الصليب والحرّية [1]
النور السنة 65، العدد 7، 2009
صرت على قناعة بأنّ من أكثر الكلمات التي يساء فهمها مع أنّها من الأكثر استخداماً هي كلمة "أحبّك"، وكلمات شبيهة كـ"المحبّة" و"الحبّ". فأحياناً يقول الإنسان أنّه يحبّ الآخر ويعني أنّه "يذوب" فيه، وأحياناً يقول أنّه يحبّ الآخر ويعني انّه يريده أن يتصرّف الآخر كما هو يريد له (من كثرة ما "يحبّه")، وأحياناً يقول الإنسان أنّ "التضحيّة"، والحدّ من الحرّية الذاتيّة، هما جزئين من الألم الضروريّ في كلّ علاقة "حبّ"، وذلك أنّهما ضروريّان أحياناً من أجل "الآخر" ومن أجل استمرار "العلاقة" به، وقد نشبّه ذلك أحياناً بـ"الصليب"... إلى ما هنالك من الأمور التي نربطها بالمحبّة والحبّ. لكن ما علاقة هذه الأقوال والأفعال بالمحبّة كما عرفناها في المسيح؟ ما علاقتها بالثالوث؟ وما علاقتها بسرّ الصليب كما كشفه يسوع؟
المهمّ في المحبّة هو أثرها في الإنسان. المسيح يدعونا إلى ممارسة المحبّة بالاتّحاد به (وللاتّحاد به) في الروح القدس، فنتألّه، هذا لبّ الإنجيل. لكن، ما المحبّة؟ الصورة الأكمل التي لدينا عنها هي الله ذاته، وحركة الحبّ الأبديّة التي تجمع الأقانيم، فالله المحبّة هو ثالوث، ويجمع إذاً في ذاته التمايز والوحدة، تمايز الأقانيم في وحدة الجوهر الإلهيّ. حقيقة المحبّة كوحدة في التمايز، نجدها كذلك في نظرتنا للكنيسة كجسد المسيح، إذ يتمايز فيها الأعضاء ويتّحدون في آن واحد؛ كما نجدها في شخص المسيح نفسه الذي تجسّد محبَّةً بنا حاملاً في شخصه الواحد الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة، بدون "اختلاط أو انفصال"، أي بوحدة وتمايز. ونجد حقيقة المحبّة كوحدة في التمايز، في الرؤية المسيحيّة لتألّه الإنسان، فالتألّه هو اتّحاد الإنسان بالله، بالقوى الإلهيّة، مع المحافظة على تمايز الجوهر الإلهيّ عن الإنسانيّ. كما نجدها أيضاً في خبرتنا الحياتيّة اليوميّة، ففي الحالات السليمة يسعى الإنسان في علاقته بغيره من أهلٍ، وأصدقاءٍ، وأولادٍ، أن يحقّق الوحدة معهم، وأن يحافظ على تمايزه عنهم كشخص فريد، وعلى تمايزهم عنه كأشخاص فريدين؛ وهو ما نختبره بشكل مميّز ومُكَثَّف وشامل (يتضمّن البعد الجنسيّ) في علاقة الحبّ، إذ هذه مسعى اتّحاد عميق بين شخصين، مع الحفاظ على تمايز كلّ منهما.
من حقائق هذه الخليقة، أنّ شرط علاقة المحبّة (والحبّ) هو حفظ توازن التمايز عن الآخر والوحدة معه. فعندما أقول أنّني "أحبّ" آخر بحيث أنّني أشعر أنّني "أذوب" فيه - كما يتمّ التعبير أحياناً، وكما قد يفعل الإنسان (وهذا الأهمّ) دون أن يُعَبّر - فهذا يعني أنّني أُلغي نفسي كإنسان فريد متمايز، فأضربُ وجه التمايز في علاقتي مع الآخر، وتضمر شخصيّتي عمليّاً لأنّي عندها لا أعود أختبر ذاتي كشخص فريد وإنّما كتابع يتمحور وجوده حول هذه التبعيّة للآخر. وإن قلت أنّني "أحبّ" آخر ولهذا "أخاف" عليه كثيراً، و"أعتني" به كثيراً، فأسعى بشدّة كي لا يقع في مشاكل وآلام، وأعمل لـ"مصلحته" فأدفعه كي يتصرّف كما أُشيرُ إليه أنا، وذلك كي يحيا بشكل أراه أفضل له، بسبب من "نضجي"، إلخ. أكون في الحقيقة أحاول أن أتحكّم بتفاصيل حياة هذا الآخر، وأتسلّط عليه عمليّاً بذريعة "حبّي" له كلاميّاً؛ فإذ بي أضرب، في هذه الحالة أيضاً، وجهَ التمايز في العلاقة مع الآخر، فتَضْمُر شخصيّة الآخر كما تضمر شخصيّتي، إذ كما لا يعود الآخر يختبر ذاته كشخص إن خضع لما أدعوه زوراً "حبّي" له، فإنّني لا أعود أختبر ذاتي كشخص عندما أتسلّط عليه لأنّي لا أكون عندها قادراً على اختبار وجودي إلاّ بالتحكّم الذي لا يمكنني ممارسته إلاّ بوجود الآخر، فإذا بي إذاً غير قادر على الوقوف ذاتيّاً، وبالتالي هزيل وتابع، ولكن في موقع التسلّط عوض الخضوع.
هكذا تصرّفات، ذوبانيّة وتسلّطيّة، بذريعة "المحبّة"، هي إلغاء للتمايز. ولكن عندما ألغي التمايز فإنّني أُلغي أيضاً إمكانيّة الوحدة، إذ لا وحدة حقيقيّة إلاّ بين متمايزين. الوحدة ممكنة فقط في التمايز، أي في قبول إمكانيّة الاختلاف، في قبول الـ"لا" كما في قبول الـ"نعم". حماية واحترام إمكانيّة الـ"لا" هو مفتاح وجود الوحدة، ولهذا فالمحبّة (الوحدة في التمايز) فيها رهبة لأنّها ليست حتميّة وليست ميكانيكيّة وليست "ممسوكة"، إذ أنّها تفترض الحرّية. في حالَتَي الخضوع والتسلّط أنا أنفي التمايز والحرّية والوحدة، أي أنّني أنفي المحبّة (والحبّ). حرّية الإنسان وتمايزه جميلَان، لأنّهما أرض اللقاء والفرح المحيي.
لكنّ الفرح المُحْيِي، هذا، أمرٌ صعبٌ؛ والمسيح لم يَعِدْنا بالسهولة، بل ذكّرنا بأنّ الباب المؤدّي إلى الحياة والفرح "ضيّق". صليبٌ أن يحيا الإنسان هذا الفرح، وفَرَحٌ أن يحيا الإنسان هذا الصليب. ذلك أنّ تحقيق التمايز يقتضي سهراً دائماً للمحافظة على فرادتي وتنبّهاً دائماً لاحترام فرادة الآخر؛ كما أنّ تحقيق الوحدة يقتضي الخروج من ذاتي، من أوهامي وأحلامي ومخاوفي، والدخول مع الآخر في علاقةِ عنايةٍ به تتحسّس حتّى لما لا يعبّر عنه، ومسؤوليّةٍ عنه بلا تسلّط تحترم تمايزه، ومعرفةٍ له بالمعنى الإنجيليّ، أي معرفةٍ له من الداخل، معرفةِ العلاقة التي يحياها الإنسان عقلاً وشعوراً كشخص غير منفصم. هكذا فإنّ قبول اختلاف الآخر، وما ندعوه "التضحية" من أجله (التي ذكرناها في بداية المقالة) ليسا عذاباً، وليس حدّاً من حرّيتي (كما عبّر بعض الإخوة في اللقاء) وإنّما على العكس هي تحقيق لحرّيتي وتَعَمْلُق لها، لأنّ التضحية -إن كانت سليمة ولا تُخفي رغبة كامنة بالخضوع وتعذيب النفس وإذلالها - هي مجال لي للخروج من حصون ذاتي، من وطأة حاجاتي، لأحقّق وجودي المنفتح الحرّ من انغلاقي على حاجاتي، لأحقّق شوقي إلى اللقاء الأصيل بالآخر (وبالتالي بالله)، لألاقي الآخر فنحقّق توحّداً أعمق يجذّر المحبّة ويعمّق الحبّ. عندها، بهكذا تضحية، أكون أحقّق شوقي الكامن وراء حاجاتي، أي الملء الذي أصبو إليه ("ملء قامة يسوع المسيح")، أحقّق المثال الذي خلقني الله كي أحياه: أن أصير إلهاً باتّصاليّ الحبّي بالله وبالآخر، أن أصير إلهاً بانفتاح حبّي اليوميّ الإنسانيّ على الله، أن أصير إلهاً بأن ترحل جذور حبّي اليوميّ الإنسانيّ في الله أعمق، فأختبر بشكل أكثر عمقاً احتضان الله لي، هو الساكن فيّ، وأختبر بشكل أكثر ذهولاً مشاركتَه لي طاقاته التي تكلّم عنها بالاماس.
الإنسان الحرّ حتّى الأعماق هو الإنسان المُحِبّ، أي الذي يحقّق وحدته بالآخرين في التمايز؛ فبالوحدة يحرّر الإنسان فرادته من الانغلاق، وبالتمايز يحرّر وحدته بالآخرين من الذوبان. هكذا محبّة هي قيامة في قلب الثالوث، وتَـمَـثُّـلٌ للثالوث في قلب الحياة الشخصيّة، تمثُّلٌ يحقّقه الروح القدس فينا إن انفتحنا عليه (لم "نجدّف" عليه). ولكن مَنْ يَقُل قيامة يقول صليب: أو ليس تحقيق الوحدة بالآخر وبالله، الذي يحقّ القيامة، يتطلّب صلب الانغلاق على الذات (صلب الخطيئة الأصليّة) لتقوم فرادتنا المنفتحة، ليقوم الشخص البشريّ؟ أو ليس تحقيق الفرادة يتطلّب صلب نزعات هدر الذات بالذوبان في آخر أو جماعة، أو هدرها بالتسلّط على آخر وعلى جماعة؟ الإنسان الحرّ هو الإنسان المحبّ، والإنسان المحبّ هو الإنسان المصلوب والقائم بآن، مصلوب ليس بمعنى أنّ أحداً يعذّبه ولكن بمعنى أنّه يحمل صليبه (الهاء هنا تشديد علىالفعل الشخصيّ) ويتبع المسيح، أي يحمل على عاتقه شخصيّاً أن يجتاز صليب اتّحاده بالآخرين وبالله في التمايز. الصلب اختياريّ إذاً وليس عذاباً مفروضاً من الخارج، أي تعذيباً يرفضه الله، بلا شكّ، لأنّه يمسّ بالكرامة الإنسانيّة[2]. الإنسان الحرّ هو ذاك المصلوب على الحبّ، هو ذاك المصلوب-القائم في قلب الثالوث، ولهذا فهو في فَرَحٌ ولو في قلبِ وجع "الولادة من فوق"، وفَرَحُه يَسْكُنُه كعين أعصار.
صحيح أنّ طريق المحبّة والحبّ هذه صليب ومؤلمة، ولكنّها فَرَحٌ وحرّية وليست عذاباً وَحَدّاً من الحرّية؛ وصحيح أنّها مرهوبة ولكنّ يتجاوز الإنسان رهبتها بحضور وجه المحبوب (الإنسانيّ والإلهيّ)، وبحضور المسيح الذي يدعم الحبّ البشريّ بمدّه بطاقته القياميّة. إنّ كلام المسيح "مَنْ أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني"(متّى 16: 24) توازنها دعوته أن "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وثقيليّ الأحمال فأناأريحكم.. ونيريّ هيّن وحملي خفيف"(متّى 11: 28، 30)، وهذا يعني أنّ مَنْ أراد أن يتبع المسيح في دروب الحبّ (وهذا صليب طوعيّ)، فإنّ حبّه نفسه، وحبيبه الخاصّ، وأحبّائه، والله الحاضر فيه، يساعدوه كي يرفع عن كاهله صليب تجاوز الرهبة ووطأة الحاجات، وصليب تجاوز ألم الخروج من الذات والسعي لتحقيق الشوق، فينتعش ويفرح، ويساعدوه كي يحمل في حياته صليب جهاد التمايز والوحدة، فيحبّ الله والآخرين حقّاً، ويتحرّر. وهكذا يحتفل المحبّون مع الله فرِحين باللقاء، ويسافرون مع سيّد الحياة منطلقين في رحابها، فتتفجّر من جنب حياتهم المجروحة بالحرّية، بحربةِ الخروج من الذات، ينابيعَ "ماء وخمر"، ينابيع ولادة وفرح، فيَفرَحوا ويُفرِحوا، ويَتحرَّروا ويُحَرِّروا.
20 آب، 9، 12 أيلول 2009
خريستو المرّ
[1] إلى الأخوات والإخوة المشاركين في الحلقة الدراسيّة حول الرسول بولس، التي أقامتها الأمانة العامة في عين عار - لبنان، 26-31 تمّوز 2009، وخاصّة الذين تابعوا النقاش الجانبيّ حول العلاقة بين المحبّة والتضحية والحرّية.
[2] نحن نرى في الصليب القيامة والنصر على الموت، لا العذاب والألم. المسيح قَبِلَ الصليب، ولكن لم يكن ذلك تلذّذاً مرضيّاً بالألم، وسعياً إليه، وإنّما ذهاباً بمحبّته كإنسان إلى كمالها، ورفضاً للانصياع إلى تجربة التحكّم أو الانفصال عن الله واستخدامه لمآرب خاصّة، هذه التجربة التي لاحقته حتّى النهاية عندما قيل له "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة ايّام، إن كنت ابن الله، فخلّص نفسك وإنزل عن الصليب... فلينزل عن الصليب لنؤمن به"(مت 27: 40-42) (وكأنّهم يقولون ليسوع : عامِل الله معاملةً سحريّة، استخدمه كقوّة، اترك علاقته به كشخص محبوب ومُحِبَ، دعك من الحبّ، المهمّ النتيجة، المهمّ الغاية؛ إفعل ذلك من أجل منفعتك، بل يمكنك تبرير ذلك بأنّه من أجل منفعتنا، كي نؤمن نحن الناس الذين تقول أنّك تحبّهم؛ إفعل ذلك من أجل نجاح رسالتك بيننا). هذا الكلام هو تجربة برأيي، تجربة ترك الله كمحبوب، تجربة أمام الصليب. من هنا كان قبول المسيح للصلب شهادة حبّ لله والبشر معاً، وبحبّه الكامل كإنسان، باستجابته الكاملة لمحبّة الله، انفتحت إنسانيّتِهُ بشكل تامّ على الألوهة الكامنة فيه، فملأتها الألوهة، وقام المسيح الإنسان من الموت في لحظة الصلب، وإن ظهر للناس في اليوم الثالث. شهادة محبّة الله ومحبّة الآخرين هي المباركة، وإن كان لا بدّ لها أن تمرّ بالدم، يوماً، فقبول الموت عندها (إن كان لا مفرّ منه) هو من أجل عدم رفض الانفصال عن الله، وبالتالي هو شهادة لله كنبعٍ للحياة، وذلك محبّةً بالحياة، وليس سعياً إلى الموت كراهيّة بالذات، أو بالآخرين، أو بالحياة، لأنّ هكذا سعي هو قتل للذات، انتحار، يلبس زوراً لباس الشهادة.