جان حجّار
غناء للحياة على خشبةٍ وسط الموت
تحيّة لمحترف الميناء للمسرح، ولجان حجّار
غناء للحياة على خشبةٍ وسط الموت
تحيّة لمحترف الميناء للمسرح، ولجان حجّار
لم يكن
جان حجّار إنسانا عاديّاً. كان يكفي أن يهزّ طرف اصبعه، أو أن يحملق بك بدون أيّة
كلمة، كي تتصاعد منك ضحكة أو ابتسامة، فيزرع فيك الفرح. لم أجد لا ممثّلاً لا سابقا
ولا حاليّاً قادرا على الإضحاك والإفراح مثل جان حجّار.
أتى جان
إلى هذا العالم الجميل والمأساويّ في زمن بائس، زمن الحرب الممزّقة للأجساد والأنفس
والأحلام.
عدا
الصداقة التي ربطتنا منذ الطفولة، والروح المرحة التي كانت تشعّ من خلاله طوال
لقاءاتنا على مقاعد الدراسة، وموهبة التقليد التي يمتلكها؛ جان كان مبدعا في
التمثيل.
اشترك
تحت قيادة المخرج جان رطل الذي أعاد انتاج مسرحيّة "نزل السرور"، بدور زكريا
الككلكلي. على مدى أشهر من العروض، كان حضور جان على خشبة المسرح يثير عاصفة من
الضحك والتصفيق، أبدع في تجسيد شخصيّة زكريا مضفيّاً عليها لمسته الخاصّة. كم من
ممثّل قي تلك المسرحيّة لم يستطع يقاوم الابتسام عند وقوفه أمام جان حجّار أثناء
التمارين، وكنّا نعيد المشهد. موهبته الفذّة في زرع الابتسامة لم تكن سطحيّة، فقد
كانت مترافقة مع قدرة على الإداء لامس فيها المأساويّة أيضاً، في مسرحيّة "نزل
السرور". كنّا كلّنا نعلم أنّ جان حجّار هو العصب الأساسيّ للفرقة بالإضافة إلى
الموهوب نضال سلّوم، دون التقليل من أهمّية مساهمات وجهد الجميع.
لا أشكّ
اليوم أنّ جان حجّار كان حصان طروادة جان رطل الذي به اقتحم الأخير عالم المسرح في
مدينة كانت تغلي حيويّة وكآبة في قلب الحرب الأهليّة. النجاح الباهر الذي صنعه رطل
مع ثلّة من التلامذة الجامعيين والعمّال كان مدعاة الانطلاق إلى عمل ثان هو "مرايا
إشبيليّة"، مسرحيّة بعدّة فصول متتابعة بدون حبكة، ولو أنّ خيطا رفيعا يصلها بعضا
ببعض. كانت تجربة ناجحة. طرحت علاقة الإنسان بالأرض ولكن – بنظري- الموضوع الأهمّ
الذي طرحته هو موضوع السوق.
كان
حجّار يصرخ "اشتري اشتري"، كان كلّ شيء على خشبة المسرح يصرخ " اشتري، فكلّ شيء
سوق"، وفي الخارج، في البلد الممزّق الذي لم يعرف يوما أن يصير وطناً، كان سوق
الموت وتجارة الموت، وتجارة النخاسة السياسيّة والعسكريّة، تتابع فتكها. حجّار كان
يصرخ "اشتري" وكان الناس يشترون كلّ يوم مع لفافة الخبز خيبة وقرفا وعبوديّة
واستسلاما متزايدا لأمراء حرب خونة بكلّ ما للكلمة من معنى، خونة للحياة، وخونة لما
ادّعوا أنّهم يمثّلونه، فالأمراء كانوا يشترون ويبيعون نفوسهم قبل أن يشتروا
ويبيعوا بحياة الناس. كان حجّار "ينكش" ويكلّم الأرض وتكلّمه عن الكنوز الخبيئة،
و"الشيخ" ينهره بأنّه يهذي "يرى رؤى ويتخيّل تخيّلات" ويدعوه "للقيام بالكفّارة" عن
"خطيئته" بالحديث مع الأرض وكنوزها؛ وفي الخارج كانت الأرض قد اجتاحها منذ
السبعينات ألف بائع وشار وكاهن وشيخ، وكانت تجارة الدين في أوجها في للبنان من
السبعينات، وسيلة لعربدة سياسيّة وعسكريّة. الجنوب كان قد وقع في براثن الاحتلال
الاسرائيليّ والبقيّة تحت السيطرة السوريّة، والناس أسرى الأطراف جميعاً، وهم
أوّلاً أسرى الأطراف التي يؤّيدونها. كانت الأرض المستابحة صورة عن النفوس التي
استباحتها الطائفيّة والكراهية والرغبة بإلغاء الآخر. كانت المقاومة في الجنوب
وبيروت قد انطلقت، وكان فريق شبابيّ مع مخرج عاشق يقاومون الموت النفسيّ على خشبة.
الكنز-الأرض، والكنز-البشر كان يختفي في قاع الجحيم ونحن نغنّيه على المسرح حتى لا
تنطفئ أيّامنا. "الشيخ" يقول لحجّار أنت تهذي وكلّ الواقع في لبنان يقول لنا ولرطل:
أنتم تهذون، أنا الواقع.
توقّف
العمل المسرحيّ لجان رطل. بعض الطلاب اضطروا للذهاب لمناطق أخرى خارج طرابلس
لمتابعة تعلّمهم. وحجّار كان عليه – ان يرى كيف يدبّر حياته- وكذلك رطل. الدولة
ودعم المسرح لم يكونا غائبين أبداً، لأنّهما لم يوجدا أصلاً ليغيبا، الدولة في
لبنان ليست أصلا موجودة، ولم توجد يوما كدولة بل كملتقى مافيات. الحكومات كانت
دائما مكانا لتوزيع الثروة الوطنيّة على المافيات السياسيّة-الاقتصاديّة. المسرح؟
وما المسرح في عرف المال والسلطة؟ مجرّد لهو، جيّد للتصوير و"البوزات"، ليقال عن
المافيات أنّهم من أهل الثقافة. لم تفقد الثقافة رونقها غير صحيح، فالمسرح والثقافة
- حتّى بعرف أصحاب الأموال - قمّة في الحضارة ولكن كما كلّ شيء لدى تلك الطبقة،
الثقافة، طالما لم تمت من الإهمال، هي قمّة تريد تلك المافيات أن تشتريها كما تشتري
الماركات، أو على الأقلّ أن تضع يدها عليها في صورة مع فنّان...
توقّف
العمل المسرحيّ لجان رطل، وطرابلس بقيت كما كانت، كما اليوم، مهمّشة ثقافيّاً.
موهبة جان حجّار ونضال سلّوم، كموهبة جان رطل، كانت تمدّ جذورها في الماء، وما من
تراب. عاشت على ماء الصداقة والعشق للحقيقة والحياة والفرح والفعل في قلب الموت.
ليس ربّما مجرّد صدفة أنّ الإيمان بالقيامة كان في خلفيتهم معا. كانوا مع مجموعة
"محترف الميناء للمسرح" يغرسون في لحم هذا العالم الفائح بعفونة التدمير، تباشير
نور القيامة والفرح والحياة والتجدّد. يكفيهم انّهم فعلوا. وبالفعل لاحت القيامة في
قلب الموت، فقد لاحت في قلوبهم أوّلاً لأنّها إلى اليوم تشعّ بشذرات من مرايا
إشبيلية ونزل سرور حجّار – رطل.
لقد
غنّى "محترف الميناء للمسرح" الحقّ والحياة على خشبةٍ، لآلاف المأسورين في حرب
عبثيّة لم تنته، لآلاف المظلومين الذين انتظرهم، كما ينتظرهم اليوم وينتظر أولادهم:
دم سنين.
الواقع
كسر المسرح ولم يكسر الأغنية، لأنّها بقيت حيّة في كلّ من سمعها بعد المسرح، سمعها
في ذاته.
هل
يمكنني أن آمل بمسرحيّة أخرى ؟ نعم يمكنني، على الرجاء.
خريستو المرّ
19 كانون أوّل 2012
الإيمان والثقافة
ليس من حبّ أعظم من هذا : أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه: يسوع المسيح