الحرّية والفقر
نُشِرَت أجزاء من هذه المقالة في صحيفة النهار بتاريخ الاحد 9 شباط 2003
الحرّية والفقر
نُشِرَت أجزاء من هذه المقالة في صحيفة النهار بتاريخ الاحد 9 شباط 2003
"خضوع العبيد كلّهم لا يساوي نظرة واحدة جميلة لإنسان حرّ" (الشاعر شارل بيغي).
الله محبّة. لهذا خلقنا الله أحراراً، لأنّه أراد أن يخلق كائناً يشاركه المحبّة بحرّية، فخلق الإنسان وأعطاه العقل والحرّية والقدرة على الحبّ وهذه من صورة الله فينا. وترك الله للإنسان حرّية أن يبادل حبّ الله بحبّ أو يرفضه، حرّية أن ينفتح عليه، هو مصدر الحياة والفرح، أو أن ينغلق عنه فيقطع نفسه عن ينابيع الحياة، أن يُفَعّل الحبّ فيه أو يقزّمه ويعطّله ويتركه طاقة صامتة، أن ينفتح الإنسان على الإنسان فيلاقي إنسانيّته الأصيلة الرحبة أو ينغلق مستأثراً بذاته فتذبل هذه الذات فـ"من فقد حياته ربحها ومن خلّص حياته فقدها". ترك الله للإنسان، كما علّم المغبوط أغسطينس، أن يمارس "حرّيته الصغرى" أي حرّية الاختيار ليصل إلى "حرّيته الكبرى" أي الاتحاد بالله، ليصل إلى حبّ الله المفتوح على حبّ الإنسان الآخر.
الحرّية هي في صلب الإيمان المسيحي لأنّها في صلب كون الإنسان إنسان، المسيحيّة ترى الحرّية هبة الله-المحبّة للإنسان، بحيث أنّ نفيها أو التعدي عليها هو تعدٍّ على الله نفسه، لأنّها تعدٍّ على وجود الإنسان.
ولأنّ الله "يحبّ الإنسان حبّاً جنونيّاً"(القديس نيكولا كاباسيلاس) أتى المسيح وأكمل مشروع الله، أفصح عن الله بنقاء فعرفناه محبّة حين استشهد على الصليب، وقام غارساً طاقة قيامته في الإنسان ليقوى الإنسان على تجاوز كلّ موت، الموت الذي يلحقه بنفسه كالانغلاق، والموت الذي يلحقه به غيره كالظلم والاستعباد بأشكاله. هكذا فعّل المسيح الحبَّ في الإنسان بطاقةِ قيامته التي غرسها فيه، طعّم الحبَّ في الإنسان بالحبّ الإلهيّ جاعلاًنفسه جسراً يصل الإنسان بالله المحبوب مصدر كلّ حياة، مصدر دحرٍ لكلّ موت. نفخ المسيح بقيامته في أشرعة الحبّ الإنسانيّ ليعضد الإنسان في رحلته إلى الله، هذه الرحلة التي دشّن الوصولَ فيها الإنسانُ يسوع المسيح نفسه. هكذا يحرّر المسيح كلّ إنسان، إن أراد ذلك الإنسان، من أصل الخطايا وهي الانغلاق، انغلاق الإنسان عن اخيه الإنسان وعن الله مصدر الحياة والفرح والحرّية، حتى يكون الإنسان حبّاً حرّاً أبناً لله لا عبداً لأحد، "قد اشتريتم بثمن(أي حرّرتم) فلا تصيروا عبيداً للناس"(1 كو 7 : 23).
***
كلّ انغلاق موت، انتحار، قتلٌ للذات، لأنّ الذات الإنسانيّة لا تحيا إلاّ بالانفتاح على الله، والانفتاح على الله لا يكون إلاّ بمحبّة الإنسان الآخر والسعي إلى صون كرامته الإنسانيّة من حرّية وحقوق في التغذية والتعلّم والسكن الكريم والطبابة... "لأنّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه"(1 يو 4 : 20).
عبوديّتنا الكبرى هي في الانغلاق العمليّ عن الله وعن الإنسان لأنّ في ذلك موتنا، الإنسان مشارك هو أو لا يكون. حرّيتنا هي أن نبقى على الحبّ، والحبّ مسيرة لا تنتهي يتخلّلها الكثير من الفرح والحزن، من الخيبات والانتصارات، من الأخطاء والتعلّم، من التراجع والتقدّم. هذا الحبّ لا يعزلنا عن مجرى المجتمع الذي نحيا فيه، بل يرمينا مباشرة في قلب العالم والاهتمام بالسياسة والاقتصاد والتربية... لأنّ هذه كلّها تهتمّ بحياة الانسان وكرامته، والقرارات فيها قد تكون باتجاه يخالف المحبّة. المحبّة ليست كلمة أو فكرة فقط إنّها حياة تعاش مع الله والآخرين، فإن كان الله محبّة يبقى علينا أن نشدّ أيّامنا وسياساتنا واقتصادنا إلى الله بمعنى أن نجعل هذه كلّها خادمةً للانسان وحاملة أسس المشاركة والعدل والحرّية. كم من نظام سياسيّ أو اقتصاديّ وكم من قانون كان أو لا يزال ضدّ الانسان وبالتالي ضدّ الله. فكلّ مصادرة لحرّية إنسان أو انتهاك لها هي تصرّف ضدّ صورة الله التي في المقهور (صورة الله فسّرها الآباء بأنّها الحرّية والعقل)، وهي أيضاً ضدّ صورة الله التي في القاهر لأنّ القاهر يعطّل المحبّة التي فيه ويشوّهها وينحرعقله وحرّيته بالتزام العزلة. القهر إذاً تصرّف يمسّ الله في الصميم وينقضّ على مشروعه بتحرير الإنسان. كذلك كلّ تفقير واستضعاف وتهميش لإنسان أو مجموعة من الناس في المجتمع يمسّ المسيحيّين مباشرة في إيمانهم ويدعوهم أن يعملوا بالمحبّة أي أن يناهضوا كلّ ظلم بلا حقد وبلا عنف.كيف ننام والفقراء والمستضعفين هم لحم المسيح كما قال القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم موبّخاً "إنّك تحترم هذا المذبح حينما ينزل عليه جسم المسيح ولكنّك تهمل وتبقى غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح" أي الفقراء؛ وقيل أيضاً في العهد القديم "قلّة من الطعام هي حياة الفقراء، من يحرمهم منها يرتكب اغتيالاً، إنّه قاتل قريبه ذاك الذي ينتزع منه قوته، إنه يهرق الدم من يحرم الأجير حقّه" (حكمة يشوع بن سيراخ 14 : 20-22)، هذا كلامٌ حاليٌ جدّاً.
إذا كان كلّ ما يتّصل بحياة كلّ إنسان هو من صميم اهتمام الله-المحبّة فيجب أن يكون من صميم اهتمام كلّ مسيحيّ، على أن نذكر أنّ كلّ إنسان هو مخلوق على صورة الله ومثاله، وأنّ الحلول التي قد نستنبطها ستكون مختلفة ومتنوّعة لأنّ الفكر الإنسان متنوّع، وأنّها الحلول غير مطلقة بل نسبيّة ومترجرجة كما هي حال البشر كلّهم، فإنّه ولو اتخذنا الله أفقاً ورفيقاً يبقى أنّ أفكارنا وعلمنا وحلولنا نسبيّة كما كلّ شيء في العالم. غير أنّنا أن نبقى على الحبّ، وأن نبقى على الحبّ هو أن نلتزم جسد هذه الأرض ونبثّ فيها، رغم ضعفاتنا، روح الله لتتجدّد، هكذا نتمتم الله في حياة الإنسان المجتمعيّة،فتكون حياتنا معموديّة للأرض. الأرض هذه مكان ترجمةِ الملكوت، مكان لنتمّم ورشة المسيح التي أعلنها بأخذه على عاتقه ما كتبه إشعياء النبي "روح الربّ عليّ لأنّه مسحني وأرسلني لأبشّر الفقراء وأبلّغ المأسورين إطلاق سبيلهم وأفرّج عن المظلومين"(لو 4 : 18). المسيح قصد أن نلتزم هذه الأرض حينما خاطب الآب قائلاً "لا أطلب منك أن ترفعهم عن العالم بل أن تحفظهم من الشرّير"(يو17 : 15). نحن نؤمن أنّ زمن الملكوت الذي نسعى إليه، أو يسعى إلينا، هو آتٍ وهو حاضرٌ بآن.
إن أعطينا لله ما لله، أي إن ذقنا "أنّ الربّ طيّب" فرغبنا "بلبن كلمة الله"(بط1 2: 2-3) أعطينا لله قلوبنا، لتصير لنا، وعشنا بحسب المحبّة مفتّشين عن كلّ فقر وعاملين على رفعه، راصدين لكلّ انتهاك لحرّية إنسان أو جماعة ومجدّين في فضحه وفي الدفاع عن حرّية الناس، متحسّسين لكلّ ظلمٍ وملتقين مع إخوتنا في المواطنيّة عاملين على صدّه. يبقى علينا أن نعطي لقيصر ما لقيصر أي أن ننكبّ على الجدّية والعلم والتخطيط لنعمل بعقل وصبر. فالإيمان عليه الاقتران بالأعمال، أي بالحياة، عبر مسعانا إلى ترجمة المحبّة في حياة مجتمعنا بأبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة وغيرها، هكذا نبقى على حبّ، هكذا نبقى على حرّية.
في كلّ هذا لا نيأس حين نرى أنّ الظلم عميم وأنّ رفعه يحتاج إلى جهود وأموال لا نراها متوفّرة، واثقين بالمسيح متلمّسين وجهه في الصلاة وفي الوجوه. في اليأس شيء من تخلٍ عن المسيح، وفي الاستسلام الإنسان خاسرٌ سلفاً، الإنسان هذا الذي هو نحن، البشر كلّنا، متشاركين في التحاب وخدمة الحياة.
***
ماذا نرى في حاضر بلدنا؟ وأين نفعل؟ في رأيي القضيّتان الأساسيّتان في القرن الحالي هما الحرّية والفقر، وهما مرتبطتان. وفي لبنان هما قضيّتان بمشاكل مضاعفة بسبب غياب قوانين أو غياب تنفيذها.
فالحرّية عندنا مهدّدة بالقوّة السافرة، وهذا أمرٌ واضحٌ، فمنذ مدّة يسيرة كانت حرّية أهل الجنوب مكسورة من قبل الاحتلال الإسرائيليّ؛ وفي الحرب كانت حرّية المواطنين رهينة قبضة من الميليشاويّين في المناطق كلّها، لكنّ الأبشع أن تكون حريّة المواطنين مهدّدة بعد الحروب، بقوّة تذهب من حدّالضرب والركل إلى حدّ القتل، مروراً بإطلاق النار و"التشبيح" على المواطنين.
لكنّ ما هو غير واضح كفاية أنّ الحرّية مهدّدة بشكل عنيفٍ ومقنّعٍ في آن. هو عنف بعض المتموّلين الذين، منذ انتهاء الحرب، يهدّدون حرّيتنا بطريقتين:التفقير والإعلام.
فبعض المتموّلين السياسيّين ساهموا في حالة الفقر الذي وصلنا إليه، والتفقير هو عنفٌ مباشر ودمويّ، وإن تكن دمويته غير واضحة، لأنّه يخنق حاضر المواطنين ومستقبلهم. فالفقراء مرتهنو الحرّية لأنّ إمكاناتهم التي سلبهم معظمها بعض المتموّلين والسياسيّين ما عادت تسمح لهم بكثير من الخيارات من جهة الطعام والسكن والطبابة والتعلّم. هذا قتلٌ مستترٌ في لبنان. هنا لا ننسى فقر الدم وتبعاته على القدرات الذهنيّة وارتباط هذه بالنجاح المدرسي، وهذا الأخير بالنجاح في العمل.
كما أنّ التفقير الممارس على المواطنين يجعلهم عرضة لارتهان حرّيتهم في الإنتخابات حيث يُجَرَّبوا بأن يبيعوا أصواتهم لمن يدفع لهم مالاً أو "يخدمهم" أي يستعمل نفوذه لوساطة ما. فبدل أن تكون الدولة قادرة على تأمين حاجات المواطنين فإذا بفعل الديون المتراكمة، بسبب اللصوصيّة إلى حدّ كبير، تصير الدولة عاجزة ويحلّ محلّها بعض السياسيّين المتموّلين فيصرفون "لخدمة" المواطنين الفقراء جزءاً يسيراً ممّا سرقوه منهم أصلاً. "بالخدمة"التي هي تشويه لما هو أصلاً حقّ المواطنين، يصير المواطنون مرتهني الحرّية.
والطريقة الأخرى لتهديد الحرّية في لبنان بشكل مستتر والتي لا تقلّ فداحةً عن الأولى هي الإعلام الأحاديّ الفكر. فبواسطة تملّك وسائل إعلام وفي ظلّ غياب تنظيم ورقابة حضاريّتين، رصينتين، فعّالتين، ومستقلّتين للمجلس الوطني للاعلام المرئي والمسموع، يسعى المتموّلين السياسيّين أن "يدجّنوا" المواطنين أي أن يقنعوهم بأمر ما يناسب مصلحة هؤلاء الماليّة والسلطويّة وذلك ببثّ الخطاب المطلوب ذاته في وسائل الإعلام خاصتهم وفي خضمّ هذا الخطاب المتكرّر الذي يحاصر المواطن، لا يصل إلى هذا الأخير سوى حقيقة مجتزأة و مشوّهة أو حتى أكاذيب إن لزم الأمر. كما أنّ من الممكن تغييب بعض المعلومات لأنّها تضرّ بمصالح شخصيّة. المشكلة هي في إغراق المواطن ومحاصرته بفكر أحاديّ الجانب لا يأخذ بالاعتبار سوى المصلحة الماليّة أو السياسيّة لبعض المتموّلين السياسيّين الممتلكين أحياناً لعدّة وسائل إعلام والمؤثرين في بعضها الآخر. هذا الهجوم الشرس على حرّية المواطنين مقنّعٌ، مستتر، وهنا يكمن خطره لأنّه يأتي بطريقة ذكيّة، جذّابة "بصورة ملاك نورانيّ". من دواعي الإيجابية أنّ خلاف المتسلّطين بالإعلام المرئيّ يجعلهم يكشفون خطايا وأخطاء بعضهم البعض. ربما مأساة الوضع أنّ هذه المؤسسات هي طائفيّة الطابع في الغالب، ويتساءل المرء كيف سيكون الحال لو اتفقوا على تقاسم "الجبنة"؟ يبقى على كلّ أمرٌ بالغ الأهميّة وهو أنّ أخطاء الحريّة لا يصحّحها إلا المزيد من الحرّية والتربية وليس المزيد من القمع والتدجين.
التفقير، ذلك القتل المعنويّ والجسديّ بلا دمٍ مسفوك ولكن بوجوه مسفوكةِ المستقبل والحاضر، مسفوكةِ الفرح، مسفوكةِ الحرّية -هذه الحرّية المهددة بالقوّة السافرة وبالتفقير وبوسائل إعلام أحاديّة الفكر- هذا تحدّ للتائقين إلى الحرّية في لبنان. المسيحيّون معنيّون بهذه الحرّية مع إخوتهم في المواطنيّة لأنّ هذا من صلب إيمانهم عالمين أنّ حرّية المسيحي وفقره مهمّتين كحرّية وفقر المسلم، وحرّيتهما وفقرهما بأهميّة حريّة وفقر اللاأدري والملحد.
لكنّ للحرّية تهديدٌ خاص في لبنان وهو الطائفيّة الجلّية في الطوائف جميعها بلا استثناء. فما الذي يدعونا إلى عدم التضامن كلبنانيّين من كل ّالطوائف لدفع هذه المحاصرة للحرّية والتفقير للناس الذين يقعان على كلّ اللبنانيّين من كلّ الطوائف سوى أنّنا ملتزمون انغلاقنا على طوائفنا. نحن في معظمنا نتحسّس لظلمٍ إذا أصاب طائفتنا بشكل خاص ولا نتحسّس ونتضامن لظلم يصيب طائفة أخرى أو يصيب المواطنين من جميع الطوائف. نحن غير ملتزمين كفاية حرّية بعضنا البعض، حرّيتنا وخبزنا جميعاً. إنّ الفرز الطائفيّ الذي نشهده حول مختلف القضايا دليل على ذلك. ثمّ لننتبه أنّ للطائفيّة عدّة روافد إحداها هي بعض وسائل الإعلام التي تعمّق الفرز بدل أن تسعى للحمة الناس حول مصالحهم العامة. الطائفيّة، هذا التديّن-المسخ، في عمقها هي بعد عن الله واستبداله بصنم الطائفة. الطائفيّة عودة لعبادة أصنام وفي لبنان ثمانية عشر صنماً للطائفيّين من جميع الطوائف. المسيحيّون مدعوّون أن يسمعوا من تسمّوا باسمه ويعاشروه ولا يغتربون عنه، فيكونوا "ملح الأرض" مندمجين في المجتمع، كما الملح في الطعام، ليزيدوا نكهة المسيح على الحياة المجتمعيّة، ونكهة المسيح هي شيء واحد وهو المحبّة الخادمة للكلّ وتوأم المحبّة وهي الحرّية. "من أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليكن للكلّ خادماً". أن يكون أحدنا مسيحيّاً ليس ذلك امتياز ترفّع إنّه تميّز خدمة وتواصل. هذه خطوة قد تكسر هذه الحلقة الجهنميّة من تكالب على "حقوق" الطوائف في لبنان.
***
مناهضة القمع بكل أشكاله ومنها التفقير والفكر الأحاديّ والطائفيّة هي عمل من صلب الإنجيل وأظنّها من صلب كلّ إيمان بالله وكلّ محبّة للإنسان، لأنّ القمع يضغط على الحرّية وبالتالي على العيش الإنسانيّ وعلى العيش الروحيّ إذ يشتّت أبناء الله عن الله وعن بعضهم البعض بحدّ القلّة أو التدجين أو الانغلاق ليتبعوا أصنام طوائفهم فيستعبدهم زعماؤهم و/أو حقدهم، وفي الحالتين يبقون سليبي الحرّية.
الحرّية مكوّن أساسيّ في الإنسان المخلوق على صورة الله. التزام رياديٍ للمسيحيّين المخلصين لإيمانهم، مع إخوتهم في المواطنيّة، للإنسان، كلّ إنسان، في عملٍ مشتركٍ للدفاع عن إنسانيّتنا جميعاً وحده يحمل للبنان خلاصاً حقّاً نجتاز فيه "وادي ظلال الموت" ربّما خائفين لكن أحياء متحرّكين، واثقين بمعلّمنا الأوحد يسوع المسيح الذي يهتم بالمحبّين القلّة "لا تخف أيّها القطيع الصغير"، فإن التصقنا به فتح هو حياتنا على البشر أجمعين، هذه تكون مساهمتنا في البشارة، البشارة بهذه الورشة التي أطلقها المسيح في الكون، ورشة الحبّ والمشاركة ، مشاركة أحرار، حبّ أحرار، إلى أن نلتقيه ونشرب معه "الخمرة جديدة"، أي الفرح، في ملكوت معيّته، ملكوت الحرّية ، بعد أن نكون قد هجّأناه على الأرض.
خريستو المرّ
نُشِرَت أجزاء من هذه المقالة في صحيفة النهار بتاريخ الاحد 9 شباط 2003
"خضوع العبيد كلّهم لا يساوي نظرة واحدة جميلة لإنسان حرّ" (الشاعر شارل بيغي).
الله محبّة. لهذا خلقنا الله أحراراً، لأنّه أراد أن يخلق كائناً يشاركه المحبّة بحرّية، فخلق الإنسان وأعطاه العقل والحرّية والقدرة على الحبّ وهذه من صورة الله فينا. وترك الله للإنسان حرّية أن يبادل حبّ الله بحبّ أو يرفضه، حرّية أن ينفتح عليه، هو مصدر الحياة والفرح، أو أن ينغلق عنه فيقطع نفسه عن ينابيع الحياة، أن يُفَعّل الحبّ فيه أو يقزّمه ويعطّله ويتركه طاقة صامتة، أن ينفتح الإنسان على الإنسان فيلاقي إنسانيّته الأصيلة الرحبة أو ينغلق مستأثراً بذاته فتذبل هذه الذات فـ"من فقد حياته ربحها ومن خلّص حياته فقدها". ترك الله للإنسان، كما علّم المغبوط أغسطينس، أن يمارس "حرّيته الصغرى" أي حرّية الاختيار ليصل إلى "حرّيته الكبرى" أي الاتحاد بالله، ليصل إلى حبّ الله المفتوح على حبّ الإنسان الآخر.
الحرّية هي في صلب الإيمان المسيحي لأنّها في صلب كون الإنسان إنسان، المسيحيّة ترى الحرّية هبة الله-المحبّة للإنسان، بحيث أنّ نفيها أو التعدي عليها هو تعدٍّ على الله نفسه، لأنّها تعدٍّ على وجود الإنسان.
ولأنّ الله "يحبّ الإنسان حبّاً جنونيّاً"(القديس نيكولا كاباسيلاس) أتى المسيح وأكمل مشروع الله، أفصح عن الله بنقاء فعرفناه محبّة حين استشهد على الصليب، وقام غارساً طاقة قيامته في الإنسان ليقوى الإنسان على تجاوز كلّ موت، الموت الذي يلحقه بنفسه كالانغلاق، والموت الذي يلحقه به غيره كالظلم والاستعباد بأشكاله. هكذا فعّل المسيح الحبَّ في الإنسان بطاقةِ قيامته التي غرسها فيه، طعّم الحبَّ في الإنسان بالحبّ الإلهيّ جاعلاًنفسه جسراً يصل الإنسان بالله المحبوب مصدر كلّ حياة، مصدر دحرٍ لكلّ موت. نفخ المسيح بقيامته في أشرعة الحبّ الإنسانيّ ليعضد الإنسان في رحلته إلى الله، هذه الرحلة التي دشّن الوصولَ فيها الإنسانُ يسوع المسيح نفسه. هكذا يحرّر المسيح كلّ إنسان، إن أراد ذلك الإنسان، من أصل الخطايا وهي الانغلاق، انغلاق الإنسان عن اخيه الإنسان وعن الله مصدر الحياة والفرح والحرّية، حتى يكون الإنسان حبّاً حرّاً أبناً لله لا عبداً لأحد، "قد اشتريتم بثمن(أي حرّرتم) فلا تصيروا عبيداً للناس"(1 كو 7 : 23).
***
كلّ انغلاق موت، انتحار، قتلٌ للذات، لأنّ الذات الإنسانيّة لا تحيا إلاّ بالانفتاح على الله، والانفتاح على الله لا يكون إلاّ بمحبّة الإنسان الآخر والسعي إلى صون كرامته الإنسانيّة من حرّية وحقوق في التغذية والتعلّم والسكن الكريم والطبابة... "لأنّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه"(1 يو 4 : 20).
عبوديّتنا الكبرى هي في الانغلاق العمليّ عن الله وعن الإنسان لأنّ في ذلك موتنا، الإنسان مشارك هو أو لا يكون. حرّيتنا هي أن نبقى على الحبّ، والحبّ مسيرة لا تنتهي يتخلّلها الكثير من الفرح والحزن، من الخيبات والانتصارات، من الأخطاء والتعلّم، من التراجع والتقدّم. هذا الحبّ لا يعزلنا عن مجرى المجتمع الذي نحيا فيه، بل يرمينا مباشرة في قلب العالم والاهتمام بالسياسة والاقتصاد والتربية... لأنّ هذه كلّها تهتمّ بحياة الانسان وكرامته، والقرارات فيها قد تكون باتجاه يخالف المحبّة. المحبّة ليست كلمة أو فكرة فقط إنّها حياة تعاش مع الله والآخرين، فإن كان الله محبّة يبقى علينا أن نشدّ أيّامنا وسياساتنا واقتصادنا إلى الله بمعنى أن نجعل هذه كلّها خادمةً للانسان وحاملة أسس المشاركة والعدل والحرّية. كم من نظام سياسيّ أو اقتصاديّ وكم من قانون كان أو لا يزال ضدّ الانسان وبالتالي ضدّ الله. فكلّ مصادرة لحرّية إنسان أو انتهاك لها هي تصرّف ضدّ صورة الله التي في المقهور (صورة الله فسّرها الآباء بأنّها الحرّية والعقل)، وهي أيضاً ضدّ صورة الله التي في القاهر لأنّ القاهر يعطّل المحبّة التي فيه ويشوّهها وينحرعقله وحرّيته بالتزام العزلة. القهر إذاً تصرّف يمسّ الله في الصميم وينقضّ على مشروعه بتحرير الإنسان. كذلك كلّ تفقير واستضعاف وتهميش لإنسان أو مجموعة من الناس في المجتمع يمسّ المسيحيّين مباشرة في إيمانهم ويدعوهم أن يعملوا بالمحبّة أي أن يناهضوا كلّ ظلم بلا حقد وبلا عنف.كيف ننام والفقراء والمستضعفين هم لحم المسيح كما قال القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم موبّخاً "إنّك تحترم هذا المذبح حينما ينزل عليه جسم المسيح ولكنّك تهمل وتبقى غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح" أي الفقراء؛ وقيل أيضاً في العهد القديم "قلّة من الطعام هي حياة الفقراء، من يحرمهم منها يرتكب اغتيالاً، إنّه قاتل قريبه ذاك الذي ينتزع منه قوته، إنه يهرق الدم من يحرم الأجير حقّه" (حكمة يشوع بن سيراخ 14 : 20-22)، هذا كلامٌ حاليٌ جدّاً.
إذا كان كلّ ما يتّصل بحياة كلّ إنسان هو من صميم اهتمام الله-المحبّة فيجب أن يكون من صميم اهتمام كلّ مسيحيّ، على أن نذكر أنّ كلّ إنسان هو مخلوق على صورة الله ومثاله، وأنّ الحلول التي قد نستنبطها ستكون مختلفة ومتنوّعة لأنّ الفكر الإنسان متنوّع، وأنّها الحلول غير مطلقة بل نسبيّة ومترجرجة كما هي حال البشر كلّهم، فإنّه ولو اتخذنا الله أفقاً ورفيقاً يبقى أنّ أفكارنا وعلمنا وحلولنا نسبيّة كما كلّ شيء في العالم. غير أنّنا أن نبقى على الحبّ، وأن نبقى على الحبّ هو أن نلتزم جسد هذه الأرض ونبثّ فيها، رغم ضعفاتنا، روح الله لتتجدّد، هكذا نتمتم الله في حياة الإنسان المجتمعيّة،فتكون حياتنا معموديّة للأرض. الأرض هذه مكان ترجمةِ الملكوت، مكان لنتمّم ورشة المسيح التي أعلنها بأخذه على عاتقه ما كتبه إشعياء النبي "روح الربّ عليّ لأنّه مسحني وأرسلني لأبشّر الفقراء وأبلّغ المأسورين إطلاق سبيلهم وأفرّج عن المظلومين"(لو 4 : 18). المسيح قصد أن نلتزم هذه الأرض حينما خاطب الآب قائلاً "لا أطلب منك أن ترفعهم عن العالم بل أن تحفظهم من الشرّير"(يو17 : 15). نحن نؤمن أنّ زمن الملكوت الذي نسعى إليه، أو يسعى إلينا، هو آتٍ وهو حاضرٌ بآن.
إن أعطينا لله ما لله، أي إن ذقنا "أنّ الربّ طيّب" فرغبنا "بلبن كلمة الله"(بط1 2: 2-3) أعطينا لله قلوبنا، لتصير لنا، وعشنا بحسب المحبّة مفتّشين عن كلّ فقر وعاملين على رفعه، راصدين لكلّ انتهاك لحرّية إنسان أو جماعة ومجدّين في فضحه وفي الدفاع عن حرّية الناس، متحسّسين لكلّ ظلمٍ وملتقين مع إخوتنا في المواطنيّة عاملين على صدّه. يبقى علينا أن نعطي لقيصر ما لقيصر أي أن ننكبّ على الجدّية والعلم والتخطيط لنعمل بعقل وصبر. فالإيمان عليه الاقتران بالأعمال، أي بالحياة، عبر مسعانا إلى ترجمة المحبّة في حياة مجتمعنا بأبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والتربويّة وغيرها، هكذا نبقى على حبّ، هكذا نبقى على حرّية.
في كلّ هذا لا نيأس حين نرى أنّ الظلم عميم وأنّ رفعه يحتاج إلى جهود وأموال لا نراها متوفّرة، واثقين بالمسيح متلمّسين وجهه في الصلاة وفي الوجوه. في اليأس شيء من تخلٍ عن المسيح، وفي الاستسلام الإنسان خاسرٌ سلفاً، الإنسان هذا الذي هو نحن، البشر كلّنا، متشاركين في التحاب وخدمة الحياة.
***
ماذا نرى في حاضر بلدنا؟ وأين نفعل؟ في رأيي القضيّتان الأساسيّتان في القرن الحالي هما الحرّية والفقر، وهما مرتبطتان. وفي لبنان هما قضيّتان بمشاكل مضاعفة بسبب غياب قوانين أو غياب تنفيذها.
فالحرّية عندنا مهدّدة بالقوّة السافرة، وهذا أمرٌ واضحٌ، فمنذ مدّة يسيرة كانت حرّية أهل الجنوب مكسورة من قبل الاحتلال الإسرائيليّ؛ وفي الحرب كانت حرّية المواطنين رهينة قبضة من الميليشاويّين في المناطق كلّها، لكنّ الأبشع أن تكون حريّة المواطنين مهدّدة بعد الحروب، بقوّة تذهب من حدّالضرب والركل إلى حدّ القتل، مروراً بإطلاق النار و"التشبيح" على المواطنين.
لكنّ ما هو غير واضح كفاية أنّ الحرّية مهدّدة بشكل عنيفٍ ومقنّعٍ في آن. هو عنف بعض المتموّلين الذين، منذ انتهاء الحرب، يهدّدون حرّيتنا بطريقتين:التفقير والإعلام.
فبعض المتموّلين السياسيّين ساهموا في حالة الفقر الذي وصلنا إليه، والتفقير هو عنفٌ مباشر ودمويّ، وإن تكن دمويته غير واضحة، لأنّه يخنق حاضر المواطنين ومستقبلهم. فالفقراء مرتهنو الحرّية لأنّ إمكاناتهم التي سلبهم معظمها بعض المتموّلين والسياسيّين ما عادت تسمح لهم بكثير من الخيارات من جهة الطعام والسكن والطبابة والتعلّم. هذا قتلٌ مستترٌ في لبنان. هنا لا ننسى فقر الدم وتبعاته على القدرات الذهنيّة وارتباط هذه بالنجاح المدرسي، وهذا الأخير بالنجاح في العمل.
كما أنّ التفقير الممارس على المواطنين يجعلهم عرضة لارتهان حرّيتهم في الإنتخابات حيث يُجَرَّبوا بأن يبيعوا أصواتهم لمن يدفع لهم مالاً أو "يخدمهم" أي يستعمل نفوذه لوساطة ما. فبدل أن تكون الدولة قادرة على تأمين حاجات المواطنين فإذا بفعل الديون المتراكمة، بسبب اللصوصيّة إلى حدّ كبير، تصير الدولة عاجزة ويحلّ محلّها بعض السياسيّين المتموّلين فيصرفون "لخدمة" المواطنين الفقراء جزءاً يسيراً ممّا سرقوه منهم أصلاً. "بالخدمة"التي هي تشويه لما هو أصلاً حقّ المواطنين، يصير المواطنون مرتهني الحرّية.
والطريقة الأخرى لتهديد الحرّية في لبنان بشكل مستتر والتي لا تقلّ فداحةً عن الأولى هي الإعلام الأحاديّ الفكر. فبواسطة تملّك وسائل إعلام وفي ظلّ غياب تنظيم ورقابة حضاريّتين، رصينتين، فعّالتين، ومستقلّتين للمجلس الوطني للاعلام المرئي والمسموع، يسعى المتموّلين السياسيّين أن "يدجّنوا" المواطنين أي أن يقنعوهم بأمر ما يناسب مصلحة هؤلاء الماليّة والسلطويّة وذلك ببثّ الخطاب المطلوب ذاته في وسائل الإعلام خاصتهم وفي خضمّ هذا الخطاب المتكرّر الذي يحاصر المواطن، لا يصل إلى هذا الأخير سوى حقيقة مجتزأة و مشوّهة أو حتى أكاذيب إن لزم الأمر. كما أنّ من الممكن تغييب بعض المعلومات لأنّها تضرّ بمصالح شخصيّة. المشكلة هي في إغراق المواطن ومحاصرته بفكر أحاديّ الجانب لا يأخذ بالاعتبار سوى المصلحة الماليّة أو السياسيّة لبعض المتموّلين السياسيّين الممتلكين أحياناً لعدّة وسائل إعلام والمؤثرين في بعضها الآخر. هذا الهجوم الشرس على حرّية المواطنين مقنّعٌ، مستتر، وهنا يكمن خطره لأنّه يأتي بطريقة ذكيّة، جذّابة "بصورة ملاك نورانيّ". من دواعي الإيجابية أنّ خلاف المتسلّطين بالإعلام المرئيّ يجعلهم يكشفون خطايا وأخطاء بعضهم البعض. ربما مأساة الوضع أنّ هذه المؤسسات هي طائفيّة الطابع في الغالب، ويتساءل المرء كيف سيكون الحال لو اتفقوا على تقاسم "الجبنة"؟ يبقى على كلّ أمرٌ بالغ الأهميّة وهو أنّ أخطاء الحريّة لا يصحّحها إلا المزيد من الحرّية والتربية وليس المزيد من القمع والتدجين.
التفقير، ذلك القتل المعنويّ والجسديّ بلا دمٍ مسفوك ولكن بوجوه مسفوكةِ المستقبل والحاضر، مسفوكةِ الفرح، مسفوكةِ الحرّية -هذه الحرّية المهددة بالقوّة السافرة وبالتفقير وبوسائل إعلام أحاديّة الفكر- هذا تحدّ للتائقين إلى الحرّية في لبنان. المسيحيّون معنيّون بهذه الحرّية مع إخوتهم في المواطنيّة لأنّ هذا من صلب إيمانهم عالمين أنّ حرّية المسيحي وفقره مهمّتين كحرّية وفقر المسلم، وحرّيتهما وفقرهما بأهميّة حريّة وفقر اللاأدري والملحد.
لكنّ للحرّية تهديدٌ خاص في لبنان وهو الطائفيّة الجلّية في الطوائف جميعها بلا استثناء. فما الذي يدعونا إلى عدم التضامن كلبنانيّين من كل ّالطوائف لدفع هذه المحاصرة للحرّية والتفقير للناس الذين يقعان على كلّ اللبنانيّين من كلّ الطوائف سوى أنّنا ملتزمون انغلاقنا على طوائفنا. نحن في معظمنا نتحسّس لظلمٍ إذا أصاب طائفتنا بشكل خاص ولا نتحسّس ونتضامن لظلم يصيب طائفة أخرى أو يصيب المواطنين من جميع الطوائف. نحن غير ملتزمين كفاية حرّية بعضنا البعض، حرّيتنا وخبزنا جميعاً. إنّ الفرز الطائفيّ الذي نشهده حول مختلف القضايا دليل على ذلك. ثمّ لننتبه أنّ للطائفيّة عدّة روافد إحداها هي بعض وسائل الإعلام التي تعمّق الفرز بدل أن تسعى للحمة الناس حول مصالحهم العامة. الطائفيّة، هذا التديّن-المسخ، في عمقها هي بعد عن الله واستبداله بصنم الطائفة. الطائفيّة عودة لعبادة أصنام وفي لبنان ثمانية عشر صنماً للطائفيّين من جميع الطوائف. المسيحيّون مدعوّون أن يسمعوا من تسمّوا باسمه ويعاشروه ولا يغتربون عنه، فيكونوا "ملح الأرض" مندمجين في المجتمع، كما الملح في الطعام، ليزيدوا نكهة المسيح على الحياة المجتمعيّة، ونكهة المسيح هي شيء واحد وهو المحبّة الخادمة للكلّ وتوأم المحبّة وهي الحرّية. "من أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليكن للكلّ خادماً". أن يكون أحدنا مسيحيّاً ليس ذلك امتياز ترفّع إنّه تميّز خدمة وتواصل. هذه خطوة قد تكسر هذه الحلقة الجهنميّة من تكالب على "حقوق" الطوائف في لبنان.
***
مناهضة القمع بكل أشكاله ومنها التفقير والفكر الأحاديّ والطائفيّة هي عمل من صلب الإنجيل وأظنّها من صلب كلّ إيمان بالله وكلّ محبّة للإنسان، لأنّ القمع يضغط على الحرّية وبالتالي على العيش الإنسانيّ وعلى العيش الروحيّ إذ يشتّت أبناء الله عن الله وعن بعضهم البعض بحدّ القلّة أو التدجين أو الانغلاق ليتبعوا أصنام طوائفهم فيستعبدهم زعماؤهم و/أو حقدهم، وفي الحالتين يبقون سليبي الحرّية.
الحرّية مكوّن أساسيّ في الإنسان المخلوق على صورة الله. التزام رياديٍ للمسيحيّين المخلصين لإيمانهم، مع إخوتهم في المواطنيّة، للإنسان، كلّ إنسان، في عملٍ مشتركٍ للدفاع عن إنسانيّتنا جميعاً وحده يحمل للبنان خلاصاً حقّاً نجتاز فيه "وادي ظلال الموت" ربّما خائفين لكن أحياء متحرّكين، واثقين بمعلّمنا الأوحد يسوع المسيح الذي يهتم بالمحبّين القلّة "لا تخف أيّها القطيع الصغير"، فإن التصقنا به فتح هو حياتنا على البشر أجمعين، هذه تكون مساهمتنا في البشارة، البشارة بهذه الورشة التي أطلقها المسيح في الكون، ورشة الحبّ والمشاركة ، مشاركة أحرار، حبّ أحرار، إلى أن نلتقيه ونشرب معه "الخمرة جديدة"، أي الفرح، في ملكوت معيّته، ملكوت الحرّية ، بعد أن نكون قد هجّأناه على الأرض.
خريستو المرّ