والشعر عند أبونا بولس بندلي: خبرة فتى
مجلّة النور السنة 64، العدد 7، 2008
كان الفتى على عتبة المراهقة. وكان يبحث عن نفسه ويحاول الإصغاء إلى صوت جديد يهدر في الأعماق. كان الفتى يجلس بعض الظهر يحدّث الصمت، قبل أن يعرف أنّ هناك من يصغي ويتكلّم ليس فقط خلف الصمت، ولكن بالصمت نفسه.
فجأة، في إحدى الأيّام انتبه الفتى إلى صوت يصدر من المنزل المجاور؛ انجذب إلى الصوت الهادئ المنبعث عن قرب (ففي الحيّ القديم البيت لصيق البيت). سكت الصوت، تمتم أحدهم شيئاً وكأنّه سؤال، فتابع الصوت الهادئ. اقترب من النافذة ليطلّ على الحديقة المجاورة للمنزل، ومنها إلى النافذة التي يصدر منها الصوت الهادئ. كان الصوت هادئاً وحيويّاً بآن، كان الرجل ملتهباً بهدوئه، تلك المفارقة الشعوريّة كانت للفتى ذهولاً وجاذبيّة؛ كان الفتى يشعر أنّ الرجل غارق في شرح شيء ما لشبابٍ يجلسون أمامه حول طاولة، وهو أمام لوح أخضر (على ما كان يظنّ الفتى). كانت تبدو عليه ابتسامة، وكان يعاود الشرح من جديد، الفتى رأى في الرجل هدوء وحيويّة ومعاناة؛ معاناة مَن يريد أن يوصل مَنْ هُم أمامه إلى باب فهمٍ. كلّ هذا الخليط من الهدوء والحيويّة والمعاناة الواضحة، كان جذّاباً، هذا الإنسان كان جذّاباً. لم يكن الفتى يعرف إنْ كان للرجل وقت محدّد للمجيء، ولكنّه في كل مرّة يأتي فيها ذلك الرجل كان يحيا بذهول تلك الخبرة، خبرة جاذبيّة ذلك التضارب المنسجم بين الهدوء والحيويّة، وبين المعاناة والبسمة. لاحقاً أعلمته ابنة الجيران الحركيّة أنّ ذلك الرجل، المضيء بصوته، اسمه بولس بندلي، وأنّه كاهن، وأنّه أستاذ فيزياء يساعد تلامذة يأتون إلى بيت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الملاصق لمنزل والديه.
كان الفتى يعجب أن يكون كاهنٌ أستاذَ فيزياء، يعجب أن يكون للكهنة اهتمام علميّ، وفي حالة الأب بولس كان الاهتمام معرفة عميقة. غاب الصوت وغاب الوجه عن حياة ذلك الفتى. ثمّ مرّة وبينما كان الفتى يلعب في ملعب مدرسة مار الياس (المدرسة الوطنيّة الأرثوذكسيّة) إذا بالمدير يخرج من باب الملعب، وذلك الرجل-أبونا يقف إلى جانبه بهدوء صارخ. فهم الفتى من كلام المدير أنّ الأب سيرحل عن المدرسة ("آه...إذاً كان أستاذاً في مدرستي" قال الفتى لنفسه). الأب سيغادر. لم يركّز الفتى سوى على هدوء غريب في وجه لطيف، كان يسمع هدوء أبونا الصارخ فيرحل الفتى عن الكلمات حوله. ثمّ صمت التلامذة المجتمعين حول الباب، تكلّم الأب أستاذ الفيزياء ورحل بعد أن صفّق له تلامذته طويلاً بحرارة حبّ زلزلت الفتى.
لكن كيف الفيزياء واللاهوت يجتمعان؟ كيف العلم واللاهوت يلتقيان في شخص واحد؟ لاحقاً في شبابه وفي مرحلة دراسته الجامعيّة، صار للفتى صديق يدرس الفيزياء في الجامعة، كان الصديقان يمشيان أمسيات الصيف، بشكل شبه يوميّ، على ما تبقّى من رصيف قرب شاطئ الميناء. لم يكن للفتى-الشاب آنذاك- أن يعرف أنّه سيلاقي أبونا بولس بطريقة غريبة. كان الشابان يتبادلان الوجع والتفكير في شأن الحبّ، والفرح والألم، وغربة الله، ومعاناة الناس-الكنيسة، وكلّ جحيم وسماوات حياتهما. وكان الفتى-الشاب يسأل صديقه كلّ مرّة أن يحدّثه عن آخر أخبار الفيزياء التي يدرسها؛ حتّى قال مرّة لصديقه "تعرف أشعر في الفيزياء بالكثير من الشِعر"، وتبدّى له أنّ تفاصيل الكون قصائد الله لنا، كما يتبدّى لكلّ إنسان يرفض أن يتحوّل إلى مجرّد مُسْتَخْدِمٍ للكون، كما يختبر كلّ الناس قبل أن يقرّر عدد منهم أن يصير آلة إجتماعيّة. "الفيزياء شعر، شعر صافٍ" هتف، ولم يفهم لماذا، تلك كانت خبرته الكيانيّة. لاحقاً عَلِمَ أنّ أحدهم أيضاً قال عن الله أنّه "شاعر الكون". في ذلك الجوّ الشعريّ للفيزياء أطلّ فجأة في فكر الشاب وجه أبونا بولس من جديد. الفيزياء والشعر، الفيزياء واللاهوت: ولدت الكنيسة لاهوتيّين شعراء، أو يكون وجه الله الشعريّ هو ذلك الباب بين الفيزياء واللاهوت الذي رأاه الإنسان بولس بندلي؟ سمع الشاب لاحقاً عن التزام سيّدنا بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وعن نشوئه فيها متحسّساً لهمّ الكنيسة ونهضتها. همّ الكنيسة هو المعاناة التي بدت لي في فِعْله، قال الشابّ ، والهدوء هو سمته الشخصيّة الفريدة، أمّا حيويّته فلا يمكن أن تأتي فقط من شعوره بالمسؤوليّة، بل أنّ الشعور بالمسؤوليّة ليس هو الأساس ذلك أنّ الحبّ هو الذي يلد المسؤوليّة؛ حيويّته تأتي إذاً من المسير إلى حبيب، من الفرح المُعاش والمُنتَظَر بآن، من عمق مُحِبٍّ مُسافر إلى لقاء أعمق فأعمق. المعاناة والهدوء والحيويّة كان يجمعها في قلب سيّدنا بولس الوجه الشعريّ لله، "هذا إذاً ما كان يُمَتّعني في صوته... وجه الله!". هكذا فهم الشاب حديث أبونا الصامت إليه، حديث حياة أبونا نفسها، وجوده نفسه؛ والشاب لم يكن يعرف حتّى تلك اللحظة أنّ أبونا كان قد وجّه إليه خطاباً صامتاً، كخطاب الله الذي اختبره في مطلع مراهقته.
تلك كانت قصّة فتى رأى وجه الله في صوتِ رجلٍ يشرح الفيزياء، وهي شيء بسيط من رجل جعل وجه الله يجمع فيه تضارباً منسجماً، شيء بسيط من عاشق صدر حبُّه عنه حيويّةً، وولدت معاناته عملاً، وكان هدوءه واحةً في صخب العالم. كان يأخذ الإنسان على عاتقه شخصيّاً ولهذا كان البعض يتّهمه بتضييع الوقت، أمّا هو فكان همّه العناية شخصيّاً بالإنسان الحاضر أمامه وهذا لا يفهمه المذهولين بالكمّية. الوقت؟ ما معنى الوقت سوى الإنسانَ الحاضرَ "الآن وهنا"؟ أو ليس هذا معنى قول المسيح أنّ الملكوت حاضر الآن؟ وكيف يكون حاضرٌ الآن سوى في وجه الإنسان الذي أمامنا؟ هو كان يعرف الملكوت في الإنسان الذي أمامه، لأنّه كان ولا يزال يرى فيه الله؛ حياته هي ترجمة للقول الآبائيّ "إذا رأيت أخاك فقد رأيت إلهك"، وكان تصرّفه المُعْتَني يهتف بالإنسان الحاضر أمامه "يا فرحي"، ويهتف بخفرٍ وصمتٍ لله "يا حبّي"، ولهذا فإنّ سيّدنا بولس كان ولا يزال أيقونةً للفقراء إلى الحنان الإلهيّ، كان ولا يزال حاملاً لحقيقة وجه الله الشعريّ في العالم.
خريستو المرّ
21 حزيران 2008
فجأة، في إحدى الأيّام انتبه الفتى إلى صوت يصدر من المنزل المجاور؛ انجذب إلى الصوت الهادئ المنبعث عن قرب (ففي الحيّ القديم البيت لصيق البيت). سكت الصوت، تمتم أحدهم شيئاً وكأنّه سؤال، فتابع الصوت الهادئ. اقترب من النافذة ليطلّ على الحديقة المجاورة للمنزل، ومنها إلى النافذة التي يصدر منها الصوت الهادئ. كان الصوت هادئاً وحيويّاً بآن، كان الرجل ملتهباً بهدوئه، تلك المفارقة الشعوريّة كانت للفتى ذهولاً وجاذبيّة؛ كان الفتى يشعر أنّ الرجل غارق في شرح شيء ما لشبابٍ يجلسون أمامه حول طاولة، وهو أمام لوح أخضر (على ما كان يظنّ الفتى). كانت تبدو عليه ابتسامة، وكان يعاود الشرح من جديد، الفتى رأى في الرجل هدوء وحيويّة ومعاناة؛ معاناة مَن يريد أن يوصل مَنْ هُم أمامه إلى باب فهمٍ. كلّ هذا الخليط من الهدوء والحيويّة والمعاناة الواضحة، كان جذّاباً، هذا الإنسان كان جذّاباً. لم يكن الفتى يعرف إنْ كان للرجل وقت محدّد للمجيء، ولكنّه في كل مرّة يأتي فيها ذلك الرجل كان يحيا بذهول تلك الخبرة، خبرة جاذبيّة ذلك التضارب المنسجم بين الهدوء والحيويّة، وبين المعاناة والبسمة. لاحقاً أعلمته ابنة الجيران الحركيّة أنّ ذلك الرجل، المضيء بصوته، اسمه بولس بندلي، وأنّه كاهن، وأنّه أستاذ فيزياء يساعد تلامذة يأتون إلى بيت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الملاصق لمنزل والديه.
كان الفتى يعجب أن يكون كاهنٌ أستاذَ فيزياء، يعجب أن يكون للكهنة اهتمام علميّ، وفي حالة الأب بولس كان الاهتمام معرفة عميقة. غاب الصوت وغاب الوجه عن حياة ذلك الفتى. ثمّ مرّة وبينما كان الفتى يلعب في ملعب مدرسة مار الياس (المدرسة الوطنيّة الأرثوذكسيّة) إذا بالمدير يخرج من باب الملعب، وذلك الرجل-أبونا يقف إلى جانبه بهدوء صارخ. فهم الفتى من كلام المدير أنّ الأب سيرحل عن المدرسة ("آه...إذاً كان أستاذاً في مدرستي" قال الفتى لنفسه). الأب سيغادر. لم يركّز الفتى سوى على هدوء غريب في وجه لطيف، كان يسمع هدوء أبونا الصارخ فيرحل الفتى عن الكلمات حوله. ثمّ صمت التلامذة المجتمعين حول الباب، تكلّم الأب أستاذ الفيزياء ورحل بعد أن صفّق له تلامذته طويلاً بحرارة حبّ زلزلت الفتى.
لكن كيف الفيزياء واللاهوت يجتمعان؟ كيف العلم واللاهوت يلتقيان في شخص واحد؟ لاحقاً في شبابه وفي مرحلة دراسته الجامعيّة، صار للفتى صديق يدرس الفيزياء في الجامعة، كان الصديقان يمشيان أمسيات الصيف، بشكل شبه يوميّ، على ما تبقّى من رصيف قرب شاطئ الميناء. لم يكن للفتى-الشاب آنذاك- أن يعرف أنّه سيلاقي أبونا بولس بطريقة غريبة. كان الشابان يتبادلان الوجع والتفكير في شأن الحبّ، والفرح والألم، وغربة الله، ومعاناة الناس-الكنيسة، وكلّ جحيم وسماوات حياتهما. وكان الفتى-الشاب يسأل صديقه كلّ مرّة أن يحدّثه عن آخر أخبار الفيزياء التي يدرسها؛ حتّى قال مرّة لصديقه "تعرف أشعر في الفيزياء بالكثير من الشِعر"، وتبدّى له أنّ تفاصيل الكون قصائد الله لنا، كما يتبدّى لكلّ إنسان يرفض أن يتحوّل إلى مجرّد مُسْتَخْدِمٍ للكون، كما يختبر كلّ الناس قبل أن يقرّر عدد منهم أن يصير آلة إجتماعيّة. "الفيزياء شعر، شعر صافٍ" هتف، ولم يفهم لماذا، تلك كانت خبرته الكيانيّة. لاحقاً عَلِمَ أنّ أحدهم أيضاً قال عن الله أنّه "شاعر الكون". في ذلك الجوّ الشعريّ للفيزياء أطلّ فجأة في فكر الشاب وجه أبونا بولس من جديد. الفيزياء والشعر، الفيزياء واللاهوت: ولدت الكنيسة لاهوتيّين شعراء، أو يكون وجه الله الشعريّ هو ذلك الباب بين الفيزياء واللاهوت الذي رأاه الإنسان بولس بندلي؟ سمع الشاب لاحقاً عن التزام سيّدنا بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وعن نشوئه فيها متحسّساً لهمّ الكنيسة ونهضتها. همّ الكنيسة هو المعاناة التي بدت لي في فِعْله، قال الشابّ ، والهدوء هو سمته الشخصيّة الفريدة، أمّا حيويّته فلا يمكن أن تأتي فقط من شعوره بالمسؤوليّة، بل أنّ الشعور بالمسؤوليّة ليس هو الأساس ذلك أنّ الحبّ هو الذي يلد المسؤوليّة؛ حيويّته تأتي إذاً من المسير إلى حبيب، من الفرح المُعاش والمُنتَظَر بآن، من عمق مُحِبٍّ مُسافر إلى لقاء أعمق فأعمق. المعاناة والهدوء والحيويّة كان يجمعها في قلب سيّدنا بولس الوجه الشعريّ لله، "هذا إذاً ما كان يُمَتّعني في صوته... وجه الله!". هكذا فهم الشاب حديث أبونا الصامت إليه، حديث حياة أبونا نفسها، وجوده نفسه؛ والشاب لم يكن يعرف حتّى تلك اللحظة أنّ أبونا كان قد وجّه إليه خطاباً صامتاً، كخطاب الله الذي اختبره في مطلع مراهقته.
تلك كانت قصّة فتى رأى وجه الله في صوتِ رجلٍ يشرح الفيزياء، وهي شيء بسيط من رجل جعل وجه الله يجمع فيه تضارباً منسجماً، شيء بسيط من عاشق صدر حبُّه عنه حيويّةً، وولدت معاناته عملاً، وكان هدوءه واحةً في صخب العالم. كان يأخذ الإنسان على عاتقه شخصيّاً ولهذا كان البعض يتّهمه بتضييع الوقت، أمّا هو فكان همّه العناية شخصيّاً بالإنسان الحاضر أمامه وهذا لا يفهمه المذهولين بالكمّية. الوقت؟ ما معنى الوقت سوى الإنسانَ الحاضرَ "الآن وهنا"؟ أو ليس هذا معنى قول المسيح أنّ الملكوت حاضر الآن؟ وكيف يكون حاضرٌ الآن سوى في وجه الإنسان الذي أمامنا؟ هو كان يعرف الملكوت في الإنسان الذي أمامه، لأنّه كان ولا يزال يرى فيه الله؛ حياته هي ترجمة للقول الآبائيّ "إذا رأيت أخاك فقد رأيت إلهك"، وكان تصرّفه المُعْتَني يهتف بالإنسان الحاضر أمامه "يا فرحي"، ويهتف بخفرٍ وصمتٍ لله "يا حبّي"، ولهذا فإنّ سيّدنا بولس كان ولا يزال أيقونةً للفقراء إلى الحنان الإلهيّ، كان ولا يزال حاملاً لحقيقة وجه الله الشعريّ في العالم.
خريستو المرّ
21 حزيران 2008