المسيحية والرأسمالية: أي هدم وأي بناء؟
مجلّة صفر، العدد ١ - كانون أوّل/ ديسمبر ٢٠٢٢
خريستو المرّ
1 المسيحيّةإنّ المسيحيّة قائمة على الإيمان بأنّ يسوع المسيح هو كلمة الله المتجسّد، وبالتالي أنّ الألوهة نفسها صارت جزءا من التاريخ وضمّت التاريخ والمادّة إليها. هذه المادّة، أكانت جسمنا أم الطبيعة والكون، هي كريمة في عينيّ الله ومحبوبة منه. من هنا، تغدو محبّة هذه المادّة وهذا الكون وهذا الإنسان وهذه المجتمعات جزءًا من محبّة المؤمن لله الذي يحبّها جميعًا، ودليلًا ملموسًا على صدق محبّة الله غير الملموس، لأنّ مَنْ لاَ يحِبّ الانسان الَّذِي يراه، كيف يقدر أن يُحِبّ الله الّذي لا يراه على حسب قول الانجيليّ يوحنّا (١ يوحنّا: ٤: ٢٠).
من هنا، يغدو التفكّر في البيئة التي تؤثّر في أجسامنا ونفوسنا، من ظروف عمل وسكن وصحّة وتعليم وغير ذلك، كما وتحليل البُنى التي تولّد تلك البيئة، أكانت البُنى سياسيّة أم اقتصاديّة أم اجتماعيّة، مسؤوليّة إيمانيّة. وكذلك يغدو العمل الجماعيّ المشترك، مع جميع المخلصين لمحبّة الإنسان والأرض، على تغيير هذه البُنى كي تصبح مولّدة لبيئة نحيا فيها بشكل موائمٍ لمبدأ المحبّة والأخوّة البشريّة، ضرورة إيمانيّة. وبما أنّ البنية الأساس التي تولّد البيئة التي نحياها حول العالم في زمننا هي الرأسماليّة، يصبح من الضروريّ أن نحلّلها ونوضح أثرها كما هو في الواقع لا كما تصوّرها الدعاية الترويجيّة للرأسماليّة.
1.1 مقياس صحّة وانحراف الرأسماليّة وأيّ شيء آخر؟لكن لكي نبدأ بتقييم الرأسماليّة علينا وضع قياس نقيس عليه سلامتها. وتغيير المقياس يغيّر التقييم. وبما أنّ مقاربتنا مسيحيّة فإنّها تنطلق ممّا هو في الإيمان المسيحيّ ومنسجمٌ مع كلام وتصرّفات يسوع المسيح التي ستكون مقياسنا.
1.2 صورة الله في الإنسانيرى الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ أنّ الإنسان مخلوق " على صورة الله" وذلك يعني أنّ الإنسان مخلوق مميّز عن بقيّة المخلوقات بمزايا تشبه مزايا الخالق كالفكر والحرّية والقدرة على المحبّة. هذا يعني أنّ كلّ إنسان له قيمة لا نهائيّة كشخص يرى فيه المؤمنة والمؤمن وجه الله نفسه، وقد عبّر عن ذلك قول رهبانيّ مأثور "بعد الله يجب علينا أن نرى كلّ إنسان وكأنّه الله نفسه". هذه الرؤية مناهضة حُكما لأيّ علاقات استغلال، أو استلاب، أو تدمير للبشر، أو للطبيعة كونها هبةُ الله إلينا وفيها أيضًا نقرأ «كلمات» حضوره الخالق للحياة.
1.3 البيئة التي تسمح بالوصول إلى الهدف لهذا فالسلطة من وجهة نظر مسيحيّة ينبغي أن تخدم هدف خلق بنى تلد بيئة تسمح لعلاقات المحبّة بين البشر بأن تنمو. قبل ذهابه إلى الموت، غسل يسوع أرجل تلاميذه ليقول بأنّ السلطة هي خدمة وليست تسلّطًا، وبأنّها ترى الآخر غاية في حدّ ذاته وليس وسيلة لأيّ مشروع حتّى، بل خاصّة، إن كان المشروع منسوب لله.
ما هي ظروف نشوء علاقات المحبّة؟ من حيث المبدأ، إنّ البيئة التي تسمح للمحبّة بالنموّ هي بيئة الحرّية، لأنّ الحرّية هي شرط المحبّة، المحبّة حرّة تكون أو لا تكون. ومن ناحية أخرى، نحن نرى بأنّ البيئة التي تسمح للحرّية بالنموّ هي أيضًا المحبّة، لأنّ بدون محبّة تنعدم الأخوّة البشريّة، وينحو الإنسان إلى استغلال الآخر كوسيلة، كشيء، فتصبح الحرّية مجالًا لما يسمّى خطيئة والكلمة تعني حرفيّا في أصلها اليوناني "إخطاء الهدف"، أي إخطاء هدف المحبّة. بدون محبّة تنحو الحرّية نحو تدمير الآخر والذات. المحبّة والحرّية توأمان.
الإيمان المسيحيّ يحمّل المؤمن(ة) مسؤوليّة العمل مع كلّ إنسان يؤمن بالأخوّة البشريّة، من أجل خلق بُنىَ تولّد بيئة تؤمّن أفضل الظروف لنموّ المحبّة والحرّية. بالنسبة للمسيحيّة، بيئة المحبّة-الحرّية ليست بيئة لا تهتمّ بالمادة فالله يحبّ العالم وكلمة الله نفسه صار مادّيا بتأنّسه بيسوع المسيح الذي أوصى أتباعه بالاهتمام بهذا العالم. إنّ بيئة المحبّة-الحرّية بيئة تهتمّ بكرامة الآخر كإنسان، بحاجاته الجسديّة-النفسيّة-العاطفيّة، ويسوع نفسه كان يعلّم بالكلام ليرشد الإنسان إلى طريق المحبّة، ولكنّه كان أيضًا يصنع العجائب (بحسب الإيمان المسيحيّ) كتعبيرٍ مادّي ملموسٍ عن محبّته للبشر من خلال الاهتمام بحاجاتهم المادّية.
لأجل ذلك، وعلى عكس الشائع، فإنّ انتظار الملكوت ليس انتظارا فاترًا مؤجّلًا لا مسؤولًا، بل هو انتظارٌ فاعلٌ، ورشة يوميّةٌ ، وهو معنى كلام يسوع عن ساعة الملكوت التي تأتي، والتي الآن حاضرة (يوحنّا ٤: ٢٤ و ٥: ٢٥).
1.4 اختصار الحكايةباختصار، إنّ كلمة الله تجسّد بيسوع محبّةً بالإنسان، ليرشده من الداخل كي ينمّي قدرته على المحبّة، فتصبح تلك على مثال محبّة يسوع: محبّةً منضالةً، حتّى الموت إن لزم الأمر، من أجل خلق بيئة تسمح للناس أن يحيوا علاقات محبّة حرّة بشكل أفضل، بحيث يصبح المجتمع خادمًا لحياة الآخرين، وأجسادهم، ونفوسهم، وحرّيتهم، وكرامتهم. لقد دشّن يسوع ورشة بناء ملكوت محبّة على هذه الأرض يكتمل في اليوم الأخير، ولهذا فإنّ انتظار الملكوت هو عملٌ يوميٌّ مع يسوع ومع خدّام حياة الإنسان والطبيعة، تلاميذه الحقيقيّن من كلّ دين وفلسفة، عرفوه بالفكر أم لم يعرفوه، لكي تنشأ بُنىً ملكوتيّةً على هذه الأرض، بُنىً تخلق بيئة
1.5 ضرورة الصراع لإنشاء البُنىبالطبع، باستطاعة كلّ إنسان، بسبب من حرّيته المخلوقة، أن يقبل وجود الله نفسه أو يرفض هذا الوجود. الله نفسه احترم هذه الحرّية عندما لم يتدخّل ليفرض يسوع على الناس، بل أنّ يسوع نفسه، وهو كلمة الله المتجسّد بحسب المسيحيّة، قَبِلَ بأن يرفضه الناس الذين خلقهم وحتّى بأن يقتلوه. إذًا ينبغي أن تُحتَرَمُ حرّية الضمير دائمًا وأبدًا، والله نفسه يحترمها.
أمّا حرّية الأفعال بين البشر، فلا علاقة لها بحرّية الاعتقاد، بل تتعلّق بالعلاقات بين الناس في المجتمع. أرسى يسوع خطّ المحبّة وسار فيه وترك للناس الحرّية بأن يمشوا في إثره أو لا يمشوا. لكنّ هذا لا يختصر كلّ كلام يسوع ووصاياه، فهو أوصى أيضًا بأن يهتمّ أتباعه بكلّ مستضعف في الأرض، بكلّ من يقع ضحيّة للحرّية الإنسانيّة إذا ما جنحت ضدّ المحبّة فصارت مدمّرة. أفعال الخطّ المعاكس للمحبّة هي أفعال شرّ تدمّر الآخرين وتجب مواجهتها. فإن كان الإنسان حرًّا بتدمير ذاته فعند محاولته تدمير غيره باستغلاله وتدمير الحياة فيه (جوع، مرض، جهل) تجب مواجهته، من أجل ردع الشرّ والتدمير وحماية بيئة المحبّة والبُنى المولّدة لها، من أجل حماية بُنى الملكوت. هذا الردع هو تعبير عن المحبّة وإحقاقٌ لوصيّة يسوع بأن يُدافَع عن حقّ المستضعفين بالطعام والشراب والمأوى والحرّية والتعاضد والتعاطف، وهو الأمر الوحيد الذي قال يسوع أنّ الإنسان سيُسأل عنه يوم القيامة (متّى ٢٥: ٣٥-٤٦).
2 الرأسماليّة2.1 الرأسماليّة: المال البداية والنهاية، الألف والياءالرأسماليّة هي نظام اجتماعيّ قائم حول اقتصاد مبنيّ ليس على السوق لكن على سوق "حرّة" وعلى فكرة الـمُلكيّة الفرديّة. لا تقوم الرأسماليّة على مجرّد وجود سوق، ففكرة وواقع السوق موجودان عبر العصور. ولكن لا يوجد مجتمع مثل المجتمع الرأسماليّ تتمحور فيه تقريبا كلّ النشاطات البشريّة حول السوق، بحيث لم يعد المجتمع هو الذي يتحكّم بالسوف وإنّما السوق يتحكّم بالمجتمع الذي يكاد لا يوجد إلّا من أجل السوق.
كان المجتمع ما قبل الرأسماليّ يقوم على العمل الخاص المستقلّ للإنسان (الزارع، الإسكافيّ، الحدّاد، إلخ) وعلى تبادل النتاج مقابل سعر محدّد في سوق، وكانت الأسعار تتحدّد من العاملين في نفس المهنة، دون منافسة فعليّة، بل كانت المنافسة تُعتبر أمرا غير شريف في السوق (يمكن مراجعة ملاحظات لسبينزوا في القرن السابع عشر بهذا الشأن). بالطبع، كان الربح ضروريّا لأجل الاستمرار في العيش وفي العمل، لكن الربح كان مصدره العمل الشخصيّ، الجهد الجسديّ أساسًا، ما خلا النبلاء الذين يستخدمون الفلّاحين في نظام الاقطاع للعمل لديهم ويجنون المال من تعبهم.
الرأسماليّة مختلفة بكونها تبدأ ليس من العمل، وإنّما من المال. ليس المال رأس بالثروة الشخصيّة التي قد يجمعها عامل أو موظّف من خلال توفيره لجزء من مرتّبه، وإنّما هو مال يوظّفه إنسان أو مجموعة) في سبيل جني المزيد من المال، في سبيل نموّ رأس المال. هذا هو لبّ الرأسماليّة: استخدام المال لزيادة المال، وباطّراد. البداية والنهاية، الألف والياء، في الرأسماليّة هو المال وليس الإنسان.
2.2 كيف يزيد المال؟لكن كيف يزيد المال بالمال؟ بالمال يمتلك الرأسماليّ وسائل الإنتاج، ويُنتج شيئًا له قيمة استخداميّة، مطلوبة بحكم حاجة لاستخدام ذلك المنتج، والحاجة قد تكون فعليّة (الطعام مطلوب بسبب الحاجة الجسديّة) أو اصطناعيّة ناتجة عن الدعاية (كنزة حمراء بمناسبة عيد الميلاد مطلوبة بسب الدعاية لا بسبب حاجة فعليّة). يبيع الرأسماليّ البضاعة «المطلوبة» ويجني منها قيمة-تبادليّة بحسب الطلب. نظريّا، زيادة الطلب تؤدّي لزيادة القيمة التبادليّة، ولكن عمليّا يسعى الرأسماليّ لزيادة القيمة التبادليّة للمنتج بواسطة الاحتكار أو المضاربة (كما في سوق الأسهم). هكذا كلّما زادت القيمة التبادليّة دفع الناس مالًا أكثر مقابل المنتج وزادت المداخيل. من هذه المداخيل على الرأسماليّ أن يحسم كلفة الإنتاج لتحديد فائض القيمة (أي الأرباح)، والكلفة تتضمّن حكمًا مرتّبات للعمّال، وبهدف زيادة أرباحه، يصبح من مصلحة الرأسماليّ أن يخفّض المرتّبات إلى الحدّ الأدنى الممكن، أو أن يزيد الانتاجيّة إلى الحدّ الأقصى الممكن، مهما كان الأثر الاجتماعيّ الإنسانيّ لذلك.
وماذا يصنع الرأسماليّ بالأرباح؟ منطق الرأسماليّة هو استعمال المال الموجود لمراكمته، لذلك يتمّ استخدام الأرباح في استثمار جديد (توسيع الإنتاج مثلًا) لكي يتزايد المال من جديد. هكذا، فإنّ الرأسماليّة هي حُكمًا في حالة توسّع دائم، فمنطقها الداخليّ يدفعها لمراكمة المال بالمال (لا يمكن ترك المال دون أن يتزايد) مهما كان الأثر البيئيّ لذلك (استهلاك الكوكب وتدمير البيئة).
2.3 القيمة المطلقةطالما المال هو ألف الرأسماليّة وياؤها، فكلّ شيء موجود في هذا العالم لا يمكن أن يكون له قيمة بنظر العقل الرأسماليّ إلّا إذا جرى تقييمه بقيمة ماليّة. الشجر، الأرض، الماء، الهواء، الجسد، الفكر، الرسم، النحت، الشعر، التعليم، العمر، الحيوانات، العمل غير المدفوع الأجر (العمل المنزليّ، مثلًا)، والإنسان نفسه، كلّ ذلك لا قيمة له إلّا إن تمّ حسابه ماليًّا ضمن دورة انتاج المال. ومن هنا إطلاق كلمة "الموارد" على الإنسان؛ فعبارة «الموارد البشريّة» تُطلَق على البشر الموظّفين في مؤسّسة رأسماليّة، ذلك أنّ الموظّفين يُعتبرون أدوات للاستثمار بهدف مراكمة المال، ويمكن حساب كمّية الأرباح الماليّة التي يجلبونها للشركة: المال الذي يسبّبون بإنتاجه كقيمة تبادليّة، محسومًا منه الكلفة الماليّة لاستخدامهم (مرتّباتهم، تأميناتهم...). لا يمانع الرأسماليّ بتوظيف رأسمال في «الموارد» البشريّة (تدريب، تأمين صحّي، إلخ.) لكي تُجنى منها أرباحًا أعلى. ما من شيء منطقيّ أكثر في الرأسماليّة. وبسبب استتباب الفكر الرأسماليّ، بدا ما هو غير طبيعي "طبيعيّ" جدّا، إذ لا أظنّ أنّ القارئ يشعر بأيّ مشكلة بأن يُدعى "مُستخدَم" وجزء من "موارد بشريّة"، بينما حقيقة العبارتين تعنيان مباشرة أنّه وأنّها مجرّد وسيلة تُستعمل لجني أرباح لـ"ربّ" العمل، وكلمة "ربّ" نفسها مُدِلّة بمعانيها فهي تعني السيّد، ولنقلها بوضوح لا سيّد إلّا على عبيد.
2.4 ضرورة الاستغلاللكي يزداد ربح الرأسمالي إلى أقصى حدّ ممكن، لا بدّ من زيادة الإنتاج للحدّ الأقصى الممكن وتخفيض التكاليف للحدّ الأدنى الممكن. وهذا يعني من جملة ما يعنيه الضغط لتخفيض أجرة العمّال لأنّ هذه يُنظَر إليها ليس كحقّ لجهد العامل المبذول من أجل الإنتاج، وإنّما ككلفة تأخذ حصّة من الأرباح. وقد يخطر على بال أنّه يمكن زيادة الأرباح دون محاولة إبقاء الأجور في حدّها الأدنى، ولو أنّ ذلك يُبقي الأرباح دون حدّها الأعلى الممكن. هذا قد يكون ممكنًا في ظلّ شركة مملوكة من شخص أو عائلة، ولكن ما أن نصبح في إطار الشركات الـمُساهمة (التي تطرح أسهمها في سوق الأسهم) تنتفي تلك الإمكانيّة وتلك الحرّية لأنّ ضغوط السوق لا تسمح بذلك، فازدياد الأرباح إلى الحدّ الأقصى أمر تفرضه أولايّات (ميكانيزمات) السوق، فالذي يربح أكثر (في الشركات ذات الأسهم) سيزداد سعر أسهمه (أي رأسماله) بينما المنافسون الذين لا يحقّقون نسب زيادة أرباح مماثلة فسيخسرون من قيمة أسهمهم (أي من رأسمالهم) لأنّ منطق السوق يقول ببيع أسهم ذات مردود أقلّ لشراء أسهم ذات مردود أعلى. أواليّات السوق نفسها تفرض على الرأسماليّ أن يسعى لاستغلال أقصى للموظّفين من أجل الوصول إلى إعلان مراكمة أعلى أرباح ممكنة، وللخروج من سوق يد عاملة محميّة بقوانين تمنع استغلالًا عبوديًّا صريحًا، للبحث عن يد عاملة في مكان تسمح قوانينه باستغلال العمّال كما يشاء.
3 خلاصة: الرأسماليّة من وجهة نظر مسيحيّة من وجهة نظر مسيحيّة لا يمكن المصالحة بين الرأسماليّة والإيمان المسيحيّ. المسيحيّون الأوّلون تصرّفوا بما يملكون على أساس أنّ "كلّ شيء كان مشتركا بينهم "كما يرد في كتاب أعمال الرسل (٤، ٣٢) فعاشوا المشاركة في الممتلكات. في العصور اللاحقة كان رهبان الصحراء المصريّة يعملون أُجَراء في مواسم الحصاد ويوزّعون ما يحصلون عليه من قمح أجرةً لأتعابهم على فقراء المدن المصريّة. وأسّس باسيليوس الكبير (329-379 م.) «الباسيليّة»، وهي مجمّع مخصّص ليعتني بالفقراء واليتامى والأرامل وهم أكثر الناس تهميشا في ذلك العصر، وأنشأ يوحنّا الذهبيّ الفم (344-407 م.) المستشفيات. وناهض أبرز قدّيسو الكنيسة ما ندعوه اليوم بانعدام العدالة في توزيع الثروة الوطنيّة، وبالتمايز الطبقيّ بين الأغنياء والفقراء واعتبر غريغوريوس النيصصي (٣٣٥ - ٣٩٤ م.) أنّه لا أحد يدخل الملكوت دون أن يمرّ بخدمة الفقراء "حرّاس الملكوت"، وركّز غريغوريوس النزينزيّ (اللاهوتيّ) (329-390 م.)، على فكرة المساواة بين الناس فكان يقول "قفوا ليس عند قانون الأقوياء بل الخالق"، أي عند قانون المساواة؛ وأطلّ إلى ما هو أبعد من العلاقات الفرديّة ليلامس موضوع العدالة بين الناس والأسباب البشريّة القائمة وراء الفقر، فكتب "أنا لست متأكّدًا أنّ الفرق بين غنيّ وفقير آتٍ من الله"، في وقت ما يزال الكثير من المسيحيّين في زمننا يصرّون أنّ هذه إرادة الله، وفي حين أنّ الرأسماليّة تُنتِجُ الفقر إنتاجا مدفوعة بالسعي المحموم لتصاعد الأرباح وتراكم رأس المال.
لا يمكن مصالحة الإيمان بالله أب لجميع الناس وبأنّ البشريّة عائلة واحدة لأب واحد، مع فكرة الرأسماليّة التي ترى الآخر أداة لجني أقصى الأرباح. من وجهة نظر مسيحيّة، الرأسماليّة شرّ تجب مواجهته، خطّ معادٍ للمبادئ المسيحيّة الأساس. يورد كتاب الرؤية كلاما على لسان يسوع "أنا هو الألف والياء البداية والنهاية" (رؤيا 1: 8)؛ إنّ هكذا إيمان لن يتصالح يومًا مع كون المال هو البداية والنهاية في مطلق أيّ نظام. بالطبع يمكن للإنسان أن يجمع إيمانه بالرأسماليّة مع "إيمانه" يسوع، لكنّنا هنا نتحدّث عن رؤيتين متعارضتين، عن سُلَّمَيْن للقيم متناقضين يولّدان هيكليّتان حياتيّتان تنفي إحداهما الأخرى. عندما يحاول الإنسان التوفيق بين رؤيتين متناقضتين للحياة، كالرأسماليّة والمسيحيّة، فهو عادة ما يفعل ذلك لكي يغطّي بشاعة ما يرتكبه بشكل ملموس بواسطة إحدى الرؤيتين، بمعطف من المبادئ الفكريّة الجميلة غير الملموسة للرؤية الأُخرى والتي لا يُبقي منها إلّا على فولكلورٍ يخدّر به ضميره.
إنّ الإيمان المسيحيّ نفسه يحرّض المؤمنين بيسوع أن يمدّوا أيديهم ليتعاونوا مع كلّ مُخلص لمحبّة الإنسان وتحريره، على هدم البناء الرأسماليّ من أجل بناء مجتمع إنسانيّ جامع، مبنيّ على المشاركة في ثروات الأرض التي هي حقّ بشر أحرار متساوون في الكرامة البشريّة.
1 المسيحيّةإنّ المسيحيّة قائمة على الإيمان بأنّ يسوع المسيح هو كلمة الله المتجسّد، وبالتالي أنّ الألوهة نفسها صارت جزءا من التاريخ وضمّت التاريخ والمادّة إليها. هذه المادّة، أكانت جسمنا أم الطبيعة والكون، هي كريمة في عينيّ الله ومحبوبة منه. من هنا، تغدو محبّة هذه المادّة وهذا الكون وهذا الإنسان وهذه المجتمعات جزءًا من محبّة المؤمن لله الذي يحبّها جميعًا، ودليلًا ملموسًا على صدق محبّة الله غير الملموس، لأنّ مَنْ لاَ يحِبّ الانسان الَّذِي يراه، كيف يقدر أن يُحِبّ الله الّذي لا يراه على حسب قول الانجيليّ يوحنّا (١ يوحنّا: ٤: ٢٠).
من هنا، يغدو التفكّر في البيئة التي تؤثّر في أجسامنا ونفوسنا، من ظروف عمل وسكن وصحّة وتعليم وغير ذلك، كما وتحليل البُنى التي تولّد تلك البيئة، أكانت البُنى سياسيّة أم اقتصاديّة أم اجتماعيّة، مسؤوليّة إيمانيّة. وكذلك يغدو العمل الجماعيّ المشترك، مع جميع المخلصين لمحبّة الإنسان والأرض، على تغيير هذه البُنى كي تصبح مولّدة لبيئة نحيا فيها بشكل موائمٍ لمبدأ المحبّة والأخوّة البشريّة، ضرورة إيمانيّة. وبما أنّ البنية الأساس التي تولّد البيئة التي نحياها حول العالم في زمننا هي الرأسماليّة، يصبح من الضروريّ أن نحلّلها ونوضح أثرها كما هو في الواقع لا كما تصوّرها الدعاية الترويجيّة للرأسماليّة.
1.1 مقياس صحّة وانحراف الرأسماليّة وأيّ شيء آخر؟لكن لكي نبدأ بتقييم الرأسماليّة علينا وضع قياس نقيس عليه سلامتها. وتغيير المقياس يغيّر التقييم. وبما أنّ مقاربتنا مسيحيّة فإنّها تنطلق ممّا هو في الإيمان المسيحيّ ومنسجمٌ مع كلام وتصرّفات يسوع المسيح التي ستكون مقياسنا.
1.2 صورة الله في الإنسانيرى الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ أنّ الإنسان مخلوق " على صورة الله" وذلك يعني أنّ الإنسان مخلوق مميّز عن بقيّة المخلوقات بمزايا تشبه مزايا الخالق كالفكر والحرّية والقدرة على المحبّة. هذا يعني أنّ كلّ إنسان له قيمة لا نهائيّة كشخص يرى فيه المؤمنة والمؤمن وجه الله نفسه، وقد عبّر عن ذلك قول رهبانيّ مأثور "بعد الله يجب علينا أن نرى كلّ إنسان وكأنّه الله نفسه". هذه الرؤية مناهضة حُكما لأيّ علاقات استغلال، أو استلاب، أو تدمير للبشر، أو للطبيعة كونها هبةُ الله إلينا وفيها أيضًا نقرأ «كلمات» حضوره الخالق للحياة.
1.3 البيئة التي تسمح بالوصول إلى الهدف لهذا فالسلطة من وجهة نظر مسيحيّة ينبغي أن تخدم هدف خلق بنى تلد بيئة تسمح لعلاقات المحبّة بين البشر بأن تنمو. قبل ذهابه إلى الموت، غسل يسوع أرجل تلاميذه ليقول بأنّ السلطة هي خدمة وليست تسلّطًا، وبأنّها ترى الآخر غاية في حدّ ذاته وليس وسيلة لأيّ مشروع حتّى، بل خاصّة، إن كان المشروع منسوب لله.
ما هي ظروف نشوء علاقات المحبّة؟ من حيث المبدأ، إنّ البيئة التي تسمح للمحبّة بالنموّ هي بيئة الحرّية، لأنّ الحرّية هي شرط المحبّة، المحبّة حرّة تكون أو لا تكون. ومن ناحية أخرى، نحن نرى بأنّ البيئة التي تسمح للحرّية بالنموّ هي أيضًا المحبّة، لأنّ بدون محبّة تنعدم الأخوّة البشريّة، وينحو الإنسان إلى استغلال الآخر كوسيلة، كشيء، فتصبح الحرّية مجالًا لما يسمّى خطيئة والكلمة تعني حرفيّا في أصلها اليوناني "إخطاء الهدف"، أي إخطاء هدف المحبّة. بدون محبّة تنحو الحرّية نحو تدمير الآخر والذات. المحبّة والحرّية توأمان.
الإيمان المسيحيّ يحمّل المؤمن(ة) مسؤوليّة العمل مع كلّ إنسان يؤمن بالأخوّة البشريّة، من أجل خلق بُنىَ تولّد بيئة تؤمّن أفضل الظروف لنموّ المحبّة والحرّية. بالنسبة للمسيحيّة، بيئة المحبّة-الحرّية ليست بيئة لا تهتمّ بالمادة فالله يحبّ العالم وكلمة الله نفسه صار مادّيا بتأنّسه بيسوع المسيح الذي أوصى أتباعه بالاهتمام بهذا العالم. إنّ بيئة المحبّة-الحرّية بيئة تهتمّ بكرامة الآخر كإنسان، بحاجاته الجسديّة-النفسيّة-العاطفيّة، ويسوع نفسه كان يعلّم بالكلام ليرشد الإنسان إلى طريق المحبّة، ولكنّه كان أيضًا يصنع العجائب (بحسب الإيمان المسيحيّ) كتعبيرٍ مادّي ملموسٍ عن محبّته للبشر من خلال الاهتمام بحاجاتهم المادّية.
لأجل ذلك، وعلى عكس الشائع، فإنّ انتظار الملكوت ليس انتظارا فاترًا مؤجّلًا لا مسؤولًا، بل هو انتظارٌ فاعلٌ، ورشة يوميّةٌ ، وهو معنى كلام يسوع عن ساعة الملكوت التي تأتي، والتي الآن حاضرة (يوحنّا ٤: ٢٤ و ٥: ٢٥).
1.4 اختصار الحكايةباختصار، إنّ كلمة الله تجسّد بيسوع محبّةً بالإنسان، ليرشده من الداخل كي ينمّي قدرته على المحبّة، فتصبح تلك على مثال محبّة يسوع: محبّةً منضالةً، حتّى الموت إن لزم الأمر، من أجل خلق بيئة تسمح للناس أن يحيوا علاقات محبّة حرّة بشكل أفضل، بحيث يصبح المجتمع خادمًا لحياة الآخرين، وأجسادهم، ونفوسهم، وحرّيتهم، وكرامتهم. لقد دشّن يسوع ورشة بناء ملكوت محبّة على هذه الأرض يكتمل في اليوم الأخير، ولهذا فإنّ انتظار الملكوت هو عملٌ يوميٌّ مع يسوع ومع خدّام حياة الإنسان والطبيعة، تلاميذه الحقيقيّن من كلّ دين وفلسفة، عرفوه بالفكر أم لم يعرفوه، لكي تنشأ بُنىً ملكوتيّةً على هذه الأرض، بُنىً تخلق بيئة
- تتيح أفضل فرصة كي يتحرّر الإنسان من وطأة حاجته الجسديّة والنفسيّة، ومن وطأة الخوف من عدم تحقيق هذه الحاجات، هذا الخوف الذي يُفقده حرّيته ويتيح للآخرين بأن يستغلّوه ويستعبدوه.
- تتيح لكلّ إنسان فيها أن يعبّر فيها عن ذاته بشكل حرّ، كي ينمو إلى ملء إمكانيّاته من خلال عملٍ متناسب مع تلك القدرات
1.5 ضرورة الصراع لإنشاء البُنىبالطبع، باستطاعة كلّ إنسان، بسبب من حرّيته المخلوقة، أن يقبل وجود الله نفسه أو يرفض هذا الوجود. الله نفسه احترم هذه الحرّية عندما لم يتدخّل ليفرض يسوع على الناس، بل أنّ يسوع نفسه، وهو كلمة الله المتجسّد بحسب المسيحيّة، قَبِلَ بأن يرفضه الناس الذين خلقهم وحتّى بأن يقتلوه. إذًا ينبغي أن تُحتَرَمُ حرّية الضمير دائمًا وأبدًا، والله نفسه يحترمها.
أمّا حرّية الأفعال بين البشر، فلا علاقة لها بحرّية الاعتقاد، بل تتعلّق بالعلاقات بين الناس في المجتمع. أرسى يسوع خطّ المحبّة وسار فيه وترك للناس الحرّية بأن يمشوا في إثره أو لا يمشوا. لكنّ هذا لا يختصر كلّ كلام يسوع ووصاياه، فهو أوصى أيضًا بأن يهتمّ أتباعه بكلّ مستضعف في الأرض، بكلّ من يقع ضحيّة للحرّية الإنسانيّة إذا ما جنحت ضدّ المحبّة فصارت مدمّرة. أفعال الخطّ المعاكس للمحبّة هي أفعال شرّ تدمّر الآخرين وتجب مواجهتها. فإن كان الإنسان حرًّا بتدمير ذاته فعند محاولته تدمير غيره باستغلاله وتدمير الحياة فيه (جوع، مرض، جهل) تجب مواجهته، من أجل ردع الشرّ والتدمير وحماية بيئة المحبّة والبُنى المولّدة لها، من أجل حماية بُنى الملكوت. هذا الردع هو تعبير عن المحبّة وإحقاقٌ لوصيّة يسوع بأن يُدافَع عن حقّ المستضعفين بالطعام والشراب والمأوى والحرّية والتعاضد والتعاطف، وهو الأمر الوحيد الذي قال يسوع أنّ الإنسان سيُسأل عنه يوم القيامة (متّى ٢٥: ٣٥-٤٦).
2 الرأسماليّة2.1 الرأسماليّة: المال البداية والنهاية، الألف والياءالرأسماليّة هي نظام اجتماعيّ قائم حول اقتصاد مبنيّ ليس على السوق لكن على سوق "حرّة" وعلى فكرة الـمُلكيّة الفرديّة. لا تقوم الرأسماليّة على مجرّد وجود سوق، ففكرة وواقع السوق موجودان عبر العصور. ولكن لا يوجد مجتمع مثل المجتمع الرأسماليّ تتمحور فيه تقريبا كلّ النشاطات البشريّة حول السوق، بحيث لم يعد المجتمع هو الذي يتحكّم بالسوف وإنّما السوق يتحكّم بالمجتمع الذي يكاد لا يوجد إلّا من أجل السوق.
كان المجتمع ما قبل الرأسماليّ يقوم على العمل الخاص المستقلّ للإنسان (الزارع، الإسكافيّ، الحدّاد، إلخ) وعلى تبادل النتاج مقابل سعر محدّد في سوق، وكانت الأسعار تتحدّد من العاملين في نفس المهنة، دون منافسة فعليّة، بل كانت المنافسة تُعتبر أمرا غير شريف في السوق (يمكن مراجعة ملاحظات لسبينزوا في القرن السابع عشر بهذا الشأن). بالطبع، كان الربح ضروريّا لأجل الاستمرار في العيش وفي العمل، لكن الربح كان مصدره العمل الشخصيّ، الجهد الجسديّ أساسًا، ما خلا النبلاء الذين يستخدمون الفلّاحين في نظام الاقطاع للعمل لديهم ويجنون المال من تعبهم.
الرأسماليّة مختلفة بكونها تبدأ ليس من العمل، وإنّما من المال. ليس المال رأس بالثروة الشخصيّة التي قد يجمعها عامل أو موظّف من خلال توفيره لجزء من مرتّبه، وإنّما هو مال يوظّفه إنسان أو مجموعة) في سبيل جني المزيد من المال، في سبيل نموّ رأس المال. هذا هو لبّ الرأسماليّة: استخدام المال لزيادة المال، وباطّراد. البداية والنهاية، الألف والياء، في الرأسماليّة هو المال وليس الإنسان.
2.2 كيف يزيد المال؟لكن كيف يزيد المال بالمال؟ بالمال يمتلك الرأسماليّ وسائل الإنتاج، ويُنتج شيئًا له قيمة استخداميّة، مطلوبة بحكم حاجة لاستخدام ذلك المنتج، والحاجة قد تكون فعليّة (الطعام مطلوب بسبب الحاجة الجسديّة) أو اصطناعيّة ناتجة عن الدعاية (كنزة حمراء بمناسبة عيد الميلاد مطلوبة بسب الدعاية لا بسبب حاجة فعليّة). يبيع الرأسماليّ البضاعة «المطلوبة» ويجني منها قيمة-تبادليّة بحسب الطلب. نظريّا، زيادة الطلب تؤدّي لزيادة القيمة التبادليّة، ولكن عمليّا يسعى الرأسماليّ لزيادة القيمة التبادليّة للمنتج بواسطة الاحتكار أو المضاربة (كما في سوق الأسهم). هكذا كلّما زادت القيمة التبادليّة دفع الناس مالًا أكثر مقابل المنتج وزادت المداخيل. من هذه المداخيل على الرأسماليّ أن يحسم كلفة الإنتاج لتحديد فائض القيمة (أي الأرباح)، والكلفة تتضمّن حكمًا مرتّبات للعمّال، وبهدف زيادة أرباحه، يصبح من مصلحة الرأسماليّ أن يخفّض المرتّبات إلى الحدّ الأدنى الممكن، أو أن يزيد الانتاجيّة إلى الحدّ الأقصى الممكن، مهما كان الأثر الاجتماعيّ الإنسانيّ لذلك.
وماذا يصنع الرأسماليّ بالأرباح؟ منطق الرأسماليّة هو استعمال المال الموجود لمراكمته، لذلك يتمّ استخدام الأرباح في استثمار جديد (توسيع الإنتاج مثلًا) لكي يتزايد المال من جديد. هكذا، فإنّ الرأسماليّة هي حُكمًا في حالة توسّع دائم، فمنطقها الداخليّ يدفعها لمراكمة المال بالمال (لا يمكن ترك المال دون أن يتزايد) مهما كان الأثر البيئيّ لذلك (استهلاك الكوكب وتدمير البيئة).
2.3 القيمة المطلقةطالما المال هو ألف الرأسماليّة وياؤها، فكلّ شيء موجود في هذا العالم لا يمكن أن يكون له قيمة بنظر العقل الرأسماليّ إلّا إذا جرى تقييمه بقيمة ماليّة. الشجر، الأرض، الماء، الهواء، الجسد، الفكر، الرسم، النحت، الشعر، التعليم، العمر، الحيوانات، العمل غير المدفوع الأجر (العمل المنزليّ، مثلًا)، والإنسان نفسه، كلّ ذلك لا قيمة له إلّا إن تمّ حسابه ماليًّا ضمن دورة انتاج المال. ومن هنا إطلاق كلمة "الموارد" على الإنسان؛ فعبارة «الموارد البشريّة» تُطلَق على البشر الموظّفين في مؤسّسة رأسماليّة، ذلك أنّ الموظّفين يُعتبرون أدوات للاستثمار بهدف مراكمة المال، ويمكن حساب كمّية الأرباح الماليّة التي يجلبونها للشركة: المال الذي يسبّبون بإنتاجه كقيمة تبادليّة، محسومًا منه الكلفة الماليّة لاستخدامهم (مرتّباتهم، تأميناتهم...). لا يمانع الرأسماليّ بتوظيف رأسمال في «الموارد» البشريّة (تدريب، تأمين صحّي، إلخ.) لكي تُجنى منها أرباحًا أعلى. ما من شيء منطقيّ أكثر في الرأسماليّة. وبسبب استتباب الفكر الرأسماليّ، بدا ما هو غير طبيعي "طبيعيّ" جدّا، إذ لا أظنّ أنّ القارئ يشعر بأيّ مشكلة بأن يُدعى "مُستخدَم" وجزء من "موارد بشريّة"، بينما حقيقة العبارتين تعنيان مباشرة أنّه وأنّها مجرّد وسيلة تُستعمل لجني أرباح لـ"ربّ" العمل، وكلمة "ربّ" نفسها مُدِلّة بمعانيها فهي تعني السيّد، ولنقلها بوضوح لا سيّد إلّا على عبيد.
2.4 ضرورة الاستغلاللكي يزداد ربح الرأسمالي إلى أقصى حدّ ممكن، لا بدّ من زيادة الإنتاج للحدّ الأقصى الممكن وتخفيض التكاليف للحدّ الأدنى الممكن. وهذا يعني من جملة ما يعنيه الضغط لتخفيض أجرة العمّال لأنّ هذه يُنظَر إليها ليس كحقّ لجهد العامل المبذول من أجل الإنتاج، وإنّما ككلفة تأخذ حصّة من الأرباح. وقد يخطر على بال أنّه يمكن زيادة الأرباح دون محاولة إبقاء الأجور في حدّها الأدنى، ولو أنّ ذلك يُبقي الأرباح دون حدّها الأعلى الممكن. هذا قد يكون ممكنًا في ظلّ شركة مملوكة من شخص أو عائلة، ولكن ما أن نصبح في إطار الشركات الـمُساهمة (التي تطرح أسهمها في سوق الأسهم) تنتفي تلك الإمكانيّة وتلك الحرّية لأنّ ضغوط السوق لا تسمح بذلك، فازدياد الأرباح إلى الحدّ الأقصى أمر تفرضه أولايّات (ميكانيزمات) السوق، فالذي يربح أكثر (في الشركات ذات الأسهم) سيزداد سعر أسهمه (أي رأسماله) بينما المنافسون الذين لا يحقّقون نسب زيادة أرباح مماثلة فسيخسرون من قيمة أسهمهم (أي من رأسمالهم) لأنّ منطق السوق يقول ببيع أسهم ذات مردود أقلّ لشراء أسهم ذات مردود أعلى. أواليّات السوق نفسها تفرض على الرأسماليّ أن يسعى لاستغلال أقصى للموظّفين من أجل الوصول إلى إعلان مراكمة أعلى أرباح ممكنة، وللخروج من سوق يد عاملة محميّة بقوانين تمنع استغلالًا عبوديًّا صريحًا، للبحث عن يد عاملة في مكان تسمح قوانينه باستغلال العمّال كما يشاء.
3 خلاصة: الرأسماليّة من وجهة نظر مسيحيّة من وجهة نظر مسيحيّة لا يمكن المصالحة بين الرأسماليّة والإيمان المسيحيّ. المسيحيّون الأوّلون تصرّفوا بما يملكون على أساس أنّ "كلّ شيء كان مشتركا بينهم "كما يرد في كتاب أعمال الرسل (٤، ٣٢) فعاشوا المشاركة في الممتلكات. في العصور اللاحقة كان رهبان الصحراء المصريّة يعملون أُجَراء في مواسم الحصاد ويوزّعون ما يحصلون عليه من قمح أجرةً لأتعابهم على فقراء المدن المصريّة. وأسّس باسيليوس الكبير (329-379 م.) «الباسيليّة»، وهي مجمّع مخصّص ليعتني بالفقراء واليتامى والأرامل وهم أكثر الناس تهميشا في ذلك العصر، وأنشأ يوحنّا الذهبيّ الفم (344-407 م.) المستشفيات. وناهض أبرز قدّيسو الكنيسة ما ندعوه اليوم بانعدام العدالة في توزيع الثروة الوطنيّة، وبالتمايز الطبقيّ بين الأغنياء والفقراء واعتبر غريغوريوس النيصصي (٣٣٥ - ٣٩٤ م.) أنّه لا أحد يدخل الملكوت دون أن يمرّ بخدمة الفقراء "حرّاس الملكوت"، وركّز غريغوريوس النزينزيّ (اللاهوتيّ) (329-390 م.)، على فكرة المساواة بين الناس فكان يقول "قفوا ليس عند قانون الأقوياء بل الخالق"، أي عند قانون المساواة؛ وأطلّ إلى ما هو أبعد من العلاقات الفرديّة ليلامس موضوع العدالة بين الناس والأسباب البشريّة القائمة وراء الفقر، فكتب "أنا لست متأكّدًا أنّ الفرق بين غنيّ وفقير آتٍ من الله"، في وقت ما يزال الكثير من المسيحيّين في زمننا يصرّون أنّ هذه إرادة الله، وفي حين أنّ الرأسماليّة تُنتِجُ الفقر إنتاجا مدفوعة بالسعي المحموم لتصاعد الأرباح وتراكم رأس المال.
لا يمكن مصالحة الإيمان بالله أب لجميع الناس وبأنّ البشريّة عائلة واحدة لأب واحد، مع فكرة الرأسماليّة التي ترى الآخر أداة لجني أقصى الأرباح. من وجهة نظر مسيحيّة، الرأسماليّة شرّ تجب مواجهته، خطّ معادٍ للمبادئ المسيحيّة الأساس. يورد كتاب الرؤية كلاما على لسان يسوع "أنا هو الألف والياء البداية والنهاية" (رؤيا 1: 8)؛ إنّ هكذا إيمان لن يتصالح يومًا مع كون المال هو البداية والنهاية في مطلق أيّ نظام. بالطبع يمكن للإنسان أن يجمع إيمانه بالرأسماليّة مع "إيمانه" يسوع، لكنّنا هنا نتحدّث عن رؤيتين متعارضتين، عن سُلَّمَيْن للقيم متناقضين يولّدان هيكليّتان حياتيّتان تنفي إحداهما الأخرى. عندما يحاول الإنسان التوفيق بين رؤيتين متناقضتين للحياة، كالرأسماليّة والمسيحيّة، فهو عادة ما يفعل ذلك لكي يغطّي بشاعة ما يرتكبه بشكل ملموس بواسطة إحدى الرؤيتين، بمعطف من المبادئ الفكريّة الجميلة غير الملموسة للرؤية الأُخرى والتي لا يُبقي منها إلّا على فولكلورٍ يخدّر به ضميره.
إنّ الإيمان المسيحيّ نفسه يحرّض المؤمنين بيسوع أن يمدّوا أيديهم ليتعاونوا مع كلّ مُخلص لمحبّة الإنسان وتحريره، على هدم البناء الرأسماليّ من أجل بناء مجتمع إنسانيّ جامع، مبنيّ على المشاركة في ثروات الأرض التي هي حقّ بشر أحرار متساوون في الكرامة البشريّة.