المسيحيّون والسياسة
"النهار"، الاحد 11 شباط 2007 - السنة 74 – العدد 22914
خريستو المر(•) ونيقولا لوقا(••)
"انتم ملح الارض، فاذا فسد الملح، فماذا يملّحه؟ لا يصلح الا لأن يرمى في الخارج فيدوسه الناس" (متى 5: 13) فـ"الملح صالح، ولكن اذا فسد الملح، فماذا يملحه؟ لا يصلح للتربة ولا للسماد، بل يرمى به خارج المكان. من كان له اذنان تسمعان، فليسمع" (لو 34:14 – 35). هذه كانت وصية المسيح لمن يريد ان يتبعه، هؤلاء الذين سموا مسيحيين لاحقا.
ماذا تعني لهم هذه الآيات اليوم؟ ماذا تعني هذه الآيات للمسيحيين اليوم في لبنان حين يمارسون العمل السياسي في الوطن؟ المسيح اتى وجدد الحياة، اعطى ذاته لمن يريد، صار الله ساكنا في الناس اذا ما اتّخذوه حبيبا "من أحبني حفظ كلامي وأحبه ابي ونأتي اليه ونجعل عنده مقاما" (يو 23:14). عشرة الحب هذه للمسيح في الكنيسة هي التي تجعل من الانسان مسيحيا، اما الانتساب للكنيسة بالاسم "وحضور" الصلوات حضوراً فولكلورياً خارجيا فقط فليسا بشيء. الاساس هو المسيح الذي نتّحد به في الكأس بالروح القدس، المهم هو حب المسيح الذي لا ينفصل عن حب الانسان الآخر فمن احب الله احب اخاه، "لأن الذي لا يحب اخاه وهو يراه، لا يقدر ان يحب الله وهو لا يراه" (1 يو 4: 20)، هذا ما يجعل الانسان يحيا في المسيح. هذا الحب هو ملح الحياة، وهو الذي يجعل في المسيحيين نكهة المسيح.
من الواضح ان المسيح حين يتكلم عن الملح فهو دعا تلاميذه – اي من تبعوه في كل زمن – أن يسلكوا مسلكاً جديدا، مسلكا ينطلق من الحياة الجديدة التي صارت لهم مع المسيح. أما ألف هذه الحياة الجديدة وياؤها فهو السعي المستمر لممارسة المحبة للناس بالافعال لا بالكلام. محبة المسيحي الحقيقي للمسيح ومحبة المسيح له تغيرانه وتدفعانه لممارسة انسانية مع غيره، هذه الممارسة الانسانية، هذه المحبة، تنقل للناس محبة الله لهم، تجعلهم يفرحون باللقاء، تعكس لهم بذلك انوار الله، تنقل لهم نكهة المسيح، نكهة الحياة من اجلهم، نكهة الاستشهاد من اجلهم. هذه النكهة – الملح إن فعلها المسيحيون غيّرت طعم العلاقات بين الناس على الارض وجعلتها اكثر اخوية، جعلتهم "عيال" في عائلة الله.
لا طعم للملح ان بقي خارج الطعام، او ان كان داخل الطعام وانما متكتلا على ذاته دون امتزاج. لهذا فان دعوة المسيح مطروحة على كل مسيحي يريد ان يتعاطى الشأن العام. تعاطي السياسة لا يمكن ان يكون تكتليا بين المسيحيين والا فقد المسيحيون معنى وجودهم، فقدوا هويتهم. نعم، المسيحيون لا يفقدون هويتهم المسيحية اذا لم تكن لهم حصة في حفل تقاسم المغانم من مناصب وتعيينات، بل لم يكونوا ساعين لخدمة الناس، للتعاون مع المخلصين من كل اتجاه من اجل خدمة قضايا المواطنين الحياتية. هكذا فاذا ما توحّد المسيحيون بالاخوة الذين معهم فوق قطعة ارض، وأسسوا وفعّلوا معاً قوانين تهدف لخدمة حياة اخواتهم واخوتهم، شكلوا مع اخوتهم وطنا حقيقيا فعليا وليس اسميا، فأضاءوا واستضاؤا من انوار الله التي في قلب كل انسان، وصاروا ملح الارض، صاروا مسيحيين، ربحوا هويتهم المسيحية ولم يفقدوها بالتكتّل المنغلق على الذات او على الطائفة من اجل مصالح خاصة. اذ تكتل المسيحيون فقدوا نكهتهم المسيحية وصاروا بلا طعم وطرحوا انفسهم خارج المسيح ولو تشدّقوا باسمه ليلا نهارا، لأنهم صاروا عبدة أصنام: اصنام الطائفة، أصنام مؤسسات الطائفة، اصنام مصالح "زعماء" الطائفة، وغاب عنهم وجه المسيح ووجه الانسان، كل انسان، كل اخت وأخ، هؤلاء الذين خلقهم الله على صورته.
اذا صار المسيحيون مِلْحاً في لبنان وما تكتّلوا ولا طلبوا شيئا للطائفة، بل سعوا مع المواطنين جميعاً لاقامة نظام عادل لا يميّز بين سياسة الناس على اساس طائفي، واذا اتخذوا الاهتمام بحياة الناس هدفا في العمل السياسي اللاطائفي، اي في اطر سياسية لاطائفية (كالاحزاب اللاطائفية)، يصبح عندها الوطن مجال اعداد للعيش الملكوتي الآن وهنا.
المطلوب اذاً هذه المفارقة: أن لا نوجد لأنفسنا لكي نصبح موجودين فعلا، أن ننحل كملح في الطعام كي نجتمع في المسيح، أن نغيب عن التكتل طائفيا حتى نصير حاضرين مسيحياً. قد يتساءل الانسان ان كيف نفعل ذلك وكل النظام اللبناني مجبول بالطائفية؟ ولكن هذا هو التحدي، ان يساهم المسيحيون في اطلاح النظام الذي فيه نحيا، في تحويل الدنيا شيئا فشيئا الى تتمة للملكوت. هذا جنون؟ نعم، هذا جنون في نظر الذهن الطائفي الذي تربّينا عليه، ولكنه الامر الوحيد السليم عقليا، فالطائفية لم تولد سوى الكوارث، والتشبث بها هو تشبث بالانغلاق وبنظام يولّد الانغلاق، وبما ينتج عن الانغلاق من مآزق سياسية وحروب. هذا "الجنون" هو ما يجعل الفعل السياسي للمسيحيين فعلا مسيحيا حقا، هذا "الجنون" هو الخيار السليم عقليا، هو الخيار السليم مسيحيا. يقول المسيح "من اراد ان يخلّص حياته يخسرها ومن يخسر حياته في سبيلي يجدها (متى 16: 25) المسيح لا يعني ان نقتل انفسنا او نهلكها، ولكنه يعني ان من اراد أن يتقوقع وينغلق ظانا بأنه هكذا "يخلّص" نفسه فهو في الحقيقة يخسرها، اذ يتقوقع ويقطع نفسه عن الحياة، عن المسيح الذي لا يحضر سوى في العمل الصادر عن محبة الآخرين، هؤلاء الآخرين الذين يصيرون اقرباء لنا بمحبتنا لهم (كما يتّضح من مثل السامري الشفوق لوقا 10: 25 – 37). اما من يخرج من قوقعته فيشعر بأنه كمن "يخسر" وذلك لشعوره بخسارة الامان القبلي وخسارة التكتل الطائفي المخدّر للضمير، ولكنه في الحقيقة بمقياس المسيح، يربح حياته لأنه يحقق انسانيته وطاقاتها عندما يلاقي من هم عنه مختلفين، ويسعى مع المواطنين المخلصين لخدمة حياة الناس، وللخروج من النفق الطائفي الذي يمجّد احيانا تحت مسمى "فسيفساء". نعم الفسيفساء الاجتماعية هي امكانية غنى وفرح ولكنها امكانية حرب اذا ما كان النظام السياسي طائفيا. في المسيحية الخلاص لا يصير بفرد منعزل عن الجماعة، كذلك في الوطن لن نخلص الا معاً، اذا انفصلنا سنغرق معا.
وكوننا ارثوذكسيين فسنسمح لأنفسنا بأن نعلق، على سبيل المثال لا الحصر، على ما بدا اخيرا من تصرفات وتصريحات غير مقبولة بنظرنا، لسياسيين ينتمون للطائفة الارثوذكسية، ماذا يبرّر ان يجتمع وزراء منتمون الى الطائفية الارثوذكسية، وبصفتهم هذه، عند مسؤول كنسي ويعلنون "تضامناً وزارياً على صعيد الطائفة الارثوذكسية، كاملا وواضحا" وانهم "كلمة واحدة وقرار وموقف واحد؟ فالمسؤول الكنسي هو راع روحي لبناته وابنائه، اما على الصعيد السياسي فهو مواطن كالآخرين وليس له من توجيهات سياسية يعطيها، ومهمته الروحية الحقّة على الصعيد السياسي تكون بتذكير المسيحيين أن يكونوا ملح الارض وألا يتكتلوا، تكون بتذكيرهم بأن يعملوا مع اخوتهم في الوطن لصياغة أطر عيش (قوانين، مشاريع...) تهتم بالانسان وبحياته بكرامة. هكذا يغدو لا معنى لتصريحات تدّعي أن "الطائفة" تتشرف بـ"حصولها" على منصب او آخر في التوزيع الحصصي للطوائف، المنصب "يخلع" في الحقيقة على شخص بمجرد انتمائه لطائفة معينة. وفي الواقع لا يستفيد احد من المواطنين من ذلك المنصب الا اذا خدم المعيّن في المنصب مواطنيه جميعا، اما مجرد الحصول على مناصب "للطائفة" فلا معنى له لا مسيحياً ولا وطنياً الا في ذهن بعض الطائفيين الذين يتغذّون بالوهم، وهم الشعور الفارغ بالانفتاح الجماعي الذي هو على نقيض المسيحية.
إن اي انسان في موقع وظيفي في الدولة يجب الا يمثل طائفته بل بلاده. اما ما يشرف الكنيسة فهو أن يصلب ابناؤها اهواءهم بالسيطرة والتحكّم، وينصرف السياسيون المسيحيون لخدمة الناس كلهم، فيلتزمون السير بلبنان الى نظام لاطائفي ينجّينا روحياً وحياتياً. يمكن للمؤمنين الارثوذكس أن يلعبوا دورا محركا في هذا المجال عوض الانزلاق الى لعبة الطوائف وعربداتها في الوطن وتهافتها على الاخذ.
ما هي الطائفة وكيف يمكن عمليا ان تتشرف؟ في المسيحية كيان المؤمنين الاجتماعي المسمى "طائفة" ليس هو الكنيسة(•••). كون المؤمنين محبين لله، واحدا مع المسيح ولهذا خادمين للناس، هذا فقط يجعلهم كنيسة، اما التركيز على مفهوم "الطائفة" فهو تركيز على صيغة عشائرية لا معنى لها، تجمع الناس في دولة طائفية مفسّخة. الطائفة مفهوم تفتيت، الكنيسة وحدها هي المعنى. الله لا يحتاج الى طوائف ولا يحتاج الى مناصب في دول كبيرة او صغيرة "تشرّف" احباءه وبالطبع يمقت الله تكتل المسيحيين على ما بلّغنا في انجيله. الله "يحتاج" الى قلب الانسان، الى حبه "يا بني اعطني قلبك" (حكمة 23: 26)، لقد جعل هو بنفسه تلك الحاجة. كلمة الله تجسد لكي يتّحد الانسان بالله بالحب، "صار الاله انسانا لكي يصير الانسان الها" كما قال القديس ايريناوس، كل ما عدا ذلك مجد باطل، وعلى الصعيد الروحي انزلاق الى عبادة الاصنام. إن كان من شرف ممكن لانسان ارثوذكسي (وليس لكتلة بشرية تدعى الطائفة "الارثوذكسية") فهو أن يكون خادماً للانسان، لكل انسان، ولكل الانسان، خادما لحرّيته، وكرامته الانسانية، وسكنه، وطبابته، وتعلمه... وأن يحب حين يشح الحب، فيصير ملجأ في الوطن، ويربح نفسه حين يبدو للعقل الطائفي المنغلق أنه يخسرها.
(•) خريستو المر: استاذ جامعي وباحث في جامعة يورك – كندا.
(••) نيقولا لوقا: استاذ جامعي وباحث في جامعة لاروشيل- فرنسا.
(•••) راجع كوستي بندلي: "موقف ايماني من الطائفية"، طبعة ثانية، تعاونية النور الارثوذكسية للنشر والتوزيع، 2005.
ماذا تعني لهم هذه الآيات اليوم؟ ماذا تعني هذه الآيات للمسيحيين اليوم في لبنان حين يمارسون العمل السياسي في الوطن؟ المسيح اتى وجدد الحياة، اعطى ذاته لمن يريد، صار الله ساكنا في الناس اذا ما اتّخذوه حبيبا "من أحبني حفظ كلامي وأحبه ابي ونأتي اليه ونجعل عنده مقاما" (يو 23:14). عشرة الحب هذه للمسيح في الكنيسة هي التي تجعل من الانسان مسيحيا، اما الانتساب للكنيسة بالاسم "وحضور" الصلوات حضوراً فولكلورياً خارجيا فقط فليسا بشيء. الاساس هو المسيح الذي نتّحد به في الكأس بالروح القدس، المهم هو حب المسيح الذي لا ينفصل عن حب الانسان الآخر فمن احب الله احب اخاه، "لأن الذي لا يحب اخاه وهو يراه، لا يقدر ان يحب الله وهو لا يراه" (1 يو 4: 20)، هذا ما يجعل الانسان يحيا في المسيح. هذا الحب هو ملح الحياة، وهو الذي يجعل في المسيحيين نكهة المسيح.
من الواضح ان المسيح حين يتكلم عن الملح فهو دعا تلاميذه – اي من تبعوه في كل زمن – أن يسلكوا مسلكاً جديدا، مسلكا ينطلق من الحياة الجديدة التي صارت لهم مع المسيح. أما ألف هذه الحياة الجديدة وياؤها فهو السعي المستمر لممارسة المحبة للناس بالافعال لا بالكلام. محبة المسيحي الحقيقي للمسيح ومحبة المسيح له تغيرانه وتدفعانه لممارسة انسانية مع غيره، هذه الممارسة الانسانية، هذه المحبة، تنقل للناس محبة الله لهم، تجعلهم يفرحون باللقاء، تعكس لهم بذلك انوار الله، تنقل لهم نكهة المسيح، نكهة الحياة من اجلهم، نكهة الاستشهاد من اجلهم. هذه النكهة – الملح إن فعلها المسيحيون غيّرت طعم العلاقات بين الناس على الارض وجعلتها اكثر اخوية، جعلتهم "عيال" في عائلة الله.
لا طعم للملح ان بقي خارج الطعام، او ان كان داخل الطعام وانما متكتلا على ذاته دون امتزاج. لهذا فان دعوة المسيح مطروحة على كل مسيحي يريد ان يتعاطى الشأن العام. تعاطي السياسة لا يمكن ان يكون تكتليا بين المسيحيين والا فقد المسيحيون معنى وجودهم، فقدوا هويتهم. نعم، المسيحيون لا يفقدون هويتهم المسيحية اذا لم تكن لهم حصة في حفل تقاسم المغانم من مناصب وتعيينات، بل لم يكونوا ساعين لخدمة الناس، للتعاون مع المخلصين من كل اتجاه من اجل خدمة قضايا المواطنين الحياتية. هكذا فاذا ما توحّد المسيحيون بالاخوة الذين معهم فوق قطعة ارض، وأسسوا وفعّلوا معاً قوانين تهدف لخدمة حياة اخواتهم واخوتهم، شكلوا مع اخوتهم وطنا حقيقيا فعليا وليس اسميا، فأضاءوا واستضاؤا من انوار الله التي في قلب كل انسان، وصاروا ملح الارض، صاروا مسيحيين، ربحوا هويتهم المسيحية ولم يفقدوها بالتكتّل المنغلق على الذات او على الطائفة من اجل مصالح خاصة. اذ تكتل المسيحيون فقدوا نكهتهم المسيحية وصاروا بلا طعم وطرحوا انفسهم خارج المسيح ولو تشدّقوا باسمه ليلا نهارا، لأنهم صاروا عبدة أصنام: اصنام الطائفة، أصنام مؤسسات الطائفة، اصنام مصالح "زعماء" الطائفة، وغاب عنهم وجه المسيح ووجه الانسان، كل انسان، كل اخت وأخ، هؤلاء الذين خلقهم الله على صورته.
اذا صار المسيحيون مِلْحاً في لبنان وما تكتّلوا ولا طلبوا شيئا للطائفة، بل سعوا مع المواطنين جميعاً لاقامة نظام عادل لا يميّز بين سياسة الناس على اساس طائفي، واذا اتخذوا الاهتمام بحياة الناس هدفا في العمل السياسي اللاطائفي، اي في اطر سياسية لاطائفية (كالاحزاب اللاطائفية)، يصبح عندها الوطن مجال اعداد للعيش الملكوتي الآن وهنا.
المطلوب اذاً هذه المفارقة: أن لا نوجد لأنفسنا لكي نصبح موجودين فعلا، أن ننحل كملح في الطعام كي نجتمع في المسيح، أن نغيب عن التكتل طائفيا حتى نصير حاضرين مسيحياً. قد يتساءل الانسان ان كيف نفعل ذلك وكل النظام اللبناني مجبول بالطائفية؟ ولكن هذا هو التحدي، ان يساهم المسيحيون في اطلاح النظام الذي فيه نحيا، في تحويل الدنيا شيئا فشيئا الى تتمة للملكوت. هذا جنون؟ نعم، هذا جنون في نظر الذهن الطائفي الذي تربّينا عليه، ولكنه الامر الوحيد السليم عقليا، فالطائفية لم تولد سوى الكوارث، والتشبث بها هو تشبث بالانغلاق وبنظام يولّد الانغلاق، وبما ينتج عن الانغلاق من مآزق سياسية وحروب. هذا "الجنون" هو ما يجعل الفعل السياسي للمسيحيين فعلا مسيحيا حقا، هذا "الجنون" هو الخيار السليم عقليا، هو الخيار السليم مسيحيا. يقول المسيح "من اراد ان يخلّص حياته يخسرها ومن يخسر حياته في سبيلي يجدها (متى 16: 25) المسيح لا يعني ان نقتل انفسنا او نهلكها، ولكنه يعني ان من اراد أن يتقوقع وينغلق ظانا بأنه هكذا "يخلّص" نفسه فهو في الحقيقة يخسرها، اذ يتقوقع ويقطع نفسه عن الحياة، عن المسيح الذي لا يحضر سوى في العمل الصادر عن محبة الآخرين، هؤلاء الآخرين الذين يصيرون اقرباء لنا بمحبتنا لهم (كما يتّضح من مثل السامري الشفوق لوقا 10: 25 – 37). اما من يخرج من قوقعته فيشعر بأنه كمن "يخسر" وذلك لشعوره بخسارة الامان القبلي وخسارة التكتل الطائفي المخدّر للضمير، ولكنه في الحقيقة بمقياس المسيح، يربح حياته لأنه يحقق انسانيته وطاقاتها عندما يلاقي من هم عنه مختلفين، ويسعى مع المواطنين المخلصين لخدمة حياة الناس، وللخروج من النفق الطائفي الذي يمجّد احيانا تحت مسمى "فسيفساء". نعم الفسيفساء الاجتماعية هي امكانية غنى وفرح ولكنها امكانية حرب اذا ما كان النظام السياسي طائفيا. في المسيحية الخلاص لا يصير بفرد منعزل عن الجماعة، كذلك في الوطن لن نخلص الا معاً، اذا انفصلنا سنغرق معا.
وكوننا ارثوذكسيين فسنسمح لأنفسنا بأن نعلق، على سبيل المثال لا الحصر، على ما بدا اخيرا من تصرفات وتصريحات غير مقبولة بنظرنا، لسياسيين ينتمون للطائفة الارثوذكسية، ماذا يبرّر ان يجتمع وزراء منتمون الى الطائفية الارثوذكسية، وبصفتهم هذه، عند مسؤول كنسي ويعلنون "تضامناً وزارياً على صعيد الطائفة الارثوذكسية، كاملا وواضحا" وانهم "كلمة واحدة وقرار وموقف واحد؟ فالمسؤول الكنسي هو راع روحي لبناته وابنائه، اما على الصعيد السياسي فهو مواطن كالآخرين وليس له من توجيهات سياسية يعطيها، ومهمته الروحية الحقّة على الصعيد السياسي تكون بتذكير المسيحيين أن يكونوا ملح الارض وألا يتكتلوا، تكون بتذكيرهم بأن يعملوا مع اخوتهم في الوطن لصياغة أطر عيش (قوانين، مشاريع...) تهتم بالانسان وبحياته بكرامة. هكذا يغدو لا معنى لتصريحات تدّعي أن "الطائفة" تتشرف بـ"حصولها" على منصب او آخر في التوزيع الحصصي للطوائف، المنصب "يخلع" في الحقيقة على شخص بمجرد انتمائه لطائفة معينة. وفي الواقع لا يستفيد احد من المواطنين من ذلك المنصب الا اذا خدم المعيّن في المنصب مواطنيه جميعا، اما مجرد الحصول على مناصب "للطائفة" فلا معنى له لا مسيحياً ولا وطنياً الا في ذهن بعض الطائفيين الذين يتغذّون بالوهم، وهم الشعور الفارغ بالانفتاح الجماعي الذي هو على نقيض المسيحية.
إن اي انسان في موقع وظيفي في الدولة يجب الا يمثل طائفته بل بلاده. اما ما يشرف الكنيسة فهو أن يصلب ابناؤها اهواءهم بالسيطرة والتحكّم، وينصرف السياسيون المسيحيون لخدمة الناس كلهم، فيلتزمون السير بلبنان الى نظام لاطائفي ينجّينا روحياً وحياتياً. يمكن للمؤمنين الارثوذكس أن يلعبوا دورا محركا في هذا المجال عوض الانزلاق الى لعبة الطوائف وعربداتها في الوطن وتهافتها على الاخذ.
ما هي الطائفة وكيف يمكن عمليا ان تتشرف؟ في المسيحية كيان المؤمنين الاجتماعي المسمى "طائفة" ليس هو الكنيسة(•••). كون المؤمنين محبين لله، واحدا مع المسيح ولهذا خادمين للناس، هذا فقط يجعلهم كنيسة، اما التركيز على مفهوم "الطائفة" فهو تركيز على صيغة عشائرية لا معنى لها، تجمع الناس في دولة طائفية مفسّخة. الطائفة مفهوم تفتيت، الكنيسة وحدها هي المعنى. الله لا يحتاج الى طوائف ولا يحتاج الى مناصب في دول كبيرة او صغيرة "تشرّف" احباءه وبالطبع يمقت الله تكتل المسيحيين على ما بلّغنا في انجيله. الله "يحتاج" الى قلب الانسان، الى حبه "يا بني اعطني قلبك" (حكمة 23: 26)، لقد جعل هو بنفسه تلك الحاجة. كلمة الله تجسد لكي يتّحد الانسان بالله بالحب، "صار الاله انسانا لكي يصير الانسان الها" كما قال القديس ايريناوس، كل ما عدا ذلك مجد باطل، وعلى الصعيد الروحي انزلاق الى عبادة الاصنام. إن كان من شرف ممكن لانسان ارثوذكسي (وليس لكتلة بشرية تدعى الطائفة "الارثوذكسية") فهو أن يكون خادماً للانسان، لكل انسان، ولكل الانسان، خادما لحرّيته، وكرامته الانسانية، وسكنه، وطبابته، وتعلمه... وأن يحب حين يشح الحب، فيصير ملجأ في الوطن، ويربح نفسه حين يبدو للعقل الطائفي المنغلق أنه يخسرها.
(•) خريستو المر: استاذ جامعي وباحث في جامعة يورك – كندا.
(••) نيقولا لوقا: استاذ جامعي وباحث في جامعة لاروشيل- فرنسا.
(•••) راجع كوستي بندلي: "موقف ايماني من الطائفية"، طبعة ثانية، تعاونية النور الارثوذكسية للنشر والتوزيع، 2005.