حميد الدبس
كنّا في عمر الأربع سنوات. لم يكن يتلفّظ حميد بشكل صحيح باسمي المعقّد، هكذا أخبرته والدته لاحقاً. تشاركنا مقاعد الدراسة في الصفوف الابتدائيّة، لكنّ لا شيء من ذلك في ذاكرتي. حميد التقيته لماماً في أسرة الطفولة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وهناك أذكره بشكل أكثر وضوحاً في المكتبة الصيفيّة التي كنت أقرأ فيها القصص المصوّرة وألعب ألعاباً لم تكن لي في المنزل. وانقطعت عن الحركة.
الحديث الأهمّ الذي تكلّمنا فيه في الصفوف الابتدائيّة كان خلال عودتنا إلى منزلينا من المدرسة في الصفّ الرابع متوسّط، فأستاذنا كان قد "بلع لسانه" ما أن بدأ يشرح لنا عن النحل، ووصل إلى الكلمة الخطيرة "التلقيح"، إذ أنّ ذكور النحل يلقّحون الملكة، ولم نفهم. ولمّا قلنا له بصدق كلّي أنّنا لم نفهم شيئاً، احمرّ استاذنا واخضرّ وتلعثمّ، وقال لنا "يعني... كما يتزوّج الرجل والمرأة"، وإن كنّا لم نفهم الأولى فلا بدّ أنّنا لن نفهم شيئاً مطلقاً من التشبيه. أخيراً، توقّف أستاذنا عن الكلام وقال نؤجّل الكلام إلى الأسبوع المقبل. خرجنا من الصفّ وعقلنا متلعثم. "شو التلقيح يعني"، كنّا نتساءل في طريق العودة ووعدني حميد أنّه سيسأل أخاه الأكبر. عدنا في اليوم التالي وأخبرني حميد أنّه سأل أخوه وأخبره عن التلقيح، أخبرني حميد ولم يشرح وأنا فهمت ولم أفهم، ولكنّا عرفنا أنّه شيء يتعلّق بالأعضاء التي لا تُسمّى. بعد بضعة أيّام أتى أستاذنا بمعلّمة من صفّ آخر لكي تشرح لنا عن "التلقيح". لم تتلعثم المعلّمة ولم تخضرّ ولم تحمرّ، ولكنّا رمت بعشرات الكلمات والجُمَل العلميّة، وخرجنا من الحصّة ونحن لم نفهم شيئا، إلاّ ما بدا أنّنا فهمنا من كلام أخو حميد مع حميد.
التقينا حميد وأنا، من جديد بشكل عارض في مدرسة «مار الياس»، في الصفوف المتوسّطة، ولكن لم نكن أصدقاء قريبين، إلى أن دعاني في الصف الثانوي الأوّل إلى رحلة تقوم بها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة إلى، ربّما، دير النوريّة. ومن الرحلة عدت إلى الحركة من جديد، بشكل نهائيّ هذه المرّة. الفرقة الحركيّة جمعتنا وهناك تلاقينا فكريّاً. كنّا نتكلّم على نفس الموجة، عرّفتنا الحركة ببعض وصرنا بالفعل عندها أصدقاء.
بعد انتهاء السنة الجامعيّة الأولى تركت الهندسة التي درستها مع الصديق نجيب كوتيا بعدما لم أجد فيها نفسي، وكان عليّ أن أتابع السنة الأولى في العلوم ابتداءً من... الامتحانات النهائيّة! أعارني حميد كلّ ملاحظاته التي كتبها في المواد جميعاً، وكان عليّ أن أدرس المواد خلال شهري الصيف قبل امتحانات الدورة الثانية في أيلول. قضى حميد وقتا طويلا وثمينا ليشرح لي ما عصى عليّ من المواد. نجحت الامتحانات بفضل مساعدته، وابتدأنا معا في دراسة الكومبيوتر. في ذلك الوقت كانت أسرة الجامعيّين في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تتشكّل وغامر رئيس فرع الميناء غسان أنطون، الشاب الحيويّ الحادّ الذكاء والشعلة في النشاط، بتسليمي قيادة الأسرة وأنا لم أزل طالباً جامعيّاً. كان فذّاً من غسّان أن يفعل ذلك. الحقيقة أنّنا قدنا الأسرة حميد وأنا معاً. كنّا نجتمع معاً أصلاً بشكل شبه يوميّ للدراسة بعد أن أكملنا الجامعة في نفس الاختصاص. فكنّا نقضي حوالي 3 ساعات، ندرس نصف الساعة الأولى، نشرب ليموناضة «إم فيليب»، والدته، ثمّ نتحدّث لمدّة ساعتين عن الأسرة، ونخطّط معاً لها، للقاءات بين الفرق، للإرشاد، للنشاطات، نتحاور حول ما نراه من مشاكل، وعن كيفيّة تأسيس لقاء لمرشدين يكبرونا سنّاً ولكنّ تواضعهم ورغبتهم الفِطريّة بإطلاق طاقاتنا، كانا لا يجعلانا نحسّ بهذا الفارق. كان يتخلّل الحوار الإداريّ بين حميد وبيني حواراً لاهوتيّاً حول يسوع والله والألم والصليب والحبّ. لنعود لمدّة قصيرة للدراسة فندرس شيئاً من الكومبيوتر والرياضيات، بينما أم فيليب "تتحرقص" وتضحك، عمّا يفعله هذان المجنونان بوقتهما... ولكن التفوّق الدائم لحميد كان يطمئنها. كنّا نأخذ أقساطاً من الراحة بين ساعات النقاش الإداريّ واللاهوتيّ على بلكون الشقّة، نعم كنّا نرتاح ليس من الدراسة ولكن من الحوار، بالطبع على البلكون كنّا نكمل حوارا حول الميناء والحبّ والحرب. وكم أوقعتُ خلال دخولي من البلكون "زريعة" لأم فيليب تسند فيها الباب، وكم وسّخت لها الأرض، وهي تلعن أبي ضاحكة، ونحن نضحك. إم فيليب، كانت تتألّم أنّ رفاق أولادها الكبار لم يعودوا يزوروها.
حميد إنسان يتميّز بذكاء حادّ جدّاً، وبسرعة بديهة، وبقدرة تنظيميّة فذّة، وبحسّ عالٍ بالمسؤوليّة. كان يلفتني أنّه عمل باكرا جدّاً ملتزماً أسرته، وكان يبدو لي أنّ ذلك مُرْهِقٌ لشاب بعمرنا. ولا شكّ عندي أنّ تجربة العمل صقلت حسّاً له بالمسؤوليّة لم يكن لدى الكثيرين في عمره، ومنهم أنا. وحميد إنسان مفتونٌ بالموسيقى والأغاني والإيقاع، سمع موسيقى وأغاني ممّا توفّر له من زوايا الأرض، وقد كان الوضع المادّي لأمثالنا لا يسمح بأن يمارس الإنسان هوايةً حتّى الثمالة، فالهوايات مكلفة.
وحميد صاحب صوت جميل وأذن موسيقيّة مرهفة، قلّ نظيرها. افتُتِنَ بالموسيقى الكلاسيكيّة مدّة طويلة من الزمن وأتقن زواياها، عرّفني على فيفالدي وخاصّة «الفصول الأربعة»، ومقطوعة «كارمينا بورانا» الرائعة التي انطبعت بأحاسيسي بفضله. استمع حميد لفترة طويلة على النتاج اليونانيّ، وبالأخصّ يورغو دالاراس الذي حفظ له كلمات أغانيه دون أن يفهم اللغة اليونانيّة، ممّا يعطي فكرة عن سعة مواهبه وقدراته الذهنيّة. كان الشخص الذي يُعتَمَدُ عليه، مبدع في مسؤوليّاته. الأمر الوحيد الذي كان، ولا يزال، يستصعبه هو أن يمسك القلم ويكتب. أعتقدُ أنّه يترحّم على مطوّري الكومبيوتر... يوميّاً.
أثناء دراستنا الجماعيّة في شمال لبنان، وما أن أنهينا سنتنا الثالثة معلوماتية، سافر أساتذتنا! ... وجدت الإدارة لنا مخرجاً أن نكمل المواد المتبقيّة في بيروت لمدّة فصل واحد ونعود بعدها للشمال لمتابعة مشروع التخرّج ومادّتين يمكن توفير أستاذين لها (أحدهما علّمنا إيّاها المهندس دملج، أخ الصديقة روعة دملج). اضطررنا أن ندرس في بيروت. وما أدراك ما بيروت. لم نكن ندري بجميع الأحوال. كان فرع كلّية العلوم في الجامعة اللبنانيّة، الذي تمّ الاتّفاق معه لاستقبالنا هو فرع الفنار (في المنطقة الشرقيّة من بيروت). ولم نكن نعرف شيئاً من بيروت. لحسن حظّنا، حميد كان لديه أحد أقربائه الذي أرشدنا إلى شقّة للإيجار (بعدما دفعنا عربون شقّة أجّرها لاحقا صاحبها لغيرنا، وإن أسعفتني الذاكرة طار العربون). وصلنا أحد شوارع منطقة فرن الشبّاك، ومنه إلى مفرق «زاروب». دخلنا المفرق، فإذا بقطعة قماش طويلة منشورة بين بنايتين لتمنع رؤية آخر «الزاروب»، بنايتنا الأولى على اليمين وهي الوحيدة الممكن دخولها. أمّا قطعة القماش فقال لنا قريب حميد "لا تخافوا هي تغطّي الزاروب عن المنطقة الأخرى كي لا يروكم القنّاصة". كان شيئاً مطمئناً! «زواريب» أخرى كانت مغلقة بقطع من قطار قديم. بالطبع الناس كانت تعيش بشكل مشابه في الطرف الآخر. بلد رائع بالفعل، مساواة كاملة بين الجميع.
كنّا الوحيدين في البناية في الطابق الأرضي. الليلة الأولى استقبلنا صاروخ ظنّينا أنّه في بنايتنا. استعدّينا للركض ان اقتضى الأمر لكن لم يحدث شيء. عدنا إلى النوم. في الصباح عرفنا ورأينا أنّه في البناية المقابلة لنا.
نجيب وأنا خُطفنا بلا سبب قرب الجامعة. حميد وأنا قضينا 4 أشهر نسكن في الطابق الأرضي من شقّة في بناية مهجورة على خطوط التماس. سكن معنا 3 أشخاص من مدينتنا، منهم أذكر كابي دبس وجوني تركية. كانت الشقّة تكفينا. تشاركنا الطعام والجلي والخوف والباص القديم، والمشي، و«الأوتو ستوب» من مفرق التلّة التي تقع عليها الجامعة، إلى حيث الجامعة في منتصف التلّ.
عدنا إلى الشمال بعد أربعة أشهر، ودرسنا، وبدأنا مشروع التخرّج. كنّا بالطبع واثقين جدّا من أنفسنا ومن قدراتنا العلميّة، هذا أمر كان مفروغا منه. لكن بالغنا بقدراتنا مرّة واحدة، خلال عملنا في مشروع التخرّج اعتقدنا أنّنا اكتشفنا خطأ ما في لغة برمجة لأنّ شيئا ما لم يكن يُنَفَّذ كما يجب، وراجعنا برنامجنا مرّات عديدة ولم نرى خطأ. ولكن انتبهنا أثناء– نعم أثناء- الدفاع عن مشروع التخرّج للخطأ الذي ارتكبناه وأشرنا إليه.
في علاقته مع زميلاته وزملائه كان حميد شاباً لطيفاً، ويساهم في شرح ما صعب عليهم من مفاهيم. في حصص الفراغات كان لكلّ منّا رفاقه الخاصّين ولم نكن نلتقي تقريباً. أمّا أفضل ما حصل خلال دراستنا فهو بلا شكّ أنّنا كلّنا كزملاء قرّرنا أن نهرب من جميع الحصص في ذلك اليوم الجميل، وأن نذهب إلى مطعم في «رشعين» حيث قضينا وقتا ولا أروع في الغذاء وشرب ما تيسّر من البيرة والعرق، ومَنْ كان بيننا لا يشرب كحولاً شارك زملاءه الطعام والفرح.
حميد إنسان حوار. حواراتنا كانت يوميّة عن تقريبا كلّ شيء إنسانيّ في العالم وعن والحرب بالطبع. لست أدري كيف كنّا ننجح في امتحاناتنا مع كلّ الوقت الذي كنّا نقضيه على أمور أخرى! لكنّها كانت حوارات صعبة. مراهقان لا يعرفان رأسيهما من رجليهما في أمور الحياة، ولكنّهما يصارعان كي يفهما شيئاً. استقبلتهما حركة الشبيبة آتيين من بيئة فقيرة وفتحت لهما أبواب النموّ. نميا وصارعا وارتكبا الأخطاء الإداريّة في مسؤوليّاتهما، ولكنّهما كانا مجنونان بيسوع، وبضرورة نجاح مشروع أسرة الجامعيين، وبضرورة نجاح تجربة الاختلاط بين الذكور الإناث التي كانت في بداياتها، ونجحت التجربة ونجحت الأسرة.
شابّان ضحكا كثيراً وتألّما معاً، رغم تنافر كان لا بدّ منه بين اثنين يبحثان عن ذاتيهما. شابّان أكثر ما فعلاه هو أنّهما أصغيا لبعضيهما، ولم يكونا مؤهّلين لمساعدة بعضيهما بأكثر من الإصغاء، وهذا بحدّ ذاته إنجاز إنسانيّ، كم من إنسان يمكنه أن يصغي لآخر؟ ليس الكثير. والإصغاء كان مِراسنا الأسبوعيّ في الفرقة الرائعة التي جمعتنا. وكم صارعنا لما رأيناه حقّاً وإنجيليّاً، ولكن ما ظلّل الصراع كان دائماً روح الصداقة التي جمعتنا جميعاً.
كان حميد يتعب كثيراً في القراءة، لا يأخذ أمور الإيمان بشكل هامشيّ، مداخلاته دائماً ثاقبة ومستندة إلى تفكير شخصيّ. ولهذا إيمانه لم يأتِ عن تسليم أعمى. حميد الدكتور الجامعي اليوم، الصلب القياديّ، لم يزل ذاك الإنسان المرهف الإصغاء والمرهف الإحساس بالشباب خاصّة، الشباب الذين أكثر ما يلاقون عدم التفهّم والإصغاء. نقل الحياة والفرح والمسؤوليّة إلى حيث حلّ. أثره على الكثيرين الكثيرين لا يعرفه هو، لكنّي أعرفه لأنّ الذين أرشدهم أخبروني يوما أنّهم، بعد أن أرشدهم عندما كان في بيروت، رأوا الله والمسيح والحياة واحد، قالت لي أختٌ بلغتها ما معناه بلغتي أنْ "كنّا ضائعين فوُجِدنا وكنّا أمواتا فعُشنا".... يكفيك هذا يا صديقي، يا حميد.
خريستو المرّ
26 أيّار 2015
الحديث الأهمّ الذي تكلّمنا فيه في الصفوف الابتدائيّة كان خلال عودتنا إلى منزلينا من المدرسة في الصفّ الرابع متوسّط، فأستاذنا كان قد "بلع لسانه" ما أن بدأ يشرح لنا عن النحل، ووصل إلى الكلمة الخطيرة "التلقيح"، إذ أنّ ذكور النحل يلقّحون الملكة، ولم نفهم. ولمّا قلنا له بصدق كلّي أنّنا لم نفهم شيئاً، احمرّ استاذنا واخضرّ وتلعثمّ، وقال لنا "يعني... كما يتزوّج الرجل والمرأة"، وإن كنّا لم نفهم الأولى فلا بدّ أنّنا لن نفهم شيئاً مطلقاً من التشبيه. أخيراً، توقّف أستاذنا عن الكلام وقال نؤجّل الكلام إلى الأسبوع المقبل. خرجنا من الصفّ وعقلنا متلعثم. "شو التلقيح يعني"، كنّا نتساءل في طريق العودة ووعدني حميد أنّه سيسأل أخاه الأكبر. عدنا في اليوم التالي وأخبرني حميد أنّه سأل أخوه وأخبره عن التلقيح، أخبرني حميد ولم يشرح وأنا فهمت ولم أفهم، ولكنّا عرفنا أنّه شيء يتعلّق بالأعضاء التي لا تُسمّى. بعد بضعة أيّام أتى أستاذنا بمعلّمة من صفّ آخر لكي تشرح لنا عن "التلقيح". لم تتلعثم المعلّمة ولم تخضرّ ولم تحمرّ، ولكنّا رمت بعشرات الكلمات والجُمَل العلميّة، وخرجنا من الحصّة ونحن لم نفهم شيئا، إلاّ ما بدا أنّنا فهمنا من كلام أخو حميد مع حميد.
التقينا حميد وأنا، من جديد بشكل عارض في مدرسة «مار الياس»، في الصفوف المتوسّطة، ولكن لم نكن أصدقاء قريبين، إلى أن دعاني في الصف الثانوي الأوّل إلى رحلة تقوم بها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة إلى، ربّما، دير النوريّة. ومن الرحلة عدت إلى الحركة من جديد، بشكل نهائيّ هذه المرّة. الفرقة الحركيّة جمعتنا وهناك تلاقينا فكريّاً. كنّا نتكلّم على نفس الموجة، عرّفتنا الحركة ببعض وصرنا بالفعل عندها أصدقاء.
بعد انتهاء السنة الجامعيّة الأولى تركت الهندسة التي درستها مع الصديق نجيب كوتيا بعدما لم أجد فيها نفسي، وكان عليّ أن أتابع السنة الأولى في العلوم ابتداءً من... الامتحانات النهائيّة! أعارني حميد كلّ ملاحظاته التي كتبها في المواد جميعاً، وكان عليّ أن أدرس المواد خلال شهري الصيف قبل امتحانات الدورة الثانية في أيلول. قضى حميد وقتا طويلا وثمينا ليشرح لي ما عصى عليّ من المواد. نجحت الامتحانات بفضل مساعدته، وابتدأنا معا في دراسة الكومبيوتر. في ذلك الوقت كانت أسرة الجامعيّين في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تتشكّل وغامر رئيس فرع الميناء غسان أنطون، الشاب الحيويّ الحادّ الذكاء والشعلة في النشاط، بتسليمي قيادة الأسرة وأنا لم أزل طالباً جامعيّاً. كان فذّاً من غسّان أن يفعل ذلك. الحقيقة أنّنا قدنا الأسرة حميد وأنا معاً. كنّا نجتمع معاً أصلاً بشكل شبه يوميّ للدراسة بعد أن أكملنا الجامعة في نفس الاختصاص. فكنّا نقضي حوالي 3 ساعات، ندرس نصف الساعة الأولى، نشرب ليموناضة «إم فيليب»، والدته، ثمّ نتحدّث لمدّة ساعتين عن الأسرة، ونخطّط معاً لها، للقاءات بين الفرق، للإرشاد، للنشاطات، نتحاور حول ما نراه من مشاكل، وعن كيفيّة تأسيس لقاء لمرشدين يكبرونا سنّاً ولكنّ تواضعهم ورغبتهم الفِطريّة بإطلاق طاقاتنا، كانا لا يجعلانا نحسّ بهذا الفارق. كان يتخلّل الحوار الإداريّ بين حميد وبيني حواراً لاهوتيّاً حول يسوع والله والألم والصليب والحبّ. لنعود لمدّة قصيرة للدراسة فندرس شيئاً من الكومبيوتر والرياضيات، بينما أم فيليب "تتحرقص" وتضحك، عمّا يفعله هذان المجنونان بوقتهما... ولكن التفوّق الدائم لحميد كان يطمئنها. كنّا نأخذ أقساطاً من الراحة بين ساعات النقاش الإداريّ واللاهوتيّ على بلكون الشقّة، نعم كنّا نرتاح ليس من الدراسة ولكن من الحوار، بالطبع على البلكون كنّا نكمل حوارا حول الميناء والحبّ والحرب. وكم أوقعتُ خلال دخولي من البلكون "زريعة" لأم فيليب تسند فيها الباب، وكم وسّخت لها الأرض، وهي تلعن أبي ضاحكة، ونحن نضحك. إم فيليب، كانت تتألّم أنّ رفاق أولادها الكبار لم يعودوا يزوروها.
حميد إنسان يتميّز بذكاء حادّ جدّاً، وبسرعة بديهة، وبقدرة تنظيميّة فذّة، وبحسّ عالٍ بالمسؤوليّة. كان يلفتني أنّه عمل باكرا جدّاً ملتزماً أسرته، وكان يبدو لي أنّ ذلك مُرْهِقٌ لشاب بعمرنا. ولا شكّ عندي أنّ تجربة العمل صقلت حسّاً له بالمسؤوليّة لم يكن لدى الكثيرين في عمره، ومنهم أنا. وحميد إنسان مفتونٌ بالموسيقى والأغاني والإيقاع، سمع موسيقى وأغاني ممّا توفّر له من زوايا الأرض، وقد كان الوضع المادّي لأمثالنا لا يسمح بأن يمارس الإنسان هوايةً حتّى الثمالة، فالهوايات مكلفة.
وحميد صاحب صوت جميل وأذن موسيقيّة مرهفة، قلّ نظيرها. افتُتِنَ بالموسيقى الكلاسيكيّة مدّة طويلة من الزمن وأتقن زواياها، عرّفني على فيفالدي وخاصّة «الفصول الأربعة»، ومقطوعة «كارمينا بورانا» الرائعة التي انطبعت بأحاسيسي بفضله. استمع حميد لفترة طويلة على النتاج اليونانيّ، وبالأخصّ يورغو دالاراس الذي حفظ له كلمات أغانيه دون أن يفهم اللغة اليونانيّة، ممّا يعطي فكرة عن سعة مواهبه وقدراته الذهنيّة. كان الشخص الذي يُعتَمَدُ عليه، مبدع في مسؤوليّاته. الأمر الوحيد الذي كان، ولا يزال، يستصعبه هو أن يمسك القلم ويكتب. أعتقدُ أنّه يترحّم على مطوّري الكومبيوتر... يوميّاً.
أثناء دراستنا الجماعيّة في شمال لبنان، وما أن أنهينا سنتنا الثالثة معلوماتية، سافر أساتذتنا! ... وجدت الإدارة لنا مخرجاً أن نكمل المواد المتبقيّة في بيروت لمدّة فصل واحد ونعود بعدها للشمال لمتابعة مشروع التخرّج ومادّتين يمكن توفير أستاذين لها (أحدهما علّمنا إيّاها المهندس دملج، أخ الصديقة روعة دملج). اضطررنا أن ندرس في بيروت. وما أدراك ما بيروت. لم نكن ندري بجميع الأحوال. كان فرع كلّية العلوم في الجامعة اللبنانيّة، الذي تمّ الاتّفاق معه لاستقبالنا هو فرع الفنار (في المنطقة الشرقيّة من بيروت). ولم نكن نعرف شيئاً من بيروت. لحسن حظّنا، حميد كان لديه أحد أقربائه الذي أرشدنا إلى شقّة للإيجار (بعدما دفعنا عربون شقّة أجّرها لاحقا صاحبها لغيرنا، وإن أسعفتني الذاكرة طار العربون). وصلنا أحد شوارع منطقة فرن الشبّاك، ومنه إلى مفرق «زاروب». دخلنا المفرق، فإذا بقطعة قماش طويلة منشورة بين بنايتين لتمنع رؤية آخر «الزاروب»، بنايتنا الأولى على اليمين وهي الوحيدة الممكن دخولها. أمّا قطعة القماش فقال لنا قريب حميد "لا تخافوا هي تغطّي الزاروب عن المنطقة الأخرى كي لا يروكم القنّاصة". كان شيئاً مطمئناً! «زواريب» أخرى كانت مغلقة بقطع من قطار قديم. بالطبع الناس كانت تعيش بشكل مشابه في الطرف الآخر. بلد رائع بالفعل، مساواة كاملة بين الجميع.
كنّا الوحيدين في البناية في الطابق الأرضي. الليلة الأولى استقبلنا صاروخ ظنّينا أنّه في بنايتنا. استعدّينا للركض ان اقتضى الأمر لكن لم يحدث شيء. عدنا إلى النوم. في الصباح عرفنا ورأينا أنّه في البناية المقابلة لنا.
نجيب وأنا خُطفنا بلا سبب قرب الجامعة. حميد وأنا قضينا 4 أشهر نسكن في الطابق الأرضي من شقّة في بناية مهجورة على خطوط التماس. سكن معنا 3 أشخاص من مدينتنا، منهم أذكر كابي دبس وجوني تركية. كانت الشقّة تكفينا. تشاركنا الطعام والجلي والخوف والباص القديم، والمشي، و«الأوتو ستوب» من مفرق التلّة التي تقع عليها الجامعة، إلى حيث الجامعة في منتصف التلّ.
عدنا إلى الشمال بعد أربعة أشهر، ودرسنا، وبدأنا مشروع التخرّج. كنّا بالطبع واثقين جدّا من أنفسنا ومن قدراتنا العلميّة، هذا أمر كان مفروغا منه. لكن بالغنا بقدراتنا مرّة واحدة، خلال عملنا في مشروع التخرّج اعتقدنا أنّنا اكتشفنا خطأ ما في لغة برمجة لأنّ شيئا ما لم يكن يُنَفَّذ كما يجب، وراجعنا برنامجنا مرّات عديدة ولم نرى خطأ. ولكن انتبهنا أثناء– نعم أثناء- الدفاع عن مشروع التخرّج للخطأ الذي ارتكبناه وأشرنا إليه.
في علاقته مع زميلاته وزملائه كان حميد شاباً لطيفاً، ويساهم في شرح ما صعب عليهم من مفاهيم. في حصص الفراغات كان لكلّ منّا رفاقه الخاصّين ولم نكن نلتقي تقريباً. أمّا أفضل ما حصل خلال دراستنا فهو بلا شكّ أنّنا كلّنا كزملاء قرّرنا أن نهرب من جميع الحصص في ذلك اليوم الجميل، وأن نذهب إلى مطعم في «رشعين» حيث قضينا وقتا ولا أروع في الغذاء وشرب ما تيسّر من البيرة والعرق، ومَنْ كان بيننا لا يشرب كحولاً شارك زملاءه الطعام والفرح.
حميد إنسان حوار. حواراتنا كانت يوميّة عن تقريبا كلّ شيء إنسانيّ في العالم وعن والحرب بالطبع. لست أدري كيف كنّا ننجح في امتحاناتنا مع كلّ الوقت الذي كنّا نقضيه على أمور أخرى! لكنّها كانت حوارات صعبة. مراهقان لا يعرفان رأسيهما من رجليهما في أمور الحياة، ولكنّهما يصارعان كي يفهما شيئاً. استقبلتهما حركة الشبيبة آتيين من بيئة فقيرة وفتحت لهما أبواب النموّ. نميا وصارعا وارتكبا الأخطاء الإداريّة في مسؤوليّاتهما، ولكنّهما كانا مجنونان بيسوع، وبضرورة نجاح مشروع أسرة الجامعيين، وبضرورة نجاح تجربة الاختلاط بين الذكور الإناث التي كانت في بداياتها، ونجحت التجربة ونجحت الأسرة.
شابّان ضحكا كثيراً وتألّما معاً، رغم تنافر كان لا بدّ منه بين اثنين يبحثان عن ذاتيهما. شابّان أكثر ما فعلاه هو أنّهما أصغيا لبعضيهما، ولم يكونا مؤهّلين لمساعدة بعضيهما بأكثر من الإصغاء، وهذا بحدّ ذاته إنجاز إنسانيّ، كم من إنسان يمكنه أن يصغي لآخر؟ ليس الكثير. والإصغاء كان مِراسنا الأسبوعيّ في الفرقة الرائعة التي جمعتنا. وكم صارعنا لما رأيناه حقّاً وإنجيليّاً، ولكن ما ظلّل الصراع كان دائماً روح الصداقة التي جمعتنا جميعاً.
كان حميد يتعب كثيراً في القراءة، لا يأخذ أمور الإيمان بشكل هامشيّ، مداخلاته دائماً ثاقبة ومستندة إلى تفكير شخصيّ. ولهذا إيمانه لم يأتِ عن تسليم أعمى. حميد الدكتور الجامعي اليوم، الصلب القياديّ، لم يزل ذاك الإنسان المرهف الإصغاء والمرهف الإحساس بالشباب خاصّة، الشباب الذين أكثر ما يلاقون عدم التفهّم والإصغاء. نقل الحياة والفرح والمسؤوليّة إلى حيث حلّ. أثره على الكثيرين الكثيرين لا يعرفه هو، لكنّي أعرفه لأنّ الذين أرشدهم أخبروني يوما أنّهم، بعد أن أرشدهم عندما كان في بيروت، رأوا الله والمسيح والحياة واحد، قالت لي أختٌ بلغتها ما معناه بلغتي أنْ "كنّا ضائعين فوُجِدنا وكنّا أمواتا فعُشنا".... يكفيك هذا يا صديقي، يا حميد.
خريستو المرّ
26 أيّار 2015