نضال سلّوم
الموهوب في الشعر والمسرح
نضال سلّوم الشاعر، المتأمّل،
الممثّل القدير، عاشق البحر والشمس، والألوان والسنابل، وخشبة المسرح. لم يكن نضال
في بداية شبابه إنساناً عاديّاً. مثلنا كلّنا نحن ثلّة الأصدقاء، نشأ في حارات
الميناء الجميلة، والتزم يسوعه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. صوته الجهوري
وتفاعلاته الحيّة كانت ترسم لونا خاصاً لحضوره على المسرح. عشق الخشبة والتعاطي مع
الشخصيّات التي لبسها ولبسته، فشاعريّته سمحت له أن يعبر إلى قلب شخصيّاته، إلى
قممها وانحداراتها، ويرسمها بالحركة والصوت والمشاعر. كان نضال هو الموهبةَ الفذّة،
بالإضافة إلى عبقريّ الابتسامة والمأساة جان حجّار، الذي اعتمد عليه المخرج جان رطل
في مغامراته المسرحيّة في مدينة البؤس والأفق، الميناء، التي تقع إلى جانب حاضرة
الاستغلال السياسيّ المستدام للفقراء، طرابلس.
لعب نضال دور المفكّر السياسي
"رؤوف" في إعادة المخرج المسرحي جان رطل لمسرحيّة "نزل السرور" في منتصف ثمانينات
القرن العشرين. هذيانه السياسيّ والثوريّ على المسرح كان عبثيّاً بشكل أخّاذ وساخر،
وهي عبثيّة لربّما أرادها زياد الرحباني. كانت الدنيا تتهاوى في لبنان منذ
السبعينات تحت ضربات اليمين العنصريّ الموتور والثوريّة اليساريّة التي انتحرت
سريعاً في متاهات التحالفات والحروب العبثيّة (ما خلا مقاومة إسرائيل)، وكان لبنان
قد غدا رهينة المتحاربين، الذين غدوا بدورهم رهينة لاعبين أكبر وأبعد من لبنان (لا
شكّ أنّ أصدقائي السوريّين المشرّدين في بلاد العالم وأرصفة التهجير والذين يعيشون
تحت القنص اليوميّ يفهمون عمّا أتحدّث). تناثر نضال بجسد "رؤوف" في الهذيان حتّى
الأعماق في هلوسات متواصلة، صنع أمواجاً من الكلمات المتدفّقة بالجيد والنبرة على
المسرح، صنع ثورة وهميّة تشبه لا شيء وكلّ شيء، و"الثورة تخطيط فَ حزب فَ جريدة حزب
فَ إعداد للرأي العام فَ تهيّؤ فَ إقتحام فَ وصول فَ..."، "فراحت علينا يا شباب"...
كان نضال يصرخ وكانت طرابلس قد "راحت" في قبضة الحزب الديني "الثوريّ" القمعيّ،
الذي استولى عليها في الثمانينات ("الحليف" لحزب الله اليوم وهذا من "أعاجيب" الزمن
اللبنانيّ الرائع).
كنت ترى الكلمات تحيا في نبرة
نضال، تصير من لحم ودم. جسّد نضال بـ"رؤوف" الإيمانَ غير المتزحزح بالحقيقة
المطلقة، جسّد الفراغ الكيانيّ والتفاهة الكامنة وراء الادّعاءات الهذيانيّة، وجسّد
الاجترار اللفظيّ لشعب بأكمله حول النارجيلة وفنجان القهوة.
اكتشفت لاحقاً أنّ المسرحيّة
الفكاهيّة المرسومة على خلفيّة بائسة وعبثيّة لم تكن خياراً عبثيّاً لدى جان رطل.
المسرحيّة كانت صرخة، ربّما أرادها جان رطل قصداً، في وجه الجهل والجريمة التي كانت
تفتك بطرابلس الثمانينات.
تابع نضال في المسرحيّة الثانية
من تجربة رطل، "مرايا إشبيليّة"
المأخوذة عن مسرحيّة "رسائل قاضي إشبيلية" لألفرد فرج؛ تلك المسرحيّة المتحرّكة
التي تتشابك فيها الشخصيّات والحَكايا، تشابُكَ الإنسان والأرض، وصراعهما معاً. في
تلك الفترة من التاريخ المعاصر كانت السياسات الأميركيّة الاقتصاديّة (ريغن)
والبريطانيّة (تاتشر) تساهم بتدمير كلّ أنظمة الحماية للمواطنين، وتنشر العقيدة
السائدة اليوم ألا وهي أنّ الدولة لا تفعل شيئا سوى وضع أطر لتنظيم عمليّات سلب
الشركات للمواطنين، وكانت تلك التحوّلات العالميّة تتجسّد دون أن ندري على المسرح
بكلمة واحدة: السوق. كلّ شيء سوق والكلّ بائع وشارٍ، والإنسان نفسه يتحّول إلى
بضاعة في السوق. "اشتري...اشتري" كان الببغاء يردّد على المسرح. وكانت تلك
المسرحيّة الفذّة سابقة لأغنية زياد الرحباني حول "الشرايي و البياعين" في نهاية
الثمانينات. كان نضال سلّوم، القاضي في المسرحيّة، يقضي بين اللصوص، لصوص الأراضي،
ولصوص عرق الناس، ولصوص الناس، والأرض تستدعي التزام الإنسان، والإنسان عرقٌ وجراح،
والبيع والشراء في غليان، ومدُّ السوقِ على المسرح يتعالى، والناس تشعر وتتفاعل،
ونضال يحوّل حضوره ومشاعره وأفكاره إلى حركةٍ فريدةٍ جذبت القلوب. وجان رطل، الساكت
الكبير عن المعاني، يدير الحلم.
تحيّة لك نضال في بلد لا يعرفك،
يكفيك أنّك معروف الشبيبة التي تضيء لها نجوم التعبير الحرّ، وأنّك تُحيي الذين
تدرّبهم على خشبة المسرح، ويكفيك أنّك من الذين يصارعون في حلبة المسرح ليشهدوا
للحقيقة والضوء، بصوتِ صارخٍ في برّية التفاهة والكآبة والعتمة والموت.
خريستو المرّ
17 آذار 2015