نجيب كوتيا
ليس من الضرورة أن يكتب الإنسان عن نجيب كوتيا. مَن يعرفه يعرف الله الذي يَضْحَك ويحزن ويُفرِح.
نجيب إنسان، وهذا نادر. كان لي نجيب اكتشافاً في السنة الجامعيّة الأولى. يوميّاً ترافقنا ذهابا وإيّابا إلى الجامعة. ومعاً خُطفنا لساعات بلا سبب على طريق الجامعة. ومعاً حلمنا بالحبّ، ومعا درسنا، ومعاً جلسنا الساعات الطوال حول العود والشعر. لا يمرّ نجيب بحياتك مروراً، هو ليس فقط يضيء بروح النكتة الفريدة التي يمتلكها والتي يوزّعها ابتسامات على مَن حوله كأنّه يأبى أن يراك غير فرحٍ. ولا هو يضيء إليك فقط بالعقل والمنطق واللطف. هو يضيء لك بتلك الريح الاستقباليّة التي لديه. يستقبلك نجيب. كأنّ قلبه مضافة للعابرين والمقيمين. وهو إن كان في أسى شديد استدعى ربّه حاملاً همّه إليه، وكلّمك على الهاتف وطلب إليك أن تذكره في صلاتك، وحمل جراحه ومشى.
عائلته في قلبه، وعوده على زنده. يرمي الموسيقى سُلّماً سرّياً بين الأرض والسماء، وإن كنت شفّافَّ القلبِ رأيت عليها ملائكة الحبّ والجمال صاعدة هابطة. تستوقفك روح الفكاهة لديه، ويستوقفك الذهن الحاضر لإبداع النكتة وتحويل المناسبة العادية إلى احتفال، إلى لقاء حول الفرح. جعل مع نيلّي زوجته منزلهما مضافة للـ"غرباء"، وفي اللقاء المفتوح بينهما يتعمّد كلّ عابر في ماء المحبّة ليغدوا قريباً. مع نجيب ترى كيف للقلب أن يتّسع ليغدو حديقة. وعند تحدّيات الواقع وضرورات النضال يحضر نجيب بدقّة ومثابرة، متجذّراً في الإنجيل وفي ليتورجيا الكنيسة دون تخاذل، وهذا مميّز في هذا الزمن التعس الذي إمّا يترك فيه الكثيرون الكنيسة قرفاً أو يستعملون الصلوات لفافةَ حشيش كيفٍ معنوي تغيّبهم عن العالم، مخالفين بذلك وصايا المسيح ومعرقلين مساعي التجلّي.
شجاعة نجيب وابداعه وروح التفتيش عن الجمال التي لديه، تجلّت في حبّه للموسيقى منذ مراهقتنا. جعل أصدقاءه يحيون في كنف أم كلثوم، ونقّب لهم عن كارم محمود، وأخرج من حضارات المنطقة قُدُماً وجدداً. كنّا نجلس في منزله ليعانق عوده، ويغيب مع الألحان عائداً إلى جذورِ موسيقى وألحان بقيت حتّى الآن طلاسم عندي، بشغفٍ بتاريخها بعيدٍ عن اهتمامات غير العارفين. لم يبقَ لي من تلك الجلسات إلاّ ومضات الجمال والرحيل في ما يبدو لي أيقونة لله بديعة: الموسيقى.
في جلساتنا الجماعيّة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كما في سهراتنا الصداقيّة الأصغر، كما في سهرات مخيّمات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كان نجيب وكان عوده. كان هناك، بعد تعب النهار والإرشاد، ليشعرنا بالنجوم تطفو فوق جلدنا، ليرمينا في مكان ما من الـ"هناك"، الـ"هناك" الذي هنا وليس هنا، والـ"هنا" الذي يلدُ الـ"هناك" ويولد منه.
في السنوات الأخيرة حمل عوده في لندن، وتوغّل كثيراً في الجمال الإلهيّ المنبثّ بين الحضارات، لا حدود تحاصره من الداخل ولا حدود تُعيقه من الخارج. نجيب، ذاك المناضل ضدّ الكآبة بلحنٍ وصوتٍ وذوق أدبيٍّ واحساس مرهف، يتواصل اليوم كما بالأمس، مع المجتمع الذي يحيا فيه، فإذا به شاهدٌ للجمال الحاضر كما ولو أنّه يعيش كلمة بولس أن يكون الإنسانَ شاهداً للحقّ الحاضر، وكأنّه بفرادته يترجم موازاة خفيّة بين الجمال والحقّ. شاهدَ وشهِدَ، تعلّم وعلّم، أتى إلى العالم، رأى العالم، وانخرط إلى اليوم في مشروع الغلبة على الظلمة لكي يتجلّى العالم وينقذه الجمال كما كان يشتهي دوستويفسكي.
نجيب كوتيا أبعد من تراتيلَ يُتقنها، وصوتٌ لطيف، وجوقةٌ يقودها، وأبعد من إنسانٍ حمل وزوجته الصديقة نيلّي الآلام الكبار بروحِ شجاعةٍ، جعلتهما شاهدَين للفرح ولانتصار المسيح على الموت في قلب هذا العالم، وشاهدين لدحرجة كلّ حجر أمام تدفّق الحياة، هو أبعد من كونه صديق للكثيرين، هو إنسان صار بوجوده وحياته نبيّاً للفرح في قلب هذا العالم.
خريستو المرّ
19 آذار 2015
نجيب إنسان، وهذا نادر. كان لي نجيب اكتشافاً في السنة الجامعيّة الأولى. يوميّاً ترافقنا ذهابا وإيّابا إلى الجامعة. ومعاً خُطفنا لساعات بلا سبب على طريق الجامعة. ومعاً حلمنا بالحبّ، ومعا درسنا، ومعاً جلسنا الساعات الطوال حول العود والشعر. لا يمرّ نجيب بحياتك مروراً، هو ليس فقط يضيء بروح النكتة الفريدة التي يمتلكها والتي يوزّعها ابتسامات على مَن حوله كأنّه يأبى أن يراك غير فرحٍ. ولا هو يضيء إليك فقط بالعقل والمنطق واللطف. هو يضيء لك بتلك الريح الاستقباليّة التي لديه. يستقبلك نجيب. كأنّ قلبه مضافة للعابرين والمقيمين. وهو إن كان في أسى شديد استدعى ربّه حاملاً همّه إليه، وكلّمك على الهاتف وطلب إليك أن تذكره في صلاتك، وحمل جراحه ومشى.
عائلته في قلبه، وعوده على زنده. يرمي الموسيقى سُلّماً سرّياً بين الأرض والسماء، وإن كنت شفّافَّ القلبِ رأيت عليها ملائكة الحبّ والجمال صاعدة هابطة. تستوقفك روح الفكاهة لديه، ويستوقفك الذهن الحاضر لإبداع النكتة وتحويل المناسبة العادية إلى احتفال، إلى لقاء حول الفرح. جعل مع نيلّي زوجته منزلهما مضافة للـ"غرباء"، وفي اللقاء المفتوح بينهما يتعمّد كلّ عابر في ماء المحبّة ليغدوا قريباً. مع نجيب ترى كيف للقلب أن يتّسع ليغدو حديقة. وعند تحدّيات الواقع وضرورات النضال يحضر نجيب بدقّة ومثابرة، متجذّراً في الإنجيل وفي ليتورجيا الكنيسة دون تخاذل، وهذا مميّز في هذا الزمن التعس الذي إمّا يترك فيه الكثيرون الكنيسة قرفاً أو يستعملون الصلوات لفافةَ حشيش كيفٍ معنوي تغيّبهم عن العالم، مخالفين بذلك وصايا المسيح ومعرقلين مساعي التجلّي.
شجاعة نجيب وابداعه وروح التفتيش عن الجمال التي لديه، تجلّت في حبّه للموسيقى منذ مراهقتنا. جعل أصدقاءه يحيون في كنف أم كلثوم، ونقّب لهم عن كارم محمود، وأخرج من حضارات المنطقة قُدُماً وجدداً. كنّا نجلس في منزله ليعانق عوده، ويغيب مع الألحان عائداً إلى جذورِ موسيقى وألحان بقيت حتّى الآن طلاسم عندي، بشغفٍ بتاريخها بعيدٍ عن اهتمامات غير العارفين. لم يبقَ لي من تلك الجلسات إلاّ ومضات الجمال والرحيل في ما يبدو لي أيقونة لله بديعة: الموسيقى.
في جلساتنا الجماعيّة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كما في سهراتنا الصداقيّة الأصغر، كما في سهرات مخيّمات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كان نجيب وكان عوده. كان هناك، بعد تعب النهار والإرشاد، ليشعرنا بالنجوم تطفو فوق جلدنا، ليرمينا في مكان ما من الـ"هناك"، الـ"هناك" الذي هنا وليس هنا، والـ"هنا" الذي يلدُ الـ"هناك" ويولد منه.
في السنوات الأخيرة حمل عوده في لندن، وتوغّل كثيراً في الجمال الإلهيّ المنبثّ بين الحضارات، لا حدود تحاصره من الداخل ولا حدود تُعيقه من الخارج. نجيب، ذاك المناضل ضدّ الكآبة بلحنٍ وصوتٍ وذوق أدبيٍّ واحساس مرهف، يتواصل اليوم كما بالأمس، مع المجتمع الذي يحيا فيه، فإذا به شاهدٌ للجمال الحاضر كما ولو أنّه يعيش كلمة بولس أن يكون الإنسانَ شاهداً للحقّ الحاضر، وكأنّه بفرادته يترجم موازاة خفيّة بين الجمال والحقّ. شاهدَ وشهِدَ، تعلّم وعلّم، أتى إلى العالم، رأى العالم، وانخرط إلى اليوم في مشروع الغلبة على الظلمة لكي يتجلّى العالم وينقذه الجمال كما كان يشتهي دوستويفسكي.
نجيب كوتيا أبعد من تراتيلَ يُتقنها، وصوتٌ لطيف، وجوقةٌ يقودها، وأبعد من إنسانٍ حمل وزوجته الصديقة نيلّي الآلام الكبار بروحِ شجاعةٍ، جعلتهما شاهدَين للفرح ولانتصار المسيح على الموت في قلب هذا العالم، وشاهدين لدحرجة كلّ حجر أمام تدفّق الحياة، هو أبعد من كونه صديق للكثيرين، هو إنسان صار بوجوده وحياته نبيّاً للفرح في قلب هذا العالم.
خريستو المرّ
19 آذار 2015