في هذه المقالة سنعرّج على مبادئ الحركة الستّة محاولين استقرائها على ضوء بعض مشاكل وتحدّيات اليوم.
1 المبدأ الأوّل: حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة حركة روحيّة تدعو جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى نهضة دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة واجتماعيّة
- هي حركة روحيّة: وبالتالي فالأولويّة هي للحياة الروحيّة، ولكنّ الحياة الروحيّة هي كلّ الحياة مُعاشة في الروح القدس "ترسل روحك فيُخلقون وتجدّد وجه الأرض". ولهذا فإنّ الاجتماعيّ أساس أيضاً لأنّه كما أنّ الروحيّ يلهم الاجتماعيّ فإنّ الاجتماعيّ يجذّر الروحيّ ويعمّقه وإلاّ صار الروحيّ هروباً وخيانة للروح لأنّه يُقصي الروح القدس عن الحياة الشخصيّة بكلّ أبعادها.
- هي نهضة دينيّة: والنهضة تعتمد على اكتشاف التقليد وعيشه، لكنّ الإخلاص الحقيقيّ للتقليد هو بالضبط التجديد "لأنّ التقليد ليس إيداعاً جامداً أو ميّتاً، ولكنّه حياة روح الحقّ نفسه الذي يعلّم الكنيسة"، كما يقول فلاديمير لوسكي[1]. والتجديد لا يعني بطبيعة الحال رمي التقليد، وإنّما ضرورة استشراف الإيمان ليقول كلمته في عالم اليوم بلغة اليوم، ولنفض ما علق به من "غبار" الحضارات (هذاما فعلته الكنيسة الكاثوليكيّة مثلاً عندما أقرّت بأنّ الأرض ليست ثابتة وإنّما الشمس، أو عندما تراجعت الكنيسة عن الاعتقاد بأنّ الأرض خُلقَت حقيقةً في مدّة سبعة أيّام، إلخ.).
- هي نهضة أخلاقيّة: الحياة الروحيّة المسيحيّة يجب أن تتجسّد في التصرّف فـ"من ثمارهم تعرفونهم". وهذا الأمر يمكن ترجمته في كلّ بلد حسب ظروفها. وإن كان كثير من الناس يفكّرون بالجنس عندما نتكلّم عن الأخلاق، إلاّ أنّ هناك أزمات أخلاقيّة كبرى تطحن ملايين الناس ولا نتكلّم عنها بنفس الحدّة للأسف، كالتعصّب والطائفيّة والعنصريّة، والغشّ في العمل، والفساد السياسيّ والماليّ. ومن هنا فالنهضة الأخلاقيّة في لبنان مثلاً، ينبغي أن تواجه هذه الأزمات الأخلاقيّة التي ذكرناها، فعلى الإنسان الحركيّ مثلاً أن ينتخب على أساس ما يراه مصلحة عامّة للناس في بلده وليس على أساس طائفيّ، أو مصلحة ماليّة خاصة، وأن يعتبر أنّ عمله مع سياسيّين طائفيّين أو لصوص أو قاتلين لمستقبل الناس هو فعليّاً خيانة للإيمان القويم.
أمّا من ناحية تقوية الإيمان المسيحيّ في الشعب فربّما أهم ما في الموضوع هو كيف تحرّك الحركة المؤسّسة الكنسيّة للإصغاء إلى الناس (قبل الكلام معهم) وملامسة هواجسهم وحاجاتهم، هذا الإصغاء خير لقاء مع الرعايا إذ يجعلهم يلمسوا لمس اليد اهتمام الكنيسة بهم، وهذا يشكّل مدخلاً لا يُستهان به لتقوية الإيمان ويفتح لنا جميعاً ميادين إصلاح في المؤسّسات الكنسيّة. فالأيمان المسيحيّ إيمان متجسّد في هذه الدنيا، والمسيحيّة منذ نشأتها اهتمّت بالجسديّ والروحيّ معاً، فكان الاهتمام بحاجات الأرامل واليتامى والمشاركة المادّية جزء من الإيمان، كلّ مادّي هو روحيّ بالمحبّة، وهذه تتجسّد بالمشاركة. ومن هنا لا بدّ من متابعة مشروع العمل الرعائيّ الذي وضعته الحركة، والعمل مع أعضاء المجمع المقدّس على ترجمته. وفي هذا المجال لا بدّ من تحريك أوقاف الكنيسة لخدمة الناس؛ إنّ بعض فشل وأخطاء وخطايا، هنا أو هناك، في مشاريع كنسيّة تنمويّة، يجب أن تعلّمنا دروساً لا أن تثني المسؤولين الكنسيّين عن المضيّ في مشاريع مماثلة. الأخطاء لا يجب أن تكبّل استمرار المشاريع الرعائيّة.
3 المبدأ الثالث: تسعى الحركة لإيجاد ثقافة أرثوذكسيّة تستوحي عناصرها من روح الكنيسةللكنيسة دور هامّ في العالم. إنّها، على صغرها، مدعوّة أن تكون "الخميرة التي تخمّر العجنة كلّها". فالنهضة المرجوّة لا تتوقف عند حدود الشؤون الكنسية "الداخلية" بل تتعداها إلى مشاركة الكنيسة العالمَ في صياغة حضارتـه من خلال تطوير فكر، وفن، وأدب، تحمل جميعها فرادة أرثوذكسيّة في نظرتها إلى العالم وإلى الإنسان. ومن هنا نرى الضرورات التالية:
- الانخراط في الانتاج الثقافيّ: من فنون كالموسيقى والرسم والشعر، إلخ. فمثلاً من المؤلم أنّ المسيح شبه غائب من الشعر والأدب العربيّين، مرّة علّق ناقد وشاعر أمام أرثوذكسيّ كَتَبَ حول اختباره حبّ الله في حبّه لحبيبته "ما دخل هذا في ذاك؟". هذ التعليق دليل على هذا الغياب. هل من دور لتعاونيّة النور في هذا الموضوع؟ أيّ دور؟
- الانخراط في الانتاج العلميّ العربيّ، بحيث تكون مواضيع أبحاث المتخصّصين متوجّهة لحلّ مشاكل منطقتنا التنمويّة، وهو ما يتمّ على الصعيد الفرديّ وربّما يكون من المفيد لقاء الطاقات البحثيّة الحركيّة والكنسيّة للتشاور في الرؤى البحثيّة الممكنة.
- لقاء اللاهوت والمجتمع: لا تزال إطلالة معهد اللاهوت على العلوم خجولة. فجامعة أرثوذكسيّة، أو مركز بحثيّ أرثوذكسيّ، هي الأمكنة الأمثل لحدوث مثل هذا اللقاء بين اللاهوت والحضارة التي نعيش[2]، وبين اللاهوت والمجتمع الذي نحيا فيه. إلى أيّ مدى جامعة البلمند ومعهد اللاهوت هما كذلك[3]؟ ومن ناحية مدارسنا فإلى أيّ مدى تتجاوز مجرّد كونها مكان حشو للمعلومات لتصير مكان اهتمام بالإنسان؟ وما هي الظروف الموضوعيّة التي تمكّنها من هذا التجاوز؟ ومستشفياتنا هل تعكس طريقة حياة أرثوذكسيّة؟ أسئلة ملحّة ما تزال مطروحة.
5 المبدأ الخامس: تستنكر الحركة التعصّب الطائفيّ ولكّنها تعتبر التمسك بالمبادئ الأرثوذكسيّة شرطًا أساسيًّا لتوطيد الحياة الدينيّة وإيجاد روابط أخوية مع سائر الكنائس المسيحيةالرؤيـة الأرثوذكسيّة للعلاقات مع الغير لا تقبل المراوغة أو التلفيق. هكذا فالحركة تتمسّك بالإيمان الأرثوذكسيّ علّة وجودها ولكنّها تميّز بوضوح بين الإيمان والتعصّب، فبينما الإيمانُ الأرثوذكسيّ يعني اتّحاداً بالمسيح وخدمته بخدمة الناس أحبّائه، يكمن التعصّب بذهنيّة احتكار الله واستخدامه لأبشع الغايات مستعملين، بالطبع، أنبل الكلمات. ففي لبنان مثلاً، يحتّم إيماننا أن نواجه المشاريع السياسيّة الطائفيّة من مشاريع قوانين انتخابات وغيرها، وأن نسعى مع الساعين إلى تحويل البلاد إلى مجتمع مدنيّ لاطائفيّ، يحفظ إنسانيّة المواطن كمواطن.
على الصعيد المسيحيّ هذا يعني أنّه بينما يتمسّك الحركيّون بالإيمان المسيحيّ كما تسلّمته الكنيسة، فإنّهم يسعون في الآن عينه لتنقية تاريخ هذا الإيمان من غبار الشهوات والإسقاطات البشريّة. ويعملون على تجاوز الانشقاقات الحاصلة بين المسيحيين. وهذا يقتضي إعادة اكتشاف التراث الكنسيّ وتنقيته، ومن هنا أهمّية البحث اللاهوتيّ لأنّه يرفد الحوار مع الكنائس المسيحيّة ويعبّد طريق الوحدة[6].
على الصعيد العلاقات مع المسلمين فإنّ التمسّك بالإيمان يعني التعاون مع المسلمين لاكتشاف القواسم العمليّة المشتركة التي يمكن التعاون فيها لخدمة الناس، كما وللعمل المشترك من أجل تجاوز الحالة الطائفيّة القائمة على التعصّب الدينيّ المُنافي للإيمان. بالإضافة إلى ذلك فإنّ تفكّراً مشتركاً في مواجهة تحدّيات العلوم المُعاصرة وما وراء بعضها من فلسفات تبخّس الإنسان وتحوّله إلى شيء، يمكنه أن يشكّل أرضيّة لقاء وبحث. ولكن الحوار مع المسلمين ينبغي أن يتجاوز الكلام إلى الفعل في مشاريع ملموسة ومشتركة، ترفدها لقاءات بين شابات وشباب مسيحيّين ومسلمين.
أخيراً، هناك من الأرثوذكس (والمسيحيّين والمسلمين) مَن هو مؤمن لفظيّاً وملحد عمليّاً، وتسعى الحركة "لتنصير النصارى" بمعنى إيضاح التعليم الأرثوذكسيّ لبنات وأبناء الكنيسة الأرثوذكس، وقد تنجح حيناً وتفشل أحياناً أُخرى، ويبقى الإنسان في سرّ حرّيته وعلاقته بالله. ولكن هناك مَن هو ملحد فكريّاً وقريب من الله عمليّاً، فـ"كثيرون ممّن يُظنّون في الداخل هم في الخارج وكثيرون ممّن يُظنّون في الخارج هم في الداخل"، على حدّ قول أوريجنّس. لهذا تبقى قضيّة العلاقات مع الملحدين مسؤوليّة في أعناقنا، فكثير من الناس بشكل واعٍ تركوا الإيمان لقناعة فكريّة و/أو بخلفيّة وجدانيّة، أو كردّة فعل على ممارسات مدّعي الإيمان الذين ارتكبوا المجازر خلال الحرب اللبنانيّة باسم الإيمان والله. مع هؤلاء الملحدين، المخلصين للإنسان، يمكن للحركيّين أن يجدوا مجالات تعاون كثيرة في قضايا التزام شؤون الإنسان التي ذكرنا بعضها (العدالة الاجتماعيّة، تجاوز الحالة والنظام الطائفيَّيْن...). إنّ امتداد الحركيّين للتعاون مع المسلمين والملحدين يشكّل، برأيي، أملاً للمستقبل، وهو مسؤوليّة روحيّة.
6 المبدأ السادس: تتصل الحركة بالحركة الأرثوذكسيّة العالميّة وتتبع تعاليم الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة وتقليدها، كما أنها تساهم في نموّها المسكوني ورسالتها الإنسانيّة.على صعيد العلاقات مع الكنائس غير الأرثوذكسيّة، لا بدّ من متابعة الالتزام الحركيّ بالعمل المسكونيّة لأنّه يعني تجاوز الخوف: الخوف من الآخر، الخوف من الاختلاف، الخوف من مغامرة المحبّة .
على الصعيد العمل المسكونيّ في الإطار الأرثوذكسيّ (سيندسموس مثلاً)، أعتقد أنّ الحركة يمكنها أن تكون شاهدة في قلب العالم الأرثوذكسيّ ضدّ التعصّب الدينيّ، ومسؤوليّتها أن تنبّه من تجربة الخلط (القائمة في اوروبا الشرقيّة) بين الإيمان والقوميّة، وبين الإيمان والحدود الجغرافيّة، وكنيستنا الأنطاكيّة هي نموذج في هذا المجال، وأبرشيّة عكّار مثال حيّ. كما أنّه ينبغي للحركة أن تسعى إلى تحريك انعقاد المؤتمر الأرثوذكسيّ العام المزمع عقده منذ عشرات السنين.
أخيراً فنلاحظ أنّ طُرق التواصل المركّز حول العمل المسكونيّ لم تزل غائبة، ولم يزل الحركيّون والحركيّات بعيدين عن الأجواء المسكونيّة. هل من مجال لنشرة إخباريّة مسكونيّة في العربيّة تستخدم طرق الاتّصال عبر الإنترنت؟
هذه الأمور تتطلّب رؤيةً تتبنّاها أمانة عامّة، وحركيّات وحركيّين يرون أمامهم وجوه الآخرين مسؤوليّة محبّة، ويرون أنفسهم في اليوم الأوّل من إنشاء الحركة، فيبدعوا معاً من أجل توهيج ضوء الله في وجه كلّ إنسان، وهل من بوصلة أفضل من الوجه لمحبّة الله، وهل من أمر آخر غير محبّته تجعلنا نعيش الإيمان ونأوّن المبادئ؟
[1] فلاديمير لوسكي، “بحث في اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق”، تعريب نقولا أبو مراد، منشورات النّور، 2000، ص. 93
[2] في هذا الإطار تشكّل دراسة ماجستير في معهد اللاهوت لهيكتور أبويد، بإشراف الدكتورة في علم النفس نايلة نحّاس، حول العلاقة بين سرّ الاعتراف وبين الإستشارات النفسيّة، علامة فرح وأمل.
Spiritual Direction through Sacrament of Confession in the Orthodox Church and Psycho-Therapeutic Counseling: a comparative analysis, Hector Abouid, University of Balamand, 2010
[3] من المؤسف مثلاً أنّ مجلّة بأهمّية "المرقب" وفرادتها، الأرثوذكسيّة برأيي، والتي كانت تراقب الخطاب الطائفيّ في لبنان، وتصدر سنويّاً عن مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة في جامعة البلمند، قد توقّفت عن الصدور منذ أعوام.
[4] يقول الأب الدكتور جورج مسّوح "لم يدع المسيح الى اقصاء الله عن شؤون العالم بعامة والدولة بخاصة. بل اطلق المسيح تحديا كبيرا بوجه السلطة القائمة مفاده السؤال الآتي: هل يستطيع اي حكم ارضي ان يرقى الى مستوى الملكوت السماوي؟ هل يمكن تحقيق المكلوت السماوي في عالمنا الحاضر ام يجب انتظار اليوم الاخير لبلوغ هذا الامل؟ وهذا معنى ما ورد في صلاة "ابانا" التي علمها المسيح لتلاميذه، فعبارة "ليأت ملكوتك" تتطلب من قائلها أن يسعى بجهاد يومي لجعل هذا الملكوت حاضرا حيث يحيا، لا ان ينتظره بكسل وسلبية وكأن الامر لا يعنيه"(التشديد في النصّ مُضاف)
جورج مسّوح (الأب)، "خضوع مطلق لله وخضوع مشروط للسلطات"، صحيفة النهار، الأحد 5 تموز 2009
راجع أيضاً :
كوستي بندلي، "الإيمان والتحرير"، "الإيمان والتحرير: البعد الاجتماعيّ للحياة الروحيّة"، منشورات النّور، سلسلة الإنجيل على دروب العصر 13، طبعة ثانية، 1997
[5] المطران هيلدر كامارا، أحد روّاد لاهوت التحرير في البرازيل، حورب باتّهامه بالشيوعيّة وكان قد قال "عندما أخفّف من جوع الفقراء، يدعونني قدّيساً، وعندما أحلّل أسباب الجوع، يتّهمونني بالشيوعيّة"
كوستي بندلي، "النضال اللاعنفيّ: ملامح وصُوَر"، منشورات النور، 2000، ص. 219
[6] مثلاً، في مقال له حول القدّيس سمعان التسالونيكيّ، يظهر د. أسعد قطّان، أستاذ اللاهوت الأرثوذكسيّ، أنّ هذا القدّيس كان يعتبر أولويّة البابا، ذا وجه لاهوتيّ وليس إداريّ فقط، شرط محافظته على الإيمان القويم.
Assaad Elias Kattan, "Alors nous lui serons obéissants...comme au sauveur lui-même" Syméon de Thessalonique et la question de la primauté du pape de Rome, Istina, No1, 2009
راجع أيضاً:
أسعد قطّان، "«حلقة القدّيس إيريناوس» الأرثوذكسيّة-الكاثوليكيّة في اجتماعها الرابع"، مجلّة النور، السنة 63، العدد 9، ص. 471-474، 2007