سامر أنّوس
الفذّون قليلون. شيء ما يشعّ فيهم، وبهم. هذا ما بدا عندما وقف ذاك الشاب في سينما "فيكتوريا" في مدينة الميناء في منتصف ثمانينات القرن الماضي، بعد عرض فيلم عن مسيرة للشباب والمعوقين من حلبا شمالاً حتى صور جنوباً في عزّ الحرب الأهلية، مسيرة عَبَرت بشجاعة نادرة حواجز الحواجز والميليشيات المتنوّعة والمتعادية. وقف الشاب وقال أمورا ثاقبة، في جرأةٍ وتوقٍ واضح إلى الحقيقة والفرح. بدا لي أنّي أعرفه منذ زمن، هي الرؤية التي تجمع، ولربّما سمعنا خطابا واحدا في القلب، لروحٍ واحد.
لا أذكر كيف نشأت صداقتنا. لم يكن من شلّتي، فلم نقضِ أيّاما ولا نقاشات شخصيّة مطوّلة في شؤون الحبّ والحياة والحرب، ويبدو أنّنا لم نكن نحتاج ذلك. صحيح أنّنا عملنا معا في إطار ذاك الوجع الذي صار حلما ملموسا اسمه "حركة الشباب والمعوقين من أجل السلام" (ش. م. س.) والتي أطلقها د. نواف كبّارة في طرابلس، ولكنّ لا أذكر سامر أنّوس في حديث محدّد، أذكر أنّه كان صديق علي أحمد – الذي بات صديقا أيضاً – وأنّ الاثنين في ذهني كانا توأمان.
لاحقا، بعد الحرب، كان لي أن أسافر طويلا للدراسة. وعدتُ، وعملت مع سامر أستاذا في نفس الجامعة، وهناك تحدّثنا أكثر وترافقنا مرارا وأوقاتا طويلة في السيّارة منْ وإلى الجامعة. عندها، بالنسبة لي، التقينا شخصيّا وتأكّد لي أنّا نحمل رؤية مشتركة للعالم والحياة، واكتشفت أنّه تعمّق في الحقيقة، وفي العمل على أرض الواقع. كان بالطبع على سامر - كما أرى - أن يحيا وسط الأحرار من جهة وَخَدَم السُلطة من جهة أخرى. محاولة سرقة أستاذ(ة) لأفكار زميل(ة) كانت مدار ضحكات لنا كثيرة. أعتقد أنّ قراره متابعة الدكتوراة، كان، في جزء منه، محاولة للخروج من تفاهة كبيرة لاحظها، وهي خطوة حرّرته إلى حدّ بعيد، على ما أعتقد.
حقوق الإنسان، التزمها سامر مع المجموعة الطلابيّة التي أسّست "نادي حقوق الإنسان" كان هو مشرف عليها في جامعة البلمند، وما أدراك ما الفكر الأصوليّ الديني والمدني الذي كان عليه أن تواجهه تلك المجموعة، التي جمعت ممّن جمعت أحد أبناء الروائي عبد الرحمن المنيف. الفكر الأصولي الديني اعترض على معرض صور لفنان كاريكاتوري هو سعد حاجو إن لم تخنّي الذاكرة، في إحدى لوحاته الكاريكاتوريّة ينتقد الفنّان الحكّام الخليجيّين في مواقفهم من العدوّ فيصوّرهم حول "ركوة" قهوة وإلى جانبهم عبارة "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قهوة" في تحوير لآية قرآنيّة تقول بأن يعدّ الإنسان لمواجهة عدوّه ما استطاع من قوّة، لكن يبدو أنّ ذلك كان بالنسبة لتلك المجموعة الأصوليّة "كفرا"، فاحتّجوا ووقف المعرض. أمّا الفكر المدني الحزبي الأصولي فبدوره كان ينظر بعين الريبة لنادي حقوق الإنسان لأنّه يبدو لهم نتاج أناس خطأهم أنّهم ليسوا من حزبهم، وقد جاءني يوما –بعدما أصبحت أحد الأعوام مشرفاً على ذاك النادي- أحد الطلبة لينصحني بأن أبتعد عن النادي لأنّ الطلبة من حزبه يعتبرون هذا النادي من حزب آخر! أي لم يكن يهمّه لا هو ولا أصدقائه نوعيّة العمل، ما كان يهمّهم هو الانتماء القبليّ: "هل أنت من قبيلتنا أم من قبيلة أخرى؟". هذا الفكر التكفيري هو عابر في مجتمعاتنا، لم يكن محصورا بالمتديّنين ولا بالمسلمين، بطبيعة الحال، كما تبرهن لنا حاليّاً مثلاً مجموعات أصوليّة مسيحيّة، فقد كان على سامر وأنا في السنوات الأخيرة أن نسخر وسط كوميديا سوداء متمثّلة بمَنْ تتفتّق حميّتهم كلّما رأوا ما يمسّ "مشاعرهم الدينيّة" في مسرحيّة أو فيلم، ويصمتون عندما يتمّ الاعتداء على حاضر ومستقبل شعب بأكمله من ثلّة من الحكّام الفاسدين، أو يتمّ الاعتداء على عشرات الشباب من قبل رجل دين من طائفتهم.
هذا الالتزام للإنسان، يفسّر كيف تابع ويتابع مع مجموعة من الملتزمين العمل اليوميّ في شؤون مدينته، إن لم يكن إلاّ من خلال النقد واقتراح مشاريع بديلة، ويفسّر كيف شارك العام الماضي في العمل الحثيث في التحرّكات الشعبيّة لمطالبة الحكومة أن تقوم بواجباتها، وفي الالتزام العمليّ على صعيد مدينته والوطن، خلال الانتخابات البلديّة الأخيرة.
إضافة إلى لطفه وروح الدعابة لديه، يتميّز سامر، في عينيّ، أنّه قريبٌ دائمٌ للإنسان، وللإنسان المهمّش بالأخصّ، لهذا هو قريب دائمٌ من يسوع... بدا لي أنّه أحبّ يسوع كثيرا، وإن لم يقبل دين المسيحيين، وبدا لي أنّه جسّد بلطفه وخدمته للآخرين وعمله على الأرض وفكره المتوقّد، واهتمامه بشؤون محيطه، أجمل ما دعا يسوعُ تلاميذَه كي يحفظوه. حفظ وديعة الحبّ ولهذا كان رقيقا، وهو اليوم رقيق، وكان حادا وهو اليوم حاد، وكان كمعظمنا ساخراً والسخريةُ ضرورة تنفّسٍ عندما يُطْبق العالم بتفاهته على تفاصيل الأيّام. بقي سامر شهادة لي، ولغيري، على "أنّ كثيرون ممن هم في الخارج هم في الداخل، وكثيرون ممن هم في الداخل هم في الخارج"، في كنيسة يسوع، في جسده.
على الصعيد الشخصيّ لسامر وسوزي زوجته، ذكرى طيّبة وفريدة لدينا، أنا وفالنتينا، فسامر وسوزي -وكانا وقتها خطيبين- بمقتضى صداقتنا قادا فينا سيّارة عرسنا، والسيارة كانت لوالده اللطيف. يومها ضحكنا كثيرا، وأخبرْنا ما شئنا من الدعابات، وكانت السيارة تعبر بهدوء، وكان المساء حادقَ الجمال والفرح، وكان مساءٌ كصباحِ يومٍ أوّل بعدما قال إلهٌ كلمة. زرناهما لاحقا بتقطّعِ المسافرين. وكما مع جميع الأصدقاء كانت الصداقة جسرا فوق هوّة الوقت والمسافة.
سامر سيتكلّم غدا في محاضرة حول كتاب جمعه ونسّقه الأستاذ إبراهيم توما حول حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الميناء. قد يتساءل إنسان أنْ كيف له أن يتكلّم هو السُنّي المولد عن حركة أرثوذكسيّة الهويّة؟ وقد يمتعض إنسان آخر إذا لم يفهم أنّ سامر أخ، إذا لم يذكر بأنّ الله أبُ الجميع، ملحدين ومؤمنين، وليس أب المسيحيين وحدهم أو المسلمين وحدهم أو اليهود وحدهم، قد يمتعض أحدهم إذا لم يذكر قول يسوع أنّ إخوته هم الذين حفظوا كلامه، وسامر حفظ وعمل كلام ذاك الذي عُلِّقَ يوما على خشبة لكي يكون للحبّ مكان أعلى وأعلى هذه الأرض.
"الروح والعروس يقولان تعال" وسامر سمع ويسمع...
"ومن يسمع فليقل تعال"، وسامر لم يقل فقط تعال بل هو يعجّل في المجيء الأخير في التزامه اليومي للإنسان
"ومن يعطش فليأت ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجانا"، وسامر أتى وأخذ مجاناً وهو اليوم يعطي مجاناً
وهو غدا في ميناء المحبّة والإبداع "يشهد لكلّ من يسمع أقوال الكتاب"
يقول الشاهد ويكتب الشاهد، أنّ سامر أخ في يسوع، وأرجو أن نرى يوما "نهرا صافيا من ماء حياةٍ، لامعا كبلوّر، خارجا من عرش الله والحمل"، لَـرُبَّ نَظَرنا معاً وكان اسمه على جباهنا، أمّا اليوم فأشهد أنّ هناك اسما جميلا على جبهة سامر.
٢٤ تشرين أوّل ٢٠١٦
لا أذكر كيف نشأت صداقتنا. لم يكن من شلّتي، فلم نقضِ أيّاما ولا نقاشات شخصيّة مطوّلة في شؤون الحبّ والحياة والحرب، ويبدو أنّنا لم نكن نحتاج ذلك. صحيح أنّنا عملنا معا في إطار ذاك الوجع الذي صار حلما ملموسا اسمه "حركة الشباب والمعوقين من أجل السلام" (ش. م. س.) والتي أطلقها د. نواف كبّارة في طرابلس، ولكنّ لا أذكر سامر أنّوس في حديث محدّد، أذكر أنّه كان صديق علي أحمد – الذي بات صديقا أيضاً – وأنّ الاثنين في ذهني كانا توأمان.
لاحقا، بعد الحرب، كان لي أن أسافر طويلا للدراسة. وعدتُ، وعملت مع سامر أستاذا في نفس الجامعة، وهناك تحدّثنا أكثر وترافقنا مرارا وأوقاتا طويلة في السيّارة منْ وإلى الجامعة. عندها، بالنسبة لي، التقينا شخصيّا وتأكّد لي أنّا نحمل رؤية مشتركة للعالم والحياة، واكتشفت أنّه تعمّق في الحقيقة، وفي العمل على أرض الواقع. كان بالطبع على سامر - كما أرى - أن يحيا وسط الأحرار من جهة وَخَدَم السُلطة من جهة أخرى. محاولة سرقة أستاذ(ة) لأفكار زميل(ة) كانت مدار ضحكات لنا كثيرة. أعتقد أنّ قراره متابعة الدكتوراة، كان، في جزء منه، محاولة للخروج من تفاهة كبيرة لاحظها، وهي خطوة حرّرته إلى حدّ بعيد، على ما أعتقد.
حقوق الإنسان، التزمها سامر مع المجموعة الطلابيّة التي أسّست "نادي حقوق الإنسان" كان هو مشرف عليها في جامعة البلمند، وما أدراك ما الفكر الأصوليّ الديني والمدني الذي كان عليه أن تواجهه تلك المجموعة، التي جمعت ممّن جمعت أحد أبناء الروائي عبد الرحمن المنيف. الفكر الأصولي الديني اعترض على معرض صور لفنان كاريكاتوري هو سعد حاجو إن لم تخنّي الذاكرة، في إحدى لوحاته الكاريكاتوريّة ينتقد الفنّان الحكّام الخليجيّين في مواقفهم من العدوّ فيصوّرهم حول "ركوة" قهوة وإلى جانبهم عبارة "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قهوة" في تحوير لآية قرآنيّة تقول بأن يعدّ الإنسان لمواجهة عدوّه ما استطاع من قوّة، لكن يبدو أنّ ذلك كان بالنسبة لتلك المجموعة الأصوليّة "كفرا"، فاحتّجوا ووقف المعرض. أمّا الفكر المدني الحزبي الأصولي فبدوره كان ينظر بعين الريبة لنادي حقوق الإنسان لأنّه يبدو لهم نتاج أناس خطأهم أنّهم ليسوا من حزبهم، وقد جاءني يوما –بعدما أصبحت أحد الأعوام مشرفاً على ذاك النادي- أحد الطلبة لينصحني بأن أبتعد عن النادي لأنّ الطلبة من حزبه يعتبرون هذا النادي من حزب آخر! أي لم يكن يهمّه لا هو ولا أصدقائه نوعيّة العمل، ما كان يهمّهم هو الانتماء القبليّ: "هل أنت من قبيلتنا أم من قبيلة أخرى؟". هذا الفكر التكفيري هو عابر في مجتمعاتنا، لم يكن محصورا بالمتديّنين ولا بالمسلمين، بطبيعة الحال، كما تبرهن لنا حاليّاً مثلاً مجموعات أصوليّة مسيحيّة، فقد كان على سامر وأنا في السنوات الأخيرة أن نسخر وسط كوميديا سوداء متمثّلة بمَنْ تتفتّق حميّتهم كلّما رأوا ما يمسّ "مشاعرهم الدينيّة" في مسرحيّة أو فيلم، ويصمتون عندما يتمّ الاعتداء على حاضر ومستقبل شعب بأكمله من ثلّة من الحكّام الفاسدين، أو يتمّ الاعتداء على عشرات الشباب من قبل رجل دين من طائفتهم.
هذا الالتزام للإنسان، يفسّر كيف تابع ويتابع مع مجموعة من الملتزمين العمل اليوميّ في شؤون مدينته، إن لم يكن إلاّ من خلال النقد واقتراح مشاريع بديلة، ويفسّر كيف شارك العام الماضي في العمل الحثيث في التحرّكات الشعبيّة لمطالبة الحكومة أن تقوم بواجباتها، وفي الالتزام العمليّ على صعيد مدينته والوطن، خلال الانتخابات البلديّة الأخيرة.
إضافة إلى لطفه وروح الدعابة لديه، يتميّز سامر، في عينيّ، أنّه قريبٌ دائمٌ للإنسان، وللإنسان المهمّش بالأخصّ، لهذا هو قريب دائمٌ من يسوع... بدا لي أنّه أحبّ يسوع كثيرا، وإن لم يقبل دين المسيحيين، وبدا لي أنّه جسّد بلطفه وخدمته للآخرين وعمله على الأرض وفكره المتوقّد، واهتمامه بشؤون محيطه، أجمل ما دعا يسوعُ تلاميذَه كي يحفظوه. حفظ وديعة الحبّ ولهذا كان رقيقا، وهو اليوم رقيق، وكان حادا وهو اليوم حاد، وكان كمعظمنا ساخراً والسخريةُ ضرورة تنفّسٍ عندما يُطْبق العالم بتفاهته على تفاصيل الأيّام. بقي سامر شهادة لي، ولغيري، على "أنّ كثيرون ممن هم في الخارج هم في الداخل، وكثيرون ممن هم في الداخل هم في الخارج"، في كنيسة يسوع، في جسده.
على الصعيد الشخصيّ لسامر وسوزي زوجته، ذكرى طيّبة وفريدة لدينا، أنا وفالنتينا، فسامر وسوزي -وكانا وقتها خطيبين- بمقتضى صداقتنا قادا فينا سيّارة عرسنا، والسيارة كانت لوالده اللطيف. يومها ضحكنا كثيرا، وأخبرْنا ما شئنا من الدعابات، وكانت السيارة تعبر بهدوء، وكان المساء حادقَ الجمال والفرح، وكان مساءٌ كصباحِ يومٍ أوّل بعدما قال إلهٌ كلمة. زرناهما لاحقا بتقطّعِ المسافرين. وكما مع جميع الأصدقاء كانت الصداقة جسرا فوق هوّة الوقت والمسافة.
سامر سيتكلّم غدا في محاضرة حول كتاب جمعه ونسّقه الأستاذ إبراهيم توما حول حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الميناء. قد يتساءل إنسان أنْ كيف له أن يتكلّم هو السُنّي المولد عن حركة أرثوذكسيّة الهويّة؟ وقد يمتعض إنسان آخر إذا لم يفهم أنّ سامر أخ، إذا لم يذكر بأنّ الله أبُ الجميع، ملحدين ومؤمنين، وليس أب المسيحيين وحدهم أو المسلمين وحدهم أو اليهود وحدهم، قد يمتعض أحدهم إذا لم يذكر قول يسوع أنّ إخوته هم الذين حفظوا كلامه، وسامر حفظ وعمل كلام ذاك الذي عُلِّقَ يوما على خشبة لكي يكون للحبّ مكان أعلى وأعلى هذه الأرض.
"الروح والعروس يقولان تعال" وسامر سمع ويسمع...
"ومن يسمع فليقل تعال"، وسامر لم يقل فقط تعال بل هو يعجّل في المجيء الأخير في التزامه اليومي للإنسان
"ومن يعطش فليأت ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجانا"، وسامر أتى وأخذ مجاناً وهو اليوم يعطي مجاناً
وهو غدا في ميناء المحبّة والإبداع "يشهد لكلّ من يسمع أقوال الكتاب"
يقول الشاهد ويكتب الشاهد، أنّ سامر أخ في يسوع، وأرجو أن نرى يوما "نهرا صافيا من ماء حياةٍ، لامعا كبلوّر، خارجا من عرش الله والحمل"، لَـرُبَّ نَظَرنا معاً وكان اسمه على جباهنا، أمّا اليوم فأشهد أنّ هناك اسما جميلا على جبهة سامر.
٢٤ تشرين أوّل ٢٠١٦