خريستو المرّ
الله:حبّيتك تنسيت النوم يا خوفي تنسانيأحببتك قبل أن أخلقك، كانت خارطتك في فكري منذ الأزل كنتُ "أشاهدك قبل وجودك"[1]. وخلقتك من العدم، ومنذ خلقت العالم وخلقتك "حبّيتك"، "حبّيتك تنسيت النوم". أنا أكلّمك بالشعر يا حبيبي، فأنت بالطبع تفهم أنّي لا أنام، وأنت تفهم أنّ استراحتي في اليوم السابع هي رمز وليست حرفاً فأنا لا أستريح بل أنّي عشت "مصلوباً" منذ أنشأتُ العالم وأنشأتُ وجهك فيه، منذ أنشأتك حرّاً إزائي. فأنت الذي تعرف الحبّ بخبرتك، تفهمني إنْ قلتُ لك أنّي أحببتك وأحبّك وسأحبّك دائماً، وأنّي مصلوب بانتظار مبادلتك لي الحبّ، فأنا الكليّ القدرة بحبّي - حبّي الذي لا زلتَ أنت تردّد بأنه فائق الوصف - واقف على باب قلبك أقرع. أَوَ فهمتَ الآن صليبي؟ لقد وضعت نفسي تحت رحمة جوابك على حبّي، فإن بادَلْتَني الحبَّ تفجّرَتْ فيكَ الحياة وأفرحتني، وإن رفضتني ولم تفتح لي بابَ قلبك جفّت فيكَ الحياة وآلَمْتَني.
حبيبي، مذ خلقتك وأنا معلّق على مسامير رفضك. "يا خوفي تنساني"، يا خوفي عليك وليس عليّ، خوفي عليك من نفسك، من حرّيتك التي قد تسيء استعمالها ضدّ نفسك، فتتصرّف "ضدّ الطبيعة" الإلهيّة المحفورة صورتها فيك والتي خلقتُك متّجهاً إليها. ماذا أفعل؟ أنا أحبّك، أنا محبّة كلّي، ولهذا كانت قدرتي الكلّية تتجلّى بإفراغ ذاتي، بانسحابي الإراديّ كي توجد أنت والكون كلّه بشكل متمايز عنّي، وكي توجد أنت حرّاً مثلي. مُذْ خَلَقْتُ، وأنا أُخبّئ مجدي حتّى تستطيعَ أن تأتي إليّ بحرّيتك، بدون قسر، ألتحفُ بالكون حتّى لا يقهرك وجودي المؤكَّد، بل تقرأ آثاري وتقفز إن أردتَ إلى حبّي، مؤمناً، كمن يلقي بنفسه إلى الخلف وهو واثق أنّ رفيقه خلفه سيمسك به ولن يتركه، لن يدعه يقع. هل لعبت هذه اللعبة من قبل؟ لم لا تلعبها أنت معي؟ لم لا تعود طفلاً؟ أنا ألعب بالاستغمّاية معك كلّ العمر قابعاً في كلّ وجه وكلّ نجمة، صارخاً إليك تعال، فتّش عنّي، لا تتركني أنتظر اكثر، ثق بي، أقفز إليّ في كلّ وجهٍ، وفي كلّ نجمةٍ تلمحها في كلّ عين.
حابسني برّاة النوم و تاركني سهراني، أنا حبّيتك حبّيتك أنا حبّيتك حبّيتك"حابسني برّاة النوم"، لا أنام. وكيف أنام؟ لا أستريح. وكيف أستريح؟ فما من يوم سابع عندي، أنا الذي أَمُدُّك وأَمُدُّ الكون في كلّ لحظة بالوجود، أنا الذي بي "كلّ شيء يحيا ويتحرّك ويوجد"؛ ومنذ فجري على الصليب، منذ عكستُ بابلَ في العنصرة، وأنا أمدّك بوجوديّ الأكثر جوّانيّة فيك، بروحي القدس. وأنت "تاركني سهرانة"، تتركني منتظراً إيّاك. أنا لا يتعبني شيء، لا بل يسعدني أن أسهر عليك، أو ليس هذا ما أنا فاعله منذ خلقتك وخلقت العالم من لا شيء؟ سهري لا يتعبني، ولا يؤلمني، ما يؤلمني هو الترك، تركك لذاتك بتركك لي، فـ"أنا حبّيتك حبّيتك". هلّا تشعر فتفهم؟ "أنا حبّيتك حبّيتك"، أحببتك منذ البدء، وأحببتك الآن، الآن، الآن... الآن إلى ما لا نهاية[2].
بشتقلك لا بقدر شوفك و لا بقدر احكيك"بشتقلك لا بقدر شوفك". لا أستطيع أن أراك اليوم كما أودّك أن تكون، وأنا لا أودّ أن تكون سوى نفسك، فإذا بي أراك ولكن أراك مهزوماً وحيداً شريداً بعيداً عن الحبّ، غريباً عن غيرك، غريباً عن مشتهى قلبك، غريباً عن نفسك. "ما بقدر إحكيك"، مع أنّي أكلّمك كلّ لحظة بروحي الذي يسكن روحك، مع أنّي أكلّمك أنا الأقرب إليك من نفسك، أنا الأكثر "جوّانيّة" من "جوّانيّتك" إليك[3]، إلاّ أنّني أبقى غير قادر ان أحاورك لأنّك تغلق على ذاتك، لأنّك لا تفتح لي باب قلبك، فأبقى مستعطياً حبّك في الخارج. فأقرع، وأقرع، منتظراً جوابك؛ أقرع بكلمتي فيك، بروحي فيك، وأقرع بحضور وجوههم، هؤلاء الذي يحملونني إليك ويعطوك إيّاي أنا الساكنهم، أقرع بحبّهم لكَ، أقرعُ أنا المستعطي حبَّك، أنا مَنْ أنا، أنا الذي لا أقتحم حبيبي لأنّي أحبّه، وأنت حبيبي، وكلّهم أحبّتي. أَوَ فهمتني؟ أرجوك افهمني لأنّني أرتاح بفهمك، أرتاح أن تساعدني بإزاحة جدار سوء الفهم الذي ترفَعُه أوهامك بينك وبيني؛ فأنا المحبّ الأكبر لهذا الكون ولستُ الحاوي الأكبر، أنا أحترم كوني ولست بمسيطر على خلائقي و"ثعابينها" بمزمار قدرتي، هل فهمتني؟ خلاصك بيدك، بيدك مع يدي، هل فهمتني؟
بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك هكذا "بندهلك خلف الطرقات"، تجرّني خلفك أينما ضللت، "فأنا مريضة من الحبّ"[4]. "بندهلك" أهيم خلفك، يا من تحبّه نفسي، يا من أتحرّق إليه، ليدخل بيتي، ليدخل غرفتي السرّية، ليدخل عرش قلبي. "بندهلك خلف الشبابيك" صارخاً: " لَيتَ شِمالَك تَحتَ رأسي ويَمينَك تُعانقُني". تعال، أدخل "وقَبِّلْني بِقُبُلاتِ فَمِكَ، فحبُّكَ أطيَبُ مِنَ الخمرِ". ألم أقل لك منذ آلاف من السنين أنّي "أنا لحبيبي وحبيبي لي"؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ لغة، وبكل التفاتةٍ من نسمة ومن موسيقى ومن صمت؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ نجم أُشْعِلُهُ في كلّ عين تفتح لك ينابيع حنانها صداقةً وحبّاً؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ ولادة لحبّ أنت تقوم بها في هذا العالم؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ فعل خلاّق تفعله؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ فرح تحياه؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ حزن مضيء يسكنك ويدفعك خارج حدود نفسك إلى الأبد؟ حبيبي، أنا لك وأنت لي. أنا لك كُنْ محبّاً حرّاً لي، أنا الشحّاذ الأبديّ لخبز عينينك، حبيبي.
حبيبي، أنت وحدك حبيبي، وكلّهم حبيبي، واحداً واحداً أنتم حبيبي. أنت حبيبي وأنا ناديتك، كلّ يوم أناديك متخفيّاً خلف كلّ طريق تمشي فيها "بندهلك خلف الطرقات"، ألاحقك وأناديك متخفّياً "خلف الشبابيك"، خلف كلّ شبّاك تفتحه على منفاك، أو حتّى تغلقه على منفاك. أناديك وألاحقك لأنّي أحبّك، أحبّك حتّى أنّني نزلت إلى الجحيم، منذ ألفي عام وقليل، وأنزل إلى جحيم منفاك كلّ يوم، مُنادياً إيّاك كي تقوم معي. قال لي حبيبي يوحنّا يوماً "تعال، تعال"، فاتَهُ أنّي أنا الذي يقول أيضاً، لكل واحد منكم، كلّ يوم، "تعال، تعال"، تعال حتّى نستطيع أن نتبادل الحبّ معاً، تعال حتّى تشاركني بتحويل هذا الكون إلى ملء ملكوتي، تعال نحبّ بعضنا، حبيبي، كيّ يضيء حبّنا في هذا العالم، كي يصير حبّي فيك منارةً، وعندها لن يقوى عليك شيء، لا أبواب جحيمٍ تُغلق عليك، ولا مكيال يغطّي نوري الساكِنُكَ، عندها ستضيءَ منارةً لكلّ مَنْ هُم في هذا الكون‑بيتي.
بْجَرِّب إنّي إنسى بْتِسْرُق النسيانتظنّ أنّي أنساك. تناديني في صعوباتك: أين أنتَ؟ و"إلى متى يا ربّ تنساني"[5]؟. حبيبي، إسمعني، إفهمني. حتّى وإن جرّبتُ أن أنسى وجهك –وأنا لن أجرّب- فعيناك تسرقا منّي النسيان، فأنا تأمّلت وجهك مذ أَرَدْتُ أن أخلقك، أي قبل وجودك حبيبي، كما تتأمّل الحامِلُ في فكرها وجهَ ولدها الذي لم يولد بعد. إن بالغتُ بتعبيري لقلتُ، بِلُغَتِكَ الشعريّة المكسورة والعاكسة لضوء ملكوتي، حبيبي "بْجَرِّب إنّي إنسى بتِسْرُق النسيان"، فوجهك الحلو هو فيّ إلى أبد إرادتي المُحِبَّة، ومنذ أزلها، حبيبي.
وبفتكر لاقيتك رِجِعْلِي اللِي كان/ وتضيع منّي كِلْ ما لاقيتك/ حبّيتك حبّيتك أنا حبّيتك حبّيتك"وبفتكر لاقيتك". آه، كم من مرّة قلت لنفسي أخيراً سأرتاح بلقائك، فقد عدتَ إليّ أنا المخاطِبُ قلبك بواسطة كلّ وجه، والساكنكَ أنتَ بالذات والمُخاطِبُكَ من الداخل، أنا المنتظر والمتأمّل أفق عودتك إليّ، علّني أراك قادماً من بعيد فأسرع وأعانقك وأقبّلك. كم من مرّة عدتَ، فقلتُ لذاتي "رِجِعْلي اللِي كان"، كم مرّة هرولتُ إليكَ، واحتضنتُك قبل أن تصل، واحتفلتُ بحبّك، وتعشّينا كلّنا معاً في حفل حبَّك المتأجّج من جديد. ولكن كم مرّة كنتَ تعود إلى ضياعك. وإذا بك "تْضِيعْ مِنّي كِلْ ما لاقيتك"، وإذا بي "في الليالي على فِراشي، أطلبُ مَنْ يُحِبُّه قلبـي أطلُبُهُ فلا أجِدُهُ"، فإذا بي مصلوب من جديد، راكض في الساحات، أحاول تجاوز حرّاس جدران قلبك، أحاول مناجاة إرداتك التي وحدها تقدر أن تنتصر على "حرّاس الليل" حول قلبك، الذين يحمون الليلَ من الاندحار أمام فرح فجري، أناجي إرادتك التي تقدر أن تحطّم الجدران التي تقف بين وجهك ووجهي إن قالت (إرادتك) لي "تعال"، لأنّي عندها سأحطّم معك كلّ وهم وكلّ جدار وكلّ صنم؛ فإرادتي هي أن تكونَ فَرِحاً وحرّاً وحيّاً. ولكنّ إرادتي هي رهن إرادتك، فأنا قادرٌ على كلّ شيء إلاّ على أن أجبرك أن تحبّني، كما عرف مُحِبِّيَّ في شتات كلّ صحراء. لكن يا حبيبي، الراجع والضائع، المتأرجح بين تأجّج نار الحبّ فيك وخبوّها، رغم كلّ شيء، أنا أراهن عليك، إراهن على أن تحبَّ النور أكثر من الظلام، أن أغريك بحبّي فتجده "أطيب من الخمر". أحبّك.
***
الإنسان:أنا خوفي إبقى حبّك بالإيّام اللي جايي / وإتهرب من نسيانك وما اتطلع بمراييوأنا أيضاً "حَبَّيْتَك"، أنت تراني أحياناً أحبّك، وأنت تعرف توقي الدائم إليك، توقي الذي أنت زرعته. أنا أحبّك ولكن أخاف، فحبّك، بل كلّ حبّ فيّ، ليس بالسهل. "أنا خوفي إبقى حبّك بالإيّام اللي جايي"، أنا أخاف حبّك، وأخاف كلّ حبّ، يا ربّ. حبيبك بولس قال أنّني أحياناً أبقى في العبوديّة خوفاً من الموت. هو فهم تماماً خوفي، خوفي أن أحبّك، وخوفي ان أحبّ أيّ إنسان، وحتّى خوفي أن أحبّ نفسي؛ فالحبّ فيّ يدفعني خارج ذاتي، يدفعني إلى المغامرة، فأخشاه. قوّة الحبّ تتجاوزني، فالحبّ فيّ "قويّ كالموت"، يرميني خارج حضن الأمان، خارج أسوار مدينتي المعروفة، وأنا خائف. أنت تعرف هذا، أنت تعرف ما أنا أعانيه، أنت تعرف لأنّك اختبرت وضعي الإنسانيّ من الداخل، إن صحّ تعبيري المكسور والمذهول أمام رهبة الحبّ اللامعقول الكامن في تجسّد أقنومك الإبن؛ أنت تعرفني لأنّك أخليتَ ذاتك عندما صار أقنومك‑الإبن إنساناً، وبه أنت اختبرت هشاشتي، هو الذي اختبر وضعي دون خطيئة، اختبره حتّى خوفي الأخير، اختبره حتّى الموت.
أنا أؤمن، يا ثالوث المحبّة، بأنّك عندما خلقتنا أنسحبتَ كي نوجدَ بالفعل، كي نوجد كأشخاص، كأحرار، وأومن أنّه عندما تجسّد أقنومك-الإبن كنتَ تتجاوز تجاوزك لخليقتك، تتعالى على تعاليك نفسه، كي تلاقيني في الصميم، كي تكون واحداً معي أنا، مع كلّ واحد منّا، معنا كلّنا معاً. ولهذا ما يخفّف من جزعي عندما أخطو احياناً خطوةَ إخلاء ذاتي، هذه التي تدفعني إليها قوّة الحبّ فيّ، عندما أخطو خطوةَ تجاوزِ خوفي من شعوري "بالموت"، عندما أخطو خلف حدود نفسي وأسوارها في كلّ مغامرة حبّ، ما يخفّف جزعي هو أنّك انت، يا ثالوث المحبّة، جرّبتَ الإخلاء الأكبر، وخطوتَ خلف الحدود الأكبر بين الخالق والمخلوق، وما يخفّف خوفي هو أنّ أقنومك‑الابن المتجسّد خاف عندما كان بيننا ليلة صلبه، خاف الموت، وتجرّعه، وسحقه، وقام منه. الخبرة المغيّرة لي في كلّ هذه المغامرة المتردّدة التي أحياها، هو هذا الحبّ «المجنون» الذي رأيته أنا بأقنومك‑الابن، بتجسّده وموته وقيامته، ما يشجّعني هو أنّك أنت رفيقي في الموت، رفيقي أنا الخائف، فبين يديك أستودع وجهي، يا رفيقي في الخوف، يا رفيق الفرح والحبّ.
يا حبيبي أنا، أنا القليل الحبّ، صحيح أنّي أخاف أن أحبّك، أخاف من وجهك المحفور فيّ، أخاف أن أهرب من نسيانك، لكنّي أعدك بأن "أتهرب من نسيانك وما اتطّلع بمرايي"، أعدك. لن أغرق بالنظر إلى نفسي في مرآة كي لا أنساك؛ سأهرب من نسيانك، سأنظر إلى وجوههم، هناك سأجدك، سأجد وجهك في وجوههم، في حبّهم، في أضوائهم وخلف ظلال أوهامهم. آه، ذهني لا يجمع الأضّاد بسهولة، اعذرني فخبرة الحبّ الحقّة تناقضيّة، وخبرة حبّي هي أنّي حين أجدك وأجدهم أجد نفسي ولا أضيّعها؛ إذاً، سأترك وجهي خارج المرايا، سأحبّهم وسأجدك في وجوههم، وسأجد بالفعل وجهي، لأنّني سأجده عندها متلألئاً بضوء روحك الساكن في قعر كلّ قلب، في قمّة كلّ حبّ... فلتسقط المرايا أريد أن أراك، وكفى.
حبسي أنت أنت حبسي و حريتي أنت/وإنتا اللِي بِكْرَهو واللي بْحِبّو أنتأحبّك، ولكنّي في اضطرابي أصرخ "حبسي إنت، أنت حبسي"، لأنّ " حُبُّكِ أطيـبُ مِنَ الخمرِ"، وأنا بذهني الذي تتخلّله العتمات أرى سحر عينيك وأشعر بتوقي كي أستلقي في فرح خمرهما، فأظنّ عينيك غرقي، سجني، عوض أن أراهما حرّيتي، حرّيتي منّي، من هواء قلبي المغلق، العابق بجدران أوهامي. لهذا طالما صرختُ رهبتي من جمالك، في النهار والليل؛ طالما صرختُ كمن يصرخ من رهبة جمال عينيّ حبيبته قائلاً "حَوِّلي عَينَيكِ عنِّي، فهُما تُرهِبانِني". لا أنت لست "حبسي"، لست سجني، بل "حرّيتي إنت". وإن كان خوفي يوهمني بأنّك "إنتا اللِي بكرهو"، فأنت هو في الحقيقة "اللي بحبّو، واللي بْحِبّو أنت".
يا ريت ما سهرت وخَفّيتك/حبّيتك حبّيتك أنا حبّيتك حبّيتكليتني لم أسهر مخفياً إيّاك في مخاوفي، حابساً إيّاك في أوهامي، "يا ريت ما سهرت وخَفّيتك"، لكن تبّاً للخوف، أنا أيضاً "حبّيتك حبّيتك، أنا حبّيتك حبّيتك". ها أنا أقفزُ يا ربّ، يا حبيب، أقفزُ خائفاّ ومؤمِناً بأنّك تحبّني، فتلقّاني بأجنحة حنانك.
***
الله:هذا يكفيني، تكفيني التفاتة منك، التفاتة لا أكثر، لا أريد شيئاً منك ولا أعطيك شيئاً مقابل حبّك، فأنت تعرف مِثلي، تعرف من خبرتك مع الجنس الآخر أنّه "لو أعطَى الإنسانُ ثَروةَ بَيتِهِ ثَمَناً لِلحبِّ لَنالَهُ الاحتِقارُ". أنا لا أريد شيئاً منك مقابل شيء، ولا أعطيك شيئاً مقابل حبّك، أنا لا أبحث عن إجراء عمليّة تجاريّة معك؛ أنا أعطيك قلبي بلا مقابل، يا حبيبي إلى الأبد، وأخاطب حرّيتك إلى الأبد كي تحبّني حرّاً فتكون نفسك، أسعى إلى حبّك الحرّ بلا مقابل، كما أنا أحبّك حبّاً حرّاً بلا مقابل. أنا، حبيبي، تكفيني وُجهَة أشرعة قلبك. وجّه أشرعتك نحوي واترك الباقي لروحي القدس. لأنفخ أشرعتك بريح تهبّ لتُلْهِبَكَ بالحرّية والحياة، فتفرَح ويفرح قلبي لفرحك.
حبيبي، أَبْحِرْ في حبّي، هناكَ أعلّمك الحبَّ "فأسقيكَ أطيَبَ الخمرِ، مِنْ عصيرِ رُمَّاني". تعال و"اجعلني خاتماً على قلبك"، فتجد السلام لقلبك في قلبي، وترفع عنّي صليبي الأبديّ بقيامتك من "الموت" عند رحيلك المتواصل في روحي، فتسكن في مملكة الحبّ، مملكتي، تسكن فيّ أنا، أنا الحبّ، أنا مُحِبُّكَ الأبديّ، فأنا "حبّيتك تنسيت النوم"، وأنا..."أنا حبّيتك حبّيتك"، أو تريد أكثر؟ إليك الأكثر "أنا حبّيتك حبّيتك"، "أنا حبّيتك " الآن، الآن، الآن، الآن، الآن، الآن، الآن...
25-26 شباط، 8، 9، 10 آذار 2011
خريستو المرّ
[1] فلاديمير لوسكي، "اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق"، منشورات النور، ص. 79-80
[2] هذا ما قاله إبني ألكسي لزوجتي فالنتينا عندما كان في الخامسة "أنا أحبّك، هلّئ، هلّئ، هلّئ...." ("هلّئ"=الآن)، وبعد لحظات شرح بانّه يعني بأنّه كلّ لحظة كان يقول لها بأنّه يحبّها "هلّى"، وبأنّه يعني بأنّه يحبّها في كلّ لحظة إلى ما لا نهاية!
[3] كان الشاعر الفرنسيّ بول كلوديل يقول عن الله أنّه "فيّ أقرب منّي إلى نفسي" « en moi plus moi-même que moi »
[4] هذا القول، كما وكلّ الأقوال الواردة في النصّ والموضوعة بين هلالين بدون مرجع، ما خلا كلمات الأغنية بالطبع، هي من كتاب "نشيد الأنشاد" في العهد القديم.
[5] المزمور 13
الله:حبّيتك تنسيت النوم يا خوفي تنسانيأحببتك قبل أن أخلقك، كانت خارطتك في فكري منذ الأزل كنتُ "أشاهدك قبل وجودك"[1]. وخلقتك من العدم، ومنذ خلقت العالم وخلقتك "حبّيتك"، "حبّيتك تنسيت النوم". أنا أكلّمك بالشعر يا حبيبي، فأنت بالطبع تفهم أنّي لا أنام، وأنت تفهم أنّ استراحتي في اليوم السابع هي رمز وليست حرفاً فأنا لا أستريح بل أنّي عشت "مصلوباً" منذ أنشأتُ العالم وأنشأتُ وجهك فيه، منذ أنشأتك حرّاً إزائي. فأنت الذي تعرف الحبّ بخبرتك، تفهمني إنْ قلتُ لك أنّي أحببتك وأحبّك وسأحبّك دائماً، وأنّي مصلوب بانتظار مبادلتك لي الحبّ، فأنا الكليّ القدرة بحبّي - حبّي الذي لا زلتَ أنت تردّد بأنه فائق الوصف - واقف على باب قلبك أقرع. أَوَ فهمتَ الآن صليبي؟ لقد وضعت نفسي تحت رحمة جوابك على حبّي، فإن بادَلْتَني الحبَّ تفجّرَتْ فيكَ الحياة وأفرحتني، وإن رفضتني ولم تفتح لي بابَ قلبك جفّت فيكَ الحياة وآلَمْتَني.
حبيبي، مذ خلقتك وأنا معلّق على مسامير رفضك. "يا خوفي تنساني"، يا خوفي عليك وليس عليّ، خوفي عليك من نفسك، من حرّيتك التي قد تسيء استعمالها ضدّ نفسك، فتتصرّف "ضدّ الطبيعة" الإلهيّة المحفورة صورتها فيك والتي خلقتُك متّجهاً إليها. ماذا أفعل؟ أنا أحبّك، أنا محبّة كلّي، ولهذا كانت قدرتي الكلّية تتجلّى بإفراغ ذاتي، بانسحابي الإراديّ كي توجد أنت والكون كلّه بشكل متمايز عنّي، وكي توجد أنت حرّاً مثلي. مُذْ خَلَقْتُ، وأنا أُخبّئ مجدي حتّى تستطيعَ أن تأتي إليّ بحرّيتك، بدون قسر، ألتحفُ بالكون حتّى لا يقهرك وجودي المؤكَّد، بل تقرأ آثاري وتقفز إن أردتَ إلى حبّي، مؤمناً، كمن يلقي بنفسه إلى الخلف وهو واثق أنّ رفيقه خلفه سيمسك به ولن يتركه، لن يدعه يقع. هل لعبت هذه اللعبة من قبل؟ لم لا تلعبها أنت معي؟ لم لا تعود طفلاً؟ أنا ألعب بالاستغمّاية معك كلّ العمر قابعاً في كلّ وجه وكلّ نجمة، صارخاً إليك تعال، فتّش عنّي، لا تتركني أنتظر اكثر، ثق بي، أقفز إليّ في كلّ وجهٍ، وفي كلّ نجمةٍ تلمحها في كلّ عين.
حابسني برّاة النوم و تاركني سهراني، أنا حبّيتك حبّيتك أنا حبّيتك حبّيتك"حابسني برّاة النوم"، لا أنام. وكيف أنام؟ لا أستريح. وكيف أستريح؟ فما من يوم سابع عندي، أنا الذي أَمُدُّك وأَمُدُّ الكون في كلّ لحظة بالوجود، أنا الذي بي "كلّ شيء يحيا ويتحرّك ويوجد"؛ ومنذ فجري على الصليب، منذ عكستُ بابلَ في العنصرة، وأنا أمدّك بوجوديّ الأكثر جوّانيّة فيك، بروحي القدس. وأنت "تاركني سهرانة"، تتركني منتظراً إيّاك. أنا لا يتعبني شيء، لا بل يسعدني أن أسهر عليك، أو ليس هذا ما أنا فاعله منذ خلقتك وخلقت العالم من لا شيء؟ سهري لا يتعبني، ولا يؤلمني، ما يؤلمني هو الترك، تركك لذاتك بتركك لي، فـ"أنا حبّيتك حبّيتك". هلّا تشعر فتفهم؟ "أنا حبّيتك حبّيتك"، أحببتك منذ البدء، وأحببتك الآن، الآن، الآن... الآن إلى ما لا نهاية[2].
بشتقلك لا بقدر شوفك و لا بقدر احكيك"بشتقلك لا بقدر شوفك". لا أستطيع أن أراك اليوم كما أودّك أن تكون، وأنا لا أودّ أن تكون سوى نفسك، فإذا بي أراك ولكن أراك مهزوماً وحيداً شريداً بعيداً عن الحبّ، غريباً عن غيرك، غريباً عن مشتهى قلبك، غريباً عن نفسك. "ما بقدر إحكيك"، مع أنّي أكلّمك كلّ لحظة بروحي الذي يسكن روحك، مع أنّي أكلّمك أنا الأقرب إليك من نفسك، أنا الأكثر "جوّانيّة" من "جوّانيّتك" إليك[3]، إلاّ أنّني أبقى غير قادر ان أحاورك لأنّك تغلق على ذاتك، لأنّك لا تفتح لي باب قلبك، فأبقى مستعطياً حبّك في الخارج. فأقرع، وأقرع، منتظراً جوابك؛ أقرع بكلمتي فيك، بروحي فيك، وأقرع بحضور وجوههم، هؤلاء الذي يحملونني إليك ويعطوك إيّاي أنا الساكنهم، أقرع بحبّهم لكَ، أقرعُ أنا المستعطي حبَّك، أنا مَنْ أنا، أنا الذي لا أقتحم حبيبي لأنّي أحبّه، وأنت حبيبي، وكلّهم أحبّتي. أَوَ فهمتني؟ أرجوك افهمني لأنّني أرتاح بفهمك، أرتاح أن تساعدني بإزاحة جدار سوء الفهم الذي ترفَعُه أوهامك بينك وبيني؛ فأنا المحبّ الأكبر لهذا الكون ولستُ الحاوي الأكبر، أنا أحترم كوني ولست بمسيطر على خلائقي و"ثعابينها" بمزمار قدرتي، هل فهمتني؟ خلاصك بيدك، بيدك مع يدي، هل فهمتني؟
بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك هكذا "بندهلك خلف الطرقات"، تجرّني خلفك أينما ضللت، "فأنا مريضة من الحبّ"[4]. "بندهلك" أهيم خلفك، يا من تحبّه نفسي، يا من أتحرّق إليه، ليدخل بيتي، ليدخل غرفتي السرّية، ليدخل عرش قلبي. "بندهلك خلف الشبابيك" صارخاً: " لَيتَ شِمالَك تَحتَ رأسي ويَمينَك تُعانقُني". تعال، أدخل "وقَبِّلْني بِقُبُلاتِ فَمِكَ، فحبُّكَ أطيَبُ مِنَ الخمرِ". ألم أقل لك منذ آلاف من السنين أنّي "أنا لحبيبي وحبيبي لي"؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ لغة، وبكل التفاتةٍ من نسمة ومن موسيقى ومن صمت؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ نجم أُشْعِلُهُ في كلّ عين تفتح لك ينابيع حنانها صداقةً وحبّاً؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ ولادة لحبّ أنت تقوم بها في هذا العالم؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ فعل خلاّق تفعله؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ فرح تحياه؟ ألم أقل لك ذلك بكلّ حزن مضيء يسكنك ويدفعك خارج حدود نفسك إلى الأبد؟ حبيبي، أنا لك وأنت لي. أنا لك كُنْ محبّاً حرّاً لي، أنا الشحّاذ الأبديّ لخبز عينينك، حبيبي.
حبيبي، أنت وحدك حبيبي، وكلّهم حبيبي، واحداً واحداً أنتم حبيبي. أنت حبيبي وأنا ناديتك، كلّ يوم أناديك متخفيّاً خلف كلّ طريق تمشي فيها "بندهلك خلف الطرقات"، ألاحقك وأناديك متخفّياً "خلف الشبابيك"، خلف كلّ شبّاك تفتحه على منفاك، أو حتّى تغلقه على منفاك. أناديك وألاحقك لأنّي أحبّك، أحبّك حتّى أنّني نزلت إلى الجحيم، منذ ألفي عام وقليل، وأنزل إلى جحيم منفاك كلّ يوم، مُنادياً إيّاك كي تقوم معي. قال لي حبيبي يوحنّا يوماً "تعال، تعال"، فاتَهُ أنّي أنا الذي يقول أيضاً، لكل واحد منكم، كلّ يوم، "تعال، تعال"، تعال حتّى نستطيع أن نتبادل الحبّ معاً، تعال حتّى تشاركني بتحويل هذا الكون إلى ملء ملكوتي، تعال نحبّ بعضنا، حبيبي، كيّ يضيء حبّنا في هذا العالم، كي يصير حبّي فيك منارةً، وعندها لن يقوى عليك شيء، لا أبواب جحيمٍ تُغلق عليك، ولا مكيال يغطّي نوري الساكِنُكَ، عندها ستضيءَ منارةً لكلّ مَنْ هُم في هذا الكون‑بيتي.
بْجَرِّب إنّي إنسى بْتِسْرُق النسيانتظنّ أنّي أنساك. تناديني في صعوباتك: أين أنتَ؟ و"إلى متى يا ربّ تنساني"[5]؟. حبيبي، إسمعني، إفهمني. حتّى وإن جرّبتُ أن أنسى وجهك –وأنا لن أجرّب- فعيناك تسرقا منّي النسيان، فأنا تأمّلت وجهك مذ أَرَدْتُ أن أخلقك، أي قبل وجودك حبيبي، كما تتأمّل الحامِلُ في فكرها وجهَ ولدها الذي لم يولد بعد. إن بالغتُ بتعبيري لقلتُ، بِلُغَتِكَ الشعريّة المكسورة والعاكسة لضوء ملكوتي، حبيبي "بْجَرِّب إنّي إنسى بتِسْرُق النسيان"، فوجهك الحلو هو فيّ إلى أبد إرادتي المُحِبَّة، ومنذ أزلها، حبيبي.
وبفتكر لاقيتك رِجِعْلِي اللِي كان/ وتضيع منّي كِلْ ما لاقيتك/ حبّيتك حبّيتك أنا حبّيتك حبّيتك"وبفتكر لاقيتك". آه، كم من مرّة قلت لنفسي أخيراً سأرتاح بلقائك، فقد عدتَ إليّ أنا المخاطِبُ قلبك بواسطة كلّ وجه، والساكنكَ أنتَ بالذات والمُخاطِبُكَ من الداخل، أنا المنتظر والمتأمّل أفق عودتك إليّ، علّني أراك قادماً من بعيد فأسرع وأعانقك وأقبّلك. كم من مرّة عدتَ، فقلتُ لذاتي "رِجِعْلي اللِي كان"، كم مرّة هرولتُ إليكَ، واحتضنتُك قبل أن تصل، واحتفلتُ بحبّك، وتعشّينا كلّنا معاً في حفل حبَّك المتأجّج من جديد. ولكن كم مرّة كنتَ تعود إلى ضياعك. وإذا بك "تْضِيعْ مِنّي كِلْ ما لاقيتك"، وإذا بي "في الليالي على فِراشي، أطلبُ مَنْ يُحِبُّه قلبـي أطلُبُهُ فلا أجِدُهُ"، فإذا بي مصلوب من جديد، راكض في الساحات، أحاول تجاوز حرّاس جدران قلبك، أحاول مناجاة إرداتك التي وحدها تقدر أن تنتصر على "حرّاس الليل" حول قلبك، الذين يحمون الليلَ من الاندحار أمام فرح فجري، أناجي إرادتك التي تقدر أن تحطّم الجدران التي تقف بين وجهك ووجهي إن قالت (إرادتك) لي "تعال"، لأنّي عندها سأحطّم معك كلّ وهم وكلّ جدار وكلّ صنم؛ فإرادتي هي أن تكونَ فَرِحاً وحرّاً وحيّاً. ولكنّ إرادتي هي رهن إرادتك، فأنا قادرٌ على كلّ شيء إلاّ على أن أجبرك أن تحبّني، كما عرف مُحِبِّيَّ في شتات كلّ صحراء. لكن يا حبيبي، الراجع والضائع، المتأرجح بين تأجّج نار الحبّ فيك وخبوّها، رغم كلّ شيء، أنا أراهن عليك، إراهن على أن تحبَّ النور أكثر من الظلام، أن أغريك بحبّي فتجده "أطيب من الخمر". أحبّك.
***
الإنسان:أنا خوفي إبقى حبّك بالإيّام اللي جايي / وإتهرب من نسيانك وما اتطلع بمراييوأنا أيضاً "حَبَّيْتَك"، أنت تراني أحياناً أحبّك، وأنت تعرف توقي الدائم إليك، توقي الذي أنت زرعته. أنا أحبّك ولكن أخاف، فحبّك، بل كلّ حبّ فيّ، ليس بالسهل. "أنا خوفي إبقى حبّك بالإيّام اللي جايي"، أنا أخاف حبّك، وأخاف كلّ حبّ، يا ربّ. حبيبك بولس قال أنّني أحياناً أبقى في العبوديّة خوفاً من الموت. هو فهم تماماً خوفي، خوفي أن أحبّك، وخوفي ان أحبّ أيّ إنسان، وحتّى خوفي أن أحبّ نفسي؛ فالحبّ فيّ يدفعني خارج ذاتي، يدفعني إلى المغامرة، فأخشاه. قوّة الحبّ تتجاوزني، فالحبّ فيّ "قويّ كالموت"، يرميني خارج حضن الأمان، خارج أسوار مدينتي المعروفة، وأنا خائف. أنت تعرف هذا، أنت تعرف ما أنا أعانيه، أنت تعرف لأنّك اختبرت وضعي الإنسانيّ من الداخل، إن صحّ تعبيري المكسور والمذهول أمام رهبة الحبّ اللامعقول الكامن في تجسّد أقنومك الإبن؛ أنت تعرفني لأنّك أخليتَ ذاتك عندما صار أقنومك‑الإبن إنساناً، وبه أنت اختبرت هشاشتي، هو الذي اختبر وضعي دون خطيئة، اختبره حتّى خوفي الأخير، اختبره حتّى الموت.
أنا أؤمن، يا ثالوث المحبّة، بأنّك عندما خلقتنا أنسحبتَ كي نوجدَ بالفعل، كي نوجد كأشخاص، كأحرار، وأومن أنّه عندما تجسّد أقنومك-الإبن كنتَ تتجاوز تجاوزك لخليقتك، تتعالى على تعاليك نفسه، كي تلاقيني في الصميم، كي تكون واحداً معي أنا، مع كلّ واحد منّا، معنا كلّنا معاً. ولهذا ما يخفّف من جزعي عندما أخطو احياناً خطوةَ إخلاء ذاتي، هذه التي تدفعني إليها قوّة الحبّ فيّ، عندما أخطو خطوةَ تجاوزِ خوفي من شعوري "بالموت"، عندما أخطو خلف حدود نفسي وأسوارها في كلّ مغامرة حبّ، ما يخفّف جزعي هو أنّك انت، يا ثالوث المحبّة، جرّبتَ الإخلاء الأكبر، وخطوتَ خلف الحدود الأكبر بين الخالق والمخلوق، وما يخفّف خوفي هو أنّ أقنومك‑الابن المتجسّد خاف عندما كان بيننا ليلة صلبه، خاف الموت، وتجرّعه، وسحقه، وقام منه. الخبرة المغيّرة لي في كلّ هذه المغامرة المتردّدة التي أحياها، هو هذا الحبّ «المجنون» الذي رأيته أنا بأقنومك‑الابن، بتجسّده وموته وقيامته، ما يشجّعني هو أنّك أنت رفيقي في الموت، رفيقي أنا الخائف، فبين يديك أستودع وجهي، يا رفيقي في الخوف، يا رفيق الفرح والحبّ.
يا حبيبي أنا، أنا القليل الحبّ، صحيح أنّي أخاف أن أحبّك، أخاف من وجهك المحفور فيّ، أخاف أن أهرب من نسيانك، لكنّي أعدك بأن "أتهرب من نسيانك وما اتطّلع بمرايي"، أعدك. لن أغرق بالنظر إلى نفسي في مرآة كي لا أنساك؛ سأهرب من نسيانك، سأنظر إلى وجوههم، هناك سأجدك، سأجد وجهك في وجوههم، في حبّهم، في أضوائهم وخلف ظلال أوهامهم. آه، ذهني لا يجمع الأضّاد بسهولة، اعذرني فخبرة الحبّ الحقّة تناقضيّة، وخبرة حبّي هي أنّي حين أجدك وأجدهم أجد نفسي ولا أضيّعها؛ إذاً، سأترك وجهي خارج المرايا، سأحبّهم وسأجدك في وجوههم، وسأجد بالفعل وجهي، لأنّني سأجده عندها متلألئاً بضوء روحك الساكن في قعر كلّ قلب، في قمّة كلّ حبّ... فلتسقط المرايا أريد أن أراك، وكفى.
حبسي أنت أنت حبسي و حريتي أنت/وإنتا اللِي بِكْرَهو واللي بْحِبّو أنتأحبّك، ولكنّي في اضطرابي أصرخ "حبسي إنت، أنت حبسي"، لأنّ " حُبُّكِ أطيـبُ مِنَ الخمرِ"، وأنا بذهني الذي تتخلّله العتمات أرى سحر عينيك وأشعر بتوقي كي أستلقي في فرح خمرهما، فأظنّ عينيك غرقي، سجني، عوض أن أراهما حرّيتي، حرّيتي منّي، من هواء قلبي المغلق، العابق بجدران أوهامي. لهذا طالما صرختُ رهبتي من جمالك، في النهار والليل؛ طالما صرختُ كمن يصرخ من رهبة جمال عينيّ حبيبته قائلاً "حَوِّلي عَينَيكِ عنِّي، فهُما تُرهِبانِني". لا أنت لست "حبسي"، لست سجني، بل "حرّيتي إنت". وإن كان خوفي يوهمني بأنّك "إنتا اللِي بكرهو"، فأنت هو في الحقيقة "اللي بحبّو، واللي بْحِبّو أنت".
يا ريت ما سهرت وخَفّيتك/حبّيتك حبّيتك أنا حبّيتك حبّيتكليتني لم أسهر مخفياً إيّاك في مخاوفي، حابساً إيّاك في أوهامي، "يا ريت ما سهرت وخَفّيتك"، لكن تبّاً للخوف، أنا أيضاً "حبّيتك حبّيتك، أنا حبّيتك حبّيتك". ها أنا أقفزُ يا ربّ، يا حبيب، أقفزُ خائفاّ ومؤمِناً بأنّك تحبّني، فتلقّاني بأجنحة حنانك.
***
الله:هذا يكفيني، تكفيني التفاتة منك، التفاتة لا أكثر، لا أريد شيئاً منك ولا أعطيك شيئاً مقابل حبّك، فأنت تعرف مِثلي، تعرف من خبرتك مع الجنس الآخر أنّه "لو أعطَى الإنسانُ ثَروةَ بَيتِهِ ثَمَناً لِلحبِّ لَنالَهُ الاحتِقارُ". أنا لا أريد شيئاً منك مقابل شيء، ولا أعطيك شيئاً مقابل حبّك، أنا لا أبحث عن إجراء عمليّة تجاريّة معك؛ أنا أعطيك قلبي بلا مقابل، يا حبيبي إلى الأبد، وأخاطب حرّيتك إلى الأبد كي تحبّني حرّاً فتكون نفسك، أسعى إلى حبّك الحرّ بلا مقابل، كما أنا أحبّك حبّاً حرّاً بلا مقابل. أنا، حبيبي، تكفيني وُجهَة أشرعة قلبك. وجّه أشرعتك نحوي واترك الباقي لروحي القدس. لأنفخ أشرعتك بريح تهبّ لتُلْهِبَكَ بالحرّية والحياة، فتفرَح ويفرح قلبي لفرحك.
حبيبي، أَبْحِرْ في حبّي، هناكَ أعلّمك الحبَّ "فأسقيكَ أطيَبَ الخمرِ، مِنْ عصيرِ رُمَّاني". تعال و"اجعلني خاتماً على قلبك"، فتجد السلام لقلبك في قلبي، وترفع عنّي صليبي الأبديّ بقيامتك من "الموت" عند رحيلك المتواصل في روحي، فتسكن في مملكة الحبّ، مملكتي، تسكن فيّ أنا، أنا الحبّ، أنا مُحِبُّكَ الأبديّ، فأنا "حبّيتك تنسيت النوم"، وأنا..."أنا حبّيتك حبّيتك"، أو تريد أكثر؟ إليك الأكثر "أنا حبّيتك حبّيتك"، "أنا حبّيتك " الآن، الآن، الآن، الآن، الآن، الآن، الآن...
25-26 شباط، 8، 9، 10 آذار 2011
خريستو المرّ
[1] فلاديمير لوسكي، "اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق"، منشورات النور، ص. 79-80
[2] هذا ما قاله إبني ألكسي لزوجتي فالنتينا عندما كان في الخامسة "أنا أحبّك، هلّئ، هلّئ، هلّئ...." ("هلّئ"=الآن)، وبعد لحظات شرح بانّه يعني بأنّه كلّ لحظة كان يقول لها بأنّه يحبّها "هلّى"، وبأنّه يعني بأنّه يحبّها في كلّ لحظة إلى ما لا نهاية!
[3] كان الشاعر الفرنسيّ بول كلوديل يقول عن الله أنّه "فيّ أقرب منّي إلى نفسي" « en moi plus moi-même que moi »
[4] هذا القول، كما وكلّ الأقوال الواردة في النصّ والموضوعة بين هلالين بدون مرجع، ما خلا كلمات الأغنية بالطبع، هي من كتاب "نشيد الأنشاد" في العهد القديم.
[5] المزمور 13