فالنتينا
هي
الثلاثاء ٨ أيلول ٢٠٢٠
خريستو المرّ
لا يعرفها أحد، حتّى المقرّبون. فهي كالشمس، تختبئ في وضح نفسها. تعامل الجميع كما يُعاملُ الماء العصافير والسماء، تعطي وجهها كي يرى الآخرون أنفسهم فيها سماوات جميلةً، وكي يشربوا كالعصافير من ضوءٍ رفّ يومًا في عينيها.
لكنّ الناس لم يتمرّنوا على رؤية الوجوه مياهًا، أو ذواتهم سماءً وعصافير. اعتاد معظم الناس القوى وتوازن القوى، أي اعتادوا القامع والمقموع، وأن يشكّلوا الآخرين على صورتهم، لأنّهم يرتاحون لاستنساخ صُوَرِهم ويسمّون ذلك حبًّا وصداقة. قلّة فقط عرفت اللهَ في البريء الذي ينكسر، وانتبهت أنّ هوّة اللهيب الذي لا يعرف انطفاءً لا تردمها إلّا محبّةٌ تَسكر بالوجوهِ مساحاتِ ألوانٍ لا تنتهي.
هي حلم زهرةٍ بأن تتجسّدَ، تجسّدَ. تتفتّح أمام النسيم فيعرفها، وتمرّ العواصف ولا تعرف عنها شيئا، فالزهر يحتضن جمالَه ليحميَه من القساوة، ومن اللامبالاة التي تسمّي نفسها ذكاء. من يُرِدْ أن يلاقي الزهرة يصِرْ بسيطًا كنجمة: ينحني أمام تويجاتها، ويصغي طويلا لحكايا الحبِّ الخبيئةِ في الألوان، ثُمَّ يفهم كيف تختبئ المعجزات في جراح المساء.
لم يرَها بالفعل إلّا الذين وجدَتْهُم مرارًا يائسين، فعجنت لهم الضوءَ النازل من فوق: ساعات من العمل البطيء كي يدخل الدفء خلف ستارة قلب مُغلق؛ قيادةٌ لساعات لتضيء الصداقة لمريضٍ طاعنٍ في الوحدة؛ شهورٌ وسنواتٌ من الصبر كي يعود إنسان من مجهولٍ توحّد كغابة؛ صبرٌ طويل كي يجد إنسانٌ صوته؛ حبّ كبير كي تولد معجزةُ الحنان من الرضّ الكبير.
للمرميّين تفاصيلُ صغيرةٌ لا تهمّ أحدًا، تهتمّ هي لها. فهي ترى، بوضوح السماء في يوم باردٍ، ذاك الشبه بين من تُرِكَ معُلّقًا على خشبة، وبين من علّقتهم حضارة الناس على مسامير العزلة، ورمتهم في زوايا مدينةٍ جميلةٍ نظيفةٍ أضحت أسوارًا.
لا يُسمَعُ صوتها في الساحات. وهجًا مرضوضًا لقلبٍ وحيدٍ لا تكسر، وفتيلاً مدخّنًا لصوتٍ ضائعٍ لا تُطفئ. لا، لم تجد عيناي نهرًا كالذي يرقص بين يديها حين تعملان، ولا سماءً كالتي تضيء حولهما حين ترتجفان.
إن قالت كانت كلماتها مغمّسة بالحبّ والعناية. حكاية أحد طلاّبها سحرتني: ضائعًا كان، رسب في اختصاصٍ بارد على قلبه، ثمّ فرٍحًا جاء ليشكرها لأنّه لمح فيها عُشقًا للعالم فتح عينيه على حالة من الحبّ. قال أنّه بها فهم كيف يحيا من يحبّ عمله، فغيّر اختصاصه ليدرس في ميدان يميل قلبه إليه. رأى طريق جمالٍ فأراده لنفسه، أراد أن يكون حيث هي، أي حيث كلّ الذين أحبّوا فتوحّدوا مع كلامهم موجودون. لا أعرف عنه شيئًا اليوم، ولكنّي أعلم أنّ ذاك الإنسان كان ميتًا فعاش وكان ضائعًا فوُجِد.
لم أجد مسافة بين ما تقول وتعمل، لهذا لا يمرّ يوم لا أرى فيه يسوع ساكنًا وجهها، وألامسها كما ألامس أيقونة، وحين يتعبني السهر لفكِّ سرِّ الشِّعْرِ المكتوب على جفني عينيها المغمضتين، أتمنّى أن أكون العتمة حتّى لا يأخذني النوم عنها.
وتضحك لكلامي وكتابتي. تقول إنّي مسكين في عالمٍ فقد قلبه، ثمّ تصمت وتُقَبِّل جنوني. ثمّ أرى روحًا يحتضن العالم حين تقول لي: تعالَ معي خلف يسوعِكَ، وخلف شمسٍ أو آخر، ولنحمل حقيبتين على ظهرينا، ونلحق بالهواء الطلق، ولنكتب شعرًا بالحبّ الصرف. تعال ننسَ الكلام لنصبح الكلام، عندها سنصنع خبزًا فرنسيًّا، وربّما شوكولاتة، في مخيّمٍ ما، مرميّ في الحقيقة خارج زمن المدينة؛ وربّما نذهب عميقًا في الهامش، فيعود قلبانا حافيين ونفهم الله كما لم يفهمه سوى الجسد المعلّق خارج الأسوار. تعال معي. أنت مؤمن أليس كذلك؟ تصمت وتبتسم، وأنا أحنّ إلى وجهي المضيء، وأدمع.
هكذا هي، تعلّق الأضواء في الغرفة وتخلع عنها الموت، كلّما شاءت أن يصبح الليلُ لآلئ بين وجهينا. وفي آخر الغياب تقتحم الأبواب المغلقة لتدخل بمجدِ الحبّ إليّ مَلِكَةً، فأخرجُ حرًّا وصارخًا: وَجَدْتُني.
هي التي سُمِّيَت فالنتينا، وسمّيتها حبيبتي، والتي ما أزال أفتش عن اسمها في اسمها، وعمّا يختبئ خلف اسمها من أسماء.
هي مَنْ هي. هي الواحدة. وهي المستحيل الذي أتى فكان مساءٌ وكان صباحٌ، أو ربّما كان شيءٌ ما خلف الصباح والمساء، لست أعلم، الله يعلم، ولكنّي أعلم أنّها كانت فكان كلُّ شيء جميلا.
الثلاثاء ٨ أيلول ٢٠٢٠
خريستو المرّ
لا يعرفها أحد، حتّى المقرّبون. فهي كالشمس، تختبئ في وضح نفسها. تعامل الجميع كما يُعاملُ الماء العصافير والسماء، تعطي وجهها كي يرى الآخرون أنفسهم فيها سماوات جميلةً، وكي يشربوا كالعصافير من ضوءٍ رفّ يومًا في عينيها.
لكنّ الناس لم يتمرّنوا على رؤية الوجوه مياهًا، أو ذواتهم سماءً وعصافير. اعتاد معظم الناس القوى وتوازن القوى، أي اعتادوا القامع والمقموع، وأن يشكّلوا الآخرين على صورتهم، لأنّهم يرتاحون لاستنساخ صُوَرِهم ويسمّون ذلك حبًّا وصداقة. قلّة فقط عرفت اللهَ في البريء الذي ينكسر، وانتبهت أنّ هوّة اللهيب الذي لا يعرف انطفاءً لا تردمها إلّا محبّةٌ تَسكر بالوجوهِ مساحاتِ ألوانٍ لا تنتهي.
هي حلم زهرةٍ بأن تتجسّدَ، تجسّدَ. تتفتّح أمام النسيم فيعرفها، وتمرّ العواصف ولا تعرف عنها شيئا، فالزهر يحتضن جمالَه ليحميَه من القساوة، ومن اللامبالاة التي تسمّي نفسها ذكاء. من يُرِدْ أن يلاقي الزهرة يصِرْ بسيطًا كنجمة: ينحني أمام تويجاتها، ويصغي طويلا لحكايا الحبِّ الخبيئةِ في الألوان، ثُمَّ يفهم كيف تختبئ المعجزات في جراح المساء.
لم يرَها بالفعل إلّا الذين وجدَتْهُم مرارًا يائسين، فعجنت لهم الضوءَ النازل من فوق: ساعات من العمل البطيء كي يدخل الدفء خلف ستارة قلب مُغلق؛ قيادةٌ لساعات لتضيء الصداقة لمريضٍ طاعنٍ في الوحدة؛ شهورٌ وسنواتٌ من الصبر كي يعود إنسان من مجهولٍ توحّد كغابة؛ صبرٌ طويل كي يجد إنسانٌ صوته؛ حبّ كبير كي تولد معجزةُ الحنان من الرضّ الكبير.
للمرميّين تفاصيلُ صغيرةٌ لا تهمّ أحدًا، تهتمّ هي لها. فهي ترى، بوضوح السماء في يوم باردٍ، ذاك الشبه بين من تُرِكَ معُلّقًا على خشبة، وبين من علّقتهم حضارة الناس على مسامير العزلة، ورمتهم في زوايا مدينةٍ جميلةٍ نظيفةٍ أضحت أسوارًا.
لا يُسمَعُ صوتها في الساحات. وهجًا مرضوضًا لقلبٍ وحيدٍ لا تكسر، وفتيلاً مدخّنًا لصوتٍ ضائعٍ لا تُطفئ. لا، لم تجد عيناي نهرًا كالذي يرقص بين يديها حين تعملان، ولا سماءً كالتي تضيء حولهما حين ترتجفان.
إن قالت كانت كلماتها مغمّسة بالحبّ والعناية. حكاية أحد طلاّبها سحرتني: ضائعًا كان، رسب في اختصاصٍ بارد على قلبه، ثمّ فرٍحًا جاء ليشكرها لأنّه لمح فيها عُشقًا للعالم فتح عينيه على حالة من الحبّ. قال أنّه بها فهم كيف يحيا من يحبّ عمله، فغيّر اختصاصه ليدرس في ميدان يميل قلبه إليه. رأى طريق جمالٍ فأراده لنفسه، أراد أن يكون حيث هي، أي حيث كلّ الذين أحبّوا فتوحّدوا مع كلامهم موجودون. لا أعرف عنه شيئًا اليوم، ولكنّي أعلم أنّ ذاك الإنسان كان ميتًا فعاش وكان ضائعًا فوُجِد.
لم أجد مسافة بين ما تقول وتعمل، لهذا لا يمرّ يوم لا أرى فيه يسوع ساكنًا وجهها، وألامسها كما ألامس أيقونة، وحين يتعبني السهر لفكِّ سرِّ الشِّعْرِ المكتوب على جفني عينيها المغمضتين، أتمنّى أن أكون العتمة حتّى لا يأخذني النوم عنها.
وتضحك لكلامي وكتابتي. تقول إنّي مسكين في عالمٍ فقد قلبه، ثمّ تصمت وتُقَبِّل جنوني. ثمّ أرى روحًا يحتضن العالم حين تقول لي: تعالَ معي خلف يسوعِكَ، وخلف شمسٍ أو آخر، ولنحمل حقيبتين على ظهرينا، ونلحق بالهواء الطلق، ولنكتب شعرًا بالحبّ الصرف. تعال ننسَ الكلام لنصبح الكلام، عندها سنصنع خبزًا فرنسيًّا، وربّما شوكولاتة، في مخيّمٍ ما، مرميّ في الحقيقة خارج زمن المدينة؛ وربّما نذهب عميقًا في الهامش، فيعود قلبانا حافيين ونفهم الله كما لم يفهمه سوى الجسد المعلّق خارج الأسوار. تعال معي. أنت مؤمن أليس كذلك؟ تصمت وتبتسم، وأنا أحنّ إلى وجهي المضيء، وأدمع.
هكذا هي، تعلّق الأضواء في الغرفة وتخلع عنها الموت، كلّما شاءت أن يصبح الليلُ لآلئ بين وجهينا. وفي آخر الغياب تقتحم الأبواب المغلقة لتدخل بمجدِ الحبّ إليّ مَلِكَةً، فأخرجُ حرًّا وصارخًا: وَجَدْتُني.
هي التي سُمِّيَت فالنتينا، وسمّيتها حبيبتي، والتي ما أزال أفتش عن اسمها في اسمها، وعمّا يختبئ خلف اسمها من أسماء.
هي مَنْ هي. هي الواحدة. وهي المستحيل الذي أتى فكان مساءٌ وكان صباحٌ، أو ربّما كان شيءٌ ما خلف الصباح والمساء، لست أعلم، الله يعلم، ولكنّي أعلم أنّها كانت فكان كلُّ شيء جميلا.