قبل الصلب بقليل
ما الذي جئت تفعله هنا ولم تكلّمت؟
ألا تعلم أنّنا نستطيع اغتيالك؟ ألا تعلم أنّنا نستطيع سجنك؟ ألا تعلم؟
لقد جمع عملاؤنا كلّ كلمة تفوّهت بها، وكلّ قذارة خرجت من فمك، ضدّ مقدّساتنا.
لن نتوانى أن ننزل بك أشدّ العقاب، لن نتوانى. ألا تعلم أنّ أعطينا سلطان الموت. بيدنا موتك. بيدنا.
كان كلّ شيء هادئا، قبل مجيئك. كان كلّ شيء رائعاً، ندخل ونخرج، ونحن نشعر بالقداسة تشعّ من قلب الهيكل. كنّا مغموسون بالقداسة. أبداننا تقشعرّ لمجرّد دخول الهيكل وذكرِ آبائنا القدّيسين، وأنبيائنا. فما الذي جئت تقترفه، يا مفتن، يا قبيح اللسان وقبيح الفعل؟
كنّا في بيوتنا تملأنا مشاعرنا بشوق للهيكل، وكنّا في الهيكل مأخوذون بجمال الصلوات وجمال الكلمة. أرأيت ما الذي فعلته من ضجيج وصخب؟ أرأيت مقدار الخراب؟ وكلّ ذلك من أجل مَن؟ من أجل كم إنسان؟ من أجل حفنة من المغمورين.
لم هاجمت مقدّساتنا؟ لم؟ ولم أقمت ذاك الرجل في وسط الهيكل وأشرت إلى يده اليابسة، لم تكتف فقط بأن يقف بل جعلته في الوسط. كنت تتحدّانا؟ كلّنا فهمنا تحدّيك. كسرت مقدّساتنا، كسرت السبت. ألا تعلم ما جمال السبت لدينا؟ ألا تعلم؟ كلّ حياتنا نمّطناها وأحكناها حول السبت، وجمال السبت، وصلوات السبت، حول جمال الصلوات ورائحة البخور في هدوء الهيكل. وأنت جئت لتهزّ كلّ هذا الهدوء وتخرّب علينا السكينة.
جئت تقول السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت. ماذا تعني؟ أو تعني حقا أن نجعل كلّ الهيكل يدور حول الإنسان، وخصوصا إذا كان إنسانا تافها. وما المشكلة إن يبست يده؟ لن يكون أوّل ولا آخر إنسان تيبس يده. ما الإنسان أصلا إذا قيس بالله ونواميسه وطقوسه وروعة الطقوس؟ في الطقوس خلاصنا، وأنت تقترح أن نكسر لبّ هذه الطقوس: المقدّس، لنلتفت إلى إنسان واحد مظلوم! هذا جنون مطبق.
وقح.
اتركوه لديّ سؤال له على انفراد.
قل لي، من الذي دفعك لمهاجمة الهيكل؟ أو تقصد إحراجي أنا كبير الهيكل؟ لم هذا التوقيت بالذات؟ وما همّك بذاك الشاب إن يبست يده؟ أو لعلّي حارس له؟ وما شأنك أنت؟ يا ابن الأفعى يا حليف الشيطان؟ ما هذا التوقيت؟ لم تترك سوءا إلاّ وكشفته اليوم. لم اليوم بالذات؟ كلّنا نعرف هذا السوء منذ سنين، وتعايشنا معه بهدوء ورصانة، فما همّك أنت؟ الناس مرتاحة. الناس ترتاح للهدوء، وسلام الشعب يقتضي الهدوء. نحن هنا نحبّ الهدوء وانت تزعج سلامنا. تبعثر الترتيب الذي رتّبناه منذ أجيال. من تظنّ نفسك؟ أو تظنّ أن هذه الجموع المنتظرة في الخارج ستقف إلى جانبك. أنت لست بساذج، أم أنت كذلك؟ ألم تقل بنفسك لا ترمي الدرر أمام من لا يقدّرها؟ أو تراهم يهتمّون أنك تدافع عن الشاب، وتريد لهم الحياة الأبديّة؟ أنّك بالفعل ساذج. هم جميعهم يهمّهم هدوء أيّامهم أكثر ممّا تهمّهم محبّتك للحياة والحرّية المبعثِرة للنظام في هيكلنا. الهيكل لهم هو كلّ شيء أيّها الحالم الساذج. وصلتَ متأخّراً أيّها الحالم، فأنا ملكتهم منذ زمن بعيد دون أن ينتبهوا، بينما كنتَ أنت مشغولا بكلماتك الشاعريّة عن المحبّة، مخاطباً قلوبا هنا وقلوبا هناك.
أنت لا تعرف الإنسان. الإنسان عاشق للعبادة. مفتون بالعبادة. تريد قلوبا من لحم؟ تخاطب قلوبهم؟ أنت لا تعرف شيئا عن قلوبهم. كلّ مجامع قلوبهم هي في العبادة، العبادة تعطيهم أمانا، تعطيهم قيمة لحياتهم التافهة بفعل انتسابهم إلى ديانة تتابعت لآلاف السنين، ديانة انتسب إليها في السابق عظماء أنبياء وملوك. قلوبهم تتمسّك بالعبادة تمسّكها بالهواء. بدون عبادة في الهيكل هم بلا هويّة، والسبت رمز الهيكل.
الهيكل رمز حياتهم وأنت ماذا قلت لهم: أنّك تنقض الهيكل، وأنّهم سيعبدون الله ليس في الهيكل وإنّما في الروح والحقّ! هذا كلام كبير عليهم. أتدري ماذا فعلت بهم، يا جاهل؟ لقد مزّقت قلوبهم تمزيقاً. أنت قلت لهم أنّ هوّيتهم ليست في الهيكل وإنّما في قلوبهم، وبكلامك هذا أعدتهم– أيّها الساذج – إلى قلوبهم، وهم قضوا عمراً وهم يحاولون الخروج من قلوبهم، ونسيانها في الهيكل. بكلامك أعدتهم إلى قلوبهم، أعدتهم إلى القلق. هم لم يعرفوا كيف وصلوا إلى يوم نسوا فيه ذواتهم وصار الهيكل قلبهم وذابوا في جماعة كبيرة تحميهم من شعورهم بالعجز ومن ضرورة العودة إلى الذات والاعتماد على القلب والفكر. إنّي قد عملت كثيرا في المجمع، مع أصدقائي الكهنة والفرّيسيين وعليّة القوم الذين تراهم حولك مجموعين، كي أريحهم من ذواتهم، من قلوبهم، وأنت جئت تمزّقهم، جئت تخلّع قلوبهم، جئت تعيدهم إلى ذواتهم، جئت تخرّب كلّ ما بنيناه في سنين. لكن كان لديّ ثقة بهم، فخوفهم من قلوبهم ومن حرّية العبادة بالروح التي تدعوهم إليها يعمل لمصلحتي. سيرفضونك شرّ رفض. سذاجتك ستقتلك، إيمانك بقلوبهم وبحركة الحبّ فيها ستقضي عليك، المقدّس عندهم أهمّ من الحياة نفسها؛ وهو بالتأكيد أهم من ذلك الشاب. أصلا هم لم يصدّقوا صحبك بأنّه كان هناك شاب يابس اليد في الهيكل. ولن يصدّقوا لأنّهم لا يريدون أن يصدّقوا. لا بل أكثر من ذلك، سأخبرهم أنّ ذلك الشاب حقيقيّ وسترى كيف أنّهم لن يأبهوا.
سترى بنفسك. ستسمع بأذنيك أيّها الساذج.
وخرج للوقت وصرخ بالجموع.
إنّه يشفي الشاب وسط الهيكل. إنّه يهتك الهيكل. إنّه يهتك مقدّساتنا. إنّه يهتك السبت الذي تقشعرّ لصوت أسمه أبداننا، إنّه يدنّس قداسة وطهر الصلوات الجميلة والأصوات الأجمل. يقول لكم أنّ مقدّساتنا ليست بأهمّية يد الشاب. يضع شاباً واحداً في الميزان مقابل كلّ مقدّساتنا، مقابل مشاعر كلّ الشعب؟ وأنا أقول لكم لا. أقول لكم أنّه مشبوه، أقول لكم أنّ توقيته مشبوه. كلّنا نعلم بيباس أيدي شباب وشباب، كلّنا نعلم، ولكنّنا نسكت، ونسكت عن حكمة، نسكت لأنّ السبت أهمّ مقدّساتنا ولأنّ الصلوات لا يجب أن تتعرقل، صحيح أنّنا ننسى هؤلاء الشباب في الأيّام الأخرى التي ليست سبتا، ولكنّنا ننساهم لسبب. ننساهم لأنّنا نعمل من أجل الربّ، من أجله هو... جلّ جلاله. إنّه ينتهك أقدس مقدّساتنا ويهزّ نظامنا المريح الجميل والمنتظم المعروف والمفهوم. إنّه يتهجّم على هيكل الربّ، ولا يتهجّم على هيكل الربّ إلاّ إبليس ومساعديه. تبّا لمن يتهجّم على مقدّساتنا، نحن كلّنا فدى مقدّساتنا. إنّه يمزّق شعبنا بترّهاته وذلك من أجل إنسان واحد أو مجموعة تافهة من الشباب. شعبنا أكبر من بضعة أشخاص، مقدّساتنا وسلامة هيكلنا، وسبتنا، أهمّ من أيّ شيء.
ثمّ صرخ بصوت عظيم.
وأقول أنّ حياة شاب واحد، بل وحياة مجموعة صغيرة من الشبّان، لا أهمّية لها أمام سلام شعب الله. وأمّا عن هذا المنافق فأقول: إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد هاجم مقدّساتنا، عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلّها. ماذا تقولون؟
"اصلبه اصلبه.... اصلبه اصلبه" وعلت الأصوات أكثر "اصلبه اصلبه.... اصلبه اصلبه "
وعاد إلى الداخل تعلو وجهه ابتسامة تهكّم.
آه. ماذا قلت لك أيّها الحالم. أرأيت. سأجعلهم يردّدون الكلام ذاته بعد قليل عند الحاكم، هناك ستسمعه للمرّة الأخيرة. هم أحبّوا كلامك الشعريّ، وفتنهم كلامك عن الحبّ. ولكن أنظر الآن. لا يهمّهم إلاّ السلام، إلاّ الهيكل، إلاّ مقدّساتهم. أرأيت؟ مشروعك الحالم حول المحبّة، حول أولويّة الإنسان على الناموس ليس سوى كلام بكلام، هلوسة، وفي أفضل الأحوال حلم يقظة، والآن كما ترى فشلت فشلا ذريعا أمام مقتضيات الواقع، واقع النظام العام والحفاظ على المقدّسات. يا أحمق.
إنّك تصمت وتصمت. أو تظنّني لا أعرف لم؟ أنا أعرف، أنّك تعرف أنّ المقدّسات عندي رمز النظام، أنا كلّ ما يهمّني النظام، النظام الذي يعمل لأجلنا كلّنا، أنا إنسان مسؤول عن هذه الجموع، أنت إنسان لا مسؤول، وضعت آمالا كبير في هذه الجموع، وما زلت تراهن على قلبها، ولكنّها -يا غبي- مجرّد جموع همجيّة. لقد سقتُهم بنفسي منذ زمن طويل، سقتهم بأمان، ولمصلحتهم حشوتهم بكلّ كلام جيّد مُمَنهج، واضح. لم أترك مجالا في عقولهم لشكّ ولا لتردّد. حشوتهم بالأمان كي يرتاحوا من عناء هذه الدنيا، من عناء عبوديتّهم للرومان. وتأتي أنت، بكلامك الشاعري، فتعكّر سلامهم الداخليّ، توقظ فيهم كلّ ما حاولت أن أخدّره في قلوبهم وعقلوهم: الشكّ، التردّد، مراجعة الذات، إعادة النظر. ولكنّك فشلت أيّها التافه. فشلت. تظنّ أنّه يحبّون كلامك، كلامك المعسول، كلامك الجميل. نعم، كلامك الشيطانيّ، يا ابن بعل زبول، يشدّهم إلى حين، يغريهم، ولكنّهم، كما ترى، يفضّلون الموت عبوديّة من أن يتحرّروا ويعبدوا الله بالروح، ويسيروا في الحقّ. عدم الشعور بأمان الأمور الممسوكة، المُهَيكلة، المفهومة، التي ترتاح لها النفوس كما ترتاح الأبدان لكأس نبيذ معتّق؛ عدم الشعور بالأمان هذا، الذي تزرعه يا صديقي، ترفضُه قلوبهم، وأنت تراهن على القلب، يا ساذج. هذه الجموع التي هتفت ضدّك، ومع مقدّساتنا، تفضّل الموت على أن تشكّ وأن تبحث عن الحقّ الذي دعوتها إليه، أتعتقد أنّهم لم يروا ولم يسمعوا قبلا عن شاب يابس اليد؟ سمعوا ولكن لا يأبهون، لأنّهم إن أهتمّوا تهتزّ مستنقعات نهاراتهم، ويقلقوا لياليهم، ويشكّوا، ويتعبوا، ويسألوا، وعندها سيرتاعوا من البحث عن جواب. أنا أجهّز لهم الجواب كلّ سبت، وهم يتلذّذون به مع كلّ صوت صادح في كلّ صلاة. لقد عبثت في المكان الخطأ، يا صديقي، عبثت في القلب، لحسن حظّي. لو أنّك جئتهم بشريعة جديدة لكنتُ قتلتك فورا، ولكنّك جئتَهم بطريق، بتحوّل، بسؤال؛ فتسلّيت بك، فأنا أعرفهم وأنت لا تشكّل خطراً، فميدان القلب يخيفهم، وهم يرفضونه حتّى ولو بقوا في العبوديّة. والآن سأسدل الستار بعد قليل وأرسلك إلى الحاكم. لا نحتاج إليك، فالهيكل كما قرّر الشعب أهمّ من كلامك وشاعريّتك التي لا تطعمهم خبزا، ولا تشنّف آذانهم، ولا تعبق في أنوفهم، ولا تجعلهم ينسون مرارة الواقع. بل على العكس، شاعريّتك أنت وصحبك تذكّرهم بكلّ ما يقلقهم، وإنّه لأسهل عليهم أن يموتوا من أن يقلقوا. فشلتَ وصمتك أكبر دليل.
كلهم موافقون أرأيت؟ وافقوا أنّ حياة شاب واحد، بل وحياة مجموعة صغيرة من الشبّان، لا أهمّية لها أمام سلام شعب الله، وأنّه كان خير لنا لو أنّ ذاك الشاب الذي يبست يده في الهيكل لم نعرف عنه، على أن تهلك الأمّة كلها. ووافقوا بأن أنتَ أيضاً خير لنا أن تموت عن الشعب ولا تهلك الأمّة كلها.
خذوه.
ألا تعلم أنّنا نستطيع اغتيالك؟ ألا تعلم أنّنا نستطيع سجنك؟ ألا تعلم؟
لقد جمع عملاؤنا كلّ كلمة تفوّهت بها، وكلّ قذارة خرجت من فمك، ضدّ مقدّساتنا.
لن نتوانى أن ننزل بك أشدّ العقاب، لن نتوانى. ألا تعلم أنّ أعطينا سلطان الموت. بيدنا موتك. بيدنا.
كان كلّ شيء هادئا، قبل مجيئك. كان كلّ شيء رائعاً، ندخل ونخرج، ونحن نشعر بالقداسة تشعّ من قلب الهيكل. كنّا مغموسون بالقداسة. أبداننا تقشعرّ لمجرّد دخول الهيكل وذكرِ آبائنا القدّيسين، وأنبيائنا. فما الذي جئت تقترفه، يا مفتن، يا قبيح اللسان وقبيح الفعل؟
كنّا في بيوتنا تملأنا مشاعرنا بشوق للهيكل، وكنّا في الهيكل مأخوذون بجمال الصلوات وجمال الكلمة. أرأيت ما الذي فعلته من ضجيج وصخب؟ أرأيت مقدار الخراب؟ وكلّ ذلك من أجل مَن؟ من أجل كم إنسان؟ من أجل حفنة من المغمورين.
لم هاجمت مقدّساتنا؟ لم؟ ولم أقمت ذاك الرجل في وسط الهيكل وأشرت إلى يده اليابسة، لم تكتف فقط بأن يقف بل جعلته في الوسط. كنت تتحدّانا؟ كلّنا فهمنا تحدّيك. كسرت مقدّساتنا، كسرت السبت. ألا تعلم ما جمال السبت لدينا؟ ألا تعلم؟ كلّ حياتنا نمّطناها وأحكناها حول السبت، وجمال السبت، وصلوات السبت، حول جمال الصلوات ورائحة البخور في هدوء الهيكل. وأنت جئت لتهزّ كلّ هذا الهدوء وتخرّب علينا السكينة.
جئت تقول السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت. ماذا تعني؟ أو تعني حقا أن نجعل كلّ الهيكل يدور حول الإنسان، وخصوصا إذا كان إنسانا تافها. وما المشكلة إن يبست يده؟ لن يكون أوّل ولا آخر إنسان تيبس يده. ما الإنسان أصلا إذا قيس بالله ونواميسه وطقوسه وروعة الطقوس؟ في الطقوس خلاصنا، وأنت تقترح أن نكسر لبّ هذه الطقوس: المقدّس، لنلتفت إلى إنسان واحد مظلوم! هذا جنون مطبق.
وقح.
اتركوه لديّ سؤال له على انفراد.
قل لي، من الذي دفعك لمهاجمة الهيكل؟ أو تقصد إحراجي أنا كبير الهيكل؟ لم هذا التوقيت بالذات؟ وما همّك بذاك الشاب إن يبست يده؟ أو لعلّي حارس له؟ وما شأنك أنت؟ يا ابن الأفعى يا حليف الشيطان؟ ما هذا التوقيت؟ لم تترك سوءا إلاّ وكشفته اليوم. لم اليوم بالذات؟ كلّنا نعرف هذا السوء منذ سنين، وتعايشنا معه بهدوء ورصانة، فما همّك أنت؟ الناس مرتاحة. الناس ترتاح للهدوء، وسلام الشعب يقتضي الهدوء. نحن هنا نحبّ الهدوء وانت تزعج سلامنا. تبعثر الترتيب الذي رتّبناه منذ أجيال. من تظنّ نفسك؟ أو تظنّ أن هذه الجموع المنتظرة في الخارج ستقف إلى جانبك. أنت لست بساذج، أم أنت كذلك؟ ألم تقل بنفسك لا ترمي الدرر أمام من لا يقدّرها؟ أو تراهم يهتمّون أنك تدافع عن الشاب، وتريد لهم الحياة الأبديّة؟ أنّك بالفعل ساذج. هم جميعهم يهمّهم هدوء أيّامهم أكثر ممّا تهمّهم محبّتك للحياة والحرّية المبعثِرة للنظام في هيكلنا. الهيكل لهم هو كلّ شيء أيّها الحالم الساذج. وصلتَ متأخّراً أيّها الحالم، فأنا ملكتهم منذ زمن بعيد دون أن ينتبهوا، بينما كنتَ أنت مشغولا بكلماتك الشاعريّة عن المحبّة، مخاطباً قلوبا هنا وقلوبا هناك.
أنت لا تعرف الإنسان. الإنسان عاشق للعبادة. مفتون بالعبادة. تريد قلوبا من لحم؟ تخاطب قلوبهم؟ أنت لا تعرف شيئا عن قلوبهم. كلّ مجامع قلوبهم هي في العبادة، العبادة تعطيهم أمانا، تعطيهم قيمة لحياتهم التافهة بفعل انتسابهم إلى ديانة تتابعت لآلاف السنين، ديانة انتسب إليها في السابق عظماء أنبياء وملوك. قلوبهم تتمسّك بالعبادة تمسّكها بالهواء. بدون عبادة في الهيكل هم بلا هويّة، والسبت رمز الهيكل.
الهيكل رمز حياتهم وأنت ماذا قلت لهم: أنّك تنقض الهيكل، وأنّهم سيعبدون الله ليس في الهيكل وإنّما في الروح والحقّ! هذا كلام كبير عليهم. أتدري ماذا فعلت بهم، يا جاهل؟ لقد مزّقت قلوبهم تمزيقاً. أنت قلت لهم أنّ هوّيتهم ليست في الهيكل وإنّما في قلوبهم، وبكلامك هذا أعدتهم– أيّها الساذج – إلى قلوبهم، وهم قضوا عمراً وهم يحاولون الخروج من قلوبهم، ونسيانها في الهيكل. بكلامك أعدتهم إلى قلوبهم، أعدتهم إلى القلق. هم لم يعرفوا كيف وصلوا إلى يوم نسوا فيه ذواتهم وصار الهيكل قلبهم وذابوا في جماعة كبيرة تحميهم من شعورهم بالعجز ومن ضرورة العودة إلى الذات والاعتماد على القلب والفكر. إنّي قد عملت كثيرا في المجمع، مع أصدقائي الكهنة والفرّيسيين وعليّة القوم الذين تراهم حولك مجموعين، كي أريحهم من ذواتهم، من قلوبهم، وأنت جئت تمزّقهم، جئت تخلّع قلوبهم، جئت تعيدهم إلى ذواتهم، جئت تخرّب كلّ ما بنيناه في سنين. لكن كان لديّ ثقة بهم، فخوفهم من قلوبهم ومن حرّية العبادة بالروح التي تدعوهم إليها يعمل لمصلحتي. سيرفضونك شرّ رفض. سذاجتك ستقتلك، إيمانك بقلوبهم وبحركة الحبّ فيها ستقضي عليك، المقدّس عندهم أهمّ من الحياة نفسها؛ وهو بالتأكيد أهم من ذلك الشاب. أصلا هم لم يصدّقوا صحبك بأنّه كان هناك شاب يابس اليد في الهيكل. ولن يصدّقوا لأنّهم لا يريدون أن يصدّقوا. لا بل أكثر من ذلك، سأخبرهم أنّ ذلك الشاب حقيقيّ وسترى كيف أنّهم لن يأبهوا.
سترى بنفسك. ستسمع بأذنيك أيّها الساذج.
وخرج للوقت وصرخ بالجموع.
إنّه يشفي الشاب وسط الهيكل. إنّه يهتك الهيكل. إنّه يهتك مقدّساتنا. إنّه يهتك السبت الذي تقشعرّ لصوت أسمه أبداننا، إنّه يدنّس قداسة وطهر الصلوات الجميلة والأصوات الأجمل. يقول لكم أنّ مقدّساتنا ليست بأهمّية يد الشاب. يضع شاباً واحداً في الميزان مقابل كلّ مقدّساتنا، مقابل مشاعر كلّ الشعب؟ وأنا أقول لكم لا. أقول لكم أنّه مشبوه، أقول لكم أنّ توقيته مشبوه. كلّنا نعلم بيباس أيدي شباب وشباب، كلّنا نعلم، ولكنّنا نسكت، ونسكت عن حكمة، نسكت لأنّ السبت أهمّ مقدّساتنا ولأنّ الصلوات لا يجب أن تتعرقل، صحيح أنّنا ننسى هؤلاء الشباب في الأيّام الأخرى التي ليست سبتا، ولكنّنا ننساهم لسبب. ننساهم لأنّنا نعمل من أجل الربّ، من أجله هو... جلّ جلاله. إنّه ينتهك أقدس مقدّساتنا ويهزّ نظامنا المريح الجميل والمنتظم المعروف والمفهوم. إنّه يتهجّم على هيكل الربّ، ولا يتهجّم على هيكل الربّ إلاّ إبليس ومساعديه. تبّا لمن يتهجّم على مقدّساتنا، نحن كلّنا فدى مقدّساتنا. إنّه يمزّق شعبنا بترّهاته وذلك من أجل إنسان واحد أو مجموعة تافهة من الشباب. شعبنا أكبر من بضعة أشخاص، مقدّساتنا وسلامة هيكلنا، وسبتنا، أهمّ من أيّ شيء.
ثمّ صرخ بصوت عظيم.
وأقول أنّ حياة شاب واحد، بل وحياة مجموعة صغيرة من الشبّان، لا أهمّية لها أمام سلام شعب الله. وأمّا عن هذا المنافق فأقول: إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد هاجم مقدّساتنا، عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلّها. ماذا تقولون؟
"اصلبه اصلبه.... اصلبه اصلبه" وعلت الأصوات أكثر "اصلبه اصلبه.... اصلبه اصلبه "
وعاد إلى الداخل تعلو وجهه ابتسامة تهكّم.
آه. ماذا قلت لك أيّها الحالم. أرأيت. سأجعلهم يردّدون الكلام ذاته بعد قليل عند الحاكم، هناك ستسمعه للمرّة الأخيرة. هم أحبّوا كلامك الشعريّ، وفتنهم كلامك عن الحبّ. ولكن أنظر الآن. لا يهمّهم إلاّ السلام، إلاّ الهيكل، إلاّ مقدّساتهم. أرأيت؟ مشروعك الحالم حول المحبّة، حول أولويّة الإنسان على الناموس ليس سوى كلام بكلام، هلوسة، وفي أفضل الأحوال حلم يقظة، والآن كما ترى فشلت فشلا ذريعا أمام مقتضيات الواقع، واقع النظام العام والحفاظ على المقدّسات. يا أحمق.
إنّك تصمت وتصمت. أو تظنّني لا أعرف لم؟ أنا أعرف، أنّك تعرف أنّ المقدّسات عندي رمز النظام، أنا كلّ ما يهمّني النظام، النظام الذي يعمل لأجلنا كلّنا، أنا إنسان مسؤول عن هذه الجموع، أنت إنسان لا مسؤول، وضعت آمالا كبير في هذه الجموع، وما زلت تراهن على قلبها، ولكنّها -يا غبي- مجرّد جموع همجيّة. لقد سقتُهم بنفسي منذ زمن طويل، سقتهم بأمان، ولمصلحتهم حشوتهم بكلّ كلام جيّد مُمَنهج، واضح. لم أترك مجالا في عقولهم لشكّ ولا لتردّد. حشوتهم بالأمان كي يرتاحوا من عناء هذه الدنيا، من عناء عبوديتّهم للرومان. وتأتي أنت، بكلامك الشاعري، فتعكّر سلامهم الداخليّ، توقظ فيهم كلّ ما حاولت أن أخدّره في قلوبهم وعقلوهم: الشكّ، التردّد، مراجعة الذات، إعادة النظر. ولكنّك فشلت أيّها التافه. فشلت. تظنّ أنّه يحبّون كلامك، كلامك المعسول، كلامك الجميل. نعم، كلامك الشيطانيّ، يا ابن بعل زبول، يشدّهم إلى حين، يغريهم، ولكنّهم، كما ترى، يفضّلون الموت عبوديّة من أن يتحرّروا ويعبدوا الله بالروح، ويسيروا في الحقّ. عدم الشعور بأمان الأمور الممسوكة، المُهَيكلة، المفهومة، التي ترتاح لها النفوس كما ترتاح الأبدان لكأس نبيذ معتّق؛ عدم الشعور بالأمان هذا، الذي تزرعه يا صديقي، ترفضُه قلوبهم، وأنت تراهن على القلب، يا ساذج. هذه الجموع التي هتفت ضدّك، ومع مقدّساتنا، تفضّل الموت على أن تشكّ وأن تبحث عن الحقّ الذي دعوتها إليه، أتعتقد أنّهم لم يروا ولم يسمعوا قبلا عن شاب يابس اليد؟ سمعوا ولكن لا يأبهون، لأنّهم إن أهتمّوا تهتزّ مستنقعات نهاراتهم، ويقلقوا لياليهم، ويشكّوا، ويتعبوا، ويسألوا، وعندها سيرتاعوا من البحث عن جواب. أنا أجهّز لهم الجواب كلّ سبت، وهم يتلذّذون به مع كلّ صوت صادح في كلّ صلاة. لقد عبثت في المكان الخطأ، يا صديقي، عبثت في القلب، لحسن حظّي. لو أنّك جئتهم بشريعة جديدة لكنتُ قتلتك فورا، ولكنّك جئتَهم بطريق، بتحوّل، بسؤال؛ فتسلّيت بك، فأنا أعرفهم وأنت لا تشكّل خطراً، فميدان القلب يخيفهم، وهم يرفضونه حتّى ولو بقوا في العبوديّة. والآن سأسدل الستار بعد قليل وأرسلك إلى الحاكم. لا نحتاج إليك، فالهيكل كما قرّر الشعب أهمّ من كلامك وشاعريّتك التي لا تطعمهم خبزا، ولا تشنّف آذانهم، ولا تعبق في أنوفهم، ولا تجعلهم ينسون مرارة الواقع. بل على العكس، شاعريّتك أنت وصحبك تذكّرهم بكلّ ما يقلقهم، وإنّه لأسهل عليهم أن يموتوا من أن يقلقوا. فشلتَ وصمتك أكبر دليل.
كلهم موافقون أرأيت؟ وافقوا أنّ حياة شاب واحد، بل وحياة مجموعة صغيرة من الشبّان، لا أهمّية لها أمام سلام شعب الله، وأنّه كان خير لنا لو أنّ ذاك الشاب الذي يبست يده في الهيكل لم نعرف عنه، على أن تهلك الأمّة كلها. ووافقوا بأن أنتَ أيضاً خير لنا أن تموت عن الشعب ولا تهلك الأمّة كلها.
خذوه.