رسالة أُخرى إلى الله
جوابا على رسالة الشاعر عقل العويط إلى الله
مجلّة النور، السنة 59، العدد 8، 2003
ها
أنا واقف أمامك كما عوّدتني. ندّاً لندٍّ أردتني، وما رضيتَ ركوع العبيد كلاماً
بيننا، وما اشتهيتَ جراح ركبي.
الجوع شديد. ملايين العيون تضيّع الضوء، ملايين الأحلام تُسحقُ كلّ يوم، ملايين
الأوجاع تصرخُ في آذاننا كلّ عشيّة. والبارحة، وغداً، وكلّ يوم، وفي كلّ مكان،
هيردودس آخر يعدم ملايين الأطفال، ليبتلعهم الوحش نفسه الذي ابتلع إخوتهم باستمرار.
الوحش نفسه، بفمه الأميركيّ وفمه الإسرائيليّ وفمه الأوروبيّ، وفمه العربيّ، وكلّ
فمٍ قاتلٍ متعطّشٍ لضوءِ كلّ نجمةٍ في ليل هذا العالم.
وأنت يا ألله، يا صديقي، يا غريبي، أنتَ الذي طالما رأيتكَ وراء عيون الأصدقاء،
ووجه حبيبتي؛ أنتَ الذي طالما رأيتكَ وراء سواعد الحشود وهتافاتهم، وراء آمالهم
المصروخة، وراء تصميمهم المضيء والمتألّم، وراء تظاهراتهم التي طالما قامت كمدٍّ
واحدٍ حول الأرض، كزنّار نارٍ على جسد الوحش، كزهرة أملٍ في وَحشة براري قلب؛ أنت،
ما زلتَ أنت. ترفض، تُجابه، ولكن لا تَبْطُش. لا تبطش لأنّك لا تخاف، لا تخاف لأنّك
المُحِبّ. أنتَ ما زلتَ أنتَ، تعتني بكلّ أبنائك حتّى بالذين خانوك، حتّى بالذين
عذّبوك، حتّى بالذين ضربوك، حين خانوا وعذّبوا وضربوا أبناءك-إخوتهم، عذّبوهم في
سجون فلسطين المحتلّة، وفي سجون الوطن العربيّ كلّه، وفي كلّ البلاد-السجون الأخرى،
والبلاد-التشريد الأخرى، والبلاد-العُزلة الأخرى، التي صنَعتْ معظمها سياسة
الولايات المتحدة، ودعّمتها بِشَرِّ العبقريّة والجشع، وبأفعال انعدام الحبّ التي
تصدر منّا جميعاً.
لكنْ أنتَ يا أنت، يا أنت الغريب مع كلّ غريب، يا أنت الموجوع مع كلّ موجوع، يا
أنتَ المصلوب مع كلّ مصلوب، يا أنت المناضل في كلّ مناضل، يا أنت المواجِه في كلّ
مواجه، يا أنت الثائر في كلّ ثائر، يا أنت الشاعر في كلّ شاعر، تبقى خَفِراً وراء
خليقتك، ونحن في الخوف تسكننا شياطين الاتكال المُطلَق عليك، فنخلط بين كوننا
أولادك وبين رغبتنا بأن نتّكل عليك بشكل مُطلَق، فإذا بنا نَحُنُّ إلى أن نعود
قُصّاراً، نَحُنُّ أن تحمينا أنت فلا نقع، ولا نعفّر أيّامنا بوحلٍ، ولا نجرّح
وجوهنا بظلم. هكذا إذ تصفعنا الآلام الهائلة، نتوقّع منك أن تحمينا كأطفال قُصّار،
ونخلط بين هذا التوق الطفوليّ وبين كونك بالفعل أب رؤوف، أُمّ رحومة، فنصل إلى
حافّة الكفر بك لأنّنا نريدك ساحرنا الأكبر الذي يفعل ما نشاء نحن دون مساهمة منّا.
هكذا يا الله، في غمرة الخوف والقرف والغضب الذي يتملّكنا من كثرة الظلم، وكثرة
كسلنا، وكثرة الوجع، ننسى أنّنا ولو كنّا بناتك وأبنائك فأنت لا تريدنا قصّاراً
أبديّين، وإنّما تريدنا أنداداً لك ننمو إلى القمم المغروسة في قلوبنا؛ وأنّك
تريدنا أنداداً بالضبط لأنّنا بناتك وأبنائك، ولهذا تريدنا كاملين كما أنتَ كامل،
أنتَ الذي ولدتنا وتلدنا بالوجع كلّ لحظة، ذاك الوجع الأوسع من ضيق قلوبنا، وجعَ أن
تُحني كلّ قدرةٍ فيك أمام محبّتك لنا، وجع أن تربط كلّ قدرة فيك بحبّك لنا وبإرادتك
بأن نكون محبّين أحراراً، أنداداً لك بالفكر الحرّ، والحبّ الحرّ، والفعل الحرّ.
في
غمرة الخوف، ننسى أنّ هذا الحبّ، حبَّك، هو صليبك منذ إنشاء العالم، صليبكَ أنتَ
الحيّ الذي لا يموت، أنتَ الذي قلّمت جبروتك بوداعة حبّك وخفره كي ونجد مثلك، أنت
الذي لأنّك المحبّة لم تستعبِدَنا فتركتَنا أحراراً ولم تجبرنا على حبّ بعضنا
البعض، ولا حتّى على حبّك، ولم تحاصر وجودنا بوجودك كما يحاصر حكّامنا رؤوسنا
بترّهات العناية بنا وحمايتنا من العدوّ في السجون!
فأنت يا الله، أنت المٌحِبّ
الأكبر، ربطتَ نفسك بنا، بمحبّتك لنا، فما كنت سجّاننا الأكبر، ولا دركيّنا الذي لا
مفرّ منه، ولا إرهابيّنا الساحق، لم تصنعنا آلات وإنّما بشراً قادرين على الحرّية
والمحبّة، ولهذا قادرين على الرفض، حتّى على رفضك. وهنا مأساتنا وهنا مأساتك.
ولكنّك لم تتركنا وحيدين، فأنت تحمل معنا هذه المأساة، تعيشها معنا، وتمدّنا بطاقة
قيامة مسيحك، كي نقوم في قلب المأساة بشراً أحراراً محبّين، أشخاصاً مثلك، وليس
آلات مسيّرة، أشخاصا نعضد بعضنا بعضاً بفرح.
فأنت يا الله، ربطت نفسك بنا،
ربطت بنا مشاريع الحبّ والفرح التي تريدها لنا، فجعلتنا وكلاءك، سلّحتنا بسلاح
الحرّية كي كون لحبّنا وتعاوننا معك معنى، وإذا بنا صرنا قادرين على طعن مشروع
الحبّ الذي فجّرته أنت في هذا الكون، وقادرين أيضاً على المشاركة في إنجاحه، وأنت
مُنْجِحَه ولو كره الظالمون.
من
كثرة حبّك، وبسبب كمال حبّك، ربطت نجاحك بنا، فأردتنا عاملين معك. ولكن اليوم، ها
نحن، يا ألله، من كثرة الظلم نصرخ إليك، نسكب أمامك قرفنا وكسلنا وعملنا وفشلنا
وعجزنا عن الدفاع عن أحبّائك، وتخاذلنا عن القبول بأن نكون أنداداً لك، تخاذلنا عن
أن نتصدّى معك ومع أحرار العالم لموج الشرّ، تخاذلنا عن مواجهة انحسار الحبّ بسكب
المزيد منه، وبمقارعة الوحش.
نحن
نحاول، يا الله، نحاول يا صديق، نحاول يا آخَرَ أفكارنا عنك. نحاول أن نقبل بأنّك
لأنّك الحبّ لا تجبرنا على محبّة بعضنا البعض وذلك كي يبقى لحبّنا معنى، كي يبقى
حبّنا حبّا ولا يصير مجرّد آليّة داخليّة أوتوماتيكيّة. نحاول يا ألله، نحاول أن
نختار ملكوت الحبّ من خلال صليب مواجهة الشرّ، شرّ غيرنا، وشرّ ما صنعناه نحن
أبناؤك بغيابنا عن الحبّ الذي فينا، بغيابنا عنك، بغيابنا عن أنفسنا، وبرضانا
بالشرّ. نحن نحاول، نحاول يا ألله، أن نتصدّى لشرّ إخوتنا الذين استعبدهم الوحش
فشرعوا يدمّرون، ويقتلون، مريقين الدماء، ونحاول أن نتصدّى لشرّ إخوتنا الذين شرعوا
يستغلّون إخوتنا يوميّاً فيقتلونهم بإراقة حياتهم دون إراقة دماء.
من
أجلنا يا ربّ، ومن أجل إخوتنا عبيد الوحش، إخوتنا طعام الوحش، من أجل أن نصير معاً
أبناءك الناضجين، من أجلنا كلّنا يا ألله، يا أنت المحبّ والحبيب؛ لا تُحيينا بعالم
سحريّ، لا تُحيينا قاصرين، ساعدنا كي نرفض تجربة الرجوع إلى الطفولة السلبيّة التي
تخلّدنا قصّاراً غير قادرين وغير أندادٍ لحبّك البادئ، ساعدنا كي نعرفك حبيباً وأن
نحبّ على مثالك، فلا نحيا في غربة عن مسيحك، الإله المصلوب والقائم من الأموات،
ساعدنا ألاّ نحيا غرباء عنكَ، ساعدنا ألاّ نحيا غرباء عن أنفسنا.
يا
الله، أيّها الجميل، أيّها الحبّ الذي بلا قاع، أيّها الأفق الذي بلا أفق، أيّها
الحاضن المجرمين والضحايا، ساعدنا فقط كي نقبلك طاقةً لحركتنا إلى وجوه الموجوعين،
والمقموعين، والمستَغَلّين، والوحيدين، والمعلّقين على صلباننا الكثيرة التي نصنعها
جميعاً بدرجات مختلفة. ساعدنا من أجل نجاتنا جميعاً يا ألله، إخوة وأخوات.
تعالَ، تعالَ حين نقف أحراراً ضدّ كلّ غزو، ضدّ كلّ مُمَزِّقٍ لأجساد أولادك بشظايا
الجريمة؛ وتعال خاصّة حين نواجه غزو اليأس لنا. تعال ضدّ غزو هولاكوات هذا العصر
الذين يأتون إلينا من خارج، والذين يعيشون بيننا، والذين يعيشون فينا. اجمعْ أحرارك
يا الله رغيفاً لجوع العالم إلى المشاركة، وكُنْ أنت رغيفاً لجوعهم إلى حياةٍ
موزَّعَةٍ للكلّ، كُن أنتَ دفئاً لوحدة المناضلين ضدّ غزو العتمة للعيون، المناضلين
بكلمةٍ، وبقصيدة، وبسلاح، وبأجساد، وبصلوات، وبلوحات، وبتراتيل، وبرقص، وبنحت،
وبأفلام، وبمسرح، وبتربية، وبعلم، وبعمل اجتماعيّ، وبأعمال جماعيّة متواصلة تهدّدها
أنانيّات المثقّفين قبل أن يهدّدها المستغِلِّون.
كُن
يا الله مع أحرارَك كي تُمسَحَ عن العيون كلّ عتمة، فتكتمل إنسانيّتنا وتتوهّج بضوء
عينيك البهيّ، يا محتضن النحيب تحت الصليب، يا يقظة النائمين، يا قيامة المسافرين
بين أمواج الضوء التي فيهم وبين الموت اليوميّ، كن معنا جميعاً أيّها الحياة
المناضِلة المُحِبَّة الحرّة الفرحة المصلوبة القائمة، يا موزّع الحياة وحاميها، يا
موزّع نفسك، يا أنتَ، يا أنتَ فينا، يا أنتَ الواحد معنا وحدةً لا تقاس، يا أنت
الآخرَ بتمايزٍ عنّا لا ينتهي... يا أبانا، يا أمّنا، يا وَحدَة قلوبنا التي
أضعناها ومزّقناها، أيّها الواهبَ نفسه إلينا مجّاناً إلى الأبد، كي نأكل معاً فيك
حول مائدة الضوء، حول مائدة والحبّ والحرّية.
19
آذار 2003
تعديل:26 شباط 2014