المقالة الأصليّة
لله والوجع، الله والموت، الله والحبّ
مجلّة النور، السنة 61، العدد 1، 2005
(نشرت تحت اسم مستعار هو : عيسى الغريب)
مجلّة النور، السنة 61، العدد 1، 2005
(نشرت تحت اسم مستعار هو : عيسى الغريب)
إلى كلّ الموجوعين.
"الوجع يأكل ورقتي، عليّ أن أغوص تفتيشاً عن الضوء".
"لا شكّ أنّ يديه تسمّرتا على الحبّ".
ما هو موقف الله حين يتوجّع أحبّتنا، وحين نتوجّع لمّا يموتون؟ هل هو الذي يقرّر أن يأخذ أحبّتنا، أن ينتزعهم من أمام أعيننا وينتزع معهم أحشاءنا؟ لماذا يفعل ذلك؟ هل لحكمةٍ هو يعلمها؟ ونحن عندها؟ ما هو موقفنا؟ أهو التسليم بمشيئته التي لا نستطيع إدراكها؟ (تزوغ الورقة أمام ناظري ولا يزوغ وجه يسوع، سأحاول القفز فوق وجعي).
لا يشاء الله عذاب الإنسان، ولا يختطف إليه الناس في أوقات هو يحدّدها، وكأنّه هو الذي يدبّر موتهم لسبب نجهله، لحكمة نحن لا ندركها فنقبلها مكرهين. لا أستطيع أن أرى ذلك وأنا أقرأ وجه يسوع المسيح، وأنا أقرأ ضوء الله من خلال ثقوب يديه، وأقرأه في جنبات قلبي.
لا شكّ أن ّ الله يعلم بما يصيبنا وسيصيبنا، لكنّه لا يتسبّب به، لا يركّب الأسباب ليوجِعنا أو ليُميتَ أحبّتنا، ولو أنّه يعلم أنّهم سيغادرون في ظرفٍ ما ولأسبابٍ ما. مَنْ هو الله؟ لا أعرف. لكنّني أعرف أنّني قرأت ملامح وجهه في الإنجيل وتراث عشّاقه، بعد ذلك عرفت أنّني كنت أقرأ، وسأقرأ، ملامحه في كلّ محبّة وحبّ يجسّدهما الناس. هذا الإله، هذا الآب، وابنه، الابن الوحيد "المولود منه قبل كلّ الدهور نوراً من نور"، والروح القدس الصادر عن الآب منذ الأزل؛ هذا الإله يحبّ البشر حتّى الموت، موت يسوع المسيح "إبن الله الوحيد" المتجسّد لخلاصنا. هذا الإله يحبّ البشر حتّى أنّه من أجلهم قَبِل "ألمه" الشخصيّ برؤية وحيده مصلوباً، موجوعاً، مبصوقاً عليه من قِبَلِ مَنْ جبلهم بيديه، برؤية وحيده لا منظر له نشتهيه، يتوجّع ويموت أمام "عينيه" (حتّى ولو أنّ المسيح كان قد قام لحظة موته على الصليب لأنّه أحبّ حتّى المنتهى). هذا الإله يحبّ البشر حتّى أنّه من أجلهم، من أجل حرّيتهم، يقْبلُ توجّعاتهم برفضهم إياه، هو المخاطب لهم في قلوبهم بالروح، والكاشف نفسه إليهم في كلّ محبّ أرسله ويرسله في بيئة الروح. هذا الذي وجهُه إلينا بيسوع وفي الروح القدس، واقفٌ على الباب يقرع، القصبة المرضوضة لا يكسِر والفتيل المدخّن لا يطفئ. هذا لا يريد الألم والموت الروحيّ لأحد، بل يريد "للجميع أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبِلوا". هذا الساكن فينا والمخاطب لنا والراكض إلينا، هذا الذي في صميمه، إبنُ الآب الوحيد "حملٌ مذبوحٌ منذ إنشاء العالم". هذا الإله الفائق القدرة بمحبّته اللامتناهيّة، هذا الكلّي القدرة بكمال محبّته، هذا الله الذي هتف به إنسانٌ أنّه المحبّة، لا يمكن أن يريد إيلامنا وأن نتوجّع. هذا الإله أخبرنا عنه الإنجيل هذا الخبر السار: أنّه يشاركنا حياتنا حتّى نشاركه ألوهته، يشاركنا آلامنا حتّى نتحرّر منها، يبقى حاضراً في قلب أوجاعنا التي ذاقها هو، يحبّنا حتّى الموت، ليس موتنا نحن، ولكن موت المسيح - وحيد الآب - على الصليب، فهو "يحبّنا أوّلاً" قبل أن نبادره الحبّ. هذا الله هو صديقٌ، حبيبٌ، وهو إلهٌ كلّي القدرة وكلّي المحبّة، ولهذا فهو بعد موتنا يبقينا أحياء، وقبل موتنا هو يطوّع المستحيل حتّى نفرح به وبقدرة المحبّة التي يغرسها ويرعاها فينا، والتي نمدّها جسراً للقاء غيرنا بملء حرّيتنا. يسعادنا كي نتمتّع في هذه الحياة، المهداة منه، وذلك رغم الصعاب التي يضعها إخوتنا البشر لنا. فإنْ جاع أو عطش إنسانٌ من فقر، أو اعتُقل أو عُذّب أو تُرِكَ، فذلك ليس لأنّ الله يفعل به ذلك بل لأنّ إناساً آخرين يتركونه، ويحرمونه ويفقّرونه ويعذّبونه باستغلالهم له بواسطة الأنظمة الفاسدة، ،أمّا الله فهو الذي يرافقه ويجوع معه ويعطش ويَعرى ويُعتقل ويُعذّب. ولكنّ الله ليس شريكنا في الألم فقط، بل يعمل على رفع الظلم بواسطتنا نحن الناس، فقبل موتنا يسعى أنْ يساعدنا كي نفرح رغم عنّات الطبيعة، رغم الأمراض ورغم الشيخوخة، رغم البراكين ورغم الزلازل، رغم ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، رغم الألم الناتج عن كلّ ذلك، ولكنّه يفعل ذلك بواسطتنا أساساً، بحضورنا وعملنا من أجل بعضنا البعض، كشركاء له في متابعة تجسيد ملكوت الله الذي دشّنه على الصليب.
لكن إنْ كان ما أقوله صحيحاً ، فكيف يكون الله هو الصديق والمُحِبّ بينما هو يخلق لنا هذه الدنيا بطبيعتها المتوحّشة، بهذا الكمّ من الأمراض والبراكين والزلازل، وبهذا الحشد من الناس الذين ما فتِئوا منذ أقدم العصور يذبحون ويقتلون ويسرقون ويَستغلّون ويَستعبدون ويؤلمون غيرهم، إخوتهم؟
صحيح، كيف يكون ذلك؟ لكن هل من الممكن أن يكون غير ذلك؟ ما هو البديل؟ البديل عن واقعنا هو ما نحلم به ،من وقت لآخر، وخاصة في الشِدّة، أن تكون الأرض خالية من الأمراض والبراكين والزلازل... أي بلا نواقص، وأن يكون الإنسان محبّاً ودوداً ولا يؤذي، أي بمعنى آخر أن يخلق الله أرضاً كاملةً وإنسانا قدّيساً بطبيعته ومحبّاً بشكل دائم فلا يكون شرّ (لأنّ كلّ شرّ هو نتيجة قلّة المحبّة، هو فعلٌ صادر عن قلّة المحبّة). ولكن فلنخرج قليلاً من أوجاعنا، فقط للإنصاف، لإنصاف أنفسنا ودفاعاً عنها، لإنصاف وجودنا، ولرؤية أكثر صفاءٍ للعالم ولأنفسنا ولله
لو أنّ الله خلق الكون كما نحن نحلُم، لكان عنى ذلك شيئاً واحداً وهو انعدام وجود الإنسان ووجود العالم وجودين حقيقيّين. كيف؟ هناك موجّهَين لرأيي؛ أوّلاً أنّه إنْ كان الله هذا المحِبّ الأكبر فلا يمكن إلاّ أنْ يحبّ خليقته، وإنْ كان يحبّها فلا بدّ أن يحترمها ويحترم تمايزها عنه، لأنّه بدون احترام التمايز لا يوجد حبّ بل ذوبان، وثانياً أنّ الله وحده الكامل وكلّ ما عداه مخلوقٌ وبالتالي ناقصٌ بطبيعته (وهذا ما لم نستوعبه تماماً).
فبالنسبة للطبيعة فإنّ كونها مخلوقة يعني أنّها بالضرورة غير كاملة ، فالله وحده كامل، وكلّ ما عداه هو ناقص. ثمّ أنّ أرضاً كاملة (بلا زلازل وبراكين...) إنْ أوجدها الله، فلا يمكنها أن تكون حينها إلاّ غير متمايزة حقيقةً عنه (لأنّ التمايز الحقيقيّ يعني حتماً أنْ تكون الأرض متمايزة عن الكمال وبالتالي ناقصة). لا يمكن أن حينها إلاّ أن تكون الأرض دمية بين يديه، إنْ جاز التعبير، وهذا غير ممكن بسبب من محبّة الله التي تجعله يحترم تمايز مخلوقاته عنه. هكذا فإنّ الله-المحبّة خلق كوناً (والأرض منه) ناقصٌ بالضرورة، كوّنه بنواميسه الخاصة التي نعرفها والتي تسبّب لنا مشاكلاً وآلاماً تحاول الإنسانيّةُ أن تتجاوزها بالعلم، ويحاول أن يتجاوزها الإنسانُ، كشخص، بالمحبّة والتعاضد وبالتصاقه بالله.
أمّا بالنسبة للإنسان: فإنسانٌ محبٌ دائماً، كالذي نتخيّله، هو "إنسانٌ" مبرمج على حبّ، ولهذا لا معنى لحبّه، لأنّ حبّه يكون عندها غير إراديّ، لأنّه عندها يكون "الإنسان" غير قادرٍ أن يقول "لا" وبالتالي هو غير حرٍّ في حبّه، هو ليس إنساناً كما نعرفه اليوم، ليس إنساناً يختار أن يحبّ بحرّية. إمكانيّة الحبّ موجودة فقط حيث توجد إمكانيّة الرفض. بدون إمكانيّة رفض الحبّ لا معنى لـ"حبّ" يبديه إنسان، لأنّ هذا الـ"حبّ" يكون عندها ليس سوى لا خيار، سوى موجودٌ حتماً، سوى قسريّةٍ يخضع لها الإنسان، داخليّة كانت هذه القسريّة أم خارجيّة لا يهمّ. لا يمكن للحبّ أن يبزغ من الخضوع، الخضوع يولّد العبيد لا المحبّين. هل تعود عندها للحياة معنىً، نريده نحن اليوم كأُناسٍ مطلبُ قلبنا أنْ نُحَبّ وأن نحِبّ بحرّية، وأن نشترك جميعاً في حياة ملؤها الفعل الحرّ للمساهمة في حياةٍ أفْرَحَ للبشر جميعاً (تُكتشف في الله)؟ لا، عندها كلّ منّا ليس إنساناً، عندها نحن دمى بين يديّ الله. حاشا، الأصحّ هو أنّه بما أنّ الله محبّة فهو يحبّنا، وككلّ مُحِبّ يودّ أن يوقظ الحبّ في محبوبه، يريد أن نعطيه قلوبنا كأبناء، أي أن نحبّه بحرّية، ونحبّ غيرنا بحرّية، لأنّ هذا هو الحبّ الوحيد الممكن. لهذا قَبِلَ أن يرتضي دائماً بإن يرفضه الإنسان ويرفض الآخرين، مع كلّ ما يتبع ذلك من موت ووجع للناس جميعاً. لهذا قلّة حبّ الناس تولّد هذا الجوّ الفظيع من الوجع، ومحبّتهم تولّد كلّ هذا الفرح الهائل الذي لا تنقله وسائل الإعلام لكن تتناقله العيون المُحِبّة.
لهذا نحن نتوجّع، لهذا نحن نمرض، لهذا نحن نموت، لهذا يتوجّع أحباؤنا، لهذا يمرضون، لهذا يموتون ونحن نتمزّق، نتمزّق؛ لأنّ الكون ناقص ومتمايِزٌ عن الله ومُحترمٌ منه، ولأنّ الإنسان حرٌّ حتى يكون قادراً أن يحِبَّ فيوجدَ فعليّاً ويصير أكمل، ولأنّ هذين الأمرين نابعين من محبّة الله، ولأنّهما يولّدان أوجاعاً. لهذا لا يتضارب واقع كون الله يحبّنا وواقع أنّنا نتوجّع. أمّا كون أيّ إنسان يموت، أي ينهار جسده، فهذا جزء من وجودنا المتمايز عن كمال الله. هذا الجسد من مادة الكون هو، وبالتالي خاضعٌ لقوانين هذا الكون المخلوق، الساقط عن الكمال، التي يحترمها الله لمحبّته مخلوقاته، ومن هذه القوانين الموت.
هل هذا نهاية الكلام.
لا، نهاية الكلام، هو أنّ الله لمحبّته للإنسان، لشدّة محبّته، لا يريد لهذا الإنسان، بالرغم من إنهيار جسده، أن يفنى، أن لا يبقى. نحن نحبّ أولادنا، لهذا نحبّ ألاّ يموتوا، ولكنّهم سيموتون (يا لتخلّع قلبنا)، نحن نحبّ إخوتنا، أهلنا، أحبّائنا، حبيباتنا ونريد ألاّ يموتوا لكنّهم سيموتون (يا لوجعنا). الموت، ونحن لا حول لنا، أمّا هو-الله- فهو كلّي القدرة المُحِبَّة، ونحن أبناءه وبناته الذين يحبّهم "حبّاً جنونيّاً"، وسنموت بسبب من طبيعتنا التي ارتضاها، ولكنّه كمحبّ لا يريد أن نفنى، ولهذا بقدرة محبّته سيبقينا أحياء ليس بسبب من طبيعتنا المخلوقة الفانية بالضرورة، بل بسبب من حبّه هو، هو مَنْ هو، هو مَنْ لا أعرفه، فهو لن يتركنا نفنى، تنهار أجسادنا ونبقى أحياء به، يُبقي الله لبَّ كلِّ واحدٍ منّا، أي روحه، بسبب من حبّه لكلّ منّا، لأنّ المحبّ لا يريد فراق الحبيب، لا يريد لحبيبه أن يفنى، يريد للّقاء أن يستمرّ. الله هو الحبيب القادر أن يحقّق رغبة المحبّين هذه: أن يبقى المحبوب حيّاً، هو يُبقي كلّ منّا حيّاً ليتابع معه لقاء حبّ شخصيّ، وقصّة حبّ عائليّة للبشريّة بأكملها معه هو، هو أبونا بتبنّيه لنا يوم ولدنا وطالما حيينا، وبمرافقته لنا يوم نموت وننتقل إليه، وباحتضانه لنا يوم يبعثنا أحياء لنشاهد أخينا يسوع المسيح بلا ألغازٍ وبلا مرايا، في غمرة الروح القدس، حين ترميم وجودنا.
حتّى يجيء ذلك اليوم، الله هو رفيق أوجاعنا، ومتوجّع أوجاعنا، وعاضدنا بالمحبّين، ومقوّينا ومضيء عتماتنا، لا يأخذ منّا شيء ولا يميت أحداً حتى وإنْ كان يعرف أنّ واحدنا آتٍ إليه فيتوفّاه، يستقبله، ويبقى على حبّه لنا الذي أفصح عنه على الصليب فاجتاح الكونَ بخفرِ ضوءِ الصباح. ها أنا أتلمّس الصباح أمامي، بين دفّتي الخبر السار، وفي خمرٍ وقمح يصيران فيّ، يصيّرانني فيه، وأراه في صلاتي، في قلبي، وفي كلّ وجه "معفّرٍ بالريح". ها أنا أرى أضواء وجه الله في جنبٍ مطعون.
إلى اللقاء يا أخي.
فجر الأحد 7 تشرين الثاني 2004
خريستو المرّ
"الوجع يأكل ورقتي، عليّ أن أغوص تفتيشاً عن الضوء".
"لا شكّ أنّ يديه تسمّرتا على الحبّ".
ما هو موقف الله حين يتوجّع أحبّتنا، وحين نتوجّع لمّا يموتون؟ هل هو الذي يقرّر أن يأخذ أحبّتنا، أن ينتزعهم من أمام أعيننا وينتزع معهم أحشاءنا؟ لماذا يفعل ذلك؟ هل لحكمةٍ هو يعلمها؟ ونحن عندها؟ ما هو موقفنا؟ أهو التسليم بمشيئته التي لا نستطيع إدراكها؟ (تزوغ الورقة أمام ناظري ولا يزوغ وجه يسوع، سأحاول القفز فوق وجعي).
لا يشاء الله عذاب الإنسان، ولا يختطف إليه الناس في أوقات هو يحدّدها، وكأنّه هو الذي يدبّر موتهم لسبب نجهله، لحكمة نحن لا ندركها فنقبلها مكرهين. لا أستطيع أن أرى ذلك وأنا أقرأ وجه يسوع المسيح، وأنا أقرأ ضوء الله من خلال ثقوب يديه، وأقرأه في جنبات قلبي.
لا شكّ أن ّ الله يعلم بما يصيبنا وسيصيبنا، لكنّه لا يتسبّب به، لا يركّب الأسباب ليوجِعنا أو ليُميتَ أحبّتنا، ولو أنّه يعلم أنّهم سيغادرون في ظرفٍ ما ولأسبابٍ ما. مَنْ هو الله؟ لا أعرف. لكنّني أعرف أنّني قرأت ملامح وجهه في الإنجيل وتراث عشّاقه، بعد ذلك عرفت أنّني كنت أقرأ، وسأقرأ، ملامحه في كلّ محبّة وحبّ يجسّدهما الناس. هذا الإله، هذا الآب، وابنه، الابن الوحيد "المولود منه قبل كلّ الدهور نوراً من نور"، والروح القدس الصادر عن الآب منذ الأزل؛ هذا الإله يحبّ البشر حتّى الموت، موت يسوع المسيح "إبن الله الوحيد" المتجسّد لخلاصنا. هذا الإله يحبّ البشر حتّى أنّه من أجلهم قَبِل "ألمه" الشخصيّ برؤية وحيده مصلوباً، موجوعاً، مبصوقاً عليه من قِبَلِ مَنْ جبلهم بيديه، برؤية وحيده لا منظر له نشتهيه، يتوجّع ويموت أمام "عينيه" (حتّى ولو أنّ المسيح كان قد قام لحظة موته على الصليب لأنّه أحبّ حتّى المنتهى). هذا الإله يحبّ البشر حتّى أنّه من أجلهم، من أجل حرّيتهم، يقْبلُ توجّعاتهم برفضهم إياه، هو المخاطب لهم في قلوبهم بالروح، والكاشف نفسه إليهم في كلّ محبّ أرسله ويرسله في بيئة الروح. هذا الذي وجهُه إلينا بيسوع وفي الروح القدس، واقفٌ على الباب يقرع، القصبة المرضوضة لا يكسِر والفتيل المدخّن لا يطفئ. هذا لا يريد الألم والموت الروحيّ لأحد، بل يريد "للجميع أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبِلوا". هذا الساكن فينا والمخاطب لنا والراكض إلينا، هذا الذي في صميمه، إبنُ الآب الوحيد "حملٌ مذبوحٌ منذ إنشاء العالم". هذا الإله الفائق القدرة بمحبّته اللامتناهيّة، هذا الكلّي القدرة بكمال محبّته، هذا الله الذي هتف به إنسانٌ أنّه المحبّة، لا يمكن أن يريد إيلامنا وأن نتوجّع. هذا الإله أخبرنا عنه الإنجيل هذا الخبر السار: أنّه يشاركنا حياتنا حتّى نشاركه ألوهته، يشاركنا آلامنا حتّى نتحرّر منها، يبقى حاضراً في قلب أوجاعنا التي ذاقها هو، يحبّنا حتّى الموت، ليس موتنا نحن، ولكن موت المسيح - وحيد الآب - على الصليب، فهو "يحبّنا أوّلاً" قبل أن نبادره الحبّ. هذا الله هو صديقٌ، حبيبٌ، وهو إلهٌ كلّي القدرة وكلّي المحبّة، ولهذا فهو بعد موتنا يبقينا أحياء، وقبل موتنا هو يطوّع المستحيل حتّى نفرح به وبقدرة المحبّة التي يغرسها ويرعاها فينا، والتي نمدّها جسراً للقاء غيرنا بملء حرّيتنا. يسعادنا كي نتمتّع في هذه الحياة، المهداة منه، وذلك رغم الصعاب التي يضعها إخوتنا البشر لنا. فإنْ جاع أو عطش إنسانٌ من فقر، أو اعتُقل أو عُذّب أو تُرِكَ، فذلك ليس لأنّ الله يفعل به ذلك بل لأنّ إناساً آخرين يتركونه، ويحرمونه ويفقّرونه ويعذّبونه باستغلالهم له بواسطة الأنظمة الفاسدة، ،أمّا الله فهو الذي يرافقه ويجوع معه ويعطش ويَعرى ويُعتقل ويُعذّب. ولكنّ الله ليس شريكنا في الألم فقط، بل يعمل على رفع الظلم بواسطتنا نحن الناس، فقبل موتنا يسعى أنْ يساعدنا كي نفرح رغم عنّات الطبيعة، رغم الأمراض ورغم الشيخوخة، رغم البراكين ورغم الزلازل، رغم ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، رغم الألم الناتج عن كلّ ذلك، ولكنّه يفعل ذلك بواسطتنا أساساً، بحضورنا وعملنا من أجل بعضنا البعض، كشركاء له في متابعة تجسيد ملكوت الله الذي دشّنه على الصليب.
لكن إنْ كان ما أقوله صحيحاً ، فكيف يكون الله هو الصديق والمُحِبّ بينما هو يخلق لنا هذه الدنيا بطبيعتها المتوحّشة، بهذا الكمّ من الأمراض والبراكين والزلازل، وبهذا الحشد من الناس الذين ما فتِئوا منذ أقدم العصور يذبحون ويقتلون ويسرقون ويَستغلّون ويَستعبدون ويؤلمون غيرهم، إخوتهم؟
صحيح، كيف يكون ذلك؟ لكن هل من الممكن أن يكون غير ذلك؟ ما هو البديل؟ البديل عن واقعنا هو ما نحلم به ،من وقت لآخر، وخاصة في الشِدّة، أن تكون الأرض خالية من الأمراض والبراكين والزلازل... أي بلا نواقص، وأن يكون الإنسان محبّاً ودوداً ولا يؤذي، أي بمعنى آخر أن يخلق الله أرضاً كاملةً وإنسانا قدّيساً بطبيعته ومحبّاً بشكل دائم فلا يكون شرّ (لأنّ كلّ شرّ هو نتيجة قلّة المحبّة، هو فعلٌ صادر عن قلّة المحبّة). ولكن فلنخرج قليلاً من أوجاعنا، فقط للإنصاف، لإنصاف أنفسنا ودفاعاً عنها، لإنصاف وجودنا، ولرؤية أكثر صفاءٍ للعالم ولأنفسنا ولله
لو أنّ الله خلق الكون كما نحن نحلُم، لكان عنى ذلك شيئاً واحداً وهو انعدام وجود الإنسان ووجود العالم وجودين حقيقيّين. كيف؟ هناك موجّهَين لرأيي؛ أوّلاً أنّه إنْ كان الله هذا المحِبّ الأكبر فلا يمكن إلاّ أنْ يحبّ خليقته، وإنْ كان يحبّها فلا بدّ أن يحترمها ويحترم تمايزها عنه، لأنّه بدون احترام التمايز لا يوجد حبّ بل ذوبان، وثانياً أنّ الله وحده الكامل وكلّ ما عداه مخلوقٌ وبالتالي ناقصٌ بطبيعته (وهذا ما لم نستوعبه تماماً).
فبالنسبة للطبيعة فإنّ كونها مخلوقة يعني أنّها بالضرورة غير كاملة ، فالله وحده كامل، وكلّ ما عداه هو ناقص. ثمّ أنّ أرضاً كاملة (بلا زلازل وبراكين...) إنْ أوجدها الله، فلا يمكنها أن تكون حينها إلاّ غير متمايزة حقيقةً عنه (لأنّ التمايز الحقيقيّ يعني حتماً أنْ تكون الأرض متمايزة عن الكمال وبالتالي ناقصة). لا يمكن أن حينها إلاّ أن تكون الأرض دمية بين يديه، إنْ جاز التعبير، وهذا غير ممكن بسبب من محبّة الله التي تجعله يحترم تمايز مخلوقاته عنه. هكذا فإنّ الله-المحبّة خلق كوناً (والأرض منه) ناقصٌ بالضرورة، كوّنه بنواميسه الخاصة التي نعرفها والتي تسبّب لنا مشاكلاً وآلاماً تحاول الإنسانيّةُ أن تتجاوزها بالعلم، ويحاول أن يتجاوزها الإنسانُ، كشخص، بالمحبّة والتعاضد وبالتصاقه بالله.
أمّا بالنسبة للإنسان: فإنسانٌ محبٌ دائماً، كالذي نتخيّله، هو "إنسانٌ" مبرمج على حبّ، ولهذا لا معنى لحبّه، لأنّ حبّه يكون عندها غير إراديّ، لأنّه عندها يكون "الإنسان" غير قادرٍ أن يقول "لا" وبالتالي هو غير حرٍّ في حبّه، هو ليس إنساناً كما نعرفه اليوم، ليس إنساناً يختار أن يحبّ بحرّية. إمكانيّة الحبّ موجودة فقط حيث توجد إمكانيّة الرفض. بدون إمكانيّة رفض الحبّ لا معنى لـ"حبّ" يبديه إنسان، لأنّ هذا الـ"حبّ" يكون عندها ليس سوى لا خيار، سوى موجودٌ حتماً، سوى قسريّةٍ يخضع لها الإنسان، داخليّة كانت هذه القسريّة أم خارجيّة لا يهمّ. لا يمكن للحبّ أن يبزغ من الخضوع، الخضوع يولّد العبيد لا المحبّين. هل تعود عندها للحياة معنىً، نريده نحن اليوم كأُناسٍ مطلبُ قلبنا أنْ نُحَبّ وأن نحِبّ بحرّية، وأن نشترك جميعاً في حياة ملؤها الفعل الحرّ للمساهمة في حياةٍ أفْرَحَ للبشر جميعاً (تُكتشف في الله)؟ لا، عندها كلّ منّا ليس إنساناً، عندها نحن دمى بين يديّ الله. حاشا، الأصحّ هو أنّه بما أنّ الله محبّة فهو يحبّنا، وككلّ مُحِبّ يودّ أن يوقظ الحبّ في محبوبه، يريد أن نعطيه قلوبنا كأبناء، أي أن نحبّه بحرّية، ونحبّ غيرنا بحرّية، لأنّ هذا هو الحبّ الوحيد الممكن. لهذا قَبِلَ أن يرتضي دائماً بإن يرفضه الإنسان ويرفض الآخرين، مع كلّ ما يتبع ذلك من موت ووجع للناس جميعاً. لهذا قلّة حبّ الناس تولّد هذا الجوّ الفظيع من الوجع، ومحبّتهم تولّد كلّ هذا الفرح الهائل الذي لا تنقله وسائل الإعلام لكن تتناقله العيون المُحِبّة.
لهذا نحن نتوجّع، لهذا نحن نمرض، لهذا نحن نموت، لهذا يتوجّع أحباؤنا، لهذا يمرضون، لهذا يموتون ونحن نتمزّق، نتمزّق؛ لأنّ الكون ناقص ومتمايِزٌ عن الله ومُحترمٌ منه، ولأنّ الإنسان حرٌّ حتى يكون قادراً أن يحِبَّ فيوجدَ فعليّاً ويصير أكمل، ولأنّ هذين الأمرين نابعين من محبّة الله، ولأنّهما يولّدان أوجاعاً. لهذا لا يتضارب واقع كون الله يحبّنا وواقع أنّنا نتوجّع. أمّا كون أيّ إنسان يموت، أي ينهار جسده، فهذا جزء من وجودنا المتمايز عن كمال الله. هذا الجسد من مادة الكون هو، وبالتالي خاضعٌ لقوانين هذا الكون المخلوق، الساقط عن الكمال، التي يحترمها الله لمحبّته مخلوقاته، ومن هذه القوانين الموت.
هل هذا نهاية الكلام.
لا، نهاية الكلام، هو أنّ الله لمحبّته للإنسان، لشدّة محبّته، لا يريد لهذا الإنسان، بالرغم من إنهيار جسده، أن يفنى، أن لا يبقى. نحن نحبّ أولادنا، لهذا نحبّ ألاّ يموتوا، ولكنّهم سيموتون (يا لتخلّع قلبنا)، نحن نحبّ إخوتنا، أهلنا، أحبّائنا، حبيباتنا ونريد ألاّ يموتوا لكنّهم سيموتون (يا لوجعنا). الموت، ونحن لا حول لنا، أمّا هو-الله- فهو كلّي القدرة المُحِبَّة، ونحن أبناءه وبناته الذين يحبّهم "حبّاً جنونيّاً"، وسنموت بسبب من طبيعتنا التي ارتضاها، ولكنّه كمحبّ لا يريد أن نفنى، ولهذا بقدرة محبّته سيبقينا أحياء ليس بسبب من طبيعتنا المخلوقة الفانية بالضرورة، بل بسبب من حبّه هو، هو مَنْ هو، هو مَنْ لا أعرفه، فهو لن يتركنا نفنى، تنهار أجسادنا ونبقى أحياء به، يُبقي الله لبَّ كلِّ واحدٍ منّا، أي روحه، بسبب من حبّه لكلّ منّا، لأنّ المحبّ لا يريد فراق الحبيب، لا يريد لحبيبه أن يفنى، يريد للّقاء أن يستمرّ. الله هو الحبيب القادر أن يحقّق رغبة المحبّين هذه: أن يبقى المحبوب حيّاً، هو يُبقي كلّ منّا حيّاً ليتابع معه لقاء حبّ شخصيّ، وقصّة حبّ عائليّة للبشريّة بأكملها معه هو، هو أبونا بتبنّيه لنا يوم ولدنا وطالما حيينا، وبمرافقته لنا يوم نموت وننتقل إليه، وباحتضانه لنا يوم يبعثنا أحياء لنشاهد أخينا يسوع المسيح بلا ألغازٍ وبلا مرايا، في غمرة الروح القدس، حين ترميم وجودنا.
حتّى يجيء ذلك اليوم، الله هو رفيق أوجاعنا، ومتوجّع أوجاعنا، وعاضدنا بالمحبّين، ومقوّينا ومضيء عتماتنا، لا يأخذ منّا شيء ولا يميت أحداً حتى وإنْ كان يعرف أنّ واحدنا آتٍ إليه فيتوفّاه، يستقبله، ويبقى على حبّه لنا الذي أفصح عنه على الصليب فاجتاح الكونَ بخفرِ ضوءِ الصباح. ها أنا أتلمّس الصباح أمامي، بين دفّتي الخبر السار، وفي خمرٍ وقمح يصيران فيّ، يصيّرانني فيه، وأراه في صلاتي، في قلبي، وفي كلّ وجه "معفّرٍ بالريح". ها أنا أرى أضواء وجه الله في جنبٍ مطعون.
إلى اللقاء يا أخي.
فجر الأحد 7 تشرين الثاني 2004
خريستو المرّ