في الإيمان المسيحيّ والإلحاد
مجلّة النور، السنة 66، العدد 6، 2010
كيف نعالج موضوعًا حادًّا ومؤلمًا مثل "الإيمان والإلحاد"؟ يبدو لي أنّ أفضل ما يمكن فعله، بغية التماس صحّتنا في المسيح، هو أن يُعطى كلّ موضوع حقّه من الاعتراف لمواقع الحقّ فيه ومن النقد لمواقع الخطأ، أكان فكريًّا أم عمليًّا تطبيقيًّا.
1 الإيمان بالله1. 1 ثوريّة الإيمان المسيحيّ لن ننظر، هنا، إلى الإيمان كتحقيق كيانيّ لتوق الإنسان إلى اللقاء بالله، بل إلى آثاره. فالإيمان بالله، منذ العهد القديم، أرسى فكرةالكرامة الإنسانيّة بجعله كلّ إنسان مخلوقًا على "صورة الله ومثاله"، وبتمييزه عن عالم الحيوان والأشياء، إذ "نفخ في أنفه نسمة حياة". وأرسى، تاليًا، مبدأ المساواة بين البشر بجعلنا كلّنا متساوين كوننا جميعنا مخلوقين منه.
والإيمان، خاصّة بعد أن كشف المسيح وجه الله، أرسى، أيضًا، ميّزة الحرّيّة بين البشر. فكون الله خالقًا أوحد يستحقّ العبادة وحده، يعني أنّ البشر أحرار من تنصيب أيّ أحد أو شيء، ممّا في الأرض، صنمًا للعبادة. فعلى محبّتنا واحترامنا لوالدِين ومربّين وعائلات وقادة وأوطان وأفكار وفلسفات، إلاّ أنّنا لا نرى غير الله مصدرًا لحياتنا. وهذه الحرّيّة رأينا بريقها باستشهاد المسيحيّين في حلبات الرومان من أجل حرّيّة الضمير والمعتقد والاعتراف بالمسيح، لا بقيصر، مخلّصًا وحيدًا. وهذا أمرٌ ثوريّ إذا ما قوبل بالأفكار التي تدعو الناس إلى الخضوع لدولة أو لشخص، قبل الرومان وإلى اليوم، وبتوق الناس إلى الخضوع لها طوعاً.
كما أنّ ما كشفه المسيح من أنّ الإيمان بالله يقتضي رؤية البشر كعائلة لأب واحد، أرسى مفهوم الإخاء، لا سيّما بتعليمه أنّ القربى بين البشر لا يكوّنها الانتماء الفكريّ أو العقديّ، بل يتمّها كلّ تصرّف يظهر الآخر، أيّ آخر، قائمًا في عيوننا وقلوبنا واهتماماتنا، كما في مثل السامريّ الشفوق. وتابع المسيحيّون في الخطّ ذاته، فعاشوا، في هدى الروح القدس، حياة مشاركة "في كلّ شيء" تجلّت، جيلاً فجيلاً، بأشكال مختلفة.
أمّا المسيح، فقد ذهب، في كشفه وجه الله، أبعد ممّا "يخطر على بال بشر". فبيّن أنّه المصلوب من أجل الإنسان، أنّه المحبّة المصلوبة "من أجل حياة العالم"، أنّه الواقف على الباب يقرع، حتّى يُفتَح له (رؤيا يوحنّا 3: 20)، محترمًا حرّيّة الإنسان حتّى بذله الكامل (يوحنّا 15: 13). وقوّض، في كشفه أنّ "الله صار إنسانًا، ليصير الإنسان إلهًا"، كلّ رؤية بشريّة تجعله بطّاشًا ومحاربًا ومُناصرًا المؤمنين ضدّ آلهة وقبائل غريبة. ودعا الناس إلى أن ينظروا إليه مُحِبًّا وحبيبًا، ويبنوا معه ملكوت المشاركة.
1. 2 خطايا المسيحيّين لكنّ هذا الكشف، الذي أتى به يسوع، لم يلغِ الإنسان وتاريخه وحضارته وثقافته وعُقَده. لهذا، بقيت العلاقة بالله والإيمان به، يصفوان أو يتعكّران، وفق الظروف. وفيما رأينا الحرّيّة والإخاء والمساواة تُمارس في الكنيسة في غير جيل، كان في الكنيسة، دائمًا، من يأسره التحجّر والتسلّط وإبدال المحبّة والعمل على نموّها بالتحكّم في مصير الناس. وقد انعكست تجربة التسلّط في مقاربة الكنيسة الرسميّة في أوروبا للسياسة، إذ قدّمت المبرّرات لمختلف أنواع الحكم، من الملكيّة إلى الفاشيّة وديكتاتوريّات أميركا اللاتينيّة في تاريخنا الـمُعاصر؛ كما انعكست في مقاربتها للعلوم، إذ وقفت موقفًا مناهضًا لمجرّد اكتشاف الكون، كما حدث مع غاليله (1564 - 1642)، وحاكمته لأنّه قال بدوران الأرض.
وتاريخ الكنيسة الرسميّة إلى اليوم، في أوروبا (وبلادنا)، مشينٌ من نواحٍ كثيرة، ليس أقلّها الغنى الفاحش والتسلّط[1] ودعم الظلم. فقد دعمت الكنيسة الأرثوذكسيّة الحكم القيصريّ الظالم في روسيا. وهادنت الكنيسةُ البروتستانتيّةُ النازيّةَ بحيث إنّ "الكنيسة الـمُعترِفة" (The Confessing Church)، التي قاومت هتلر بقيادة مارتن نايمولر ودايترش بونهاوفر، اضطرّت إلى الانفصال عن حضنها الأمّ. أمّا الكنيسة الكاثوليكيّة، فقد اعترفت بموسوليني، ووقّعت معه معاهد لاتيران العام الـ1929. وكذلك باركت نظام الجنرال فرانكو الفاشيّ في إسبانيا، الذي كان يُنظر إليه أنّه يدافع عن الكثلكة ضدّ الملحدين، والذي خلّد بابلو بيكاسّو بعض مجازره في لوحته الشهيرة "غويرنيكا".
لهذا، نفهم تعليق كوستي بندلي: «أنّ المسيحيّين كثيرًا ما تصوّروا الله ويتصوّرونه على صورة الملوك والحكّام، وما سُمّي «بنظامهم» الذي قد يكون تكريسًا للظلم وفي أحسن الاحتمالات نظامًا نسبيًّا وناقصًا، عوض أن يطلبوا من الملوك والحكّام التخلّق بأخلاق الله. هذا ما أدّى إلى التلازم المؤسف، المرير، بين «المذبح» و«العرش»، هذا ما قاد الكنيسة الرسميّة في كثير من الأحيان إلى الخلط بين قضيّة الله وقضيّة الطبقة الحاكمة، هذا ما يُفَسِّر، إلى حدّ ما، أنّ الحركات التحريريّة منذ الثورة الفرنسيّة كثيرًا ما انحرفت في نضالها ضدّ الاستبداد إلى رفض الله نفسه، لأنّ الإله الذي وجدته أمامها صُنِعَ على صورة المُستَبدّين»[2].
أمّا في أيّامنا، فنرى أنّ التطرّف الدينيّ اليهوديّ يدعم القهر في فلسطين بتنسيق تامّ مع ملحدي الحركة الصهيونيّة. والتعصّب المسيحيّ تتجلّى آثاره المدمّرة في سياسات ريغان وبوش العسكريّة. والتعصّب الإسلاميّ تُرى آثاره واضحة في البلاد العربيّة وغيرها. ومن الضروريّ، هنا، التذكير بالحرب اللبنانيّة والمذابح التي ارتكبها مسيحيّون باسم الدين.
ثمّ إنّ انكفاء "المسيحيّين" تاريخيًّا، إمّا إلى الهروب من العالم في "إيمان" خائف يخون المسيح، أو تمجيدهم نظامًا معيّنًا يمزج بين المدينة الأرضيّة وملكوت الله، كانت له تبعات مؤلمة دفعت بالعديد إلى رفضِ هذا النمط من المسيحيّة، وطلبِ إقامة ملكوت من دون ذاك الإله الذي أظهره المنكفئون أو الممجّدون. هذا ما أشار إليه اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ بول إفدوكيموف بقوله: "إن كانت العلمانيّة الأخرويّة... تحلم بملكوت الله بدون الله، فلأنّها هرطقة مسيحيّة، مدفوعة من نواقص المسيحيّة ذاتها. فإنّ هذه الأخيرة إمّا تهجر الملكوت لصالح مدينة مغلقة مستقرّة في التاريخ، وإمّا تهرب من العالم وتنسى ذاتها في تأمّل السماء"[3].
ولا بدّ، أخيرًا، من أن نشير إلى أمرٍ لا نواجهه بشكلٍ كافٍ، وهو أنّ العالم الرأسماليّ، الذي يمجّد المال ويمارس الاستغلال، قد تناغم طويلاً مع الدين، كما أشار ماكس فيبير في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة"، وكما نلاحظ، بشكل بادٍ، في الولايات المتّحدة، في بعض الفكر الدينيّ الذي يمارس الهجر العمليّ للملكوت لصالح بريقِ مدينة الرأسمال المغلقة المبنيّة فوق جماجم ضحاياها من المستغَلّين والمستغِلّين أيضًا.
2 الإلحاد2. 1 بعض مواقع الحقّ الإلحاد الفكريّ المعاصر ارتبط بنشوء عصر الأنوار بنظره إلى العقل أساسًا وحيدًا لكلّ معرفة. من حسنات العقل العلميّ الحديث أنّه، عندما اقتحم ظواهر الكون المختلفة وعالم الحيوان وعالم الإنسان لكي يحاول فهمَ ما اقتحمه، اضطرّ الكنيسة الرسميّة، التي بدت في أوروبا في موقع المحارب العقل (وهو صورة الله وفق تراثها)، إلى الخروج من الجمود الدينيّ، الذي كبّلها وكبّل العقل الإنسانيّ، باستخدامها العلوم المختلفة في المجال الكنسيّ.
ومن مواقع الحقّ في الفكر الإلحاديّ أنّه، في أحيان كثيرة، لم يرفض الله، بل الإله المشوَّه الذي عكسه المسيحيّون بتصرّفاتهم[4]، الإله الذي يقوم على ضعف الإنسان وخضوعه، وينسّق مع القامعين لمزيدٍ من استغلال الناس. ففريدريتش نيتشه (1844 - 1900) الذي قال ما معناه "أروني أنّكم مخلّصون، لأومن بمخلّصكم"، أو كارل ماركس (1818 - 1883) الذي اعتبر أنّ "الدين أفيون الشعوب"، كانا يعكسان ما رأياه في المسيحيّة التاريخيّة في عصريهما. فإذا بالإلحاد، من حيث لا يدري، يعيد المشوِّهين لإيمانهم إلى التركيز على إيمانهم الأصيل والتوبة، أي تغيير أذهانهم وتصرّفاتهم، لتتوافق مع مقتضيات إيمانهم بالله[5] الذي كشف يسوع المسيح، بشكل جليّ، بأنّه محرّر ومُحيٍ ومُفرح، بأنّه محبّة.
والآن، إذا نظرنا إلى الملحدين أنفسهم، أي ليس فقط إلى فكرهم، فنجد أنّنا ندين، في كثير من الأمور الجيّدة التي نراها في حضارتنا، لملحدين قاموا باكتشافات علميّة وابتكار اختراعات متنوّعة مفيدة. كما ترانا، أيضًا، ندين لهم بترجمة خبرة تحرير الإنسان في الميدان السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.
2. 2 مواقع الخطأ غير أنّ علماء عصر الأنوار ومفكّريه بالغوا بإيمانهم بالعقل[6]. فرأوا أنّه، قائمًا في منزلة الله، يمكنه أن يحلّ مشاكل البشريّة كلّها، ويعطينا أن نحكم أمور الدنيا عقلانيًّا. ومحاولة أوغست كونت (1798 - 1857)، مؤسّس علم الاجتماع والنظرة العلميّة المعروفة بالوضعيّة، تأسّيسَ «دين الإنسانيّة»، أي دين بلا إله، دلالتها بالغة في هذا المجال.
هكذا حلمت البشريّة بعالم، ملؤه السعادة، يـخلو من الحروب، بملكوت تامّ على الأرض، قوامه السيطرة على الطبيعة والتقدّم اللامتناهي والوفرة المادّيّة والسلام. إلاّ أنّ دخول هذا العالم في حرب عالميّة أولى ثمّ ثانيّة، ذهب ضحيّتها نحو سبعين مليون إنسان، بقيادة دول بعضها شبه مناهض للدين (كفرنسا) وبعضها ملحد (كالاتّحاد السوفياتي) وبعضها فاشيّ أو نازيّ (والاثنان فكران لا دينيّان)، ضرب، إلى غير رجعة، التفاؤل والثقة المطلقة بالعقل اللذين أشاعهما عصر الأنوار. وقد كان لتلك الحربين وقع كبير يفوق شعورنا به اليوم، لدرجة أنّ الحرب العالميّة الأولى دفعت بسيغموند فرويد إلى إعادة النظر في نظريّته حول النفس الإنسانيّة، واضطرّت شخصيّة علميّة كبرى كألبرت أينشتاين إلى مراسلة فرويد متسائلاً عن أسباب الحروب ومصير العالم في ظلّها. هاتان الحربان كانتا دليلاً دامغًا على أنّ الإيمان بالعقل، كسيّد مطلق للمصير البشريّ، هو إيمان لا عقلانيّ.
إضافة إلى ذلك، فإنّ انزلاق ثورات عصر الأنوار إلى القمع هزّ الثقة بالعقلانيّة. ففترة الحكم الأولى لقوّاد الثورة الفرنسيّة المعادية للدين، التي سُـمّيت بـ"حكم الإرهاب"(حزيران 1793- تمّوز 1794)، تميّزت بإعدامات متواصلة صفّى خلالها الثوّار بعضهم بعضًا. أمّا الإلحاد بنسخته الماركسيّة التي أطلقت على ذاتها اسم المادّيّة "العلميّة"، فانزلق إلى السطوة والتنكيل وإلغاء الحوار وحقّ الاختلاف وقمع الإنسان العامل (البوليتاريّ) باسم فكرة العمّال (البروليتاريّة). كما أنّ المركزيّة الشديدة الخانقة في الاتّحاد السوفياتيّ، ورفضِ الماركسيّة السوفياتيّة التي ادّعت الـ"علميّة" للعلوم والفنون التي لا تتناسق مع تفسير اللجنة المركزيّة[7] للحزب الشيوعيّ السوفياتي للماركسيّة، قد جعلا من الماركسيّة السوفياتيّة نسخة ملحدة عمّا في الكنيسة من تسلّط، بل تجاوز التسلّط الماركسيّ الستالينيّ، في حجمه، كلّ اضطهاد مارسته الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبا بحقّ كلّ فكر وعلم خالف تفسيرها للمسيحيّة، وكلّ اضطهاد مارسته الكنائس بعضها بحقّ بعض. هذه الخبرات التاريخيّة لا تعني حكمًا نهائيًّا على كلّ ما في الفكر الماركسيّ (الذي تشوّه في نسخته السوفياتيّة)، أو على الإلحاد، لكنّها تطرح تساؤلات كبرى حولهما وحول سلطة العقل.
من جهة أخرى، كما يطالعنا متديّنون متعصّبون برفض غير نقديّ لكلّ ما يمتّ للإلحاد بصلة، يطالعنا ملحدون متعصّبون، لا يرون في الدين إلاّ أفيونًا، بنعتهم كلّ ما هو إيمان بالخرافة والتخلّف. وذلك رغم أنّ مؤمنين مسيحيّين (كالذين ناضلوا مع مارتن لوثر كينغ، والذين قاتلوا مع الثورة الساندينيّة في نيكاراغوا) ومسلمين (كحزب الله اللبنانيّ) وهندوس (كالذين ناضلوا مع غاندي) خاضوا نضالات عنفيّة ولاعنفيّة انطلاقًا من إيمانهم من أجل كرامة وحرّية الإنسان؛ ورغم أنّ المناضلين الملحدين أنفسهم ينطلقون من مواقف إيمانيّة، أقلّها إيمانهم بقدرة الإنسان على تحقيق عالم أفضل غير منظور حاليًّا.
ثمّ تنبغي الإشارة إلى أنّ بعض الإلحاد يحطّ من قدر الإنسان برؤيته إيّاه مجموعة خلايا، أو مادّة، أو مجموعة جينات، أي بتحويله إلى مجرّد مجموعة موادّ كيميائيّة. وهذا يشرّع الباب أمام مختلف التجارب العلميّة التي تُطرح حول "أخلاقيّاتها" تساؤلات جدّيّة (لجهة تأثيرها في الإنسان والطبيعة). وكما تناغم النظام الرأسماليّ مع الدين، فقد تناغم، أيضًا، مع الإلحاد كما في فرنسا، أو حتّى مع الشيوعيّة كما في الاتّحاد السوفياتيّ[8] والصين. في العمق، يجسّد المجتمع الرأسماليّ حلم عصر الأنوار بتحقيق ملكوت أرضيّ، وذلك بتقديم نموذج "ملكوت" لذّة استهلاك، يُغرق الإنسان في دوّامة استهلاك غير متناهٍ للأشياء ولغيره ولذاته.
3 أيّ نقد للإلحاد؟ على أنّ بحثًا حول الإلحاد ونقده ليس ممكنًا في مقالة واحدة، نودّ أن نشير إلى مواطن خلل في نوع نقد، يعجز عن مخاطبة الفكر أو القلب، يعتمد اتّهمات متسرّعة وغير دقيقة. فالمقالة، التي عرّبها الأب جهاد (أبو مراد) بعنوان "ظاهرة الإلحاد"[9]، على نُبل قصدها الإيمانيّ، قد وقعت في بعض التسرّع. فمثلاً، نقرأ فيها أنّ "المادّيّة تجاهلت كلّيًّا روح الإنسان، والداروينيّة بقيت عالقة في مفهوم الإنسان-القرد، والوجوديّة الملحدة قادت الإنسان إلى العدميّة واللامعقول، والماركسيّة ألغت فرادة الإنسان لصالح الجماهير. أمّا الفرويديّة، فبقيت لصيقة الجنس". النصّ يذكر الوجوديّة الملحدة. ويجب أن نذكّر بأنّ هناك فلسفة وجوديّة مؤمنة أحد أعمدتها هو سورين كييركيغار. أمّا تعليق النصّ حول الماركسيّة، فصحيح إلى حدّ بعيد. ولكنّ القول إنّ المادّية تجاهلت روح الإنسان لا يقدّم ولا يؤخّر. إذ إنّ الإيمان، وحده، يطلّ على بُعد الإنسان الروحيّ. أمّا الملحد، فعاديّ ألاّ يرى الروح. ولهذا، فإنّ إشارة كهذه لا تساهم في نقد الإلحاد أو محاورته أو الدفع إلى الإيمان (إن كان هذا هو القصد). أمّا موقف النصّ من الداروينيّة، فيبدو تهجّميًّا، إذ لا نعثر فيه على حوار معها أو إقرار بما فيها من حقّ، وإشارة إلى ما فيها من قصور. وأخيرًا، فإنّنا نرى أنّ النصّ يتسرّع برمي الفرويديّة بما يبدو اتّهامًا. وفحوى "الاتّهام" أنّها بقيت لصيقة الجنس! فهل الجنس مشكلة أخلاقيّة، وسيّئ بحدّ ذاته، لدرجة أنّه يكفي أن نلصق به فكرًا ما (أو علمًا ما)، لنكون قد نقدناه، وقصفناه من جذوره؟ تبدو صياغة النصّ غير موفّقة، لأنّها، باعتقادي عن غير قصد، لا تنسجم مع التراث الكنسيّ الذي يبارك الجنس ويرى فيه مجال حبّ. أمّا إن كان المقصود أنّ الفرويديّة لم تنظر أبعد من الجنس، فهذا يدفعنا إلى أن نوضح أنّ "الجنس"، في الفرويديّة، لا يعني الممارسة الجنسيّة حصرًا، بل يعني طاقة حياة، يعني الشوق (الإيروس). وتوضح كُتب كوستي بندلي، التي صدرت أخيرًا بالفرنسيّة، مواطنَ الحقّ في الفرويديّة، المتلاقية مع الإيمان الأرثوذكسيّ، ومناطق القصور في موقف فرويد الإلحاديّ[10].
من ناحية أخرى، الأفضل لنا ألاّ ننزلق إلى تسرّع بالحكم على الإلحاد، كما في: "الضرر، الذي تسبّبت به النظريات العلميّة والفلسفيّة والاجتماعيّة للالحاد، كبير جدًّا. والقول إنّهم كانوا يرغبون في تقديم شيء جيّد للإنسان، مردود، لأنّ الرغبة تضيع أمام عظم الضرر الذي تسبّبوا به، بسبب الإلحاد الذي ما زالوا يمارسونه، رغم الفشل المتكرّر، إلى يومنا الحاضر". إذ، منطقيًّا، يمكن المرء أن يطرح الأمر ذاته على مؤمنين بالله كثيرين، بقصد رمي الإيمان برمّته بسبب خطايا مَن اعتنقوه أو تشوّهاتهم الفكريّة.
4 دعوة حوار وتعاون هذا يحضّنا على تأكيد أمرين. الأوّل هو أنّ الإيمان الأصيل له أن يضيء على الإلحاد، ويبيّن منزلقاته بقصد الشهادة لله، أي نقل أنواره إلى حياة كلّ إنسان، ولو ملحدًا، لربّما يضيء الله على المأساة، الكامنة في قلب الإلحاد، مأساة اللامعنى النهائيّ للكون ولكلّ نضال إن كان منتهاه هو الموت، إن كان الفناء هو مصيرنا الوحيد ومصير أحبّائنا، أطفالنا، وأصدقائنا، في نهاية الطريق. هذه الشهادة ضروريّة، لأنّ الملحد، أمام خبرة مأساة الإلحاد الداخليّة، قد ينزلق (وقد يكون في حالة إلحاد عمليّ قلبيّ، ولو آمن بالله لفظيًّا) إلى انتحار معنويّ، شخصيًّا وجماعيًّا، من طريق الظلم والتحكّم والاستغلال وهوس الاستهلاك والجشع الذي نراه حولنا في عالم لا يمكن أن يكون له معنى طالما كلّ شخص فيه غير أبديّ! إضافة إلى ذلك، من واجب المؤمنين، برأيي، التركيز على أنّ الخطر الحقيقيّ، اليوم، يتأتّى من الرؤية الرأسماليّة الملحدة التي نعيش في ظلّ أنظمتها، والتي لا ترى الأشياء والبشر سوى مادّةِ تراكمِ أموالٍ وملذّاتٍ، ولا ترى الحياة إلاّ تراكمَ استهلاك، مع أنّ المنادين بذلك قد يكونون من المؤمنين بالله لفظيًّا.
أجل، يمكن، بل يجب، نقد الإلحاد الفكريّ والحوار معه. لكن، من الضروريّ التعاضد مع كلّ إنسان، ولو ملحدًا فكريًّا، إن كان يقف في وجه الإلحاد العمليّ الذي يطحن البشر، الإلحاد الرأسماليّ الذي يهدّدنا كلّنا، ويروّج لملكوت ربحٍ واستهلاك لامتناهيين عن طريق استغلال الطبيعة والبشر، «ملكوت» أشبه بجحيم يدمّر الإنسان وكوكبنا، فهو وهمٌ يكبت توقنا إلى المُطلَق، بواسطة دوّامةٍ، أضخم فأضخم، من الاستهلاك والامتلاك والتحكّم. "إنّ العدوّ الأكثر وحشيّة والأكثر تدميراً لكلّ حياة للروح هو الرأسماليّة الصناعيّة... لأنّها تدمّر كلّ أثر لحياة روحيّة بموافقة المعنيّيْن وتعاونهم"، كما يقول المؤرّخ الكاثوليكيّ جاك جولليار[11].
أمّا الأمر الثاني، فهو أنّه يمكن أن يستنير المؤمنون بالحقّ الكامن في بعض وجوه الإلحاد الذي "يطهّر فكرة الله من كلّ إطار إجتماعيّ ولاهوتيّ عفا عنه الزمن"، كما تقول سيمون فايل[12]. فالله، الحاضر في كلّ حقّ، قد يخاطبنا في الملحدين وفي بعض فكرهم، لنتوب، علمانيّين وإكليروس، عن كلّ ما يشوّهه وملكوته وعن كلّ الأصنام التي نعبدها في ظلال كلّ تسلّط وتموّلٍ مبخّرين لذواتنا[13]، مشكّكين إخوته الصغار، ودافعين بعضًا إلى الإلحاد بهذه الصورة المشوّهة لله. لقد كتب الروائيّ الأرثوذكسيّ الكبير دوستويفسكي، الذي أتى إلى الإيمان بعد إلحاد، قائلاً على لسان الأب طيخون أحد شخصيّاته في رائعته «الممسوسون»: "الإلحاد الـمُطلَق هو أكثر شرفًا من اللامبالاة... الملحد الـمُطلَق يقف في الدرجة ما قبل الأخيرة من سلّم الإيمان الكامل (قد يأخذ هذه الخطوة الأخيرة وقد لا يأخذها). أمّا اللامُبالي، فلا يوجد عنده أيّ إيـمان، لا يوجد عنده إلاّ خوف بشع، وذلك فقط إن كان حسّاسًا".
هكذا، إضافة إلى الحوار والنقد الضروريّين شهادةً لما بدا لنا من حقّ وبحثًا عن ملئه، فما يهمّ، اليوم، هو كيف يلتقي أبناء الله، مؤمنين وملحدين ولا أدريّين، حول مشاريع عمليّة لتحرير الناس أجمعين من كلّ ظلم واستغلال. ومن المهمّ أن نتبنّى موقفًا حرًّا يعطينا، أحيانًا، أن نرى، في بعض وجوه الإلحاد، بشاعاتنا وخطايانا، لنهرب من كلّ خيانة، ونعود إلى الإخلاص، إلى الكنز‑الروح الذي وُضِعَ فينا، نحن "الخطأة الذين يتوبون"، ونرمي عنّا كلّ أصنام الانغلاق والتعالي واللامبالاة أمام جراح هذا العالم.
خريستو المر
[1] Jean Delumeau, “Le Christianisme Va-t-il Mourir?”, Hachette, 1977
[2] كوستي بندلي، «إله الإلحاد المعاصر»، منشورات النور، 1968، ص 158.
[3] Paul Evdokimov, “L’Amour Fou de Dieu”, Editions du Seuil, Paris, 1973, p. 125-126.
[4] كوستي بندلي، «إله الإلحاد المعاصر»، منشورات النور، 1968.
[5] Olivier Clément, “Purification par l'Athéisme”, Contacts, 1966, premier trimestre, p. 37-65.
[6] المطران جوروج (خضر)، "لا تكن غير مؤمن"، النهار 11 أيّار 2002.
[7] لعبت اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي السوفياتي دور مجمع العقيدة الماركسيّة.
[8] إنّ الاتّحاد السوفياتيّ نفسه كان يشكّل نمطًا من الرأسماليّة، يمكن تسميته بـ"رأسماليّة الدولة"، عوضًا من رأسماليّة الأفراد.
[9] مجلّة النور، السنة 65، العدد 7، ص 340-343.
[10] Costi Bendaly, “Foi et Sciences Humaines”,No 1-5, Beyrouth, 2007, 2008, 2009 ، راجع أيضًا: مجلّة النور، السنة 65، العدد 6، ص 318-320.
[11] Jacques Julliard, “L’Argent, Dieu et le Diable: Péguy, Bernanos, Claudel face au monde moderne”, Flammarion, Paris, 2008
[12] Paul Evdokimov, “L’Amour Fou de Dieu”, op. cit., p. 22
[13] "شعبـي يستَشيرونَ الإلهَ الخشَبةَ ويستَخبِرونَ الإلهَ الوتَدَ. روحُ الزِّنى أضَلَّهُم... يُبَخِّرونَ تَحتَ أشجارِ البَلُّوطِ والحَورِ والبُطمِ لأنَّ ظِلَّها حسَنٌ"(هوشع 4: 11-13)
1 الإيمان بالله1. 1 ثوريّة الإيمان المسيحيّ لن ننظر، هنا، إلى الإيمان كتحقيق كيانيّ لتوق الإنسان إلى اللقاء بالله، بل إلى آثاره. فالإيمان بالله، منذ العهد القديم، أرسى فكرةالكرامة الإنسانيّة بجعله كلّ إنسان مخلوقًا على "صورة الله ومثاله"، وبتمييزه عن عالم الحيوان والأشياء، إذ "نفخ في أنفه نسمة حياة". وأرسى، تاليًا، مبدأ المساواة بين البشر بجعلنا كلّنا متساوين كوننا جميعنا مخلوقين منه.
والإيمان، خاصّة بعد أن كشف المسيح وجه الله، أرسى، أيضًا، ميّزة الحرّيّة بين البشر. فكون الله خالقًا أوحد يستحقّ العبادة وحده، يعني أنّ البشر أحرار من تنصيب أيّ أحد أو شيء، ممّا في الأرض، صنمًا للعبادة. فعلى محبّتنا واحترامنا لوالدِين ومربّين وعائلات وقادة وأوطان وأفكار وفلسفات، إلاّ أنّنا لا نرى غير الله مصدرًا لحياتنا. وهذه الحرّيّة رأينا بريقها باستشهاد المسيحيّين في حلبات الرومان من أجل حرّيّة الضمير والمعتقد والاعتراف بالمسيح، لا بقيصر، مخلّصًا وحيدًا. وهذا أمرٌ ثوريّ إذا ما قوبل بالأفكار التي تدعو الناس إلى الخضوع لدولة أو لشخص، قبل الرومان وإلى اليوم، وبتوق الناس إلى الخضوع لها طوعاً.
كما أنّ ما كشفه المسيح من أنّ الإيمان بالله يقتضي رؤية البشر كعائلة لأب واحد، أرسى مفهوم الإخاء، لا سيّما بتعليمه أنّ القربى بين البشر لا يكوّنها الانتماء الفكريّ أو العقديّ، بل يتمّها كلّ تصرّف يظهر الآخر، أيّ آخر، قائمًا في عيوننا وقلوبنا واهتماماتنا، كما في مثل السامريّ الشفوق. وتابع المسيحيّون في الخطّ ذاته، فعاشوا، في هدى الروح القدس، حياة مشاركة "في كلّ شيء" تجلّت، جيلاً فجيلاً، بأشكال مختلفة.
أمّا المسيح، فقد ذهب، في كشفه وجه الله، أبعد ممّا "يخطر على بال بشر". فبيّن أنّه المصلوب من أجل الإنسان، أنّه المحبّة المصلوبة "من أجل حياة العالم"، أنّه الواقف على الباب يقرع، حتّى يُفتَح له (رؤيا يوحنّا 3: 20)، محترمًا حرّيّة الإنسان حتّى بذله الكامل (يوحنّا 15: 13). وقوّض، في كشفه أنّ "الله صار إنسانًا، ليصير الإنسان إلهًا"، كلّ رؤية بشريّة تجعله بطّاشًا ومحاربًا ومُناصرًا المؤمنين ضدّ آلهة وقبائل غريبة. ودعا الناس إلى أن ينظروا إليه مُحِبًّا وحبيبًا، ويبنوا معه ملكوت المشاركة.
1. 2 خطايا المسيحيّين لكنّ هذا الكشف، الذي أتى به يسوع، لم يلغِ الإنسان وتاريخه وحضارته وثقافته وعُقَده. لهذا، بقيت العلاقة بالله والإيمان به، يصفوان أو يتعكّران، وفق الظروف. وفيما رأينا الحرّيّة والإخاء والمساواة تُمارس في الكنيسة في غير جيل، كان في الكنيسة، دائمًا، من يأسره التحجّر والتسلّط وإبدال المحبّة والعمل على نموّها بالتحكّم في مصير الناس. وقد انعكست تجربة التسلّط في مقاربة الكنيسة الرسميّة في أوروبا للسياسة، إذ قدّمت المبرّرات لمختلف أنواع الحكم، من الملكيّة إلى الفاشيّة وديكتاتوريّات أميركا اللاتينيّة في تاريخنا الـمُعاصر؛ كما انعكست في مقاربتها للعلوم، إذ وقفت موقفًا مناهضًا لمجرّد اكتشاف الكون، كما حدث مع غاليله (1564 - 1642)، وحاكمته لأنّه قال بدوران الأرض.
وتاريخ الكنيسة الرسميّة إلى اليوم، في أوروبا (وبلادنا)، مشينٌ من نواحٍ كثيرة، ليس أقلّها الغنى الفاحش والتسلّط[1] ودعم الظلم. فقد دعمت الكنيسة الأرثوذكسيّة الحكم القيصريّ الظالم في روسيا. وهادنت الكنيسةُ البروتستانتيّةُ النازيّةَ بحيث إنّ "الكنيسة الـمُعترِفة" (The Confessing Church)، التي قاومت هتلر بقيادة مارتن نايمولر ودايترش بونهاوفر، اضطرّت إلى الانفصال عن حضنها الأمّ. أمّا الكنيسة الكاثوليكيّة، فقد اعترفت بموسوليني، ووقّعت معه معاهد لاتيران العام الـ1929. وكذلك باركت نظام الجنرال فرانكو الفاشيّ في إسبانيا، الذي كان يُنظر إليه أنّه يدافع عن الكثلكة ضدّ الملحدين، والذي خلّد بابلو بيكاسّو بعض مجازره في لوحته الشهيرة "غويرنيكا".
لهذا، نفهم تعليق كوستي بندلي: «أنّ المسيحيّين كثيرًا ما تصوّروا الله ويتصوّرونه على صورة الملوك والحكّام، وما سُمّي «بنظامهم» الذي قد يكون تكريسًا للظلم وفي أحسن الاحتمالات نظامًا نسبيًّا وناقصًا، عوض أن يطلبوا من الملوك والحكّام التخلّق بأخلاق الله. هذا ما أدّى إلى التلازم المؤسف، المرير، بين «المذبح» و«العرش»، هذا ما قاد الكنيسة الرسميّة في كثير من الأحيان إلى الخلط بين قضيّة الله وقضيّة الطبقة الحاكمة، هذا ما يُفَسِّر، إلى حدّ ما، أنّ الحركات التحريريّة منذ الثورة الفرنسيّة كثيرًا ما انحرفت في نضالها ضدّ الاستبداد إلى رفض الله نفسه، لأنّ الإله الذي وجدته أمامها صُنِعَ على صورة المُستَبدّين»[2].
أمّا في أيّامنا، فنرى أنّ التطرّف الدينيّ اليهوديّ يدعم القهر في فلسطين بتنسيق تامّ مع ملحدي الحركة الصهيونيّة. والتعصّب المسيحيّ تتجلّى آثاره المدمّرة في سياسات ريغان وبوش العسكريّة. والتعصّب الإسلاميّ تُرى آثاره واضحة في البلاد العربيّة وغيرها. ومن الضروريّ، هنا، التذكير بالحرب اللبنانيّة والمذابح التي ارتكبها مسيحيّون باسم الدين.
ثمّ إنّ انكفاء "المسيحيّين" تاريخيًّا، إمّا إلى الهروب من العالم في "إيمان" خائف يخون المسيح، أو تمجيدهم نظامًا معيّنًا يمزج بين المدينة الأرضيّة وملكوت الله، كانت له تبعات مؤلمة دفعت بالعديد إلى رفضِ هذا النمط من المسيحيّة، وطلبِ إقامة ملكوت من دون ذاك الإله الذي أظهره المنكفئون أو الممجّدون. هذا ما أشار إليه اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ بول إفدوكيموف بقوله: "إن كانت العلمانيّة الأخرويّة... تحلم بملكوت الله بدون الله، فلأنّها هرطقة مسيحيّة، مدفوعة من نواقص المسيحيّة ذاتها. فإنّ هذه الأخيرة إمّا تهجر الملكوت لصالح مدينة مغلقة مستقرّة في التاريخ، وإمّا تهرب من العالم وتنسى ذاتها في تأمّل السماء"[3].
ولا بدّ، أخيرًا، من أن نشير إلى أمرٍ لا نواجهه بشكلٍ كافٍ، وهو أنّ العالم الرأسماليّ، الذي يمجّد المال ويمارس الاستغلال، قد تناغم طويلاً مع الدين، كما أشار ماكس فيبير في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة"، وكما نلاحظ، بشكل بادٍ، في الولايات المتّحدة، في بعض الفكر الدينيّ الذي يمارس الهجر العمليّ للملكوت لصالح بريقِ مدينة الرأسمال المغلقة المبنيّة فوق جماجم ضحاياها من المستغَلّين والمستغِلّين أيضًا.
2 الإلحاد2. 1 بعض مواقع الحقّ الإلحاد الفكريّ المعاصر ارتبط بنشوء عصر الأنوار بنظره إلى العقل أساسًا وحيدًا لكلّ معرفة. من حسنات العقل العلميّ الحديث أنّه، عندما اقتحم ظواهر الكون المختلفة وعالم الحيوان وعالم الإنسان لكي يحاول فهمَ ما اقتحمه، اضطرّ الكنيسة الرسميّة، التي بدت في أوروبا في موقع المحارب العقل (وهو صورة الله وفق تراثها)، إلى الخروج من الجمود الدينيّ، الذي كبّلها وكبّل العقل الإنسانيّ، باستخدامها العلوم المختلفة في المجال الكنسيّ.
ومن مواقع الحقّ في الفكر الإلحاديّ أنّه، في أحيان كثيرة، لم يرفض الله، بل الإله المشوَّه الذي عكسه المسيحيّون بتصرّفاتهم[4]، الإله الذي يقوم على ضعف الإنسان وخضوعه، وينسّق مع القامعين لمزيدٍ من استغلال الناس. ففريدريتش نيتشه (1844 - 1900) الذي قال ما معناه "أروني أنّكم مخلّصون، لأومن بمخلّصكم"، أو كارل ماركس (1818 - 1883) الذي اعتبر أنّ "الدين أفيون الشعوب"، كانا يعكسان ما رأياه في المسيحيّة التاريخيّة في عصريهما. فإذا بالإلحاد، من حيث لا يدري، يعيد المشوِّهين لإيمانهم إلى التركيز على إيمانهم الأصيل والتوبة، أي تغيير أذهانهم وتصرّفاتهم، لتتوافق مع مقتضيات إيمانهم بالله[5] الذي كشف يسوع المسيح، بشكل جليّ، بأنّه محرّر ومُحيٍ ومُفرح، بأنّه محبّة.
والآن، إذا نظرنا إلى الملحدين أنفسهم، أي ليس فقط إلى فكرهم، فنجد أنّنا ندين، في كثير من الأمور الجيّدة التي نراها في حضارتنا، لملحدين قاموا باكتشافات علميّة وابتكار اختراعات متنوّعة مفيدة. كما ترانا، أيضًا، ندين لهم بترجمة خبرة تحرير الإنسان في الميدان السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.
2. 2 مواقع الخطأ غير أنّ علماء عصر الأنوار ومفكّريه بالغوا بإيمانهم بالعقل[6]. فرأوا أنّه، قائمًا في منزلة الله، يمكنه أن يحلّ مشاكل البشريّة كلّها، ويعطينا أن نحكم أمور الدنيا عقلانيًّا. ومحاولة أوغست كونت (1798 - 1857)، مؤسّس علم الاجتماع والنظرة العلميّة المعروفة بالوضعيّة، تأسّيسَ «دين الإنسانيّة»، أي دين بلا إله، دلالتها بالغة في هذا المجال.
هكذا حلمت البشريّة بعالم، ملؤه السعادة، يـخلو من الحروب، بملكوت تامّ على الأرض، قوامه السيطرة على الطبيعة والتقدّم اللامتناهي والوفرة المادّيّة والسلام. إلاّ أنّ دخول هذا العالم في حرب عالميّة أولى ثمّ ثانيّة، ذهب ضحيّتها نحو سبعين مليون إنسان، بقيادة دول بعضها شبه مناهض للدين (كفرنسا) وبعضها ملحد (كالاتّحاد السوفياتي) وبعضها فاشيّ أو نازيّ (والاثنان فكران لا دينيّان)، ضرب، إلى غير رجعة، التفاؤل والثقة المطلقة بالعقل اللذين أشاعهما عصر الأنوار. وقد كان لتلك الحربين وقع كبير يفوق شعورنا به اليوم، لدرجة أنّ الحرب العالميّة الأولى دفعت بسيغموند فرويد إلى إعادة النظر في نظريّته حول النفس الإنسانيّة، واضطرّت شخصيّة علميّة كبرى كألبرت أينشتاين إلى مراسلة فرويد متسائلاً عن أسباب الحروب ومصير العالم في ظلّها. هاتان الحربان كانتا دليلاً دامغًا على أنّ الإيمان بالعقل، كسيّد مطلق للمصير البشريّ، هو إيمان لا عقلانيّ.
إضافة إلى ذلك، فإنّ انزلاق ثورات عصر الأنوار إلى القمع هزّ الثقة بالعقلانيّة. ففترة الحكم الأولى لقوّاد الثورة الفرنسيّة المعادية للدين، التي سُـمّيت بـ"حكم الإرهاب"(حزيران 1793- تمّوز 1794)، تميّزت بإعدامات متواصلة صفّى خلالها الثوّار بعضهم بعضًا. أمّا الإلحاد بنسخته الماركسيّة التي أطلقت على ذاتها اسم المادّيّة "العلميّة"، فانزلق إلى السطوة والتنكيل وإلغاء الحوار وحقّ الاختلاف وقمع الإنسان العامل (البوليتاريّ) باسم فكرة العمّال (البروليتاريّة). كما أنّ المركزيّة الشديدة الخانقة في الاتّحاد السوفياتيّ، ورفضِ الماركسيّة السوفياتيّة التي ادّعت الـ"علميّة" للعلوم والفنون التي لا تتناسق مع تفسير اللجنة المركزيّة[7] للحزب الشيوعيّ السوفياتي للماركسيّة، قد جعلا من الماركسيّة السوفياتيّة نسخة ملحدة عمّا في الكنيسة من تسلّط، بل تجاوز التسلّط الماركسيّ الستالينيّ، في حجمه، كلّ اضطهاد مارسته الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبا بحقّ كلّ فكر وعلم خالف تفسيرها للمسيحيّة، وكلّ اضطهاد مارسته الكنائس بعضها بحقّ بعض. هذه الخبرات التاريخيّة لا تعني حكمًا نهائيًّا على كلّ ما في الفكر الماركسيّ (الذي تشوّه في نسخته السوفياتيّة)، أو على الإلحاد، لكنّها تطرح تساؤلات كبرى حولهما وحول سلطة العقل.
من جهة أخرى، كما يطالعنا متديّنون متعصّبون برفض غير نقديّ لكلّ ما يمتّ للإلحاد بصلة، يطالعنا ملحدون متعصّبون، لا يرون في الدين إلاّ أفيونًا، بنعتهم كلّ ما هو إيمان بالخرافة والتخلّف. وذلك رغم أنّ مؤمنين مسيحيّين (كالذين ناضلوا مع مارتن لوثر كينغ، والذين قاتلوا مع الثورة الساندينيّة في نيكاراغوا) ومسلمين (كحزب الله اللبنانيّ) وهندوس (كالذين ناضلوا مع غاندي) خاضوا نضالات عنفيّة ولاعنفيّة انطلاقًا من إيمانهم من أجل كرامة وحرّية الإنسان؛ ورغم أنّ المناضلين الملحدين أنفسهم ينطلقون من مواقف إيمانيّة، أقلّها إيمانهم بقدرة الإنسان على تحقيق عالم أفضل غير منظور حاليًّا.
ثمّ تنبغي الإشارة إلى أنّ بعض الإلحاد يحطّ من قدر الإنسان برؤيته إيّاه مجموعة خلايا، أو مادّة، أو مجموعة جينات، أي بتحويله إلى مجرّد مجموعة موادّ كيميائيّة. وهذا يشرّع الباب أمام مختلف التجارب العلميّة التي تُطرح حول "أخلاقيّاتها" تساؤلات جدّيّة (لجهة تأثيرها في الإنسان والطبيعة). وكما تناغم النظام الرأسماليّ مع الدين، فقد تناغم، أيضًا، مع الإلحاد كما في فرنسا، أو حتّى مع الشيوعيّة كما في الاتّحاد السوفياتيّ[8] والصين. في العمق، يجسّد المجتمع الرأسماليّ حلم عصر الأنوار بتحقيق ملكوت أرضيّ، وذلك بتقديم نموذج "ملكوت" لذّة استهلاك، يُغرق الإنسان في دوّامة استهلاك غير متناهٍ للأشياء ولغيره ولذاته.
3 أيّ نقد للإلحاد؟ على أنّ بحثًا حول الإلحاد ونقده ليس ممكنًا في مقالة واحدة، نودّ أن نشير إلى مواطن خلل في نوع نقد، يعجز عن مخاطبة الفكر أو القلب، يعتمد اتّهمات متسرّعة وغير دقيقة. فالمقالة، التي عرّبها الأب جهاد (أبو مراد) بعنوان "ظاهرة الإلحاد"[9]، على نُبل قصدها الإيمانيّ، قد وقعت في بعض التسرّع. فمثلاً، نقرأ فيها أنّ "المادّيّة تجاهلت كلّيًّا روح الإنسان، والداروينيّة بقيت عالقة في مفهوم الإنسان-القرد، والوجوديّة الملحدة قادت الإنسان إلى العدميّة واللامعقول، والماركسيّة ألغت فرادة الإنسان لصالح الجماهير. أمّا الفرويديّة، فبقيت لصيقة الجنس". النصّ يذكر الوجوديّة الملحدة. ويجب أن نذكّر بأنّ هناك فلسفة وجوديّة مؤمنة أحد أعمدتها هو سورين كييركيغار. أمّا تعليق النصّ حول الماركسيّة، فصحيح إلى حدّ بعيد. ولكنّ القول إنّ المادّية تجاهلت روح الإنسان لا يقدّم ولا يؤخّر. إذ إنّ الإيمان، وحده، يطلّ على بُعد الإنسان الروحيّ. أمّا الملحد، فعاديّ ألاّ يرى الروح. ولهذا، فإنّ إشارة كهذه لا تساهم في نقد الإلحاد أو محاورته أو الدفع إلى الإيمان (إن كان هذا هو القصد). أمّا موقف النصّ من الداروينيّة، فيبدو تهجّميًّا، إذ لا نعثر فيه على حوار معها أو إقرار بما فيها من حقّ، وإشارة إلى ما فيها من قصور. وأخيرًا، فإنّنا نرى أنّ النصّ يتسرّع برمي الفرويديّة بما يبدو اتّهامًا. وفحوى "الاتّهام" أنّها بقيت لصيقة الجنس! فهل الجنس مشكلة أخلاقيّة، وسيّئ بحدّ ذاته، لدرجة أنّه يكفي أن نلصق به فكرًا ما (أو علمًا ما)، لنكون قد نقدناه، وقصفناه من جذوره؟ تبدو صياغة النصّ غير موفّقة، لأنّها، باعتقادي عن غير قصد، لا تنسجم مع التراث الكنسيّ الذي يبارك الجنس ويرى فيه مجال حبّ. أمّا إن كان المقصود أنّ الفرويديّة لم تنظر أبعد من الجنس، فهذا يدفعنا إلى أن نوضح أنّ "الجنس"، في الفرويديّة، لا يعني الممارسة الجنسيّة حصرًا، بل يعني طاقة حياة، يعني الشوق (الإيروس). وتوضح كُتب كوستي بندلي، التي صدرت أخيرًا بالفرنسيّة، مواطنَ الحقّ في الفرويديّة، المتلاقية مع الإيمان الأرثوذكسيّ، ومناطق القصور في موقف فرويد الإلحاديّ[10].
من ناحية أخرى، الأفضل لنا ألاّ ننزلق إلى تسرّع بالحكم على الإلحاد، كما في: "الضرر، الذي تسبّبت به النظريات العلميّة والفلسفيّة والاجتماعيّة للالحاد، كبير جدًّا. والقول إنّهم كانوا يرغبون في تقديم شيء جيّد للإنسان، مردود، لأنّ الرغبة تضيع أمام عظم الضرر الذي تسبّبوا به، بسبب الإلحاد الذي ما زالوا يمارسونه، رغم الفشل المتكرّر، إلى يومنا الحاضر". إذ، منطقيًّا، يمكن المرء أن يطرح الأمر ذاته على مؤمنين بالله كثيرين، بقصد رمي الإيمان برمّته بسبب خطايا مَن اعتنقوه أو تشوّهاتهم الفكريّة.
4 دعوة حوار وتعاون هذا يحضّنا على تأكيد أمرين. الأوّل هو أنّ الإيمان الأصيل له أن يضيء على الإلحاد، ويبيّن منزلقاته بقصد الشهادة لله، أي نقل أنواره إلى حياة كلّ إنسان، ولو ملحدًا، لربّما يضيء الله على المأساة، الكامنة في قلب الإلحاد، مأساة اللامعنى النهائيّ للكون ولكلّ نضال إن كان منتهاه هو الموت، إن كان الفناء هو مصيرنا الوحيد ومصير أحبّائنا، أطفالنا، وأصدقائنا، في نهاية الطريق. هذه الشهادة ضروريّة، لأنّ الملحد، أمام خبرة مأساة الإلحاد الداخليّة، قد ينزلق (وقد يكون في حالة إلحاد عمليّ قلبيّ، ولو آمن بالله لفظيًّا) إلى انتحار معنويّ، شخصيًّا وجماعيًّا، من طريق الظلم والتحكّم والاستغلال وهوس الاستهلاك والجشع الذي نراه حولنا في عالم لا يمكن أن يكون له معنى طالما كلّ شخص فيه غير أبديّ! إضافة إلى ذلك، من واجب المؤمنين، برأيي، التركيز على أنّ الخطر الحقيقيّ، اليوم، يتأتّى من الرؤية الرأسماليّة الملحدة التي نعيش في ظلّ أنظمتها، والتي لا ترى الأشياء والبشر سوى مادّةِ تراكمِ أموالٍ وملذّاتٍ، ولا ترى الحياة إلاّ تراكمَ استهلاك، مع أنّ المنادين بذلك قد يكونون من المؤمنين بالله لفظيًّا.
أجل، يمكن، بل يجب، نقد الإلحاد الفكريّ والحوار معه. لكن، من الضروريّ التعاضد مع كلّ إنسان، ولو ملحدًا فكريًّا، إن كان يقف في وجه الإلحاد العمليّ الذي يطحن البشر، الإلحاد الرأسماليّ الذي يهدّدنا كلّنا، ويروّج لملكوت ربحٍ واستهلاك لامتناهيين عن طريق استغلال الطبيعة والبشر، «ملكوت» أشبه بجحيم يدمّر الإنسان وكوكبنا، فهو وهمٌ يكبت توقنا إلى المُطلَق، بواسطة دوّامةٍ، أضخم فأضخم، من الاستهلاك والامتلاك والتحكّم. "إنّ العدوّ الأكثر وحشيّة والأكثر تدميراً لكلّ حياة للروح هو الرأسماليّة الصناعيّة... لأنّها تدمّر كلّ أثر لحياة روحيّة بموافقة المعنيّيْن وتعاونهم"، كما يقول المؤرّخ الكاثوليكيّ جاك جولليار[11].
أمّا الأمر الثاني، فهو أنّه يمكن أن يستنير المؤمنون بالحقّ الكامن في بعض وجوه الإلحاد الذي "يطهّر فكرة الله من كلّ إطار إجتماعيّ ولاهوتيّ عفا عنه الزمن"، كما تقول سيمون فايل[12]. فالله، الحاضر في كلّ حقّ، قد يخاطبنا في الملحدين وفي بعض فكرهم، لنتوب، علمانيّين وإكليروس، عن كلّ ما يشوّهه وملكوته وعن كلّ الأصنام التي نعبدها في ظلال كلّ تسلّط وتموّلٍ مبخّرين لذواتنا[13]، مشكّكين إخوته الصغار، ودافعين بعضًا إلى الإلحاد بهذه الصورة المشوّهة لله. لقد كتب الروائيّ الأرثوذكسيّ الكبير دوستويفسكي، الذي أتى إلى الإيمان بعد إلحاد، قائلاً على لسان الأب طيخون أحد شخصيّاته في رائعته «الممسوسون»: "الإلحاد الـمُطلَق هو أكثر شرفًا من اللامبالاة... الملحد الـمُطلَق يقف في الدرجة ما قبل الأخيرة من سلّم الإيمان الكامل (قد يأخذ هذه الخطوة الأخيرة وقد لا يأخذها). أمّا اللامُبالي، فلا يوجد عنده أيّ إيـمان، لا يوجد عنده إلاّ خوف بشع، وذلك فقط إن كان حسّاسًا".
هكذا، إضافة إلى الحوار والنقد الضروريّين شهادةً لما بدا لنا من حقّ وبحثًا عن ملئه، فما يهمّ، اليوم، هو كيف يلتقي أبناء الله، مؤمنين وملحدين ولا أدريّين، حول مشاريع عمليّة لتحرير الناس أجمعين من كلّ ظلم واستغلال. ومن المهمّ أن نتبنّى موقفًا حرًّا يعطينا، أحيانًا، أن نرى، في بعض وجوه الإلحاد، بشاعاتنا وخطايانا، لنهرب من كلّ خيانة، ونعود إلى الإخلاص، إلى الكنز‑الروح الذي وُضِعَ فينا، نحن "الخطأة الذين يتوبون"، ونرمي عنّا كلّ أصنام الانغلاق والتعالي واللامبالاة أمام جراح هذا العالم.
خريستو المر
[1] Jean Delumeau, “Le Christianisme Va-t-il Mourir?”, Hachette, 1977
[2] كوستي بندلي، «إله الإلحاد المعاصر»، منشورات النور، 1968، ص 158.
[3] Paul Evdokimov, “L’Amour Fou de Dieu”, Editions du Seuil, Paris, 1973, p. 125-126.
[4] كوستي بندلي، «إله الإلحاد المعاصر»، منشورات النور، 1968.
[5] Olivier Clément, “Purification par l'Athéisme”, Contacts, 1966, premier trimestre, p. 37-65.
[6] المطران جوروج (خضر)، "لا تكن غير مؤمن"، النهار 11 أيّار 2002.
[7] لعبت اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي السوفياتي دور مجمع العقيدة الماركسيّة.
[8] إنّ الاتّحاد السوفياتيّ نفسه كان يشكّل نمطًا من الرأسماليّة، يمكن تسميته بـ"رأسماليّة الدولة"، عوضًا من رأسماليّة الأفراد.
[9] مجلّة النور، السنة 65، العدد 7، ص 340-343.
[10] Costi Bendaly, “Foi et Sciences Humaines”,No 1-5, Beyrouth, 2007, 2008, 2009 ، راجع أيضًا: مجلّة النور، السنة 65، العدد 6، ص 318-320.
[11] Jacques Julliard, “L’Argent, Dieu et le Diable: Péguy, Bernanos, Claudel face au monde moderne”, Flammarion, Paris, 2008
[12] Paul Evdokimov, “L’Amour Fou de Dieu”, op. cit., p. 22
[13] "شعبـي يستَشيرونَ الإلهَ الخشَبةَ ويستَخبِرونَ الإلهَ الوتَدَ. روحُ الزِّنى أضَلَّهُم... يُبَخِّرونَ تَحتَ أشجارِ البَلُّوطِ والحَورِ والبُطمِ لأنَّ ظِلَّها حسَنٌ"(هوشع 4: 11-13)