوق. لبّ كلّ الحياة التي عاشها القدّيسون الهدوئيّون، والتي دافع عنها بالاماس بروعة، هي أنّ الإنسان قادر في الجسد، وبدءاً من هذه الحياة، أن يختبر حضور النور غير المخلوق. لا يمكننا ان ننظر مسيحيّاً إلى العالم الحاضر على أنّه منام أو خيال أو تافه أو غير مهمّ أو مجرّد ممرّ إلى العالم الآخر.
المحبّة تعنى مسؤوليّتنا عن هذا العالم لكي يتجلّى فيهجّئ الحياة الملكوتيّة الآن، يُهجّأها عالماً يحيا فيه الناس فرديّاً وجماعيّاً بحسب قلب الله، وهذا يعني حكماً مسؤوليّتنا عن بُنى هذا العالم وثقافته، وعلومه، وكلّ نتاج بشريّ كي يصير هذا كلّه مجالاً لعيش المشاركة تجسيداً لمحبّتنا بعضنا لبعض، تجسيداً لعمل الروح القدس في كلّ هذا العالم، فيتجلّى الإنسان والعالم.
6 الإيمان بالروح الفاعل: الثقة بالله
قد يقول قائل، لا يمكننا ان نغيّر بنى هذا العالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلخ. على هذا نجيب بأنّه يجب علينا أن نفعل الممكن، ولكن لا يمكننا أن نعرف ما هو الممكن إلاّ إذا جرّبنا أن نعمل ونغيّر، مع غيرنا، معتمدين على فعل الله من خلالنا، على حركة الروح القدس من خلالنا، متذكّرين كلمة يسوع "بدوني لا تقدِرونَ أنْ تفعَلوا شيئاً" (يو 15: 5)؛ وهذا لا يكون إلاّ إذا دمجنا الفعل بالتأمّل، والعمل بالصلاة. إنّ الإيمان يعني حكماً الثقة بالله والعمل معه، الثقة بأنّه هو الذي يغيّر من خلال عملنا، فننقل هكذا الروح القدس الذي ما يزال يرفّ على وجه هذا الكون لكي يحوّله إلى حالته الأخيرة، حالة الملكوت، مكملاً عملية الخلق المستمرّة كلّ يوم: "أبي يَعمَلُ حتَّى الآنَ وأنا أعمَلُ" (يوحنّا 5: 17).
خريستو المرّ
30 تمّوز، 19 آب 2011
[1] الملحدون يريدون أن يصير الإنسان إنساناً، الله كشف لنا بأنّه يحبّنا ولهذا يريدنا أن نذهب أبعد، يريدنا أن نصير آلهة مثله، أن نكون أناساً بشكل كامل وذلك بأن نكون "شركاء الطبيعة الإلهيّة" (2 بطرس 1: 4).
[2] نحن بسبب من التجسّد والصلب والقيامة والصعود، نؤمن بأنّ مواد هذ العالم يمكن تقديسها، وهذا الإيمان يُتَرْجَم في جزء من ممارساتنا الكنسيّة، من هنا لدينا طقوس تقديس الماء والزيت، ومن هنا نستعمل الأيقونات المقدّسة. المسيح نفسه اتّخذ من مواد بسيطة من هذا العالم: الخبز والخمر، مجالاً لتقديسنا، لاتّحادنا به بالروح القدس
[3] كلمة توبة في اليونانيّة metanoia تعني تغيير الذهن
1 مقدّمة
ما يزال يشوب نظرتنا كمسيحيّين إلى هذا العالم، الكثير من سوء الفهم الذي تزرعه فينا رؤية ملتوية متأثّرة بالفلسفات القديمة، ومنها الفلسفة اليونانيّة، التي ترى هذا العالم على أنّه هامشيّ، أو شرّير، أو غير مهمّ، أي باختصار تنظر إليه عمليّاً ولكأنّه شرّ لا بدّ منه في الحياة "الروحيّة". وبالتالي ترى الحياة الروحيّة أنّها محصورة بالممارسات الطقسيّة كالصلاة والصوم والأعمال التقويّة.
هذه النظرة العمليّة، أي هذا التوجّه لبعض المسيحيّين أمام هذا العالم، يكون مترافقاً مع كلام إنشائيّ عن المحبّة وأهمّيتها. فنجد هكذا عند هؤلاء الإخوة والأخوات، موقفين متضاربين متواجدين معاً: تنكّر لهذا العالم وللجسد، من جهة، ودعوة للمحبّة من جهة أخرى، ولكأنّ المحبّة هي خبرة يمكن أن يعيشها البشر، الموجودون اليوم في هذا العالم، خارج هذا العالم وخارج أجسادهم المصنوعة من مادة هذا العالم!
سنحاول في هذه الورقة أن نبيّن :
- بأنّ الحياة الروحيّة هي هذه الحياة في هذا العالم مُعاشة في كنف الروح القدس، وأنّ من ضمن ما يتهدّدها موقفين هما: الاكتفاء بهذا العالم والانكفاء عن هذا العالم؛ وبأنّ هذين الموقفين يشكّلان وجهين لحالة واحدة: إدارة الظهر للروح القدس.
- بأنّ محبّة المؤمن لله تقتضي محبّته لهذا العالم، تقتضي أن يشارك الله في تغيير هذا العالم ليشكّل مكاناً لعيش المحبّة، واثقاً بالروح القدس الساكن في كلّ قلب، ومشاركاً في ورشة تجديد العالم التي أطلقها المسيح (تيطس 3: 5، رؤ 21: 5).
- بأنّ حياة روحيّة سليمة وإيمان مستقيم يدفعا الإنسان كي يلتزما كلّ ما في هذا العالم فيعمّده بالروح كي يتجلّى، لأنّ الملكوت ليس أمراً أو مكاناً ما ورائيّاً سيأتي لاحقاً وإنّما هو حاضرٌ هنا ويبدأ هنا.
2 ما هي الحياة الروحيّة، وأيّ خطرَيْن يتهدّدانها؟
إنّ صلاة يسوع إلى الآب كانت ألاّ يأخذ الآب التلاميذ وأتباعه من هذا العالم لكن أن يحفظهم من الشرير: "لَستُ أسألُ أنْ تأخُذَهُمْ مِنَ العالَمِ بل أنْ تحفَظَهُمْ مِنَ الشّرّيرِ" (يو 17: 15)، كما أنّ حقيقة رسالة كلمة الله المتجسّد كانت أنْ نهتم بأخوته الصغار، بوجودهم في هذا العالم، من أي جنس أو طائفة، وهو ما نفهمه من مثل السامري الشفوق الذي كوّن قريبه بصنع الرحمة معه.
الحياة الروحيّة لا تعني إذاً أن نخرج من هذا العالم، أو أن لا نلتزم به، وإنّما أن نجعل الله أولويّة ومركزاً لحياتنا، أن نقبل أن يكون ملهمنا ومصبّ أشواقنا، فننفتح إليه يوميّاً، لنصير محبّين على شبهه. ونحن في هذا التوجّه، نحاول أن نتغيّر دائماً (أي أن نتوب)، كي ننقّي قلبنا من شوائب الانغلاق على الذات بعد سقوطنا في كلّ خطيئة تعثرنا على طريق المحبّة؛ وبهذا التغيير للقلب والذهن، بهذه التوبة، نتقدّم في عيش حياة محبّة، في الله، في الحياة معه.
أولويّة الله هذه في حياتنا، هي أولويّة اتّجاه وليست أولويّة زمنيّة بحيث انّها يجب أن تسبق كلّ الأمور الأخرى زمنيّاً فتأتي الأمور الأخرى بعدها زمنيّاً. فمن المعروف كما يشير يوحنّا (1 يو 4: 20 )، بأنّه لا يمكننا أن نعرف بأنّنا نحبّ الله إن لم نحبّ الإخوة، أي إن لم نكن نتغيّر بالممارسة اليوميّة مع الناس فنجذّر بمحبّتنا لهم محبّتَنا لله. هكذا، فإنّ أولويّة الله في حياتنا هي أولويّة كيانيّة وليست زمنيّة، كما يقول كوستي بندلي في كتابه "الإيمان والتحرير".
كلّ هذا يعني في النهاية بأنّ حياتنا الروحيّة هي حياتنا كلّها في هذا العالم، بأبعادها جميعاً، مُعاشة في الروح القدس الذي يجعلنا نحيا في المسيح، يجعلنا نتوحّد معه، يجعلنا "جسده"، يجعلنا في كنف الله‑الثالوث‑المحبّة. حياتنا الروحية في كنيسة الروح القدس، هي حياة لا تكتنف فقط الصلاة والصوم والبعد الطقوسيّ، وإنّما أيضاً كلّ الأبعاد الأخرى كالصداقة والزواج والرهبنة والإرشاد والعلوم والخدمة والاقتصاد والسياسة، والفنّ، إلخ... إنّها على شكل حياة المسيح نفسه الذي صلّى وصام وانكبّ على محبّة الناس آخذاً بيدهم كي يعودوا عن الخطيئة، مهتمّاً في الآن عينه بجوعهم وعطشهم ومرضهم؛ حتّى أعطانا، بقيامته وبسكبه الروح القدس، إمكانيّة التحرّر من كلّ عبوديّة: عبوديّة الخطيئة، والعبوديّة لأيّ شخص (1 كو 7 : 23)، أو شيء، فـ"إنّ الربّ هو الروح، وحيث يكون روح الربّ هناك تكون الحرّية"(2كورنثوس 3: 17).
أمام هذا الواقع الإنجيليّ، أمام مسيح الأناجيل، أمام ما تتطلّبه الوحدة معه من معانقةٍ لهذا العالم ونقلٍ لروح الله إليه، هناك خطران إيـمانيّان يتهدّدانا كمسيحيّين: الخطر الأوّل هو نسيان أولويّة الله الكيانيّة والانغماس في هذا العالم والبقاء في حدوده، ممّا يجعلنا على شاكلة هذا العالم، من هذا العالم (مخالفين بذلك الرؤية القائمة في صلاة يسوع)؛ والخطر الثاني هو الهروب من هذا العالم في نوع من أنواع المونوفيزيّة، في طهريّة (وليس طهارة) تتنكّر للعالم المخلوق والمُفتدى، طهريّة تتصرّف وكأنّ هذا العالم شرّ لا بدّ منه بينما هو مخلوق محبوب من الله الذي تجسّد متّخذاً مادة هذا العالم، هذه المادّة التي صارت بعد قيامة يسوع بالجسد، في قلب الثالوث.
الخطر الأوّل يتهدّد المؤمن الذي سمع كلام الله ولكنّه نسي مركزيّته في الحياة، فغرق في الاهتمام بالعالم ومشاكله كحبّة الحنطة بين الشوك (لو 8: 14)، والخطر الثاني يقع فيه المؤمن، أحياناً خوفاً من المسؤوليّة والحياة والمحبّة، وأحياناً بسبب سوء فهمه لمسيح الإنجيل، ولإنجيل المسيح، للخبر السار الذي أتى به، خبر تحرير الإنسان والخليقة كلّها "التي تئنّ وتتوجّع" لأنّها تنتظر أيضاً مع البشر أن تنعتق من العبوديّة إلى "حرّية مجد أولاد الله" (رو 8: 22).
الخطر الأوّل هو اكتفاء بهذا العالم، والثاني هو انكفاء عنه؛ الخطر الأوّل هو غياب الإنسان عن الله، والثاني هو غياب الإنسان عن العالم. إنّ المسيحيّة هي ديانة التجسّد، ديانة لقاء الإلهيّ بالإنسانيّ، ديانة كلمة الله المتجسّد، وهذان الخطران كلاهما - كلّ بطريقته - يتنكّران للمسيحيّة، لأنّهما يتنكّران للّقاء الفريد الذي حقّقه الله بكلمته المتجسّد، بين الثالوث وبين الخليقة. لهذا فإنّ هذين الانحرافين، المتعاكسين ظاهريّاً، يشكّلان وجهين لحالة واحدة، حالة التنكّر العمليّ للتجسّد.
مقابل هذين الانحرافين، هناك الإيمان المستقيم الذي يقتضي أن يلاقي الإنسان ذاتيّاً وجماعيّاً الله، أي أن يحقّق في حياته ما قاله الآباء عندما واجهوا البدع التي أنكرت أنّ المسيح إنسان كامل : "إنّ ما لا يُتَّخَذ لا يُخَلَّص". بتجسّد الكلمة، اتّخذ الثالوث الإنسان كلّه، ولهذا منحه الخلاص كلّه (بجسده)، والكون نفسه يُفتدى أيضاً وينتقل إلى حرّية مجد أبناء الله لأنّ الكلمة، بتجسّده، اتّخذ مادة هذا الكون فـ"الخَليقَةَ نَفسَها أيضًا ستُعتَقُ مِنْ عُبوديَّةِ الفَسادِ إلى حُرّيَّةِ مَجدِ أولادِ اللهِ" (رومية 8: 21). الإيمان المستقيم إيمان بتجسّد الكلمة وسعيٌ لتجلّي الإنسان والكون على شاكلة تجلّي يسوع على ثابور.
3 مفاعيل الحياة الروحيّة: تألّه وملكوت يتجسّدان بالتزام الآخر والكون
هذا الإيمان بأنّ الحياة الروحيّة هي حياة في الروح، وسعيٌ لتجلّي الإنسان والكون، يعني من جملة ما يعنيه، أمرين:
- أنّ التألّه، وهو هدف الحياة المسيحيّة، يقتضي محبّة الله والآخر في هذا العالم، محبّته بشكل فرديّ وجماعيّ (1يو 4: 20 - 21)
- وأنّ الملكوت ليس أمراً مُرجأً وإنّما حاضرٌ الآن (يو 5: 25)
وهذا الأمران يترتّب عنهما مباشرة التزام شؤون الإنسان الفرديّة والجماعيّة، بل التزام شؤون الكون كلّه لأنّ هذا الكون كلّه محبوب من الله.
4 التألّه يعني التزام محبّة الآخر في هذا العالم، فرديّاً وجماعيّاً
إن هدف الإنسان في المسيحيّة هو التألّه، وذاك لا يكون إلاّ في الله-المحبّة، بممارسة المحبّة نمط حياة، المحبّة لا تُعاش على صعيد العلاقات الفرديّة الشخصيّة فقط، وإنّما أيضاً على صعيد المجتمع، فتتجسّد محبّتنا بالتزامٍ للآخرين على صعيد العلاقات الجماعيّة. هذا الالتزام للآخر على صعيد المجتمع، يحتاج، لا محالة، إلى أطر سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتربويّة لكي يكون. فإن كانت المحبّة على الصعيد الشخصيّ الفرديّ تعني العناية بالآخر، والمسؤوليّة عنه، واحترامه، ومعرفته، ومشاركته؛ فعلى الصعيد الجماعيّ الأمر نفسه يجب أن يكون لكي يكون نمط الحياة الجماعيّة نمط معرفة وعناية ومسؤوليّة واحترام للآخرين، أي نمط حياة مشاركة مسؤولة عن الآخرين، معتنيةً ومحتَرٍمَة لهم؛ هذا النمط من الحياة يجب أن يجد له ترجمةً في السياسة والاقتصاد والتربية والتطبيقات العلميّة، إلخ... كي تترجم جميعها نمط حياة المحبّة.
الملكوت هو ملكوت الروح، ملكوت المحبّة، مَنْ يُـحبّ الله يُـحبّ الإنسانَ، يحبّ ذاته والناس، ككائناتٍ متجسّدةٍ علائقيّةٍ، مفطورة على صورة الثالوث، أي على نمط المحبّة والمشاركة. من يحبّ الله يحبّ غيره من خلال علاقات خاصّة فرديّة، ومن خلال العلاقات الجماعيّة التي تحكم المجتمع. هذا الحبّ للآخر لا يمكن إلاّ أن يتجسّد في هذا العالم بكلّ تفاصيله.
إنّ طريق التألّه هو طريق التزام محبّة الآخر في هذا العالم، فرديّاً وجماعيّاً، من خلال كلّ جوانب الحياة البشريّة، مشاركين الله في متابعة عمله في هذا الكون، هو الذي خلقنا على صورته، قادرين على الخلق مثله كي نشاركه عمله في هذا الكون فنكون "عاملين معه" (2 كورنثوس 6: 1).
صحيح إنّ هذا العالم ليس هو عالمنا النهائيّ بحالته الحاضرة، وأنّنا مدعوّون إلى رؤية الله فيه وأبعد منه، مدعوّون إلى القبول بأنّنا لا نحيا بذاتنا وإنّما بالله، وكلّ منّا مدعوّ أن يختبر شخصياً هذا الخبر السار: الله يحبّنا مجّاناً، ودعانا كي نصير آلهة بالنعمة[1]. نعم، نحن مدعوّون أن نستقبل محبّة الله لنا وأن نحبّه بدورنا، ونتّحد به فنتألّه، ولكنّنا لسنا مدعوّين أن نتألّه فرديّاً، وإنّما في الشركة في هذا العالم.
هكذا، نحن مدعوّون أن نسير في خطّ التألّه، خطّ المحبّة: محبّة الله، وهذه المحبّة تفترض ليس فقط محبّة الأخوات والإخوة وإنّما أيضاً محبّة هذا العالم بإعداده كي يكون ملكوتيّاً قدر الإمكان، "معتقاً من عبوديّة الفساد" الموجود في الطبيعة، وفي الإنسان، ولكن أيضاً معتقاً من "عبوديّة الفساد" الموجود في النُظُم التي يبتكرها الإنسان، في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والدراسة والأعمال كلّها، وذلك عندما نعمل على أن تصير هذه مكاناً لعيش علاقات المحبّة وبالتالي مكاناً لتمجيد الله، لحضور الروح المقدِّس لكلّ إنسان ولكلّ شيء[2].
قد يتصوّر المرء بأنّ المسيحيّة دعوة للخلاص من خطايا الذات فقط، لكنّ التركيز على خطايا الذات فقط وكأنّ الخلاص هو خلاص فرديّ، والتألّه تألّه فرديّ، هو نوع من التلهّي بالذات والتمحور حول الذات، ويعكس في العمق نرجسيّة. المسيحيّ يخلص في الكنيسة، في الجماعة، في جسد المسيح الكونيّ، المسيحيّ مدعوّ ليس فقط إلى خلاص نفسه ومواجهة خطيئته الفرديّة، وإنّما مدعوّ أيضاً إلى المشاركة لأنّ المسيحيّة هي "ثورة الإنسان المشارك" كما يقول أوليفيه كليمان.
لا أقول فقط بأنّ المسيحيّ مدعوّ إلى المساهمة بخلاص الآخرين، وإنّما أيضاً إلى مواجهة نتائج خطاياه الشخصيّة، هذه النتائج التي تنعكس بالخطايا الجماعيّة التي نولّدها معاً (بسكوتنا إن لم يكن بمساهمتنا الفعّالة) في الظُلم القائم في بُنى مجتمعاتنا ودولنا. المسيحيّ مدعوّ إلى المحبّة بتجسيدها فرديّاً وجماعيّاً، مدعوّ إلى المساهمة في خلاص نفسه بالتوبة، أي بتغيير ذهنه[3] كي يصير ذهن محبّة، ولهذا فمن مسؤوليّته المساهمة بخلاص نفسه في الجماعة، والمساهمة بخلاص غيره، وبالتوبة الجماعيّة بتغيير جماعيّ لبُنى المجتمع الظالمة، لكي تصير بُنى محبّة. هكذا يتجسّد الملكوت في اليوم الحاضر. بالطبع، الجماعة التي نحن مسؤولون عنها كمسيحيّات ومسيحيّين، ليست هي فقط جماعة المسيحيّين، بل كلّ البشر فنحن كلّنا معاً نشكّل جماعة الذين خلقهم الله على صورته، والمدعوّين أن يكونوا على مثاله كائنات مُشارِكَة، مُحِبَّة.
في هذا الإطار يمكننا ان نفهم كلمة يسوع التي غالباً ما ننساها، بأنّنا سوف نُسأل ليس فقط عمّا فعلناه ولكن عمّا كان بإمكاننا أن نفعله ولم نفعله (متى 25: 41 - 45)، " ثُمَّ يَقولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمالِهِ ابتَعِدوا عنِّي، يا ملاعينُ، إلى النّارِ الأبدِيَّةِ المُهيّـأةِ لإبليسَ وأعوانِهِ؛ لأنِّي جُعتُ فما أطعَمْتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيْتُموني، وكُنتُ غَريبًا فما آوَيْتموني، وعُريانًا فما كَسَوْتُموني، ومريضًا وسَجينًا فما زُرْتُموني. فيُجيبُهُ هؤُلاءِ يا ربُّ، متى رأيناكَ جوعانًا أو عَطشانًا، غريبًا أو عُريانًا، مريضًا أو سَجينًا، وما أسْعَفْناكَ، فيُجيبُهُم المَلِكُ الحقَّ أقولُ لكُم كُلَّ مرَّةٍ ما عَمِلتُم هذا لِواحدٍ مِنْ إخوتي هؤلاءِ الصِّغارِ، فلي ما عمِلتُموهُ."
5 الملكوت الحاضر طريقة حياة يتجلّى بها الإنسان والكون بواسطة الروح القدس
لأجل كلّ ما تقدّم، يقول يسوع أنّ الملكوت حاضر "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُم: إنَّهُ تأتي ساعَةٌ وهي الآنَ، حينَ يَسمَعُ الأمواتُ صوتَ ابنِ اللهِ، والسّامِعونَ يَحيَوْنَ"(يو 5: 25). فالملكوت هو ملكوت الروح القدس، هو الحياة في الروح، المدعوّون ان نعيشها بدءأً من اليوم، في كلّ يوم؛ وإن أخطأنا نتوب، نسعى كي تتغيّر قلوبنا حتّى نتقدّم في طريق المحبّة، أي حتّى نتقدّم في حياة الاتّحاد بيسوع، بالروح القدس.
لهذا فالكنيسة ليست مدعوّة إلى الانسحاب من هذا العالم، وإنّما إلى تعميده، إلى بثّ روح الله فيه كي يتجلّى، أي إلى تحويله بالروح القدس عالماً يهجّئ الملكوت، يهجّئ علاقات المحبّة. هذه الرؤية اللاهوتيّة تنبع من إيماننا بتجسّد كلمة الله، وبتجلّيه على جبل ثابور، وبصعوده، وبإرساله الروح القدس كي نصير أبناء الله (بالتبنّي)، محبّين مثله، كاملين مثله، به هو، بروحه القدس: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل" (متى 5: 48).
إنّ كون كلمة الله تجسّد في التاريخ، صائراً إنساناً تامّاً مثلنا، متّخذاً جسداً من مادة هذا العالم، وكونه مات وقام، وصعد إلى السماء، يعني أنّ الله اتّخذ العالم في ذاته، ولم يعد هذا العالم خارج الله بل في "قلبه". إنّ الله افتدى الخليقة كلّها وصارت الخليقة كلّها تنتظر اليوم الأخير كي تشترك في هذا الفداء. وبالتالي فإنّ هذه الخليقة، هذا العالم المخلوق، ليس شرّيراً، أو هو منام، أو مجرّد مكان للعبور؛ العالم مدعوّ إلى الفداء لا إلى الفناء، وهو كريم في عينيّ الربّ، الذي سيجدّد كلّ شيء يوم التجديد، فتكون سماء جديدة وأرض جديدة. العالم، مادّة هذا العالم، هي اليوم في أرفع حالة يمكن أن تصلها مطلق أيّ خليقة، إنّها في قلب الثالوث، في الإنسان يسوع المسيح القائم و"الجالس عن يمين الآب"!! هل نفهم؟ هل نستوعب؟ هل نؤمن بأن الكلمة تجسّد وصلب وقام وصعد وأرسل روحه القدس؟
ليس المطلوب منّا إهمال هذا العالم وتركه، بل تعميده والمساهمة في تجلّيه. إنّ تجلّي يسوع يدلّنا على أنّ جسدنا (وليس روحنا فقط)، ومادّة هذا العالم، مدعوّة إلى التجلّي، منذ اليوم، مدعوّة أن تشارك بنور الله غير المخلوق. لبّ كلّ الحياة التي عاشها القدّيسون الهدوئيّون، والتي دافع عنها بالاماس بروعة، هي أنّ الإنسان قادر في الجسد، وبدءاً من هذه الحياة، أن يختبر حضور النور غير المخلوق. لا يمكننا ان ننظر مسيحيّاً إلى العالم الحاضر على أنّه منام أو خيال أو تافه أو غير مهمّ أو مجرّد ممرّ إلى العالم الآخر.
المحبّة تعنى مسؤوليّتنا عن هذا العالم لكي يتجلّى فيهجّئ الحياة الملكوتيّة الآن، يُهجّأها عالماً يحيا فيه الناس فرديّاً وجماعيّاً بحسب قلب الله، وهذا يعني حكماً مسؤوليّتنا عن بُنى هذا العالم وثقافته، وعلومه، وكلّ نتاج بشريّ كي يصير هذا كلّه مجالاً لعيش المشاركة تجسيداً لمحبّتنا بعضنا لبعض، تجسيداً لعمل الروح القدس في كلّ هذا العالم، فيتجلّى الإنسان والعالم.
6 الإيمان بالروح الفاعل: الثقة بالله
قد يقول قائل، لا يمكننا ان نغيّر بنى هذا العالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلخ. على هذا نجيب بأنّه يجب علينا أن نفعل الممكن، ولكن لا يمكننا أن نعرف ما هو الممكن إلاّ إذا جرّبنا أن نعمل ونغيّر، مع غيرنا، معتمدين على فعل الله من خلالنا، على حركة الروح القدس من خلالنا، متذكّرين كلمة يسوع "بدوني لا تقدِرونَ أنْ تفعَلوا شيئاً" (يو 15: 5)؛ وهذا لا يكون إلاّ إذا دمجنا الفعل بالتأمّل، والعمل بالصلاة. إنّ الإيمان يعني حكماً الثقة بالله والعمل معه، الثقة بأنّه هو الذي يغيّر من خلال عملنا، فننقل هكذا الروح القدس الذي ما يزال يرفّ على وجه هذا الكون لكي يحوّله إلى حالته الأخيرة، حالة الملكوت، مكملاً عملية الخلق المستمرّة كلّ يوم: "أبي يَعمَلُ حتَّى الآنَ وأنا أعمَلُ" (يوحنّا 5: 17).
خريستو المرّ
30 تمّوز، 19 آب 2011
[1] الملحدون يريدون أن يصير الإنسان إنساناً، الله كشف لنا بأنّه يحبّنا ولهذا يريدنا أن نذهب أبعد، يريدنا أن نصير آلهة مثله، أن نكون أناساً بشكل كامل وذلك بأن نكون "شركاء الطبيعة الإلهيّة" (2 بطرس 1: 4).
[2] نحن بسبب من التجسّد والصلب والقيامة والصعود، نؤمن بأنّ مواد هذ العالم يمكن تقديسها، وهذا الإيمان يُتَرْجَم في جزء من ممارساتنا الكنسيّة، من هنا لدينا طقوس تقديس الماء والزيت، ومن هنا نستعمل الأيقونات المقدّسة. المسيح نفسه اتّخذ من مواد بسيطة من هذا العالم: الخبز والخمر، مجالاً لتقديسنا، لاتّحادنا به بالروح القدس
[3] كلمة توبة في اليونانيّة metanoia تعني تغيير الذهن