الشخص: الفرادة والوحدة في المسيح
النور السنة 64، العدد 3، 2008
الشخص في الكنيسة: الفرادة والوحدة في المسيح
من أسس الإيمان المسيحيّ أنّ الكنيسة هي جماعة المحبّين المتّحدين بالمسيح، فالكنيسة أسّسها الروح القدس والمسيح المعلّق على الصليب هو الذي افتداها -أي أعطى ذاته لكي تحيا- فهي "كنيسة الله التي افتداها بدمه" كما يقول بولس الرسول. الكنيسة جسد المسيح بمعنى أنّ المؤمن والمسيح واحد في سرّ الشكر[1] وهذا كان كشف لبولس الذي سمع صوت المسيح يقول له "شاول، شاول، لماذا تضطدنـي" وبولس كان يضطهد المسيحيّين وليس المسيح، المسيح إذاً كان يشير إلى أنّه واحد مع المؤمنين به. المسيحيّ ينشأ في الجماعة، جماعة المؤمنين-الكنيسة، والروح هو الذي يقيمه مسيحيّاً، هو الذي يشعل في قلبه المحبّة، وينفخ في طينه طاقات الله، يُتْحدُ المسيحيّ بالله، والمسيحيّ ينقل الله إلى العالم ويقدّم عمله والعالم إلى الله فيصير كاهناً بدوره، كاهنا ملوكيّاً.
يصير الناس كنيسة إذاً في اتّحادهم بالله، وهذا لا يمكنه أن يكون إلاّ باتّحاد الإنسان بالناس، بالأصدقاء وبالحبيب، وعندها يكون الإنسان في الحقيقة متّحداً بذاته، متوافقاً مع نداء عمق أعماقه بأن يكون تشاركيّاً[2]، بأن يكون متواصلاً وغير منفصل عن الناس وعن الله. وبكلمات التعبير المسيحيّ، يكون الإنسان متوافقاً مع صورة الله في ذاته، يكون محقّقاً الطاقة الأساس في هذه الصورة، طاقة المحبّة، يكون إذا ساعيّاً إلى تحقيق مثال الله. تحقيق المثال هذا، هو بالتالي السير بطاقات إنسانيّتنا إلى تحقيقها، إلى ملئها، هو أن نكون أنفسنا العميقة، هو أن نكون.
في ما قلت إلى الآن يبدو التشديد على أهمّية الآخرين، والجماعة الكنسيّة، من أجل التوحّد بالمسيح بواسطة الروح القدس، وذلك من أجل تحقيق حياة الشركة، من أجل تحقيق الاتّحاد بالبشر والله، من أجل تحقيق الذات في عمقها، من أجل أن يكون الإنسان (فالإنسان يكون حين يحبّ). لكن بما أنّ تحقيق إنسانيّتنا، تحقيق مثال صورة الله، هو أساساً في المحبّة الحرّة، فإنّ الوجه الآخر للتشديد على الجماعة وحياة الجماعة هو التشديد على الفرادة، وهذا ما يبدو للوهلة الأولى تناقضاً، إذ قد يظنّ الإنسان أنّ حياة الجماعة تتناقض مع الفرادة. إلاّ أنّ نظرة متأنّية توضح أنّ الحقيقة هي العكس تماماً. فالفرادة لا تعني الانفصال الأنانيّ عن الجماعة، أو عدم الشورى وأشكال الديكتاتوريّة والأنانيّة. الفرادة هي ما يميّز كلّ إنسان عن الآخر. في الحقيقة، الفرادة هي الواقعُ الأساس الذي كلّ إنسان(ة) هو(هي) عليه. لم إذا أكتب طالما هي الواقعُ الأساس؟ لم إذا ضرورة تحليل عنصر الفرادة في علاقاتنا الكنسيّة طالما هي المعطى الأساس لكلّ كائن بشريّ؟
لأنّ الفرادة ليست سوى معطى أساس يحتاج إلى صقل وتحقيق، فليست الفرادة في ما يجعلني آخر بالشكل فقط (وهذا ليس محقّقاً في حالة بعض التوائم) بل هي في ما يجعل شخصيّتي وحضوري مميّزَيْن ومختلفَيْن، هو ما يجعل لوجودي نكهة فريدة في العالم (ولو أنّ الناس تتّفق وتتناغم). الفرادة الشخصيّة، الحضور الشخصيّ، ليس مُعطى جامد، بل هو حالة متحرّكة، حالة الإنسان الساعي لتحقيق طاقاته الفريدة، شخصيّته. الفرادة هي مسعى، ولهذا تكتنفها المخاطر ككلّ مسعى. هذا المسعى لتحقيق الفرادة، لتحقيق الإنسان شخصيّته الفريدة، وجوده الفريد، لتحقيق الـ"أنا"، يأتي من خلال تربية الأهل، والمدارس، والجمعيّات، والخبرات العلائقيّة المعيوشة، ومن خلال كلّ خطوة نخطوها.
لكن في مسيرة حياتنا كلّ إنسان يحتاج إلى أمرين في الآن نفسه: تحقيق الذات الفريدة وتحقيق المحبّة. المشكلة هي أنّ كلّ إنسان وبسبب أوضاعه الشخصيّة، ونمط التربيّة في المنزل والمدرسة، ونمط الخبرات والعلاقات التي نمرّ بها، وبسبب مخاوفه ورغباته وأوهامه، وخياراته الشخصيّة الخاطئة[3]، وخطيئته، يكون أمام خيار الاستغناء عن أحد قطبي سعيه الإنسانيّ: الفرادة والمحبّة. فإذا ما استغنى إنسان عن سعيه إلى الفرادة مقابل سعيه إلى المحبّة، يكون يرتكب خطأً جذريّاً لأنّ لا محبّة حقّة دون لقاء واتّحاد فرادَتَيْن أو فرادات. فإذا استغنى إنسان عن فرادته متوهّماً أنّه بذلك "يربح" تحقيق محبّة، لا يكون في الحقيقة يكسب سوى وهم اطمئنان لأنّه يكون سار في طريق ضرب وجوده وشخصيّته في الصميم، وعندها لا يحقّق محبّة بل عزلةً داخليّةً تلتهمه قليلاً قليلاً. إذا ما استغنى إنسان عن الفرادة لا يعود أمامه سوى الذوبان في الآخر، أو تذويب الآخر في ذاته؛ وعلى الصعيد الجماعة، لا يعود أمامه سوى الذوبان في الجماعة أو تذويبها فيه، أي لا يعود أمامه سوى الخضوع أو التحكّم، والأسلوبَيْن هما وجهَيْن لحالة واحدة: حالة انهزام الوجود الفريد وانهزام المحبّة. فالخضوع يُنشئ وهم محبّة، لأنّه يُنشئ وهم اتّحاد؛ والتحكّم أيضاً يُنشئ وهم محبّة لأنّه يُنشئ وهم اتّحاد أيضاً. الأسلوبَيْن يخلقان تبعيّة في العلاقة، وإذا كان من الواضح أنّ الخاضع(الذائب) تابع للمتحّكم، فإنّ المتحكّم (الذائب هو بدوره في المتحكَّم به أو بهم[4]) تابع للخاضع لأنّه يعطيه بخضوعه تأكيداً واهماً بأنهّ موجود (فالمتحكّم لا يعي الوجود إلاّ تحكّميّاً). لهذا فإنّ الأسلوبَيْن يتركان الإنسان بفرادة ركيكة ووهم محبّة، بضعف شخصيّة ومرارة غربة عن الآخر وعن...الذات؛ ولهذا فالأسلوبَيْن يُقيمان في الإنسان شعوراً صعباً بالذنب، ذنب تضييع الذات، تضييع الفرادة التي تمكّن الإنسان من أن يصير إنساناً حاضراً وحيّاً، ذنبٌ يخلقه شعورٌ غامض بأنّ الحياة تنساب بين الأيّام كالرمل.
أمّا إذا استغنى الإنسان عن المحبّة منقطعاً عن الناس، وظانّاً أنّه يتمسّك بما يعتبره "فرادة"، فيجفّ فيه الألق والحياة والحيويّة والفرح؛ ويقع لا محالة بالنمطين العلائقيَّيْن الذين ذكرناهما (الخضوع/التحكّم)؛ لأنّ ليس أمام الإنسان سوى اختيار المحبّة، وبالتالي عيش الحياة، أو إدارة الظهر للمحبّة وبالتالي تدمير الحياة وعيش دمارها.
هكذا وعلى عكس ما يبدو للوهلة الأولى، فإنّ المحبّة -وعلاقة الاتّحاد مع الآخر في الجماعة الكنسيّة وخارجها- مهدّدة إذا ما تهدّدت الفرادة. وبالتالي فإنّ تحقيق الفرادة هو شرط أساسيّ لتحقيق المحبّة والاتّحاد، بلا ذوبان وبلا تذويب. الحفاظ على الفرادة وتنميتها يُنشئ التمايز والاختلاف المبارَكَيْن[5]، ويمهّد سبل اللقاء والاتّحاد بين متمايزَيْن أو متمايزِين، يمهّد سبل المحبّة.
إنّ التشديد الواجب على الجماعة والاتّحاد ليس سوى تشديد على الوجه المشترك للخبرة البشريّة، خبرة الاتّحاد بالله وخبرة الاتّحاد بالبشر. إلاّ أنّ ما أردنا التأكيد عليه هنا هو أنّ هذا التشديد لا يستقيم إلاّ بالتشديد بالحدّة نفسها على الفرادة، وبالتالي على التمايز. الخلفيّة الإيمانيّة لهذه الرؤية هي الإيمان بالله الثالوث الذي نرى فيه تحقيق وحدة المحبّة مع تمايز وفرادة الأقانيم، وإنّني على ثقة بأنّ قطبيّ الوحدة والتمايز هما مفتاح الوجود الإنسانيّ.
الروح القدس يحقّق الوحدة، وحدة الناس-الكنيسة بالمسيح، والروح القدس هو أيضاً الذي يحقّق الفرادة في المؤمنين فهو الذي يوزع المواهب ويفعل في كلّ شخص بحسب فرادته (مكسيموس المعترف[6]) ليصير رسالةَ المسيح (2 كو 3:3)، رسالة حبّ فريدة.
خريستو المرّ
[1] بما أنّ الروح هو الذي يجعل سرّ الشكر ممكناً، فهو إذاً الذي يجعل الوحدة ممكنة، وهو بالتالي يُنشئ الكنيسة جسد المسيح.
[2] الخطيئة من هذا المنظار ليست فقط انفصال الإنسان عن الله والبشر بل انفصاله عن ذاته، تفسّخه الداخليّ، اغترابه عن ذاته.
[3] وكلّ هذه قد تسمّم حتّى نمط علاقتنا بالله
[4] لا فرق بين الذئب والمذوّب إذ يلتقيان بانتفاء فرادتيهما
[5] يقول يسوع أنّه كالراعي الصالح يدعو خرافه بأسمائها (يو10: 3)، أي بفرادتها
[6] إيروثيوس فلاخوس (الميتروبوليت)، العنصرة، تعريب الأب أنطوان ملكي، موقع إنترنت، http://www.orthodoxlegacy.org/Year2/VlachosPentecost.htm