السلطة والطاعة
صحيفة الأخبار العدد ٢٦٠١، الجمعة ٢٩ أيار ٢٠١٥
عادة ما تركّز التربية المدنية والدينيّة على ضرورة طاعة الإنسان للسلطات السياسيّة أو الدينيّة، أكانت السلطة تمثّلها مجموعة، أم شخصٌ يلعبُ دوراً محوريّاً سياسياً أو دينيّاً. وتوصف الطاعة أحيانا على أنّها دليل إخلاصِ المطيع للإنسان المُطاع، أو توصف على أنّها طاعة للفكر أو الإيمان الذي يحمله المُطاعُ (وذلك لتورية حقيقة المطلوب ألا وهو الخضوع للشخص المُطاع).
نجادل في هذه المقالة ليس فقط على أنّ الطاعةَ هي أمرٌ غيرُ واضح إطلاقاً، وإنّما أنّه في أحيان كثيرة (وفي زمننا ربّما في أكثر الأحيان) يكون العصيانُ، لا الطاعة، هو الموقف الأكثر ملائمة للإنسان، ولإخلاصه لإنسانيّته ولله.
إنّ الكثير من التقدّم الفذّ، العامل لخير الإنسان في التاريخ، لم يحصل من خلال الطاعة، بل من خلال العصيان. فعصيان الأفكار السائدة والرأي العلميّ السائد، كان عاملاً أساساً في اكتشاف غاليليه لدوران الأرض حول الشمس، واكتشاف فرويد للاّوعي، وغيرها من الاكتشافات. أمّا عصيان المسيح للرؤساء الدينيّين وتفسيرهم للكتب الدينيّة، وعصيانه للأفكار المنغلقة السائدة لزمنه، فقد أوصله إلى استشهاده وما تبع ذلك من تأسيس للمسيحيّة كدين. ولا شكّ أنّ الأمر نفسه ينطبق على الأنبياء، فلم يكن موسى مطيعا لفرعون، ولا محمّد مطيعا لقبيلته ولا لدينها. ومن جهة أخرى كم من طاعةٍ أدّت إلى دمارٍ وخرابٍ كبيرين في بلاد بأكملها، أليس هذا ما حدث في ألمانيا النازية؟ أليست طاعة الزعماء السياسيّين والدينيّين هي التي تساهم اليوم بشكل حادّ في الخراب العميم الذي نشهده في بلادنا؟
لكن من جهة أخرى، ليس كلّ عصيان لكلّ سلطة هو جيّد بحدّ ذاته. فإنْ كان الإنسان الذي يطيع دائما بلا تمييز هو بالفعل عبدٌ لآخر أو آخرين، فإنّ الإنسان الذي لا يَعرفُ إلاّ أن يعصى هو إنسان يتصرّف انطلاقا من شهوة تدمير لديه، ولا يبني. ومن هنا ضرورة التمييز والتفكير بماهيّة السلطة، وبماهيّة الفكر الشخصيّ الذي يقرّر الإنسان على أساسه أن يطيع أم يعصى.
السلطةليست السلطة أمراً جيّداً أو سيّئاً بحد ذاتها، فلكلّ سلطة هدفٌ، وهذا الهدف هو الذي يحدّد إنْ كانت السلطة جيّدة أم سيّئة. ولكن أن نحكم بأنّ شيئا ما هو "جيّد" أم لا، هو حكم قيميّ يتطلّب أن يكون لنا مقياسا نقيس به الجودة أو السوء. إنّ كاتب هذه السطور يعتبر أنّ المقياس الذي ينبغي أن نقيس على أساسه أهداف السلطة هو: خدمةُ حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة (ما يتضمّن حاجاته المادّية وانتعاشه في الحرّية والكرامة). فكلّ ما يخدم حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة هو جيّد، وكلّ ما يضرّ بها هو سيّء. الاستثناء الوحيد، الذي يبدو لي، هو أن يرضى الإنسان، بشكل حرٍّ، بأن يعرّض حياته الجسديّة والنفسيّة للضغط، بل أن يضحّي، بشكل حرٍّ، بحياته الشخصيّة الجسديّة (وليس بحياة غيره)، خدمةً لحياة الآخرين الجسديّة والنفسيّة.
إذاً المقياس هو خدمة حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة. كلّ سلطة تهدف إلى خدمة حياة الإنسان هي سلطة جيّدة وعقلانيّة ويمكن طاعتها بحرّية، وكلّ سلطة لا تخدم حياته هي سيّئة وغير عقلانيّة، وينبغي رفضها وإلغاءها حيث أمكن. فسلطة المعلّم مثلاً، إذا كانت سلطة تسعى إلى نقل التلميذ من مرحلة اللامعرفة إلى حالة المعرفة، ورفده بالطرق اللازمة للوصول إلى ذلك بحيث يستقلّ التلميذ في النهاية عن المعلّم، هي سلطةٌ عقلانيّة وتُطاع، أي تُقبل بحرّية. ولكن إن كانت سلطة المعلّم تهدف إلى إخضاع التلميذ لأوامر المعلّم ونواهيه، وإلى إذلاله إن أخطأ، أو إلى فرض علاقة تبعيّة عليه، تكون عندها سلطة المعلّم مدمِّرةً للتلميذ، ووسيلةً لإخضاعه لرغبات المعلّم العشواء من تشفٍّ وتحكّمٍ مرضيَّين، أو وسيلةً لدى المعلّم لتحقيق شعورٍ مَرَضيّ بقيمةٍ ذاتيّة قائمةٍ على تبعيّة التلميذ له وعدم استقلاله. هكذا سلطة هي لاعقلانيّة ويجب ألاّ تُطاع، بل يجب أن تُرفض وتُعصى وتُلغى لأنّها مدمّرة لنفس وجسد التلميذ (وهي مدمّرة حتّى للمعلّم).
الأمر نفسه ينطبق على سلطة الأب والأم فهي إمّا خادمة لحياة الأولاد فتطاع أو آسرة وبعض الأحيان مدمّرة وينبغي أن تُعصا، وأيضاً السلطة السياسيّة والدينيّة، وهاتان الأخيرتان عادةً ما تستخدما سلطتهما من أجل تثبيت تسلّطهما على أجساد الناس وأدمغتهم وضمائرهم وأفكارهم، بحيث يكون هدفهما التحكّم الذي يشلّ أو يدمّر حياة الآخرين النفسيّة والجسديّة، ولهذا، في هذه الحالات، ينبغي عصيانهما، فطاعتهما واجبة فقط إن كانت تهدف إلى خدمة حياة الآخرين.
وإن كان من المتعارف عليه أنّ الديكتاتوريّات هي من السلطات اللاعقلانيّة لأنّها تتحكّم بالجسد والنفس، أو تدمّر الجسد والنفس، أو قد تحمي الجسد وتدمّر النفس (حرّية، كرامة...)، فإنّ أشكال الديموقراطيّة التي تهتمّ بحقّ الإنسان بالعيش دون أن تهتمّ لنوعيّة هذا العيش، أي لا تهتمّ للعدالة الاجتماعيّة التي تؤثّر في صحّة وفي نفس الإنسان (كرامته مثلاً)، هي أيضاً سلطات لاعقلانيّة ويجب رفضها. السلطات الدينيّة من جهتها، يمكنها كذلك أن تكون عقلانيّة عندما تكون تسعى لحماية جسد الإنسان ونفسه، وانتعاشه وحرّيته وكرامته، وعندها تستحقّ أن يُصغى إليها، ولكن يمكنها كذلك أن تكون لا عقلانيّة عندما تسعى لتقييد جسد الإنسان وفكره، ولاستتباعه، ولحماية مصالح المتسلّطين السياسيّين والماليّين، وحماية مجموعات محظيّة من رجال الدين، وحماية المتحرّشين الجنسيّين وسحق الضحايا، وعندها من الضرورة الإيمانيّة والإنسانيّة أن تُعصى لأنّها لا عقلانيّة ولا إيمانيّة، ويكون من واجب ومسؤوليّة المؤمنين أن يعيشوا بحرّيةٍ كأنبيائهم، وأن يطيعوا ضمائرهم الحرّة.
السلطة في العمق تعني في جذرها اللاتيني من كلمة إنماء وهذا يعني أنّ هدف السلطة هو نموّ الإنسان الذي "يطيعها". أمّا الطاعة فجذرها اللاتيني يأتي من كلمة الإصغاء. وحده الإصغاء الحرّ لسلطة تسعى لإنماء وحماية حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة يمكن أن يقال أنّه إصغاء عقلانيّ، أنّه بالفعل "طاعة". أمّا الإصغاء لسلطة تسعى للتحكّم بالجسد وبالنفس، أو تحمي الجسد وتقتل النفس، فهو خضوع، وتصرّف لا عقلانيّ.
الفكر الشخصيّالطاعة، إذاً، لها معنى فقط إن كانت صادرة بحرّية، عن فكر شخصيّ حرّ، إن كانت إصغاءً حرّاً لسلطة عقلانيّة. وهنا نأتي إلى النقطة الأكثر حساسيّة، ضرورة التمييز بين السلطات العقلانيّة وتلك اللاعقلانيّة، وضرورة التمييز بين "الرأي" الذي ليس هو أكثر من خضوع للرأي السائد، خوفاً من الاختلاف والحرّية، وبين الرأي الشخصيّ بالفعل المعبّر عن فكر حرّ.
الفكر، والرأي الشخصيّ، أمرين بالغي الغموض. فقد يقبل الإنسان برأي ويتبنّاه فقط لأنّ هذا الرأي هو السائد في المجموعة التي يعيش فيها، ولكنّه لا يعي ذلك بل يعتبر أنّ هذا الرأي هو رأيه هو بالذات، فيدافع بحمّية عمّا يعتبره "رأيه" والذي لا يكون في الحقيقة سوى الرأي المفروض عليه من قِبَل الجماعة التي ينتمي إليها، والتي يخاف مخالفتها لأنّه يخشى أن يخرج عن الجماعة (وكلّ إنسان يعيش هذه الخشية شاء أم أبى وإن كان يمكن لكلّ إنسان أن يتجاوز هذه الخشية ولا يخضع لها).
الإنسان الذي يخاف الخروج عن الرأي السائد، إن أطاع لا يمكن اعتبار طاعته طاعة حرّة صادرة عن ضميره الشخصيّ، بل هي خضوع للجماعة التي ينتمي إليها. ولذلك هو إنسان لا يملك قناعة عميقة بموضوع طاعته، ويمكنه أن ينقلب على السلطة التي يطيعها وعلى الموضوع الذي يقبله، ما أن يتغيّر محيطه، ويوجد في جماعة أخرى، وقد يتبنّى عندها "رأياً شخصيّاً" ليس سوى تعبير جديد عن الرأي السائد، الذي قد يتعبّد لسلطة لا عقلانيّة ومدمّرة للحياة الإنسانيّة الجسديّة أو النفسيّة، ومنها حياة هؤلاء المتعبّدين لتلك السلطة.
العقل والتمييزإذاً، من أجل حياة الفرد والجماعة، نموّ الفرد والجماعة، من الضروري التمييز بين أنواع السلطة، وبين عصيان حرّ صادر عن ضمير حرّ غير خاضع للخوف، من الجماعة أو من شخص آخر، وبين عصيان صادر عن علاقة عبوديّة بشخص زعيم ديني أو سياسيّ، أو علاقة عبوديّة بجماعة. فقد رأينا جماعات من البشر عبر التاريخ ترفض أن تخضع لسلطة عقلانيّة تحمي الإنسان جسداً ونفساً، فقط لأنّها خاضعة بشكل عبوديّ لزعيم "روحيّ"، دينيّ، أو سياسيّ.
إنّ إحكام العقل في جوّ من حرّية التعبير والاحترام للإنسان وللاختلاف الطبيعي بين البشر، وحده يسمح بمقارعة الأفكار، وبإعمال الحجّة، ويفتح إمكانيّة الوصول إلى التمييز المطلوب بين سلطات لا عقلانيّة مدمّرة وأخرى عقلانيّة تسعى للحياة، لنموّ الإنسان جسديّاً ونفسيّاً. وقد يخطئ الإنسان وقد يصيب وقد تخطئ الأكثريّة وقد تصيب في استنتاجاتها، لكن هذه حال هذا العالم غير الكامل. أمّا في أجواء التعصّب، السياسي أو الدينيّ، فهي وصفة مؤكّدة لكي يغيب العقل، ويضيع القلب، ويضمحلّ التمييز، فتنفلت اللاعقلانيّة على غاربها، باسْمِ كلّ "القيم السامية" التي يمكن للإنسان أن يستر بها عبوديّته لشخص أو لجماعة، وتسلّطه على شخص أو جماعة.
إحكام العقل يعني حرّية التفكير، وكيف يمكن ذلك في جوّ تربية دينيّة وسياسيّة تعلّي قيمة الخضوع العبوديّ لآخر، وتسمّيه "طاعة" تقول أنّها "واجبة". وكيف يمكن ذلك في جوّ تربية دينيّة وسياسيّة تسعى لإخضاع الضمير الذاتيّ للإنسان، لشخص آخر أو لجماعة، وتسمّي ذلك "تواضعاً"، وتعتبره قيمة سامية إن لم يكن الأسمى؟
خريستو المرّ
٢٠ أيّار ٢٠١٥
نجادل في هذه المقالة ليس فقط على أنّ الطاعةَ هي أمرٌ غيرُ واضح إطلاقاً، وإنّما أنّه في أحيان كثيرة (وفي زمننا ربّما في أكثر الأحيان) يكون العصيانُ، لا الطاعة، هو الموقف الأكثر ملائمة للإنسان، ولإخلاصه لإنسانيّته ولله.
إنّ الكثير من التقدّم الفذّ، العامل لخير الإنسان في التاريخ، لم يحصل من خلال الطاعة، بل من خلال العصيان. فعصيان الأفكار السائدة والرأي العلميّ السائد، كان عاملاً أساساً في اكتشاف غاليليه لدوران الأرض حول الشمس، واكتشاف فرويد للاّوعي، وغيرها من الاكتشافات. أمّا عصيان المسيح للرؤساء الدينيّين وتفسيرهم للكتب الدينيّة، وعصيانه للأفكار المنغلقة السائدة لزمنه، فقد أوصله إلى استشهاده وما تبع ذلك من تأسيس للمسيحيّة كدين. ولا شكّ أنّ الأمر نفسه ينطبق على الأنبياء، فلم يكن موسى مطيعا لفرعون، ولا محمّد مطيعا لقبيلته ولا لدينها. ومن جهة أخرى كم من طاعةٍ أدّت إلى دمارٍ وخرابٍ كبيرين في بلاد بأكملها، أليس هذا ما حدث في ألمانيا النازية؟ أليست طاعة الزعماء السياسيّين والدينيّين هي التي تساهم اليوم بشكل حادّ في الخراب العميم الذي نشهده في بلادنا؟
لكن من جهة أخرى، ليس كلّ عصيان لكلّ سلطة هو جيّد بحدّ ذاته. فإنْ كان الإنسان الذي يطيع دائما بلا تمييز هو بالفعل عبدٌ لآخر أو آخرين، فإنّ الإنسان الذي لا يَعرفُ إلاّ أن يعصى هو إنسان يتصرّف انطلاقا من شهوة تدمير لديه، ولا يبني. ومن هنا ضرورة التمييز والتفكير بماهيّة السلطة، وبماهيّة الفكر الشخصيّ الذي يقرّر الإنسان على أساسه أن يطيع أم يعصى.
السلطةليست السلطة أمراً جيّداً أو سيّئاً بحد ذاتها، فلكلّ سلطة هدفٌ، وهذا الهدف هو الذي يحدّد إنْ كانت السلطة جيّدة أم سيّئة. ولكن أن نحكم بأنّ شيئا ما هو "جيّد" أم لا، هو حكم قيميّ يتطلّب أن يكون لنا مقياسا نقيس به الجودة أو السوء. إنّ كاتب هذه السطور يعتبر أنّ المقياس الذي ينبغي أن نقيس على أساسه أهداف السلطة هو: خدمةُ حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة (ما يتضمّن حاجاته المادّية وانتعاشه في الحرّية والكرامة). فكلّ ما يخدم حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة هو جيّد، وكلّ ما يضرّ بها هو سيّء. الاستثناء الوحيد، الذي يبدو لي، هو أن يرضى الإنسان، بشكل حرٍّ، بأن يعرّض حياته الجسديّة والنفسيّة للضغط، بل أن يضحّي، بشكل حرٍّ، بحياته الشخصيّة الجسديّة (وليس بحياة غيره)، خدمةً لحياة الآخرين الجسديّة والنفسيّة.
إذاً المقياس هو خدمة حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة. كلّ سلطة تهدف إلى خدمة حياة الإنسان هي سلطة جيّدة وعقلانيّة ويمكن طاعتها بحرّية، وكلّ سلطة لا تخدم حياته هي سيّئة وغير عقلانيّة، وينبغي رفضها وإلغاءها حيث أمكن. فسلطة المعلّم مثلاً، إذا كانت سلطة تسعى إلى نقل التلميذ من مرحلة اللامعرفة إلى حالة المعرفة، ورفده بالطرق اللازمة للوصول إلى ذلك بحيث يستقلّ التلميذ في النهاية عن المعلّم، هي سلطةٌ عقلانيّة وتُطاع، أي تُقبل بحرّية. ولكن إن كانت سلطة المعلّم تهدف إلى إخضاع التلميذ لأوامر المعلّم ونواهيه، وإلى إذلاله إن أخطأ، أو إلى فرض علاقة تبعيّة عليه، تكون عندها سلطة المعلّم مدمِّرةً للتلميذ، ووسيلةً لإخضاعه لرغبات المعلّم العشواء من تشفٍّ وتحكّمٍ مرضيَّين، أو وسيلةً لدى المعلّم لتحقيق شعورٍ مَرَضيّ بقيمةٍ ذاتيّة قائمةٍ على تبعيّة التلميذ له وعدم استقلاله. هكذا سلطة هي لاعقلانيّة ويجب ألاّ تُطاع، بل يجب أن تُرفض وتُعصى وتُلغى لأنّها مدمّرة لنفس وجسد التلميذ (وهي مدمّرة حتّى للمعلّم).
الأمر نفسه ينطبق على سلطة الأب والأم فهي إمّا خادمة لحياة الأولاد فتطاع أو آسرة وبعض الأحيان مدمّرة وينبغي أن تُعصا، وأيضاً السلطة السياسيّة والدينيّة، وهاتان الأخيرتان عادةً ما تستخدما سلطتهما من أجل تثبيت تسلّطهما على أجساد الناس وأدمغتهم وضمائرهم وأفكارهم، بحيث يكون هدفهما التحكّم الذي يشلّ أو يدمّر حياة الآخرين النفسيّة والجسديّة، ولهذا، في هذه الحالات، ينبغي عصيانهما، فطاعتهما واجبة فقط إن كانت تهدف إلى خدمة حياة الآخرين.
وإن كان من المتعارف عليه أنّ الديكتاتوريّات هي من السلطات اللاعقلانيّة لأنّها تتحكّم بالجسد والنفس، أو تدمّر الجسد والنفس، أو قد تحمي الجسد وتدمّر النفس (حرّية، كرامة...)، فإنّ أشكال الديموقراطيّة التي تهتمّ بحقّ الإنسان بالعيش دون أن تهتمّ لنوعيّة هذا العيش، أي لا تهتمّ للعدالة الاجتماعيّة التي تؤثّر في صحّة وفي نفس الإنسان (كرامته مثلاً)، هي أيضاً سلطات لاعقلانيّة ويجب رفضها. السلطات الدينيّة من جهتها، يمكنها كذلك أن تكون عقلانيّة عندما تكون تسعى لحماية جسد الإنسان ونفسه، وانتعاشه وحرّيته وكرامته، وعندها تستحقّ أن يُصغى إليها، ولكن يمكنها كذلك أن تكون لا عقلانيّة عندما تسعى لتقييد جسد الإنسان وفكره، ولاستتباعه، ولحماية مصالح المتسلّطين السياسيّين والماليّين، وحماية مجموعات محظيّة من رجال الدين، وحماية المتحرّشين الجنسيّين وسحق الضحايا، وعندها من الضرورة الإيمانيّة والإنسانيّة أن تُعصى لأنّها لا عقلانيّة ولا إيمانيّة، ويكون من واجب ومسؤوليّة المؤمنين أن يعيشوا بحرّيةٍ كأنبيائهم، وأن يطيعوا ضمائرهم الحرّة.
السلطة في العمق تعني في جذرها اللاتيني من كلمة إنماء وهذا يعني أنّ هدف السلطة هو نموّ الإنسان الذي "يطيعها". أمّا الطاعة فجذرها اللاتيني يأتي من كلمة الإصغاء. وحده الإصغاء الحرّ لسلطة تسعى لإنماء وحماية حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة يمكن أن يقال أنّه إصغاء عقلانيّ، أنّه بالفعل "طاعة". أمّا الإصغاء لسلطة تسعى للتحكّم بالجسد وبالنفس، أو تحمي الجسد وتقتل النفس، فهو خضوع، وتصرّف لا عقلانيّ.
الفكر الشخصيّالطاعة، إذاً، لها معنى فقط إن كانت صادرة بحرّية، عن فكر شخصيّ حرّ، إن كانت إصغاءً حرّاً لسلطة عقلانيّة. وهنا نأتي إلى النقطة الأكثر حساسيّة، ضرورة التمييز بين السلطات العقلانيّة وتلك اللاعقلانيّة، وضرورة التمييز بين "الرأي" الذي ليس هو أكثر من خضوع للرأي السائد، خوفاً من الاختلاف والحرّية، وبين الرأي الشخصيّ بالفعل المعبّر عن فكر حرّ.
الفكر، والرأي الشخصيّ، أمرين بالغي الغموض. فقد يقبل الإنسان برأي ويتبنّاه فقط لأنّ هذا الرأي هو السائد في المجموعة التي يعيش فيها، ولكنّه لا يعي ذلك بل يعتبر أنّ هذا الرأي هو رأيه هو بالذات، فيدافع بحمّية عمّا يعتبره "رأيه" والذي لا يكون في الحقيقة سوى الرأي المفروض عليه من قِبَل الجماعة التي ينتمي إليها، والتي يخاف مخالفتها لأنّه يخشى أن يخرج عن الجماعة (وكلّ إنسان يعيش هذه الخشية شاء أم أبى وإن كان يمكن لكلّ إنسان أن يتجاوز هذه الخشية ولا يخضع لها).
الإنسان الذي يخاف الخروج عن الرأي السائد، إن أطاع لا يمكن اعتبار طاعته طاعة حرّة صادرة عن ضميره الشخصيّ، بل هي خضوع للجماعة التي ينتمي إليها. ولذلك هو إنسان لا يملك قناعة عميقة بموضوع طاعته، ويمكنه أن ينقلب على السلطة التي يطيعها وعلى الموضوع الذي يقبله، ما أن يتغيّر محيطه، ويوجد في جماعة أخرى، وقد يتبنّى عندها "رأياً شخصيّاً" ليس سوى تعبير جديد عن الرأي السائد، الذي قد يتعبّد لسلطة لا عقلانيّة ومدمّرة للحياة الإنسانيّة الجسديّة أو النفسيّة، ومنها حياة هؤلاء المتعبّدين لتلك السلطة.
العقل والتمييزإذاً، من أجل حياة الفرد والجماعة، نموّ الفرد والجماعة، من الضروري التمييز بين أنواع السلطة، وبين عصيان حرّ صادر عن ضمير حرّ غير خاضع للخوف، من الجماعة أو من شخص آخر، وبين عصيان صادر عن علاقة عبوديّة بشخص زعيم ديني أو سياسيّ، أو علاقة عبوديّة بجماعة. فقد رأينا جماعات من البشر عبر التاريخ ترفض أن تخضع لسلطة عقلانيّة تحمي الإنسان جسداً ونفساً، فقط لأنّها خاضعة بشكل عبوديّ لزعيم "روحيّ"، دينيّ، أو سياسيّ.
إنّ إحكام العقل في جوّ من حرّية التعبير والاحترام للإنسان وللاختلاف الطبيعي بين البشر، وحده يسمح بمقارعة الأفكار، وبإعمال الحجّة، ويفتح إمكانيّة الوصول إلى التمييز المطلوب بين سلطات لا عقلانيّة مدمّرة وأخرى عقلانيّة تسعى للحياة، لنموّ الإنسان جسديّاً ونفسيّاً. وقد يخطئ الإنسان وقد يصيب وقد تخطئ الأكثريّة وقد تصيب في استنتاجاتها، لكن هذه حال هذا العالم غير الكامل. أمّا في أجواء التعصّب، السياسي أو الدينيّ، فهي وصفة مؤكّدة لكي يغيب العقل، ويضيع القلب، ويضمحلّ التمييز، فتنفلت اللاعقلانيّة على غاربها، باسْمِ كلّ "القيم السامية" التي يمكن للإنسان أن يستر بها عبوديّته لشخص أو لجماعة، وتسلّطه على شخص أو جماعة.
إحكام العقل يعني حرّية التفكير، وكيف يمكن ذلك في جوّ تربية دينيّة وسياسيّة تعلّي قيمة الخضوع العبوديّ لآخر، وتسمّيه "طاعة" تقول أنّها "واجبة". وكيف يمكن ذلك في جوّ تربية دينيّة وسياسيّة تسعى لإخضاع الضمير الذاتيّ للإنسان، لشخص آخر أو لجماعة، وتسمّي ذلك "تواضعاً"، وتعتبره قيمة سامية إن لم يكن الأسمى؟
خريستو المرّ
٢٠ أيّار ٢٠١٥