قراءة مسيحيّة في العنصريّات اللبنانيّة: حين يغيّب السياسيّ الإنسانيّ
النهار 30 - حزيران- 2002
في كلّ فرز متعالٍ شيء من عنصريّة ولو كان الفرز غير مرتكز على اللون أو العرق. العنصريّة بهذا المعنى الواسع تبدأ حين يظنّ إنسانٌ، أو مجموعة من الناس، أنّ الناس المنتمين إلى جماعة ما مختلفة باللون أو العرق أو الدين أو الجنس، هم أقلّ إنسانيّة من جماعتهم وبالتالي لا يستحقّون عيش حياة إنسانيّة كالتي يروها لأنفسهم. لهذا العنصريّة هي على نقيض الإيمان المسيحيّ فهي على نقيض كلمة المسيح "عاملوا الناس كما تريدون أن يعاملوكم" و"من كان فيكم أوّلاً فليكن للكلّ خادماً" وتضيق المساحة لكلمات المسيح ومواقف حياته التي تذكّر المسيحيّين أنّ التعالي "الفرّيسيّ" يفصل الإنسان عن الله وأنّ خدمة الإنسان، كلّ إنسان من أيّ دين وأيّ شعب، هي مجال المحبّة التي زرعها الله في الناس والتي ترجمها المسيح في حياته التي عاشها محبّاً، مقاوماً، مشرّداُ وغريباً "ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه" . يوصي المسيح أن "أحبب قريبك حبّك لنفسك" وقريبك في المسيحيّة هي الإنسان المحتاج إليك. العنصريّة هي على نقيض أساس في الإيمان المسيحيّ وهي أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، كلّ إنسان بلا استثناء هو أيقونةٌ لله، وكلّ "صغير" في هذه الدنيا، أي كلّ مظلوم هو وجه المسيح.
في لبنان عنصريّات مختلفة، فهناك تعالي الكثير من اللبنانيّين على الملوّنين. فاللبنانيّين أو غير اللبنانيّين من ذوي الجلدة الداكنة يسمًَّون حتى الآن "العبيد"، ولا نزال نذكر دعاية عنصريّة لمسحوق تنظيف بثّت على التلفزيون لفترة قصيرة بلا أيّ شعور بفداحة الأمر، أمّا السيريلانكيات والسريلنكيّين فيعاملون في كثير من البيوت معاملة العبيد أو المساجين، من مصادرة جوازات سفرهم، إلى العمل لساعات طويلة جدّاً بلا رحمة وخلافاً للقانون، إلى تعرّضهم للاغتصاب، إلى انتحار بعضهم يأساً. حتى أنّتي سمعت مرّة امرأة لبنانيّة لم تتورع عن استخدام جملة مثل "أهداني زوجي أحلى هديّة، أهداني سريلنكيّة"! فيكون هكذا تعبير قمّة في التشييء، أي في النظر إلى الناس كأنّهم أشياء.
ثمّ هناك الطائفيّة، وهي شكل من أشكال العنصريّة في الاستعلاء الذي تبطّنه وفي التصرّف الحاقد الذي تمليه. وقد تكون الطائفيّة من أخطر العنصريّات إذ تأخذ الله مرتكزاً لعنصريّتها. فالطائفيّون يعتبرون نوعاً ما أنّ الله ملك لطائفتهم وأنّ أبناء وبنات طائفتهم بالتالي أرفع في الإنسانيّة من غيرهم. هذا التصرّف كفريّ عمليّاً ولو تشدّق الطائفيّون بالإيمان، تصرّف يدّعي احتكار الله والحق في طائفة ما دون الأُخَرْ أو دين ما دون الآخر، وفي العمق يميّز الطائفيّ بين إنسانيّته وإنسانيّة غيره التي تغدو بطبيعة الحال أدنى ولو لم يصرّح بذلك جهاراً. الطائفيّة قد تكون من أشرس العنصريّات لأنّها بالضبط تحاول عمليّاً أن تستولي على الله وبالتالي على سلطةٍ تخوّلها إلغاء الآخر من قاموس مستحقّي الحياة الإنسانيّة.
قبل القتل الجسديّ يأتي تمهيد الطريق بالقتل المعنوي، من وصف للآخر بشتّى النعوت التحقيريّة التي تصبح ستاراً لإخفاء حقيقة الحقد الشخصيّ وتبريراً له، نعوت مثل "الوسخون"، "الحاقدون"، "المجرمون"... وهذه الخطوة النفسيّة تساعد العنصريّ الطائفيّ على التهرّب من وطأة شعوره بالذنب بسبب حقده على الآخر وتساعده في الهروب من محاسبة الذات. يسقط مشاعر حقده على الآخرين فيصوّرهم ويتصوّرهم أنّهم هم الحاقدون والمخيفون وما هو إلاّ بمدافع عن وجوده تجاه هجمتهم المفترضة. ومن شيطنة الآخر ينطلق الانسان الطائفيّ إلى محاولة إقصاء الآخر عن ترجمات الحياة في الاجتماع والسياسيّة...أو إقصائه عن الحياة الجسديّة إن اقتضت المصالح. بدلاً من خدمة الله، الطائفيّون يستخدمون الله، لأغراض سياسيّة ومصالح اقتصاديّة ومساعٍ للاستيلاء على أكبر قدر من السلطة وهذا هو كفرها العمليّ وخطرها في آن.
وهناك عنصريّة التطرّف الدينيّ حيث تصير الرؤية الدينيّة أو التفسير الدينيّ لمجموعة ما هو التفسير-بأل التعريف- أي الحقيقة، فيصير الله في نظر هذه المجموعة حكراً عليها وبالتالي تُستباح إنسانيّة الآخرين. الآخر المختلف (في الدين أو الطائفة أو حتى في التفسير الدينيّ ضمن الطائفة نفسها) هو ذلك الذاهب إلى جهنّم حكماً ووجوده أقلّ "جدوى" من وجودي ووجود جماعتي، أمّا الغائه معنويّاً أو مادّياً فهو في النهاية "تطهير" للأرض.
وهناك أيضاً العنصريّة ضدّ شعب بكامله. كعنصريّة بعض اللبنانيّين ضدّ الفلسطينيّين والسوريّين بالمطلق. وفي هذه الحالة يتمّ استبدال الشخص الإنسانيّ الذي تراه بصورة عن شعب له صفات تبخيسيّة(كالوسخون...)، صفات هي وليدة حقد شخصيّ ومغذّاة بأخطاء وخطايا حقيقيّة ارتكبها أناس ينتمون إلى هذا الشعب (كما هي طبيعة كلّ الشعوب حيث يوجد مجرمون ولصوص فيها جميعاً بلا استثناء). إلاّ أنّ هذا الإنسان العنصريّ يضخّم أخطاء يرتكبها أناس من الشعب موضوع الحقد (متناسياً بالطبع أخطاءه وخطاياه الشخصيّة وتلك التي مارسها أناس من قومه، أو أنّه يبرّرها كدفاعٍ مشروعٍ عن النفس في أواليّة نفسيّة أسلفنا ذكرها)، ليسبغها كصفة مطلقة على كلّ إنسان من هذا الشعب. حينها يتمّ استبدال أيّ شخص إنسانيّ ينتمي إلى هذا الشعب بصورة أو مجموعة صفات تبخيسيّة، يتمّ استبداله بصورة مجرّدة عن مجموعةٍ بشريّة. لا يعود هذا الإنسان إنساناً لناظره بل صورة عن صفات تبخيسيّة، صورة تستحقّ الاحتقار أو الإبادة.
حين يبلغ الإنسان العنصريّ وضعاً يصير فيه إنسان آخر بالنسبة إليه شيئاً أو فكرةً إو صفةً، أو لا يعود يشعر بأيّ تعاطف مع هذا الآخر في ظلمٍ أو مكروهٍ يصيبه ، يكون قد صار الآخر بالنسبة إليه أقلّ إنسانيّة، وتكون بذلك قد تدهورت ليس حالة أخلاق الإنسان العنصريّ بل وأيضاً حالته الروحيّة.
يذكر في هذه الفترة بعض اللبنانيّين فظائع ارتكبها بعض الفلسطينيّين خلال الحرب اللبنانيّة ليبرّروا عدم تعاطفهم مع الفلسطينيّين الذين يُقتلون ويعذّبون بوحشيّة في فلسطين. طبعاً ينسى هؤلاء أو يبرّرون كعادة العنصريّين فظائع ارتكبها لبنانيّون بحجّة الدفاع عن النفس أو عن لبنان...الخ. قد يكون معظم اللبنانيّين أو كلّهم ضدّ ممارسات المنظّمات الفلسطينيّة في الحرب اللبنانيّة، لكنْ على الموقف السياسيّ ألاّ يغيّب الإنسانيّ.
إن أردتُ كمسيحيّ أن أتناول الموقف السابق من وجهة نظر مسيحيّة، أقول أنّ في المسيحيّة وصف قدّيسون الخطيئة بأنّها عدم الإحساس. إنّ هذا الموقف اللامبالي، إن لم يكن المتشفّي، مما يصيب الفلسطينيّين المصلوبين في فلسطين موقف بعيدٌ عن المسيح المصلوب، المسيح الذي وحّد نفسه مع مظلوميّ العالم ومستضعفيه. لا يمكن لإنسان أن يقف هكذا موقف من الفلسطينيّين ويعتبر نفسه بكل راحة ضمير أنّه مسيحيّ، أي أنّه منتمٍ إلى شخص يدعى يسوع كان ناصريّاُ ومات فوق صليب لأنّه قاوم الظلم، وقام لأنّه أحبّ الناس والله حبّاً كاملاً فصار مسيحا،ً أي مسحه الله ملكاً على المحبّين. لا بل لا يمكن لإنسان لا يقف اليوم إلى جانب الفلسطينيّين المعذّبين والمتشبّثين بحقّهم أنْ يكون على مسيحيّة سليمة التي هي انتماء إلى هذا المسيح الذي نراه في الإنجيل، أي هذا المسيح المصلوب حبّاً والقائم بالحبّ.
لا الصلوات وحدها تصنع المسيحيّ ولا ارتياد الكنائس الجداريّة وحدها بينما كنيسة الله اللحميّة المدمّاة (أي كلّ إنسان مظلومٍ) مشلوحةٌ قربه على الطريق. القريب هو المحتاج كما قال المسيح (مثل السامريّ الشفوق) وحين أخبرنا عمّا سنُسأل عليه حين مجيئه الثاني في اليوم الآخر قال أنّنا سنُسأل عن مدى وقوفنا إلى جانب المستضعفين، المظلومين، الجائعين، العطاش، المسجونين، المرضى، ولم يقل أنّه سنُسأل عن كم مرّة صلّينا وصُمنا. الصلاة والصوم في الإيمان هي تقرّبٌ من الله يشلحنا أمام صورته أينما وجدت، أي في كلّ إنسان، خاصة إن كان مدمّى. الصلاة طاقة إن لم نحياها بالوقوف إلى جانب المظلومين نكون قد عطّلناها. قال الآباء أنّ سرّ الأخ يكمّل سرّ المذبح أيّ أنّ الوقوف إلى جانب المظلومين هو تكملة للصلاة.
المسيحيّة صعبة والإنتماء إلى المسيح هو تحدّ لمشاعرنا الهمجيّة وردّات فعلنا الانغلاقيّة. المسيحيّة ليست غنجاً، هي تحدٍّ، هي مقاومة، مقاومة لجنوحنا إلى السهولة، إلى السكوت عن الظلم، إلى تصلّب القلب أمام عيون الضعفاء. المسيحيّة مقاومةٌ لكلّ نهج ظلمٍ ولكلّ ما ينتهك من كرامة أيّ إنسان في هذه الدنيا.
هذه الطريق الصعبة هي التي تجعلنا جديرين بأن نكون أناساً فعلاً لا شكلاً، وهي طريق ليست حكراً على المسيحيّة. الفعل هو المحكّ. الكلام قد يستبق الفعل أو يلحقه، لكنّ الفعل هو التعبير البليغ والحيّ عن انتماء الإنسان إلى المسيح.
لم يكتف المسيح بإبلاغ مَنْ يتبعه عمّاسيحلّ به إن كان إلى جانب المظلومين ولكن أبلغه أيضا عما سيحلّ به إن هو لم يقف إلى جانبهم. المسيحيّون ليسوا مسؤولين عمّا يفعلونه فقط ولكن عمّا كانوا قادرين على فعله ولم يفعلوه "كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه".
الإنسان الفلسطينيّ هو مظلوم اليوم حولنا، المسيح إلى جانبه هو، وكلّ إنسان أمام هذه الحقيقة يفرز نفسه اليوم (ربّما بصعوبة تجاوز اندفاعاته العنصريّة) بحسب ما يفعل أو ما لا يفعل.
خريستو المرّ
في لبنان عنصريّات مختلفة، فهناك تعالي الكثير من اللبنانيّين على الملوّنين. فاللبنانيّين أو غير اللبنانيّين من ذوي الجلدة الداكنة يسمًَّون حتى الآن "العبيد"، ولا نزال نذكر دعاية عنصريّة لمسحوق تنظيف بثّت على التلفزيون لفترة قصيرة بلا أيّ شعور بفداحة الأمر، أمّا السيريلانكيات والسريلنكيّين فيعاملون في كثير من البيوت معاملة العبيد أو المساجين، من مصادرة جوازات سفرهم، إلى العمل لساعات طويلة جدّاً بلا رحمة وخلافاً للقانون، إلى تعرّضهم للاغتصاب، إلى انتحار بعضهم يأساً. حتى أنّتي سمعت مرّة امرأة لبنانيّة لم تتورع عن استخدام جملة مثل "أهداني زوجي أحلى هديّة، أهداني سريلنكيّة"! فيكون هكذا تعبير قمّة في التشييء، أي في النظر إلى الناس كأنّهم أشياء.
ثمّ هناك الطائفيّة، وهي شكل من أشكال العنصريّة في الاستعلاء الذي تبطّنه وفي التصرّف الحاقد الذي تمليه. وقد تكون الطائفيّة من أخطر العنصريّات إذ تأخذ الله مرتكزاً لعنصريّتها. فالطائفيّون يعتبرون نوعاً ما أنّ الله ملك لطائفتهم وأنّ أبناء وبنات طائفتهم بالتالي أرفع في الإنسانيّة من غيرهم. هذا التصرّف كفريّ عمليّاً ولو تشدّق الطائفيّون بالإيمان، تصرّف يدّعي احتكار الله والحق في طائفة ما دون الأُخَرْ أو دين ما دون الآخر، وفي العمق يميّز الطائفيّ بين إنسانيّته وإنسانيّة غيره التي تغدو بطبيعة الحال أدنى ولو لم يصرّح بذلك جهاراً. الطائفيّة قد تكون من أشرس العنصريّات لأنّها بالضبط تحاول عمليّاً أن تستولي على الله وبالتالي على سلطةٍ تخوّلها إلغاء الآخر من قاموس مستحقّي الحياة الإنسانيّة.
قبل القتل الجسديّ يأتي تمهيد الطريق بالقتل المعنوي، من وصف للآخر بشتّى النعوت التحقيريّة التي تصبح ستاراً لإخفاء حقيقة الحقد الشخصيّ وتبريراً له، نعوت مثل "الوسخون"، "الحاقدون"، "المجرمون"... وهذه الخطوة النفسيّة تساعد العنصريّ الطائفيّ على التهرّب من وطأة شعوره بالذنب بسبب حقده على الآخر وتساعده في الهروب من محاسبة الذات. يسقط مشاعر حقده على الآخرين فيصوّرهم ويتصوّرهم أنّهم هم الحاقدون والمخيفون وما هو إلاّ بمدافع عن وجوده تجاه هجمتهم المفترضة. ومن شيطنة الآخر ينطلق الانسان الطائفيّ إلى محاولة إقصاء الآخر عن ترجمات الحياة في الاجتماع والسياسيّة...أو إقصائه عن الحياة الجسديّة إن اقتضت المصالح. بدلاً من خدمة الله، الطائفيّون يستخدمون الله، لأغراض سياسيّة ومصالح اقتصاديّة ومساعٍ للاستيلاء على أكبر قدر من السلطة وهذا هو كفرها العمليّ وخطرها في آن.
وهناك عنصريّة التطرّف الدينيّ حيث تصير الرؤية الدينيّة أو التفسير الدينيّ لمجموعة ما هو التفسير-بأل التعريف- أي الحقيقة، فيصير الله في نظر هذه المجموعة حكراً عليها وبالتالي تُستباح إنسانيّة الآخرين. الآخر المختلف (في الدين أو الطائفة أو حتى في التفسير الدينيّ ضمن الطائفة نفسها) هو ذلك الذاهب إلى جهنّم حكماً ووجوده أقلّ "جدوى" من وجودي ووجود جماعتي، أمّا الغائه معنويّاً أو مادّياً فهو في النهاية "تطهير" للأرض.
وهناك أيضاً العنصريّة ضدّ شعب بكامله. كعنصريّة بعض اللبنانيّين ضدّ الفلسطينيّين والسوريّين بالمطلق. وفي هذه الحالة يتمّ استبدال الشخص الإنسانيّ الذي تراه بصورة عن شعب له صفات تبخيسيّة(كالوسخون...)، صفات هي وليدة حقد شخصيّ ومغذّاة بأخطاء وخطايا حقيقيّة ارتكبها أناس ينتمون إلى هذا الشعب (كما هي طبيعة كلّ الشعوب حيث يوجد مجرمون ولصوص فيها جميعاً بلا استثناء). إلاّ أنّ هذا الإنسان العنصريّ يضخّم أخطاء يرتكبها أناس من الشعب موضوع الحقد (متناسياً بالطبع أخطاءه وخطاياه الشخصيّة وتلك التي مارسها أناس من قومه، أو أنّه يبرّرها كدفاعٍ مشروعٍ عن النفس في أواليّة نفسيّة أسلفنا ذكرها)، ليسبغها كصفة مطلقة على كلّ إنسان من هذا الشعب. حينها يتمّ استبدال أيّ شخص إنسانيّ ينتمي إلى هذا الشعب بصورة أو مجموعة صفات تبخيسيّة، يتمّ استبداله بصورة مجرّدة عن مجموعةٍ بشريّة. لا يعود هذا الإنسان إنساناً لناظره بل صورة عن صفات تبخيسيّة، صورة تستحقّ الاحتقار أو الإبادة.
حين يبلغ الإنسان العنصريّ وضعاً يصير فيه إنسان آخر بالنسبة إليه شيئاً أو فكرةً إو صفةً، أو لا يعود يشعر بأيّ تعاطف مع هذا الآخر في ظلمٍ أو مكروهٍ يصيبه ، يكون قد صار الآخر بالنسبة إليه أقلّ إنسانيّة، وتكون بذلك قد تدهورت ليس حالة أخلاق الإنسان العنصريّ بل وأيضاً حالته الروحيّة.
يذكر في هذه الفترة بعض اللبنانيّين فظائع ارتكبها بعض الفلسطينيّين خلال الحرب اللبنانيّة ليبرّروا عدم تعاطفهم مع الفلسطينيّين الذين يُقتلون ويعذّبون بوحشيّة في فلسطين. طبعاً ينسى هؤلاء أو يبرّرون كعادة العنصريّين فظائع ارتكبها لبنانيّون بحجّة الدفاع عن النفس أو عن لبنان...الخ. قد يكون معظم اللبنانيّين أو كلّهم ضدّ ممارسات المنظّمات الفلسطينيّة في الحرب اللبنانيّة، لكنْ على الموقف السياسيّ ألاّ يغيّب الإنسانيّ.
إن أردتُ كمسيحيّ أن أتناول الموقف السابق من وجهة نظر مسيحيّة، أقول أنّ في المسيحيّة وصف قدّيسون الخطيئة بأنّها عدم الإحساس. إنّ هذا الموقف اللامبالي، إن لم يكن المتشفّي، مما يصيب الفلسطينيّين المصلوبين في فلسطين موقف بعيدٌ عن المسيح المصلوب، المسيح الذي وحّد نفسه مع مظلوميّ العالم ومستضعفيه. لا يمكن لإنسان أن يقف هكذا موقف من الفلسطينيّين ويعتبر نفسه بكل راحة ضمير أنّه مسيحيّ، أي أنّه منتمٍ إلى شخص يدعى يسوع كان ناصريّاُ ومات فوق صليب لأنّه قاوم الظلم، وقام لأنّه أحبّ الناس والله حبّاً كاملاً فصار مسيحا،ً أي مسحه الله ملكاً على المحبّين. لا بل لا يمكن لإنسان لا يقف اليوم إلى جانب الفلسطينيّين المعذّبين والمتشبّثين بحقّهم أنْ يكون على مسيحيّة سليمة التي هي انتماء إلى هذا المسيح الذي نراه في الإنجيل، أي هذا المسيح المصلوب حبّاً والقائم بالحبّ.
لا الصلوات وحدها تصنع المسيحيّ ولا ارتياد الكنائس الجداريّة وحدها بينما كنيسة الله اللحميّة المدمّاة (أي كلّ إنسان مظلومٍ) مشلوحةٌ قربه على الطريق. القريب هو المحتاج كما قال المسيح (مثل السامريّ الشفوق) وحين أخبرنا عمّا سنُسأل عليه حين مجيئه الثاني في اليوم الآخر قال أنّنا سنُسأل عن مدى وقوفنا إلى جانب المستضعفين، المظلومين، الجائعين، العطاش، المسجونين، المرضى، ولم يقل أنّه سنُسأل عن كم مرّة صلّينا وصُمنا. الصلاة والصوم في الإيمان هي تقرّبٌ من الله يشلحنا أمام صورته أينما وجدت، أي في كلّ إنسان، خاصة إن كان مدمّى. الصلاة طاقة إن لم نحياها بالوقوف إلى جانب المظلومين نكون قد عطّلناها. قال الآباء أنّ سرّ الأخ يكمّل سرّ المذبح أيّ أنّ الوقوف إلى جانب المظلومين هو تكملة للصلاة.
المسيحيّة صعبة والإنتماء إلى المسيح هو تحدّ لمشاعرنا الهمجيّة وردّات فعلنا الانغلاقيّة. المسيحيّة ليست غنجاً، هي تحدٍّ، هي مقاومة، مقاومة لجنوحنا إلى السهولة، إلى السكوت عن الظلم، إلى تصلّب القلب أمام عيون الضعفاء. المسيحيّة مقاومةٌ لكلّ نهج ظلمٍ ولكلّ ما ينتهك من كرامة أيّ إنسان في هذه الدنيا.
هذه الطريق الصعبة هي التي تجعلنا جديرين بأن نكون أناساً فعلاً لا شكلاً، وهي طريق ليست حكراً على المسيحيّة. الفعل هو المحكّ. الكلام قد يستبق الفعل أو يلحقه، لكنّ الفعل هو التعبير البليغ والحيّ عن انتماء الإنسان إلى المسيح.
لم يكتف المسيح بإبلاغ مَنْ يتبعه عمّاسيحلّ به إن كان إلى جانب المظلومين ولكن أبلغه أيضا عما سيحلّ به إن هو لم يقف إلى جانبهم. المسيحيّون ليسوا مسؤولين عمّا يفعلونه فقط ولكن عمّا كانوا قادرين على فعله ولم يفعلوه "كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه".
الإنسان الفلسطينيّ هو مظلوم اليوم حولنا، المسيح إلى جانبه هو، وكلّ إنسان أمام هذه الحقيقة يفرز نفسه اليوم (ربّما بصعوبة تجاوز اندفاعاته العنصريّة) بحسب ما يفعل أو ما لا يفعل.
خريستو المرّ