نيقولا لوقا
كيف يكتب المسافر عن المسافر؟
كنّا في حوالي السابعة عشر عندما التقينا. في فرقة في "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة". لا أعرف مَن الذي دعا نيقولا إلى الانتساب إلى الفرقة، لكنّي أعتقد أنّ نيقولا انتسب إلى الفرقة وعاشها في البداية كمسافر في سفينة، وبدا لي أنّه عاش وجوديّاً تلك البداية كإنسان نزل على جزيرة غريبة أو مرّ في عاصفة، إلى أن وقع من عيني قلبه، مع الوقت، وبعد كثير من الصراع الصادق، شيءٌ كأنه قشور، فرأى، وبات بحّاراً، فقبطان سفينة.
لم يكن يوماً فاتراً، حتّى عندما كنّا على ضفّتين من رؤية الوجود، كان وبقي كالنار في كلّ التزام له. فكان مخلصاً في ما صار يراه خطأً إيمانيّاً، وبقي مخلصاً في الحقّ الإنجيليّ، ولهذا تمكّن الروح أن يتكلّم فيه إذ شفّ أمام الروح. نقاشاتنا الأولى لا أذكرها، ولكن أذكر مشاويرنا المسائيّة الطويلة جدّاً قرب مدرسة مار الياس. ولكن ما متّن صداقتنا لم تكن فقط خبرة الفرقة، وإنّما خبرة الفريق الصلاتيّ. والفريق الصلاتي مجموعة تجتمع مرّة في الأسبوع لتبني علاقة مع يسوع، من خلال التأمّل في كلامه وحياته وما الذي يعنيه هذين لي اليوم في حياتي اليوميّة، ومن خلال الصلاة التي تلي التأمّل. والتأمّل كانت ركيزته مقاطع من الكتاب، ولكنّ حضور كوستي بندلي المؤسِّس لتلك الخبرة، فتح لنا باب التأمّل أيضاً في شعر طاغور الهندوسيّ، والحديث الشريف الإسلاميّ، وشيء من الأدب الديني اليهوديّ. هناك التقينا نيقولا والأصدقاء وأنا، وهناك مدّ الله لنا سلالم السماء لنصعد إليه، ومددنا إليه سلالم القلوب لينزل إلينا. هناك كان القلب باب، وكان المفتاح عينيّ يسوع في أيقونة بسيطة.
كمعظمنا خبرة نيقولا في ذاك الفريق كانت عاملاً حاسماً في حياته، كانت خبرة حاسمة في تحوّله من إيمان عقلي إلى إيمان شخصّيّ، في حضن مجموعة كان كلّ اجتماع لها اجتماعاً أوّل. والضوء الذي بدا لنا في تلك "العلّية" من حركة الشبيبة، في الميناء، حمله نيقولا فرَحاً في حياته. هو لم يقل شيئاً لريتا، ولم يكن بينه وبين صديقته ريتا بندقيّة، وإنّما شيءٌ لم يكن يعرفه هو، ولاحظته هي. شيء غريب، فرحٌ غامض كان يضيء في يوم محدّد من كلّ أسبوع، سألته ريتا عن سرّ ذلك الشيء الغريب الذي يبدو فيه كلّ أسبوع. تفاجأ نيقولا، فكّر، ولم يجد جوابا سوى أنّه منتسب لفريق صلاتي يجتمع مساء كلّ أربعاء، ودعاها لتأتي وتنظر. وأتت ريتا، وانضمّت للفريق، مضيفة إليه لمستها من الشفافيّة النادرة. هكذا صار نيقولا رسولاً دون أن يريد، ولم يضطرّ كالنبيّ إرميا أن يدخل مع الله في جدل حول عمره الفتيّ، فالله تكلّم فيه دون أن يدري. ولكنّ جدل قلبه مع الله كان حول الحقيقة، حقيقة الإنسان وحقيقة الإيمان، وهذا جدل وجوديّ عاشه في الفرقة وفي الفريق، ولا يزال يعيشه حتّى اليوم، وهو دليل إيمان شخصيّ واعٍ.
في الفريق كان لنيقولا أثراً ملموسا ليس فقط في اشتراكه كالجميع في بناء جوّ الثقة والمحبّة والصداقة التي طبعت الجميع وإنّما في بضعة أمور عمليّة نحمل طابعه الشخصيّ المغيّر للأمور حوله، إذ لا يرضى نيقولا أن تبقى الأمور عما هي عليه بل يحاول دائماً أن يغيّر الواقع نحو الأفضل. فقد بنى مثلاً للفريق، من مواد أوليّة جدّ بسيطة، علبة نضع فيها الرمل، حيث يضيء كلّ شخص شمعته. فقد كنّا نوزّع شموعا على بعضنا البعض في بداية اللقاء، ويشعل كلّ منّا شمعته، إمّا عند انتهائه من صلاته العفوية أو للإشارة إلى عدم الرغبة بالصلاة في تلك الأمسية. فكنّا نعرف أنّ أمسيتنا اختتمت عندما نرى جميع الشموع مضاءة.
خلال دراستنا الجامعيّة كنّا نمشي كثيراً عند ذلك الكورنيش الترابيّ قرب مدرسة مار الياس، نتحدّث كثيراً حول شؤون وشجون الإنسان والله، وشؤوننا بالطبع. ومن أجمل ما كنّا نتحدّث فيه، بالنسبة لي، هو الفيزياء، ونيقولا كان يتخصّص في الفيزياء. كنت أسأل ونيقولا عن آخر الأمور في علوم الفضاء وفيزياء الكمّ، ونيقولا يتحدّث عن الأمور التي يتعلّمها، الانفجار الأوّل، الذرة، الكوارتز، النجوم، الثقوب السوداء، الثقوب البيضاء، المادة القاتمة الخفيّة (dark matter) التي نعرف علميّاً أنّها موجودة ولكن لم نرها ولا بآلة حتّى الآن... أحياناً كنت أسأله عن بعض الأمور من جديد لأستعيد جمال الكون الحاضر في الفيزياء. بالنسبة لي حديث نيقولا في الفيزياء كان حديثاً مباشراً في الشعر، شعر الله "شاعر الأرض والسماء". نيقولا يتكلّم الفيزياء وأنا أسمع شعراً، وأرى تلك النجوم التي كان يبدو وهجها أفضل من اليوم لعدم وجود إنارة في تلك المنطقة من الكورنيش في ذلك الحين، كنت أرى تلك النجوم قصائدَ فوقنا نحن الشابين اليافعين اللذين كانا يكتشفان الله والإنسان في بحار الصداقة.
كان نيقولا يتحدّث بشغف كبير ويجول في تلك العلوم جولة إنسان يحبّ ما يعمل، ولا يدرس فقط لينجح. تواصلت محبّة نيقولا لتلك للعلوم وبدت جليّة بمحاولاته الحثيثة للحصول على منحة لإكمال دراسة الدكتوراة في علوم الفيزياء، ونجح بذلك بعد سعي هائل وإصرار لم أر مثيله، وكم من أبواب فتحت ثمّ أغلقت وهو لم يتراجع (حصل مرّة على منحة، ولكن أرسلت له أوراقها إلى طرابلس... الغرب، فضاعت المنحة). كان نيقولا أوّلنا في الذهاب إلى فرنسا، والذي سعى من أجلنا كي نسافر، وفتح لنا الطريق. ابتدأ دراسته في فرنسا مع أستاذه في الجامعة اللبنانيّة، كريم علاّف، الذي اضطرّ للهجرة مع تدهور أوضاع الأساتذة في الجامعة اللبنانيّة، وكريم اختار نيقولا ليكون في فريقه البحثيّ، لما رأى فيه من مواهب علميّة، وشخصيّة إنسانيّة نادرة. لم يخيّب نيقولا أستاذه ولا ذاته. عمل على مشروع لم يتمكّن مَنْ سَبَقه في البحث فيه، من الوصول إلى نتائج، أمّا نيقولا فوصل إلى فرنسا، ووضع في بضعة أشهر اختراعه الأوّل في تجفيف المواد الغذائيّة، ممّا أكسبه احتراماً علميّاً في فريق العمل، وأطلقه في طريقه الخاص في البحث العلميّ، ودفعه في الحياة إلى عيش طاقات كانت بادية فيه على مستوى أعلى.
لم يكن نيقولا شابا عاديّاً. كان ملتزماً، ومواهبه القياديّة كانت جليّة برأي منذ ذلك الحين. فقد التزم في حركة "شمس" (شباب ومعوّقين من أجل السلام) التي أسّسها في منتصف الثمانينات نوّاف كبّارة في طرابلس. هناك تألّق نيقولا في روح نضاليّة بادية، وفكر متّقد عمليّ، وبرز في قيادة ذلك المشروع فكان في الحلقة الأقرب إلى نوّاف كبّارة. تعلّمنا الكثير من تلك الخبرة، وربّما أهمّ ما تعلّمناه هو التزام الناس، والشجاعة التي تطلّبها القيام بتحرّك وقت كان التحرّك يكاد يكون مقامرة بالحياة. قمنا مثلاً بالاعتصام الوحيد في لبنان مساء 16 أيّار 1989 استنكارا لاغتيال مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد، رغم شكوكنا بأنّنا كنّا نتظاهر أمام الناس الذين كانوا وراء اغتياله.
في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة شجاعة نيقولا قادته يوماً لطروحات جذريّة، ففجّر في إحدى الأيّام معنويّاً، اجتماعا لأحد الأمناء العامّين السابقين، بسبب محاولة هذا الأخير التصرّف بوصاية مع الموجودين بينما طرح نيقولا بحدة بأن يؤخذ رأي المجتمعين. نيقولا، هو أحد حاملي النور في هذا العالم، دون كلام ومن خلال الطريقة التي يتصرّف بها، وكذلك من خلال المواجهة إن اقتضت الظروف هذا.
أهل نيقولا لهم مكان محبّب في قلبي، والدته، إم ساسين، من ألطف الناس الذين التقيتهم، أبو ساسين كان يهتمّ بتقديم النصائح بخفر دون تدخّل. وأتيح لي أن أتعرّف إلى إخوته وأخواته وأشعروني أنّي فردٌ من أفراد العائلة بدون تحفّظ، أشخاص بلا حصون، تشعرهم حقولاً مفتوحة، وشواطئ تدفعك للرسوّ من أجل قليل من الراحة. مع الوقت أتيح لي أن أضحك معهم كثيراً. كم من مرّة اتّصلت بالهاتف وردّت أخته سلام وظنّتني نيقولا وبدأت الحديث معي على هذا الأساس، يبدو أنّ صوتي على الهاتف يشبه صوته في أذنيها، ولم أكن أستغلّ الفرصة للكلام كنيقولا أكثر من لحظات قليلة قبل أن أصرّح لها عن هوّيتي الحقيقيّة، ونضحك. أنا متأكّد أنّي لو رفعت السمّاعة الآن وكلّمت سلام ستظنّني نيقولا. من أجمل الأمسيات تلك التي كنّا نقضيها في منزل أخيه الياس، كان الهدوء رائعاً، ونادراً، والسلام العميق يعمّ المكان، وكنّا نتكلّم حتّى السكر من النعاس.
كان طعم الشاي مميّزاً في غرفة نيقولا في منزل الوالدين، تلك الغرفة التي شمعت جدرانها الكثير من آلامنا وأحلامنا ومشاريعنا وخططنا وكثير من شعر نزار قبّاني الذي كان نيقولا يحبّه. في تلك الغرفة كنّا نجتمع ساعات مساءً لنتحدّث بأمور الدنيا والحركة والحبّ والفشل والأمل. وقد شاركنا تلك الجلسات بعض الأصدقاء، ما زلت أذكر إحدى الجلسات المحبّبة التي شاركتنا فيها صديقتنا العزيزة ليليان قطرميز حول الشاي بالقرفة والأمل. مَن لم يعش طعم الصداقة فاته الشيء الكثير من الفرح ومن الأمل في الحياة، وهذا يثير فيّ الحزن.
هناك مدى من الصداقة يمكن أن يبلغه الإنسان بحيث تنتفي الدينونة بين الأصدقاء، ويبقى الإصغاء المتعاطف فقط. هذا عشناه كثيراً. أذكر أنّه في إحدى الأمسيات، في منزل أهلي، اشتركنا نيقولا وصديقنا حميد [الدبس] وأنا، بفنجان شاي مسائيّ، وبجلسة عميقة وصل خلالها كلّ فينا بحديثه عن نفسه إلى تخوم عتماتها الأخيرة، وكان كلّ شيئاً بسيطاً ومضيئاً وبلا دينونة. اكاد أجزم أنّه لا يمكن اختبار الإيمان بالله دون اختبار الصداقة، بالطبع الحبّ الوالديّ له أولويّة زمنيّة، ولكن لمن لم يختبر حبّا والديّاً سليماً، الصداقة هي التي يمكن أن تنعشه وتنميه إنسانيّاً وهي الخلفيّة التي يمكن عليها أن ينشأ الإيمان. وبالإضافة إلى الصداقة هناك الحبّ، مطرح الخبرة الأعمق لكلّ شيء.
من أكثر ما يميّز نيقولا هو البحث عن الحقيقة، وعدم القبول بالمتّفق عليه، والانفتاح الواسع، ليس فقط على الأفكار وإنّما أيضاً على الشخصيّات المختلفة. قادر على استيعاب الآخر إذا كان مجروحا، وقادر على مواجهته إذا كان ضروريّاً. وهو طالما أبقى الطريق مفتوحاً أمام الآخرين وحاول ألاّ يصل إلى قطيعة، وكنت أرى في كلّ ذلك نيقولا يتجاوز حتّى أعصابه نفسها.
عمل أستاذا جامعيّاً وباحثا في فرنسا، ولكنّه ضحّى مع زوجته إسبرانس بهناء العيش الكريم لهما ولأولادهما، تركا فرنسا وعادا إلى لبنان حيث يعملان. وهما في حبّهما شهادة للفرح في هذا العالم. حضوره كباحث في جامعته يستدلّ إليه من تقدّمه الدائم فيها. وفي السنوات الأخيرة ألقيت عليه مسؤوليّات عديدة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في العمل الكنسيّ. هو محاور حازم ومنطقي، ولهذا لست أدري مَن كان يمكنه أن يحمل على عاتقه بشكل أفضل من نيقولا مهمّة قيادة "اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسي"، الذي يجمع شخصيّات مختلفة ومتضاربة المسارات، للبحث في قضيّة إشراك المؤمنين الأرثوذكس في إدارة شؤونهم في كنيستهم، وهم حتّى اليوم مُقصَوْن عن هكذا إشراك، إذ تزال القيادات الكنسيّة تمعن في التوغّل في العتمة.
نيقولا صاحب نكتة، إنسان لطيف، ومرشد حركيّ مُطلِقٌ للحياة في الذين يرشدهم، دافئ، وحامل لهمّ المسيح في هذا العالم. صديق لكوستي بندلي مميّز، وقف إلى جانبه حتّى آخر يوم، وأنعش بندلي دائماً بحضوره المُحِبّ والمعتني.
لا نتحادث نيقولا وأنا بشكل متواصل ومخطّط له مسبقا، ومع ذلك نحن في حوار دائم. وعندما نلتقي نتابع كأنّا لم ننقطع، كتبت يوماً أنّ هذا الواقع هو أعجوبة يوميّة مع الأصدقاء، وهو كذلك. هناك رصيداً لا ينضب من الثقة لدى كلّ منّا بالآخر، وهذا أمر نادر.
أتينا مع أصدقاء آخرين، من حارات المدينة القديمة، ومن الفقر، ومن الضياع، جمعتنا حركة الشبيبة ودلّتنا إلى وجه يسوع والإنسان، وفتحت لنا مجالا لنكتشف أنفسنا، وقرّرنا أنّ مهمّتنا: أن تكون حولنا الحياة وتكون أوفر. ونيقولا ما يزال يحرّك الحياة في بركة العالم، ويحمل إليها على كتفيه كلّ مُشتاق، كي يعتمد فيها أو يشرب. أكمل هذا الطريق، يا صديق، يا رفيق، يا رفيق الله والإنسان.
خريستو المرّ
العشرون من آب 2015
كنّا في حوالي السابعة عشر عندما التقينا. في فرقة في "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة". لا أعرف مَن الذي دعا نيقولا إلى الانتساب إلى الفرقة، لكنّي أعتقد أنّ نيقولا انتسب إلى الفرقة وعاشها في البداية كمسافر في سفينة، وبدا لي أنّه عاش وجوديّاً تلك البداية كإنسان نزل على جزيرة غريبة أو مرّ في عاصفة، إلى أن وقع من عيني قلبه، مع الوقت، وبعد كثير من الصراع الصادق، شيءٌ كأنه قشور، فرأى، وبات بحّاراً، فقبطان سفينة.
لم يكن يوماً فاتراً، حتّى عندما كنّا على ضفّتين من رؤية الوجود، كان وبقي كالنار في كلّ التزام له. فكان مخلصاً في ما صار يراه خطأً إيمانيّاً، وبقي مخلصاً في الحقّ الإنجيليّ، ولهذا تمكّن الروح أن يتكلّم فيه إذ شفّ أمام الروح. نقاشاتنا الأولى لا أذكرها، ولكن أذكر مشاويرنا المسائيّة الطويلة جدّاً قرب مدرسة مار الياس. ولكن ما متّن صداقتنا لم تكن فقط خبرة الفرقة، وإنّما خبرة الفريق الصلاتيّ. والفريق الصلاتي مجموعة تجتمع مرّة في الأسبوع لتبني علاقة مع يسوع، من خلال التأمّل في كلامه وحياته وما الذي يعنيه هذين لي اليوم في حياتي اليوميّة، ومن خلال الصلاة التي تلي التأمّل. والتأمّل كانت ركيزته مقاطع من الكتاب، ولكنّ حضور كوستي بندلي المؤسِّس لتلك الخبرة، فتح لنا باب التأمّل أيضاً في شعر طاغور الهندوسيّ، والحديث الشريف الإسلاميّ، وشيء من الأدب الديني اليهوديّ. هناك التقينا نيقولا والأصدقاء وأنا، وهناك مدّ الله لنا سلالم السماء لنصعد إليه، ومددنا إليه سلالم القلوب لينزل إلينا. هناك كان القلب باب، وكان المفتاح عينيّ يسوع في أيقونة بسيطة.
كمعظمنا خبرة نيقولا في ذاك الفريق كانت عاملاً حاسماً في حياته، كانت خبرة حاسمة في تحوّله من إيمان عقلي إلى إيمان شخصّيّ، في حضن مجموعة كان كلّ اجتماع لها اجتماعاً أوّل. والضوء الذي بدا لنا في تلك "العلّية" من حركة الشبيبة، في الميناء، حمله نيقولا فرَحاً في حياته. هو لم يقل شيئاً لريتا، ولم يكن بينه وبين صديقته ريتا بندقيّة، وإنّما شيءٌ لم يكن يعرفه هو، ولاحظته هي. شيء غريب، فرحٌ غامض كان يضيء في يوم محدّد من كلّ أسبوع، سألته ريتا عن سرّ ذلك الشيء الغريب الذي يبدو فيه كلّ أسبوع. تفاجأ نيقولا، فكّر، ولم يجد جوابا سوى أنّه منتسب لفريق صلاتي يجتمع مساء كلّ أربعاء، ودعاها لتأتي وتنظر. وأتت ريتا، وانضمّت للفريق، مضيفة إليه لمستها من الشفافيّة النادرة. هكذا صار نيقولا رسولاً دون أن يريد، ولم يضطرّ كالنبيّ إرميا أن يدخل مع الله في جدل حول عمره الفتيّ، فالله تكلّم فيه دون أن يدري. ولكنّ جدل قلبه مع الله كان حول الحقيقة، حقيقة الإنسان وحقيقة الإيمان، وهذا جدل وجوديّ عاشه في الفرقة وفي الفريق، ولا يزال يعيشه حتّى اليوم، وهو دليل إيمان شخصيّ واعٍ.
في الفريق كان لنيقولا أثراً ملموسا ليس فقط في اشتراكه كالجميع في بناء جوّ الثقة والمحبّة والصداقة التي طبعت الجميع وإنّما في بضعة أمور عمليّة نحمل طابعه الشخصيّ المغيّر للأمور حوله، إذ لا يرضى نيقولا أن تبقى الأمور عما هي عليه بل يحاول دائماً أن يغيّر الواقع نحو الأفضل. فقد بنى مثلاً للفريق، من مواد أوليّة جدّ بسيطة، علبة نضع فيها الرمل، حيث يضيء كلّ شخص شمعته. فقد كنّا نوزّع شموعا على بعضنا البعض في بداية اللقاء، ويشعل كلّ منّا شمعته، إمّا عند انتهائه من صلاته العفوية أو للإشارة إلى عدم الرغبة بالصلاة في تلك الأمسية. فكنّا نعرف أنّ أمسيتنا اختتمت عندما نرى جميع الشموع مضاءة.
خلال دراستنا الجامعيّة كنّا نمشي كثيراً عند ذلك الكورنيش الترابيّ قرب مدرسة مار الياس، نتحدّث كثيراً حول شؤون وشجون الإنسان والله، وشؤوننا بالطبع. ومن أجمل ما كنّا نتحدّث فيه، بالنسبة لي، هو الفيزياء، ونيقولا كان يتخصّص في الفيزياء. كنت أسأل ونيقولا عن آخر الأمور في علوم الفضاء وفيزياء الكمّ، ونيقولا يتحدّث عن الأمور التي يتعلّمها، الانفجار الأوّل، الذرة، الكوارتز، النجوم، الثقوب السوداء، الثقوب البيضاء، المادة القاتمة الخفيّة (dark matter) التي نعرف علميّاً أنّها موجودة ولكن لم نرها ولا بآلة حتّى الآن... أحياناً كنت أسأله عن بعض الأمور من جديد لأستعيد جمال الكون الحاضر في الفيزياء. بالنسبة لي حديث نيقولا في الفيزياء كان حديثاً مباشراً في الشعر، شعر الله "شاعر الأرض والسماء". نيقولا يتكلّم الفيزياء وأنا أسمع شعراً، وأرى تلك النجوم التي كان يبدو وهجها أفضل من اليوم لعدم وجود إنارة في تلك المنطقة من الكورنيش في ذلك الحين، كنت أرى تلك النجوم قصائدَ فوقنا نحن الشابين اليافعين اللذين كانا يكتشفان الله والإنسان في بحار الصداقة.
كان نيقولا يتحدّث بشغف كبير ويجول في تلك العلوم جولة إنسان يحبّ ما يعمل، ولا يدرس فقط لينجح. تواصلت محبّة نيقولا لتلك للعلوم وبدت جليّة بمحاولاته الحثيثة للحصول على منحة لإكمال دراسة الدكتوراة في علوم الفيزياء، ونجح بذلك بعد سعي هائل وإصرار لم أر مثيله، وكم من أبواب فتحت ثمّ أغلقت وهو لم يتراجع (حصل مرّة على منحة، ولكن أرسلت له أوراقها إلى طرابلس... الغرب، فضاعت المنحة). كان نيقولا أوّلنا في الذهاب إلى فرنسا، والذي سعى من أجلنا كي نسافر، وفتح لنا الطريق. ابتدأ دراسته في فرنسا مع أستاذه في الجامعة اللبنانيّة، كريم علاّف، الذي اضطرّ للهجرة مع تدهور أوضاع الأساتذة في الجامعة اللبنانيّة، وكريم اختار نيقولا ليكون في فريقه البحثيّ، لما رأى فيه من مواهب علميّة، وشخصيّة إنسانيّة نادرة. لم يخيّب نيقولا أستاذه ولا ذاته. عمل على مشروع لم يتمكّن مَنْ سَبَقه في البحث فيه، من الوصول إلى نتائج، أمّا نيقولا فوصل إلى فرنسا، ووضع في بضعة أشهر اختراعه الأوّل في تجفيف المواد الغذائيّة، ممّا أكسبه احتراماً علميّاً في فريق العمل، وأطلقه في طريقه الخاص في البحث العلميّ، ودفعه في الحياة إلى عيش طاقات كانت بادية فيه على مستوى أعلى.
لم يكن نيقولا شابا عاديّاً. كان ملتزماً، ومواهبه القياديّة كانت جليّة برأي منذ ذلك الحين. فقد التزم في حركة "شمس" (شباب ومعوّقين من أجل السلام) التي أسّسها في منتصف الثمانينات نوّاف كبّارة في طرابلس. هناك تألّق نيقولا في روح نضاليّة بادية، وفكر متّقد عمليّ، وبرز في قيادة ذلك المشروع فكان في الحلقة الأقرب إلى نوّاف كبّارة. تعلّمنا الكثير من تلك الخبرة، وربّما أهمّ ما تعلّمناه هو التزام الناس، والشجاعة التي تطلّبها القيام بتحرّك وقت كان التحرّك يكاد يكون مقامرة بالحياة. قمنا مثلاً بالاعتصام الوحيد في لبنان مساء 16 أيّار 1989 استنكارا لاغتيال مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد، رغم شكوكنا بأنّنا كنّا نتظاهر أمام الناس الذين كانوا وراء اغتياله.
في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة شجاعة نيقولا قادته يوماً لطروحات جذريّة، ففجّر في إحدى الأيّام معنويّاً، اجتماعا لأحد الأمناء العامّين السابقين، بسبب محاولة هذا الأخير التصرّف بوصاية مع الموجودين بينما طرح نيقولا بحدة بأن يؤخذ رأي المجتمعين. نيقولا، هو أحد حاملي النور في هذا العالم، دون كلام ومن خلال الطريقة التي يتصرّف بها، وكذلك من خلال المواجهة إن اقتضت الظروف هذا.
أهل نيقولا لهم مكان محبّب في قلبي، والدته، إم ساسين، من ألطف الناس الذين التقيتهم، أبو ساسين كان يهتمّ بتقديم النصائح بخفر دون تدخّل. وأتيح لي أن أتعرّف إلى إخوته وأخواته وأشعروني أنّي فردٌ من أفراد العائلة بدون تحفّظ، أشخاص بلا حصون، تشعرهم حقولاً مفتوحة، وشواطئ تدفعك للرسوّ من أجل قليل من الراحة. مع الوقت أتيح لي أن أضحك معهم كثيراً. كم من مرّة اتّصلت بالهاتف وردّت أخته سلام وظنّتني نيقولا وبدأت الحديث معي على هذا الأساس، يبدو أنّ صوتي على الهاتف يشبه صوته في أذنيها، ولم أكن أستغلّ الفرصة للكلام كنيقولا أكثر من لحظات قليلة قبل أن أصرّح لها عن هوّيتي الحقيقيّة، ونضحك. أنا متأكّد أنّي لو رفعت السمّاعة الآن وكلّمت سلام ستظنّني نيقولا. من أجمل الأمسيات تلك التي كنّا نقضيها في منزل أخيه الياس، كان الهدوء رائعاً، ونادراً، والسلام العميق يعمّ المكان، وكنّا نتكلّم حتّى السكر من النعاس.
كان طعم الشاي مميّزاً في غرفة نيقولا في منزل الوالدين، تلك الغرفة التي شمعت جدرانها الكثير من آلامنا وأحلامنا ومشاريعنا وخططنا وكثير من شعر نزار قبّاني الذي كان نيقولا يحبّه. في تلك الغرفة كنّا نجتمع ساعات مساءً لنتحدّث بأمور الدنيا والحركة والحبّ والفشل والأمل. وقد شاركنا تلك الجلسات بعض الأصدقاء، ما زلت أذكر إحدى الجلسات المحبّبة التي شاركتنا فيها صديقتنا العزيزة ليليان قطرميز حول الشاي بالقرفة والأمل. مَن لم يعش طعم الصداقة فاته الشيء الكثير من الفرح ومن الأمل في الحياة، وهذا يثير فيّ الحزن.
هناك مدى من الصداقة يمكن أن يبلغه الإنسان بحيث تنتفي الدينونة بين الأصدقاء، ويبقى الإصغاء المتعاطف فقط. هذا عشناه كثيراً. أذكر أنّه في إحدى الأمسيات، في منزل أهلي، اشتركنا نيقولا وصديقنا حميد [الدبس] وأنا، بفنجان شاي مسائيّ، وبجلسة عميقة وصل خلالها كلّ فينا بحديثه عن نفسه إلى تخوم عتماتها الأخيرة، وكان كلّ شيئاً بسيطاً ومضيئاً وبلا دينونة. اكاد أجزم أنّه لا يمكن اختبار الإيمان بالله دون اختبار الصداقة، بالطبع الحبّ الوالديّ له أولويّة زمنيّة، ولكن لمن لم يختبر حبّا والديّاً سليماً، الصداقة هي التي يمكن أن تنعشه وتنميه إنسانيّاً وهي الخلفيّة التي يمكن عليها أن ينشأ الإيمان. وبالإضافة إلى الصداقة هناك الحبّ، مطرح الخبرة الأعمق لكلّ شيء.
من أكثر ما يميّز نيقولا هو البحث عن الحقيقة، وعدم القبول بالمتّفق عليه، والانفتاح الواسع، ليس فقط على الأفكار وإنّما أيضاً على الشخصيّات المختلفة. قادر على استيعاب الآخر إذا كان مجروحا، وقادر على مواجهته إذا كان ضروريّاً. وهو طالما أبقى الطريق مفتوحاً أمام الآخرين وحاول ألاّ يصل إلى قطيعة، وكنت أرى في كلّ ذلك نيقولا يتجاوز حتّى أعصابه نفسها.
عمل أستاذا جامعيّاً وباحثا في فرنسا، ولكنّه ضحّى مع زوجته إسبرانس بهناء العيش الكريم لهما ولأولادهما، تركا فرنسا وعادا إلى لبنان حيث يعملان. وهما في حبّهما شهادة للفرح في هذا العالم. حضوره كباحث في جامعته يستدلّ إليه من تقدّمه الدائم فيها. وفي السنوات الأخيرة ألقيت عليه مسؤوليّات عديدة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في العمل الكنسيّ. هو محاور حازم ومنطقي، ولهذا لست أدري مَن كان يمكنه أن يحمل على عاتقه بشكل أفضل من نيقولا مهمّة قيادة "اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسي"، الذي يجمع شخصيّات مختلفة ومتضاربة المسارات، للبحث في قضيّة إشراك المؤمنين الأرثوذكس في إدارة شؤونهم في كنيستهم، وهم حتّى اليوم مُقصَوْن عن هكذا إشراك، إذ تزال القيادات الكنسيّة تمعن في التوغّل في العتمة.
نيقولا صاحب نكتة، إنسان لطيف، ومرشد حركيّ مُطلِقٌ للحياة في الذين يرشدهم، دافئ، وحامل لهمّ المسيح في هذا العالم. صديق لكوستي بندلي مميّز، وقف إلى جانبه حتّى آخر يوم، وأنعش بندلي دائماً بحضوره المُحِبّ والمعتني.
لا نتحادث نيقولا وأنا بشكل متواصل ومخطّط له مسبقا، ومع ذلك نحن في حوار دائم. وعندما نلتقي نتابع كأنّا لم ننقطع، كتبت يوماً أنّ هذا الواقع هو أعجوبة يوميّة مع الأصدقاء، وهو كذلك. هناك رصيداً لا ينضب من الثقة لدى كلّ منّا بالآخر، وهذا أمر نادر.
أتينا مع أصدقاء آخرين، من حارات المدينة القديمة، ومن الفقر، ومن الضياع، جمعتنا حركة الشبيبة ودلّتنا إلى وجه يسوع والإنسان، وفتحت لنا مجالا لنكتشف أنفسنا، وقرّرنا أنّ مهمّتنا: أن تكون حولنا الحياة وتكون أوفر. ونيقولا ما يزال يحرّك الحياة في بركة العالم، ويحمل إليها على كتفيه كلّ مُشتاق، كي يعتمد فيها أو يشرب. أكمل هذا الطريق، يا صديق، يا رفيق، يا رفيق الله والإنسان.
خريستو المرّ
العشرون من آب 2015