كتاب التجلّي "فصح البيولوجيا" للدكتور جورج معلولي
مجلّة النور الأرثوذكسيّة، عدد ٣، ٢٠١٨
مجلّة النور الأرثوذكسيّة، عدد ٣، ٢٠١٨
كتاب التجلّي "فصح البيولوجيا" للدكتور جورج معلولي[1]
لا يقع القارئ على أيّ شبه في العربيّة بين كتاب الدكتور جورج معلولي وبين أيّ نتاج أرثوذكسيّ آخر. هو كتاب تأمّل عميق في التقليد الأرثوذكسيّ وعميق في الطبّ وفي علم النفس. يجمع فيه الدكتور معلولي بين معرفته العلميّة الطبّية وشغفه الشخصيّ بعلم النفس وإيمانه الأرثوذكسيّ الذي يحياه في كنيسته، ويبقى في خلفيّة الكتاب همّ المدّ البشاريّ للكنيسة الذي يحياه الكاتب من خلال التزامه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.
يجد القارئ في هذا الكتاب مجموعة من التأمّلات في نصوص إنجيليّة تتشابك فيها الخبرة الإيمانيّة (ومنها خبرة آباء من الكنيسة) مع المعارف البيولوجيّة والنفسيّة. فإذا بالكاتب يطلّ إلى النصوص بعينيّ الإيمان والعلم ليحيا النصّ أمام وجه القارئ وتتّضح معانٍ جديدة في النصّ لم تكن تخطر ببال. وفي كلّ ذلك ينساب النصّ بلغة سلسة وباختصار ووضوح. ليختبر القارئ متعةً خاصّة في قراءة النصوص. ومن خصوصيّة الكتاب أنّ التأمّلات قصيرة وليست مترابطة بحيث أنّه يمكن للإنسان أن يقرأ بضعة نصوص في يوم ويتابع بعد أيّام أو أسابيع بكلّ سهولة.
الصورة الإلهيّة في لحم ونفس الإنسانمقالة إثر مقالة، يرى القارئ بأنّ الله قريبٌ قريبٌ، وأنّه غرس صورته الإلهيّة في البيولوجيا نفسها فـ"الصورة الإلهيّة تختم آدم عميقاً في لحمه"[2]، وليس فقط في إرادته وحرّيته وقدرته على المحبّة، وهنا تكمن مساهمة الكاتب الكبرى، إذ أنّه يبيّن بوضوح لم يسبقه إليه أحد على حدّ علمنا، كيف أنّ الله تنازل في خلقه، أخلى ذاته، لكي يختم صورته في بيولوجيا الطبيعة الإنسانيّة. فيشرح معلولي، مثلاً، معطيات العلوم الحاليّة التي تكشف أنّ التعاطف منحوت في الدماغ البشريّ، وبعينيّ المؤمن يقرأ هذا الكشف العلميّ ليرى بأنّ "التعاطف هو ختم الملكوت في البيولوجيا"[3]. من خلال هذا التحليل وتحليلات مشابهة، يوسّع الدكتور معلولي تفسير الصورة الإلهيّة لتشمل أيضاً جسد الإنسان البيولوجيّ. فيؤكّد بذلك على ذاك المعطى في التراث ألا وهو أنّ الإنسان كلّه مخلوق على صورة الله.
يأخذنا الدكتور معلولي في رحلة نرى فيها كيف أنّ الله يخاطب الإنسان ليس فقط من خلال حضارته ولغته، كما هو متعارف عليه، وإنّما أيضاً من خلال أوضاعه البيولوجيّة والنفسيّة إذ "يتنازل الربّ إلى الظرف النفسي-الجسدي... ويصعده"[4] إلى مستوى الرؤيا، إلى مستوى الكشف عن بُعدٍ من أبعاد الإيمان، كما حصل مع بطرس الذي حلم بأنّ الله يأمره بأن يأكل من ذبائح الأوثان (فصح البيولوجيا) ليدلّه إلى ضرورة مدّ البشارة إلى الوثنيين.
فالله في تعاليه لا يبقى بعيدا وإنّما يتنازل بشكل مستمرّ ليصعد الإنسان إليه، وكما قلنا فإنّ فعل الخليقة نفسه هو فعل خروج الله من ذاته، فعل إخلاء لذاته، ليخلق خليقته ويتواصل معها، ومع معلولي نتأكّد من جديد بأنّ فعل الخليقة هو فعل مستمرّ حتّى اليوم، فعل تنازل مستمرّ من الله لكي ينمو الإنسان إلى "ملء قامة المسيح".
هكذا، فإنّ الله يتعامل مع التراث الإنسانيّ وهوامات البشر، بما هي عليه من هشاشة ونقصان، ولكنّه يتعامل معها "كحصان طروادة"، كما يقول معلولي في "فصح العلاقات"[5]، حتّى يبلغ قلب الإنسان ويغيّره من الداخل. ولهذا يصل معلولي إلى أنّ الفضائل هي "إلهيّة-إنسانيّة"[6]، يشرق فيها الله ليؤازر الإنسان في سعيه إلى المحبّة.
الرمزفي هذه المسيرة الإلهيّة الإنسانيّة، تلعب الرموز دورا مهمّا. والرموز كما نعرفها في الكنيسة تعني حضورا للمرموز. في مقالته "نزهة مائيّة"، يبيّن معلولي كيف أنّ رمزي الماء والروح اللذين يستخدمهما يسوع في حديثه مع نيقوديموس للدلالة على الولادة من الماء والروح، يدلاّ نيقوديموس إلى الولادة الجديدة، يدفعانه إلى الأمام (التألّه) وليس إلى الماضي (رحم الأمّ)، يمدّانه نحو مدى الله، من خلال الماء الذي عادة ما يرمز إلى التحوّل والأمومة والريح التي عادة ما ترمز إلى رمز قوّة الله الخالقة. هذه القراءة تتلاقى مع المحلّل النفسي كارل غوستاف يونغ الذي أوضح أنّ "الرموز هي محوّلات تنقل الطاقة النفسيّة من مستويات دنيا إلى مستويات عليا"[7]. بالفعل إنّ الطبيعة (الماء، الريح، إلخ.) هي "محيط من المعاني" كما كان يقول اسحق السرياني[8].
لا بدّ أن نمرّ هنا على تحليل معلولي لنصّ السامريّة في "فصح العطش"، بالقول بأنّه نصّ شديد الجمال[9]. يأخذ فيه معلولي القارئ من معنى إلى معنى مشيراً إلى مدى أوسع فأوسع لحوار يسوع مع السامريّة، في تحليل يأخذ بلبّ القارئ. ونترك للقرّاء أن يقرأوا بأنفسهم.
صور الله المشوّهةفي هذه المسيرة مع يسوع - والكتاب هو في الحقيقة مسيرة مع يسوع من خلال أقواله- يطلّ معلولي إلى ضرورة الانتباه إلى تجاوز صور الله المشوّهة فينا لملاقاة إله يسوع المسيح. فيلمح معلولي في المخلّع المنتظر أمام البركة ليشفى، إحساسا بالذنب وحاجة إلى العقاب، وهو على أيّ حال مستقرّ في "حالة نفي قوّة الحياة". أمّا الجمع الذي رفض أن يشفي يسوعُ الأعمى يوم سبت، فقد كانوا يرون الله إلهاً يطلب الذنب ويكبت رغبة الحياة، ذلك أنّه بالنسبة لهم فِعْل الشفاء، فِعل تفجير الحياة، معاد لشريعة الله إن حصل يوم سبت.
هذا التشويه، وكلّ تشويه لوجه الله، إله الحياة والحبّ، يصحّحه يسوع بأعماله ويشير إلى بطلانه، ويكشف وجه الله المُحِبّ للبشر. وإذ يُظهر يسوع وجه الله لم نعد معذورون اليوم أن نبني عن الله صور مشوّهة[10]. ويردّنا معلولي دائماً إلى التراث، فيذكّر بأنّ أباً مثل اسحق السرياني أوضح بأنّ صفات الله مثل الغضب والحقد والانتقام ينبغي ألاّ تُفهم حرفيّاً[11].
الله المرافق الغامضالله هو الإله المحبّ، هو المحبّة. ويتكشّف لنا مع معلولي، أنّه أيضاً الإله المرافق الغامض، المرافق الغريب، رفيق الدرب الذي بدا على طريق عمواس[12] مرافقا لقلق وألم التلاميذ. هو الإله الرفيق كلّ يوم لكلّ تلميذ ولجميع السائرين في "الطريق والحقّ والحياة". وكما يقول معلولي بلمحة شعريّة أخّاذة، كلّ يوم "يأتي الله ليبكي كلّ دموعنا"[13]، ويحضننا، ويعضدنا.
تجاوز القلقلهذا فإنّ الإيمان بيسوع المسيح يسمح بتجاوز القلق دون إلغائه، فيسوع يفدي قلقنا[14]، لأنّ الإيمان به يُرسي فينا ثقة بأنّ حبّه أبديّ، رغم كلّ الآلام والصعوبات والمصائب التي لا بدّ منها في مجرى حياتنا، على كوكب هشّ، في كون هشّ.
النجاة من التفكّك إلى الوحدةوفي هذه الطريق مع المسيح، مع رفيق الدرب الغريب، يوحّد الله طاقاتنا، يوحّدنا داخليّاً، فننجو من التفكّك، كما نجا الممسوس من "لجيون" عند لقائه يسوع[15].
تنصيب الذات صنماًويحذّر معلولي من تنصيب الذات صنماً خلال هذه المسيرة مع يسوع، الطريق والحقّ والحياة هم دائماً يسوع. ويذكّر في "فصح النظر" الذي يدور حول نصّ المرأة الزانية[16]، بأنّ إدانة الآخرين قد تخفي رغبة بتبييض صفحة الذات، وانزلاقاً إلى المماهاة بين الله وبين الذات. فالمرأة المتّهمة في زنى أرادها المجتمعون عليها كبش محرقةٍ تعويضاً عمّا يدور في نفوسهم؛ وبينما حاولوا أن يستخدموا المرأة مناسبةً لجرّ يسوع إلى طريقتهم في النظر والتصرّف، أعادَ يسوع أنظارهم إلى دواخلهم.
ملاحظات روحيّة عديدة يعجّ بها الكتاب، تُذَكّر بنظرات يسوع التي كانت تدفعنا إلى إعادة النظر بذواتنا، وكأنّ الكاتب معلولي، بلطفه المعهود، والذي يشفّ من خلال صفحات الكتاب، ينقل إلينا لطف يسوع ونظراته التي تحيي.
تجلّي الإنسانإنّ هذا الكتاب المكتوب بعمق ووضوح فكريّ أخّاذين، معجون بالكشوفات العلميّة الحديثة التي تبيّن، صفحة إثر صفحة، كيف يضيء الله في قلب كيان الإنسان من خلال تكوينه البيولوجيّ. ويرى الكاتب عن حقّ أنّ هذا التتبّع لآثار الله في الكيان البشريّ، هو في النهاية تتبّع لآثار التجلّي في الحياة الإنسانيّة، فكأنّ معلولي كان يحاول في كتابه واهتمامه العلميّ والإيمانيّ أن يجيب عن التساؤل الذي طرحه في الكتاب أن "كيف يمكن لهيكليّة الإنسان العصبيّة-الشعوريّة-العاطفيّة أن تتهيّأ أرضاً صالحةً، لتلد الكيان الجسديّ-النفسيّ-الروحيّ للإنسان ليصوّر فيه المسيح؟ هذه إشكاليّة تجلّي"[17].
وإن كان "النسك هو تحويل المواد الخام إلى أعمال فنّية"[18]، فإنّ هذا الكتاب الإنجيليّ حتّى الصميم، والذي يقرأ معطيات العلوم بعينيّ المؤمن، عملٌ فنّي رائع من صفحات رائعة تخاطب العقل والوجدان والقلب، فإذا بالكتاب مغمّس بنكهة النسك.
مراجع
[1] د. جورج معلولي، فصح البيولوجيا، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، سلسلة الإيمان والإنسان، ١، ٢٠١٤
[2] ص. ١٨
[3] ص. ١٠٤
[4] ص. ١٦
[5] ص. ٩٤
[6] ص. ١٥٤
[7] ص. ٢٤
[8] ص. ١٥٥
[9] ص. ٢٧ - ٣٢
[10] ص. ٨٣
[11] ص. ١٠٠
[12] ص. ٥٧ - ٥٨
[13] ص. ١٥٣
[14] ص. ٧٢
[15] ص. ٥٢
[16] ص. ٣٣
[17] ص. ١١٦
[18] ص. ١٥٢
لا يقع القارئ على أيّ شبه في العربيّة بين كتاب الدكتور جورج معلولي وبين أيّ نتاج أرثوذكسيّ آخر. هو كتاب تأمّل عميق في التقليد الأرثوذكسيّ وعميق في الطبّ وفي علم النفس. يجمع فيه الدكتور معلولي بين معرفته العلميّة الطبّية وشغفه الشخصيّ بعلم النفس وإيمانه الأرثوذكسيّ الذي يحياه في كنيسته، ويبقى في خلفيّة الكتاب همّ المدّ البشاريّ للكنيسة الذي يحياه الكاتب من خلال التزامه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.
يجد القارئ في هذا الكتاب مجموعة من التأمّلات في نصوص إنجيليّة تتشابك فيها الخبرة الإيمانيّة (ومنها خبرة آباء من الكنيسة) مع المعارف البيولوجيّة والنفسيّة. فإذا بالكاتب يطلّ إلى النصوص بعينيّ الإيمان والعلم ليحيا النصّ أمام وجه القارئ وتتّضح معانٍ جديدة في النصّ لم تكن تخطر ببال. وفي كلّ ذلك ينساب النصّ بلغة سلسة وباختصار ووضوح. ليختبر القارئ متعةً خاصّة في قراءة النصوص. ومن خصوصيّة الكتاب أنّ التأمّلات قصيرة وليست مترابطة بحيث أنّه يمكن للإنسان أن يقرأ بضعة نصوص في يوم ويتابع بعد أيّام أو أسابيع بكلّ سهولة.
الصورة الإلهيّة في لحم ونفس الإنسانمقالة إثر مقالة، يرى القارئ بأنّ الله قريبٌ قريبٌ، وأنّه غرس صورته الإلهيّة في البيولوجيا نفسها فـ"الصورة الإلهيّة تختم آدم عميقاً في لحمه"[2]، وليس فقط في إرادته وحرّيته وقدرته على المحبّة، وهنا تكمن مساهمة الكاتب الكبرى، إذ أنّه يبيّن بوضوح لم يسبقه إليه أحد على حدّ علمنا، كيف أنّ الله تنازل في خلقه، أخلى ذاته، لكي يختم صورته في بيولوجيا الطبيعة الإنسانيّة. فيشرح معلولي، مثلاً، معطيات العلوم الحاليّة التي تكشف أنّ التعاطف منحوت في الدماغ البشريّ، وبعينيّ المؤمن يقرأ هذا الكشف العلميّ ليرى بأنّ "التعاطف هو ختم الملكوت في البيولوجيا"[3]. من خلال هذا التحليل وتحليلات مشابهة، يوسّع الدكتور معلولي تفسير الصورة الإلهيّة لتشمل أيضاً جسد الإنسان البيولوجيّ. فيؤكّد بذلك على ذاك المعطى في التراث ألا وهو أنّ الإنسان كلّه مخلوق على صورة الله.
يأخذنا الدكتور معلولي في رحلة نرى فيها كيف أنّ الله يخاطب الإنسان ليس فقط من خلال حضارته ولغته، كما هو متعارف عليه، وإنّما أيضاً من خلال أوضاعه البيولوجيّة والنفسيّة إذ "يتنازل الربّ إلى الظرف النفسي-الجسدي... ويصعده"[4] إلى مستوى الرؤيا، إلى مستوى الكشف عن بُعدٍ من أبعاد الإيمان، كما حصل مع بطرس الذي حلم بأنّ الله يأمره بأن يأكل من ذبائح الأوثان (فصح البيولوجيا) ليدلّه إلى ضرورة مدّ البشارة إلى الوثنيين.
فالله في تعاليه لا يبقى بعيدا وإنّما يتنازل بشكل مستمرّ ليصعد الإنسان إليه، وكما قلنا فإنّ فعل الخليقة نفسه هو فعل خروج الله من ذاته، فعل إخلاء لذاته، ليخلق خليقته ويتواصل معها، ومع معلولي نتأكّد من جديد بأنّ فعل الخليقة هو فعل مستمرّ حتّى اليوم، فعل تنازل مستمرّ من الله لكي ينمو الإنسان إلى "ملء قامة المسيح".
هكذا، فإنّ الله يتعامل مع التراث الإنسانيّ وهوامات البشر، بما هي عليه من هشاشة ونقصان، ولكنّه يتعامل معها "كحصان طروادة"، كما يقول معلولي في "فصح العلاقات"[5]، حتّى يبلغ قلب الإنسان ويغيّره من الداخل. ولهذا يصل معلولي إلى أنّ الفضائل هي "إلهيّة-إنسانيّة"[6]، يشرق فيها الله ليؤازر الإنسان في سعيه إلى المحبّة.
الرمزفي هذه المسيرة الإلهيّة الإنسانيّة، تلعب الرموز دورا مهمّا. والرموز كما نعرفها في الكنيسة تعني حضورا للمرموز. في مقالته "نزهة مائيّة"، يبيّن معلولي كيف أنّ رمزي الماء والروح اللذين يستخدمهما يسوع في حديثه مع نيقوديموس للدلالة على الولادة من الماء والروح، يدلاّ نيقوديموس إلى الولادة الجديدة، يدفعانه إلى الأمام (التألّه) وليس إلى الماضي (رحم الأمّ)، يمدّانه نحو مدى الله، من خلال الماء الذي عادة ما يرمز إلى التحوّل والأمومة والريح التي عادة ما ترمز إلى رمز قوّة الله الخالقة. هذه القراءة تتلاقى مع المحلّل النفسي كارل غوستاف يونغ الذي أوضح أنّ "الرموز هي محوّلات تنقل الطاقة النفسيّة من مستويات دنيا إلى مستويات عليا"[7]. بالفعل إنّ الطبيعة (الماء، الريح، إلخ.) هي "محيط من المعاني" كما كان يقول اسحق السرياني[8].
لا بدّ أن نمرّ هنا على تحليل معلولي لنصّ السامريّة في "فصح العطش"، بالقول بأنّه نصّ شديد الجمال[9]. يأخذ فيه معلولي القارئ من معنى إلى معنى مشيراً إلى مدى أوسع فأوسع لحوار يسوع مع السامريّة، في تحليل يأخذ بلبّ القارئ. ونترك للقرّاء أن يقرأوا بأنفسهم.
صور الله المشوّهةفي هذه المسيرة مع يسوع - والكتاب هو في الحقيقة مسيرة مع يسوع من خلال أقواله- يطلّ معلولي إلى ضرورة الانتباه إلى تجاوز صور الله المشوّهة فينا لملاقاة إله يسوع المسيح. فيلمح معلولي في المخلّع المنتظر أمام البركة ليشفى، إحساسا بالذنب وحاجة إلى العقاب، وهو على أيّ حال مستقرّ في "حالة نفي قوّة الحياة". أمّا الجمع الذي رفض أن يشفي يسوعُ الأعمى يوم سبت، فقد كانوا يرون الله إلهاً يطلب الذنب ويكبت رغبة الحياة، ذلك أنّه بالنسبة لهم فِعْل الشفاء، فِعل تفجير الحياة، معاد لشريعة الله إن حصل يوم سبت.
هذا التشويه، وكلّ تشويه لوجه الله، إله الحياة والحبّ، يصحّحه يسوع بأعماله ويشير إلى بطلانه، ويكشف وجه الله المُحِبّ للبشر. وإذ يُظهر يسوع وجه الله لم نعد معذورون اليوم أن نبني عن الله صور مشوّهة[10]. ويردّنا معلولي دائماً إلى التراث، فيذكّر بأنّ أباً مثل اسحق السرياني أوضح بأنّ صفات الله مثل الغضب والحقد والانتقام ينبغي ألاّ تُفهم حرفيّاً[11].
الله المرافق الغامضالله هو الإله المحبّ، هو المحبّة. ويتكشّف لنا مع معلولي، أنّه أيضاً الإله المرافق الغامض، المرافق الغريب، رفيق الدرب الذي بدا على طريق عمواس[12] مرافقا لقلق وألم التلاميذ. هو الإله الرفيق كلّ يوم لكلّ تلميذ ولجميع السائرين في "الطريق والحقّ والحياة". وكما يقول معلولي بلمحة شعريّة أخّاذة، كلّ يوم "يأتي الله ليبكي كلّ دموعنا"[13]، ويحضننا، ويعضدنا.
تجاوز القلقلهذا فإنّ الإيمان بيسوع المسيح يسمح بتجاوز القلق دون إلغائه، فيسوع يفدي قلقنا[14]، لأنّ الإيمان به يُرسي فينا ثقة بأنّ حبّه أبديّ، رغم كلّ الآلام والصعوبات والمصائب التي لا بدّ منها في مجرى حياتنا، على كوكب هشّ، في كون هشّ.
النجاة من التفكّك إلى الوحدةوفي هذه الطريق مع المسيح، مع رفيق الدرب الغريب، يوحّد الله طاقاتنا، يوحّدنا داخليّاً، فننجو من التفكّك، كما نجا الممسوس من "لجيون" عند لقائه يسوع[15].
تنصيب الذات صنماًويحذّر معلولي من تنصيب الذات صنماً خلال هذه المسيرة مع يسوع، الطريق والحقّ والحياة هم دائماً يسوع. ويذكّر في "فصح النظر" الذي يدور حول نصّ المرأة الزانية[16]، بأنّ إدانة الآخرين قد تخفي رغبة بتبييض صفحة الذات، وانزلاقاً إلى المماهاة بين الله وبين الذات. فالمرأة المتّهمة في زنى أرادها المجتمعون عليها كبش محرقةٍ تعويضاً عمّا يدور في نفوسهم؛ وبينما حاولوا أن يستخدموا المرأة مناسبةً لجرّ يسوع إلى طريقتهم في النظر والتصرّف، أعادَ يسوع أنظارهم إلى دواخلهم.
ملاحظات روحيّة عديدة يعجّ بها الكتاب، تُذَكّر بنظرات يسوع التي كانت تدفعنا إلى إعادة النظر بذواتنا، وكأنّ الكاتب معلولي، بلطفه المعهود، والذي يشفّ من خلال صفحات الكتاب، ينقل إلينا لطف يسوع ونظراته التي تحيي.
تجلّي الإنسانإنّ هذا الكتاب المكتوب بعمق ووضوح فكريّ أخّاذين، معجون بالكشوفات العلميّة الحديثة التي تبيّن، صفحة إثر صفحة، كيف يضيء الله في قلب كيان الإنسان من خلال تكوينه البيولوجيّ. ويرى الكاتب عن حقّ أنّ هذا التتبّع لآثار الله في الكيان البشريّ، هو في النهاية تتبّع لآثار التجلّي في الحياة الإنسانيّة، فكأنّ معلولي كان يحاول في كتابه واهتمامه العلميّ والإيمانيّ أن يجيب عن التساؤل الذي طرحه في الكتاب أن "كيف يمكن لهيكليّة الإنسان العصبيّة-الشعوريّة-العاطفيّة أن تتهيّأ أرضاً صالحةً، لتلد الكيان الجسديّ-النفسيّ-الروحيّ للإنسان ليصوّر فيه المسيح؟ هذه إشكاليّة تجلّي"[17].
وإن كان "النسك هو تحويل المواد الخام إلى أعمال فنّية"[18]، فإنّ هذا الكتاب الإنجيليّ حتّى الصميم، والذي يقرأ معطيات العلوم بعينيّ المؤمن، عملٌ فنّي رائع من صفحات رائعة تخاطب العقل والوجدان والقلب، فإذا بالكتاب مغمّس بنكهة النسك.
مراجع
[1] د. جورج معلولي، فصح البيولوجيا، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، سلسلة الإيمان والإنسان، ١، ٢٠١٤
[2] ص. ١٨
[3] ص. ١٠٤
[4] ص. ١٦
[5] ص. ٩٤
[6] ص. ١٥٤
[7] ص. ٢٤
[8] ص. ١٥٥
[9] ص. ٢٧ - ٣٢
[10] ص. ٨٣
[11] ص. ١٠٠
[12] ص. ٥٧ - ٥٨
[13] ص. ١٥٣
[14] ص. ٧٢
[15] ص. ٥٢
[16] ص. ٣٣
[17] ص. ١١٦
[18] ص. ١٥٢