هبة
إلهي ماتت هبة. يقولون ماتت من البرد، طفلة كانت، في العاشرة كانت، في خيمة كانت، والعاصفة حلّت بيننا، ونحن شعب ضائع أدمن الغياب. لم تمت هبة إلهي، قُتِلَت، قتلها أوّلاً السفّاح الذي هجّرها من بيتها، وقتلها ثانياً مَن تاجر بتهجيرها، وقتلتها حكومة تمعن في غرس رأسها في الرمال وفي تجارة الرقيق. وبإهمالنا وعجزنا نحمل أيضاً مسؤوليّة موت هبة. ماتت هبة. لحقت هبة بأطفال آخرين قضوا برداً على مدى الأشهر الماضية، في بلاد هجرتهم القسريّة.
إلهي. مسيحي. وكَّلْتَنا بالجائع، وكّلتنا بالعطشان، وكّلتنا بالمريض، وكّلتنا بالسجين، وكّلتنا بالضعيف، بالمظلوم، بكلّ واحد من إخوتك "الصغار". ونحن متلهّين بطوائفنا وبتمزيق بعضنا بعضاً باسم الإخلاص لك. وكّلتنا بالغريب، أنت الذي متّ كغريب، ونحن أهملنا أنفسنا وأهملنا الغريب.
هبة ماتت. أخفَت أشعَّتها، دسّت نظراتها في العتمة الأخيرة، ماتت وحجاب عارنا انشقَّ لموتها الطريّ، فأنت يا ربّ احضن تلك الغريبة. احضن تلك الغريبة التي في طفولتها تغرّبَت كغريبة. احضن يا الله تلك الغريبة التي لم نحتضنها، احضن تلك الغريبة التي حكم عليها أبناء وطنها وأبناء وطننا بالموت بُغضاً كغريبة، احضن تلك الغريبة التي نبكي حين نشاهدها ضيفةً على الموت. احضن تلك الغريبة التي لم نعرف أن نستضيفها كابنةٍ لك أختٍ لنا. احضنها هي التي يصرخ موتها فينا أنّ كنائسنا وجوامعنا وحكوماتنا ترمي معاطف كلمات كبيرة فوق مواقف حقيرة. احضن تلك الغريبة التي غرَّبتها أنانيّاتنا عن العالم. احضن تلك الغريبة التي نزَعَتْها عن العالم حجريّةُ قلوبنا لا العاصفة. احضن تلك الغريبة التي بما أنها غريبةٌ ليس لها مكان تسند إليه رأسها فأسندته للغياب. احضن تلك الغريبة التي بما أنّها غريبة كانت أنتَ، ولأنّها ماتت غريبة صارت أنتَ. احضن تلك الغريبة التي أنّ لحمُها في الهواء الثلجيّ: "إلهي إلهي لم تركتني؟". احضن تلك الغريبة التي لمّا رأتها أمّها ميتةً صرخت يا وجهَ إلهي لا تغيبي؟
إلهي، خنّاك وتركتناك. خنّا أنفسنا وتركناها. نجّنا منّا. نجّنا من انغلاقنا على جماعاتنا. نجّنا من انغلاق قلوبنا على أوطاننا ومواطنينا. نجّنا من انغلاق قلوبنا عن الغرباء. بات الانغلاق سمتنا يا ربّ. استعبَدَنا الانغلاقُ ونحن نتوّهم أنّنا أسياد أنفسنا. بات الانغلاق طريقة حياة لدينا : ننغلق على الملحدين ونظنّنا أفضل منهم فقط لأنّنا نعتقد بأنّك موجود. ننغلق على أولئك من الدين الآخر ونظنّنا أفضل منهم فقط لأنّهم ليسوا مثلنا. ننغلق على أولئك من الطائفة الأخرى ونظنّنا قويمون وهم ضالّون فقط لأنّهم مختلفين عنّا. ننغلق على أولئك من طائفتنا الذين لا يفكّرون مثلنا لأنّنا نرى أنفسنا ممتلكين الحقيقة، كلّ الحقيقة، عنك أنت كلَّك. ننغلق لأنّنا نظنّ بالفعل أنّنا نحتويك، ولو أنّنا نقول أنّك لا محدود.
انزلقنا يا ربّ إلى الانغلاق، إلى الدوران حول أنفسنا، فمُتنا وابتعدنا عنك. تلقّينا جحيم الحروب فنشرناه عوض أن نقاومه بالحبّ والبذل.
أنت المانح الحياة، امنحنا أن نرى ضوءَك أنتَ بضوئِك أنتَ. امنحنا ألاّ نسير بعد اليوم في ظلمة قلوبنا. امنحنا أن نرى عينيك في عيون الغرباء، ونتذوّق حلاوة الحياة معك في لقاء وجوههم. امنحنا أن يطلع نور معرفتك بالفعل في قلوبنا عندما نعرف أنّ كلّ محتاج هو أنت. امنحنا أن نكسر أصنام انغلاقاتنا الوطنيّة وانغلاقاتنا الدينيّة والطائفيّة والسياسيّة لنعود إليك أنت. أعطنا أن نخرج إلى هواء حرّيتك فنتحرّر من جنون شهواتنا القاتلة لنا ولغيرنا.
حرّرنا يا ربّ بالغُرباء من حجريّة قلوبنا. حوّل بعيونهم قلوبنا إلى قلوب لحميّة بفعل روحك المالئ الكلّ. امنحنا أن نتنشّق هواء الحبّ عوض أن نختنق بانغلاقاتنا الكثيرة. هَبنا أن نجسّد ولادتك بمشاركة إخوتنا فنحبّك بالفعل. هبنا أن نجعل معموديّة الروح حيّة في هذا العالم بتعميده بالحبّ النابع منك. علّمنا الحبّ أنت يا ملك الحبّ كي لا يكون إنسان بعد اليوم وحيدا، ولا يموت غريباً.
خريستو المرّ
٦ كانون الثاني ٢٠١٥
إلهي. مسيحي. وكَّلْتَنا بالجائع، وكّلتنا بالعطشان، وكّلتنا بالمريض، وكّلتنا بالسجين، وكّلتنا بالضعيف، بالمظلوم، بكلّ واحد من إخوتك "الصغار". ونحن متلهّين بطوائفنا وبتمزيق بعضنا بعضاً باسم الإخلاص لك. وكّلتنا بالغريب، أنت الذي متّ كغريب، ونحن أهملنا أنفسنا وأهملنا الغريب.
هبة ماتت. أخفَت أشعَّتها، دسّت نظراتها في العتمة الأخيرة، ماتت وحجاب عارنا انشقَّ لموتها الطريّ، فأنت يا ربّ احضن تلك الغريبة. احضن تلك الغريبة التي في طفولتها تغرّبَت كغريبة. احضن يا الله تلك الغريبة التي لم نحتضنها، احضن تلك الغريبة التي حكم عليها أبناء وطنها وأبناء وطننا بالموت بُغضاً كغريبة، احضن تلك الغريبة التي نبكي حين نشاهدها ضيفةً على الموت. احضن تلك الغريبة التي لم نعرف أن نستضيفها كابنةٍ لك أختٍ لنا. احضنها هي التي يصرخ موتها فينا أنّ كنائسنا وجوامعنا وحكوماتنا ترمي معاطف كلمات كبيرة فوق مواقف حقيرة. احضن تلك الغريبة التي غرَّبتها أنانيّاتنا عن العالم. احضن تلك الغريبة التي نزَعَتْها عن العالم حجريّةُ قلوبنا لا العاصفة. احضن تلك الغريبة التي بما أنها غريبةٌ ليس لها مكان تسند إليه رأسها فأسندته للغياب. احضن تلك الغريبة التي بما أنّها غريبة كانت أنتَ، ولأنّها ماتت غريبة صارت أنتَ. احضن تلك الغريبة التي أنّ لحمُها في الهواء الثلجيّ: "إلهي إلهي لم تركتني؟". احضن تلك الغريبة التي لمّا رأتها أمّها ميتةً صرخت يا وجهَ إلهي لا تغيبي؟
إلهي، خنّاك وتركتناك. خنّا أنفسنا وتركناها. نجّنا منّا. نجّنا من انغلاقنا على جماعاتنا. نجّنا من انغلاق قلوبنا على أوطاننا ومواطنينا. نجّنا من انغلاق قلوبنا عن الغرباء. بات الانغلاق سمتنا يا ربّ. استعبَدَنا الانغلاقُ ونحن نتوّهم أنّنا أسياد أنفسنا. بات الانغلاق طريقة حياة لدينا : ننغلق على الملحدين ونظنّنا أفضل منهم فقط لأنّنا نعتقد بأنّك موجود. ننغلق على أولئك من الدين الآخر ونظنّنا أفضل منهم فقط لأنّهم ليسوا مثلنا. ننغلق على أولئك من الطائفة الأخرى ونظنّنا قويمون وهم ضالّون فقط لأنّهم مختلفين عنّا. ننغلق على أولئك من طائفتنا الذين لا يفكّرون مثلنا لأنّنا نرى أنفسنا ممتلكين الحقيقة، كلّ الحقيقة، عنك أنت كلَّك. ننغلق لأنّنا نظنّ بالفعل أنّنا نحتويك، ولو أنّنا نقول أنّك لا محدود.
انزلقنا يا ربّ إلى الانغلاق، إلى الدوران حول أنفسنا، فمُتنا وابتعدنا عنك. تلقّينا جحيم الحروب فنشرناه عوض أن نقاومه بالحبّ والبذل.
أنت المانح الحياة، امنحنا أن نرى ضوءَك أنتَ بضوئِك أنتَ. امنحنا ألاّ نسير بعد اليوم في ظلمة قلوبنا. امنحنا أن نرى عينيك في عيون الغرباء، ونتذوّق حلاوة الحياة معك في لقاء وجوههم. امنحنا أن يطلع نور معرفتك بالفعل في قلوبنا عندما نعرف أنّ كلّ محتاج هو أنت. امنحنا أن نكسر أصنام انغلاقاتنا الوطنيّة وانغلاقاتنا الدينيّة والطائفيّة والسياسيّة لنعود إليك أنت. أعطنا أن نخرج إلى هواء حرّيتك فنتحرّر من جنون شهواتنا القاتلة لنا ولغيرنا.
حرّرنا يا ربّ بالغُرباء من حجريّة قلوبنا. حوّل بعيونهم قلوبنا إلى قلوب لحميّة بفعل روحك المالئ الكلّ. امنحنا أن نتنشّق هواء الحبّ عوض أن نختنق بانغلاقاتنا الكثيرة. هَبنا أن نجسّد ولادتك بمشاركة إخوتنا فنحبّك بالفعل. هبنا أن نجعل معموديّة الروح حيّة في هذا العالم بتعميده بالحبّ النابع منك. علّمنا الحبّ أنت يا ملك الحبّ كي لا يكون إنسان بعد اليوم وحيدا، ولا يموت غريباً.
خريستو المرّ
٦ كانون الثاني ٢٠١٥