الكنيسة والحركة: عودة إلى البديهيّات
النور، السنة 66، العدد 5، 2010
إنّ صدور بعض الدعوات تحت شعار إعادة "تنظيم" العمل الحركيّ في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة يدعونا إلى التذكير في ما هو من البديهيّات في لاهوتنا وفي خبرتنا في كنيستنا الأنطاكيّة.
1 الأخوّة والحرّية في الكنيسة
إنّ جسد المسيح الواحد لا يلغي تمايز الأعضاء ووظائفهم، ويبقى المسيح الرأس الوحيد للجسد. هذا يفترض وحدة في حياة المؤمنين على تمايز في مواهبهم. وتبقى العلاقة الأساس في الكنيسة هي الأخوّة وهذا أوضحه يسوع بقوله "إنّ لكم أب واحد وهو الذي في السماوات"، "وإنّكم جميعاً إخوة"(متى 23: 8، 9) وهذا يعني، بما لا يقبل الجدل، بأنّ علاقة الأخوّة هي العلاقة التي تحكم الكنيسة؛ ولهذا فليس فقط البطريرك هو "متقدّم بين متساوين" وإنّما الكهنة والمطارنة والبطريرك جميعهم هم متقدّمين بين متساوين معهم ألا وهم "العلمانيّون"، إذ الجميع بنات وأبناء في عائلة الله. الكهنة والمطارنة والبطريرك هم إخوة في كنيسة الربّ قَبْل وبَعْد تبنّي المؤمنون لهم من أجل القيام في وظائفهم الكنسيّة، وهذه الأخيرة هدفها في النهاية خدمة "حرّية مجد أبناء الله"(رومية 8: 21) وفرحهم (2 كورنثوس 1: 24).
الكنيسة الأرثوذكسيّة لا هرميّة فيها، والرؤية الأرثوذكسيّة للكنيسة هي "دائرة في قلبها الحبّ المشعّ، والشعاعات تقترب من بعضها البعض بينما هي تسير نحو المركز الإلهيّ"، بتعبير إفدوكيموف[1]. من هنا فكلّ إنسان في الكنيسة هو ندّ للآخر، بل إنّ الله نفسه أرادنا أن نتعامل معه تعاملاً ندّياً، بسبب من محبّته. ولنا في العهدين القديم والجديد إعلانات واضحة حول الندّية التي أرادها الله بينه هو الإله وبيننا نحن البشر، فكيف إذاً بالعلاقات بين بعضنا البعض؟ ونذكر على سبيل المثال الندّية التي كانت بين ابراهيم والله في ما صوّره الكتاب من حوار بينهما ومحاججة(تك 18: 23-32)، وأيضاً رواية الصراع بين يعقوب وملاك الربّ (وهو إشارة إلى كلمة الله قبل تجسّده). أمّا يسوع فكان واضحاً بإعلانه "لا أدعوكم بعد عبيداً بل أحبّاء"(يو 15: 15)، والأحبّاء متساوون في الكرامة والحرّية أمام مُحِبّهم-الله.
إنّ الكنيسة مؤتمنة على هذه الندّية التي هي في النهاية تعبير محبّة، إنّها مؤتمنة على حرّية أبنائها وبناتها، لأنّه بلا حرّية لا توجد محبّة، ونحن نلتزم المحبّة أساساً ذلك أنّ "الله محبّة" والعلاقة به تكون علاقة محبّة أو لا تكون؛ وبما أنّ المحبّة تقوم في الحرّية فهي تقوم بين أنداد، بين متساوين في الكرامة. هذا يجب أن يكون بيننا كي تكون المحبّة قائمة، لا يوجد في الكنيسة "فوق" و"تحت"، أو كنيسة معلّمة وكنيسة متعلّمة. لقد تكشّف لنا، من خلال تدبير الله الخلاصيّ، بأن إرادته هي أن نكون على شبهه، "آلهة"، فإذا به "واقف على الباب يقرع"(رؤيا 3: 20)، منتظراً محبّتنا جواباً على محبّته البادئة(1 يو 4: 19)، جاعلاً هكذا نفسه في "حاجة" لنا، لدرجة أنّه "أخلى ذاته أخذاً صورة عبد" (فيليبي 2: 7) "لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به"(يو 3: 16)، فصار على شبهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، ليتّحد بنا فيُتْحِدُنا به، ويقيمنا معه على يمين الآب. هكذا هو الأمر بالنسبة لتعامل الله معنا؛ وما من ندّية ممكنة أكثر من ذلك. نحن نعامل بعضنا كما هو يعاملنا، نعمال بعضنا على شبهه، أو نكون في ضلال. الأخوّة والحرّية والندّية الناتجة عنهما، هي علاقات أساس بين الأخوات والإخوة في الكنيسة الأرثوذكسيّة.
2 الكنيسة تصغي للروح
إنّ الأخوات والإخوة في المسيح، المتساوون أمام الله أبيهم يسعون إلى التألّه، في الكنيسة. وهذا التألّه يتمّمه فينا الروح القدس، "روح الحقّ"، "المالئ الكلّ"، الذي أرسله الآب (يو 14: 17) ليُرشِدُنا إلى جميعِ الحَقّ (يو 16: 13) الذي نكتشفه أمامنا. ومن هنا فإنّ إصغاؤنا في الكنيسة هو إصغاء للروح القدس "الذي يهبّ حيث يشاء"(يو 3: 8)، في كلّ قلب ينفتح إليه، فإن كان صحيحاً أنّه "حيث توجد الكنيسة يوجد الروح القدس" فكذلك "حيث يوجد الروح توجد الكنيسة وكلّ نعمة" (القدّيس إيرناوس). الروح يهبّ في أيّ من المؤمنين، ونحن واجبنا كي نتألّه أن نُصغي إلى حامل الروح، الذي يعكس روح الحقّ في ظرف ما؛ والروح لا تحصره لا وظيفة كهنوتيّة، ولا عمر، ولا جنس، ولا لون، ولا أمر آخر. فبواسطة روح الحقّ موزّع المواهب الذي في الكنيسة يعطي المسيح "البَعضَ أنْ يكونوا رُسُلاً، والبَعضَ أنبياءَ، والبَعضَ مُبَشّرينَ، والبَعضَ رُعاةً ومُعَلّمينَ" (أفسس 4: 11). هناك وظائف محدّدة ينشؤها الروح القدس، وهناك نطقٌ للروح في مُطلق أيّ مؤمن، وهو ما يمكن أن تلاحظه الكنيسة مجتمعة، في ضميرها. ولهذا ففي الكنيسة الأرثوذكسيّة، التعليم، مثلاً، ليس باتّجاه واحد: من إكليريكيّ إلى علمانيّ، فالمعلّم هو الذي لديه موهبة التعليم. وعندما نبحث أن نثبت في "الحقّ الحاضر"(2 بطرس 1: 12) فنحن نصغي لروح الحقّ في مطلق أيّ مؤمن مستنيرين بأضواء الحقّ التي فيه.
2. 1 الحقيقة في الكنيسة يحفظها شعب الله
ولكي نقرّر من هو حامل أضواء الحقّ، لا نتفرّد، فالكنيسة-جسد المسيح- بأجمعها مؤتمنة على هذا الإصغاء لصوته في كلّ زمن؛ ولهذا فهي مؤتمنة على الإيمان برمّته. الرسل والمشايخ في الكنيسة الأولى ليسوا هم الـمؤتمنون (بأل التعريف) حصريّاً على الإيمان، فالمؤتمن على الحقّ هو جسد المسيح كلّه، أي جماعة المؤمنين، الشعب، "فالعقيدة عندنا يحفظها الشعب كله أي ان الرؤية لكل الحياة الكنسية هي رؤية الجماعة المؤمنة بما فيها الأساقفة"[2]. إنّ حضور الروح، روح الحقّ، في إنسان لا يعرف عمراً أو وظيفة.
2. 2 العمر ليس مقياساً للنبوّة ولمسؤوليّة البشارة
فعندما دعا الربّ إرميا ليتنبّأ دعاه أيضاً إلى تجاوز العقليّة التي ترى الحقّ أقرب إلى الأكبر عمراً، دعاه إلى تجاوز حدود الأكبر والأصغر "فقال الربّ لي: لا تقل أنّي ولد"(إرميا 1: 7) بل لمس فمه تعبيراً عن أنّ كلامه سيكون حاملاً لكلام الله ومقاصده بعد أن يكون تطهّر بجمر النور والنار الإلهيّين (إشعياء 4: 7)، تعبيراً عن أنّه كلامه سيكون أقرب إلى الحقّ من كلام أحد آخر. ليس العمر هو المحدّد لنبوّته بل قربه من الله، وخيار الله له. الأمر الذي يجعل من إنسان نبيّاً، متقدّماً في الحقّ، هو مدى التصاق هذا الإنسانٌ بالله وتحريك الله لـ"بركة" قلبه حتّى تحمل الشفاء للنازلين فيها. أمّا بولس فقد حذّر في رسالته إلى تيموثاوس من أن يستهن أحد بعمره الفتيّ أثناء عمله البشاريّ (1 تيموثاوس 4: 12). النبوّة والبشارة لا تعرف عمراً، فالإصغاء هو دائماً لصوت الروح في القلب الذي يهبّ فيه، ولهذا كانت دعوة كاتب الرسالة إلى العبرانيّين إلينا كانت بألاّ نقسّي قلوبنا إن سمعنا صوت الله اليوم (عبرانيّين 3: 7-8) متحصّنين بمركز أو رُتبة أو عمر أو وظيفة. وإذ يشير صاحب الرسالة إلى "اليوم" فهو يعني أنّ صوت الله ليس موجوداً فقط في بطون الكتب ولا في الأنظمة والشرائع، وإنّما في حياة أشخاص يحيون اليوم، كلّ يوم، حاملين للمسيح، "تَفحَصونَ الكُتُبَ المُقدَّسَةَ، حاسبـينَ أنَّ لكُم فيها الحياةَ الأبديَّةَ، هيَ تَشهَدُ لي، ولكنَّكُم لا تُريدونَ أنْ تَجيئوا إليَّ لِتكونَ لكُمُ الحياةُ"(يوحنا 5: 39-40).
2. 3 الوظيفة ليست مقياساً للقداسة
إنّ الوظيفة في الكنيسة هي أيضاً لا تحدّد مَنْ هو المتقدّس الذي نصغي إلى الروح الذي فيه؛ ولنا عبرة من حياة القدّيس انطونيوس، مؤسٍّس الرهبنة، الذي وجد بعد تقدّمه في القداسة بأنّ هناك "علمانيّ" متقدّمٌ أكثر منه فيها. هذا مدعاة تأمّل لنا في حياتنا الكهنوتيّة والرهبانيّة، فالقداسة التي يؤسّسها حضور الروح قد يحملها "علمانيّ" أكثر ممّا يحملها كاهن أو راهب، والعكس صحيح.
2. 4 النبوّة والحقيقة في الكنيسة
أمّا دعوة يسوع بأن نقرأ "علامات الأزمنة"(متى 16: 3)، والدعوة التي سبق ذكرها بأن لا نقسّي قلوبنا لكي نسمع صوت الله، فهما تذكيرين بأن نُصغي إلى الذين، بِهُدى الروح القدس، استطاعوا أن يروا كيفيّة تأوين مقاصد الله في الزمن الحاضر، صارخين بما بدا لهم من حقّ. هؤلاء هم أنبياء الله في كلّ زمن. وبين الأنبياء والكهنوت مواجهة خلاّقة تنجّي الكنيسة من التحجّر ومخاطر الاستكانة والرتابة في المأسسة. هذه المواجهة في العلاقة بين الكهنوت والنبوّة في جدليّة "المحافظة والتحرّك"، بتعبير المطران خضر، والقائمة في المسيحيّة، هي مواجهة خلاقّة وإن كانت صعبة و"مرّة" إلاّ أنّها "من بنية الكنيسة ومن مسيرتها"[3]. "فإذا كان المسؤولون الروحيون سقطوا الى دركات اللامبالاة والجمود او التحجر أو ما الى ذلك من اهتراء واخذوا الجماعة الى دركاتهم فالله يرسل من يتكلم لاستعادة سلطان كلمته من المفروض انهم حفظتها"[4]؛ وهذا ما كانته حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة منذ تأسيسها: صرخة نبويّة في كرسيّ أنطاكيّ أكله التحجّر؛ ومدٌّ تبشيريّ للكنيسة من أجل "تنصير النصارى". الله حرّ ممّا يؤسّس، فالروح القدس "يهبّ حيث يشاء"، ولذلك فهو حرّ من رتبة، ومن طقس، ومن وظيفة، ومن موهبة، ومن عمر، ومن جنس، ومن علم؛ هو يختار أنبياءه، والناطقين به في كلّ زمن. ولهذا فالسلطة الوحيدة للكنيسة هي سلطة الله، أي سلطة المحبّة.
3 السلطة في الكنيسة
ولكن ما السلطة؟ لقد ذكّر الفيلسوف كارل جاسبرز(1883 - 1969) بأنّ كلمة السلطة تعني "القوّة التي تخدم المساندة والنموّ"[5]؛ وإذْ كان الإنسانُ بحسب إيماننا مخلوقٌ من أجل التألّه والفرح بالاتّحاد بالله، فالسلطة الكنسيّة هي خادمة لفرح الإنسان كما فهم بولس بحقّ "نَحنُ لسنا أسياد إيمانِكُم بل نحن خادمو فرحكم"(2 كورنثوس 1: 24). القائمون في الوظيفة الكهنوتيّة في الكنيسة هم خادمو ومساندو نموّ جميع المؤمنين في المحبّة التي تُتْحِدُهم بالله، لكي يصلوا إلى ملء نموّهم، إلى "ملء قامة المسيح"(أفسس 4: 3). السلطة في الكنيسة هي خادمة الفرح والنموّ في المحبّة؛ هي أن يكون الأخ-الأب في الكنيسة خادماً لحرّية وفرح أخواته وإخوته، هي أن يسعى صاحب السلطة أن يكون خادم علاقة وحدة الحبّ بين رعيّته وبين يسوع، فينمّي فيهم محبّتهم للربّ ولبعضهم البعض. لهذا فالأب الحقيقيّ هو ذاك الذي يسعى ألاّ يكون أباً لأحد، ذاك أنّ جلّ سعيه هو ألاّ يقف حاجزاً بين أخواته وإخوته وبين الله أبيهم الوحيد. فـ"السيّد الوحيد هو المسيح، الإبن الذي يترجم محبّة الآب ويخدم بنوّة الناس الإلهيّة... الكنيسة، تحتذي حذو سيّدها، فهي ليست سوى خادمة للحقيقة حتّى لا تكون حاجزاً بين الناس والإنجيل، بين الأولاد وأبيهم. هكذا تصرّف الروحيّون الكبار في امّحائهم الكامل، إذ لم يجعلوا من «أبنائهم الروحيّين» أبناءهم هم، وإنّما الأبناء الأحرار والناضجين لله ذاته"، على حدّ قول إفدوكيموف[6].
4 الطاعة في الكنيسة
أمّا الطاعة فلا تعني الخضوع الأعمى بأيّ شكل من الأشكال. إنّ الطاعة في الكنيسة هي لله وحده، وكلمة الطاعة في جذورها اللاتينيّة تعني الإصغاء؛ وبالتالي فإنّ الطاعة في الكنيسة تعني الإصغاء لله، للروح. ولهذا يقول الرسل "أفضل أن يطاع الله من أن يطاع الناس" (أعمال الرسل 5: 29)، ذلك أنّ الإصغاء إلى الله (أي طاعته)، الإصغاء لروح الحقّ "رازق الحياة"، هو حياة ونجاة لنا. ولهذا يقول كوستي بندلي، "عندما نطيع في الكنيسة، فنحن لا نطيع إلا الله ولا نطيع إنسانًا ما إلاّ على قدر طاعته هو لله... ليس هناك إذًا من إنسان، مهما سما، تنبغي له الطاعة المطلقة، بل هناك أناس تتوجّب لهم عادة الطاعة التي يقتضيها حسن ممارسة مسؤوليتهم..."[7].
وإن كان "الرسل والمشايخ" (أع 15: 2) قد فوّضوا منذ الكنيسة الأولى أن يتبصّروا في أمر ليروا إن كان متناسباً مع الإيمان المسيحيّ، فإنّ لنا في التاريخ أمثلة عن مجامع سمّتها الكنيسة باللصوصيّة لأنّ فيها أجمع مطارنة وبطاركة ليس فقط على أخطاء وإنّما على بدع. ولهذا فالطاعة ليست واجبة لمطلق أيّ شخص أو جماعة، ذلك أنّنا نبغي خلاص أنفسنا وبعضنا بعضاً؛ ولهذا فالإصغاء هو للروح لتكون الطاعة لله وحده كي نصل إلى خلاصنا، فهو الذي يحبّنا أكثر من أنفسنا ويريد لبنات وأبناء الله جميعهم "أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ أن يقبلوا" (1 تيموثاوس 2: 4). في زمن ما قد تحمل نداء الروح جماعة، صغيرة أو كبيرة، أو حتّى شخص واحد؛ ولنا في مواجهة القدّيس مكسيموس لمجمع هرطوقيّ، معلناً ما معناه "أنا الأرثوذكسيّة"، عبرة.
5 حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الكنيسة
كنيستنا تؤمن ببنوّة الجميع لله ولا تؤمن بمسؤولين "فوق" وأتباع "تحت"، لا تؤمن بهرميّة سلطويّة. كنيستنا تؤمن بسلطة الله وبسلطة بشريّة تخدم الفرح والنموّ في المحبّة ولا تؤمن بسلطة بشريّة تتسلّط. كنيستنا تؤمن بطاعة الله أي بالإصغاء للروح، ولا تؤمن بطاعة البشر إلاّ إذا عكسوا إرادة الله في تصرّفاتهم، وإرادة الله هي فرحُ البشر وحياتُهم وتحرّرهم ونموّ محبّتهم. كنيستنا لا تؤمن بطاعة تصبّ في اتّجاه واحد.
من قلب هذه الكنيسة أتت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة فنفضت عن التراث الغبارَ وجدّدت وابتكرت وتكلّمت بلغة اليوم. وإذ تدعو حركة الشبية إلى النهضة في التعليم والممارسة والعمل، فهي لا تضع نفسها فوق أحد، ولا تضع علمانيّ فوق إكليريكيّ، بل تدعو أبناء وبنات الله، أي الكنيسة كلّها، إلى تحقيق الحياة في المسيح في كلّ منهم، بهداية الروح وجهود الجميع، وذلك في تناغمٍ يحافظ على تنوّع المواهب وتمايزها في وحدة الإيمان.
والنهضة التي تدعو إليها الحركة ليست عملاً جامداً بل عمل ديناميّ؛ ولهذا فهي لا تُقاس بعدد كتب مطبوعة، ولا بعدد كهنة متعلّمين، ولا بعدد مطارنة فاهمين. النهضة هي تعبير عن حضور الروح في عالم اليوم (المتغيّر كل يوم)، هي قراءة ديناميّة لعلامات كلّ زمن في آنيّته، هي صرخة للحقّ الحاضر اليوم، كلّ يوم، وعمل دؤوب لتحقيق هذا الحقّ. لهذا ستبقى النهضة ضروريّة في كلّ زمن، تعبيراً عن نداء الروح القدس، ومؤازرةً لعمله في الخليقة.
الحركة هي صوت نبويّ في الكنيسة في تناغم التمايز والوحدة: التمايز عن المؤسّسات الكنسيّة الرسميّة، والوحدة الإيمانيّة في الكنيسة. وإن كان الحركة، أيضاً، مدٌّ بشاريٌّ في الكنيسة، إلاّ أنّها تبقى متمايزة عن المؤسّسات الكنسيّة الرسميّة. هذا الصوت النبويّ وهذا العمل البشاريّ قد يخلقا مواجهة، كما أشرنا، ولكنّها مواجهة خلاّقةً ومغبوطة وصحّية إيمانيّاً.
إنّ المحافظة على تمايز حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة عن المؤسّسات الكنسيّة الرسميّة، في قلب وحدة الإيمان الأرثوذكسيّ في أنطاكيّة، يجعل من علاقتها مع المؤسّسات الكنسيّة الرسميّة على صورة العلاقة الثالوثيّة: تمايز في الوحدة. أيّ سعي إلى إلغاء تمايز الحركة وجعلها جزءاً من المؤسّسة الكنسيّة الرسميّة، هو سعي إلى تطويع الصوت النبويّ من خلال كلام ملتبس عن "وحدة" مؤسّساتيّة؛ نقول ملتبس لأنّ وحدة الإيمان لا تقتضي إلغاء التمايز، بل يمكنها أن تكون قائمة في تناغم (synergy) بين متمايزين، وهو مفهوم معروف لاهوتيّاً في كنيستنا للكلام عن التناغم بين الله والبشر.
الحركة ليست تنظيماً ولا مؤسّسة إزاء الكنيسة، إنّها صوتٌ للروح صارخٌ فيها، ويجب أن تبقى كذلك، ولا تبقى كذلك إلاّ بالمحافظة على تمايزها عن المؤّسسات الكنسيّة الرسميّة لكي تحافظ على صوت النبوّة الذي أطلقها وتجدّده. هذا التمايز المغبوط والحيّ هو المتوافق مع إيماننا الأرثوذكسيّ وهو لهذا الأسلم لكنيستنا، وليس للحركة وحدها.
10 تموز 2010
خريستو المرّ
[1] Evdokimov, Paul, “L’Amour Fou de Dieu”, Editions du Seuil, Paris, 1973, p. 147
[2] المطران جورج خضر، "النظام المجمعي في الكنيسة الشرقيّة"، النهار، السبت 03 تشرين الأول 2009، السنة77، العدد 23833
[3] المطران جورج خضر، "الكاهــــــن والنبي"، النهار، الجمعة 09 حزيران 2010، السنة 77، العدد 24098
[4] المطران جورج خضر، " الكاهن والنبي"، مرجع مذكور
[5] Evdokimov, Paul, “L’Amour Fou de Dieu”, op. cit., p. 149
[6] Evdokimov, Paul, “L’Amour Fou de Dieu”, op. cit., p. 146
[7] كوستي بندلي، "حول الصيام والطاعة والفداء"، 22 – 04 - 1989، و 06- 05 – 1989. موقع إنترنت : http://www.mjoa.org/