الحرّية في المسيح والعمل الوطنيّ
النور، السنة 64، العدد 8، 2008
1 الحرّية مسؤوليّة كلّ إنسان وتتطلّب حركة وفعلاً إنسانيّين عندما نتحدّث عن الحرّية عادةً ما نضعها في باب حقوق الإنسان؛ لكن من الممكن، بل الضروري، أن نرى الحرّية من زاوية المسؤوليّةالإنسانيّة والإيمانيّة. فمن وجهة نظر إيمانيّة الحرّية واجب، أو "هي وعيُ واجبِ [الإنسان] تجاه الله بأن يتصرّف ككائن حرّ وليس كعبد" على حدّ قول نيقولا بردياييف، الفيلسوف الأرثوذكسيّ الروسيّ[1]. التراث المسيحيّ يرى الحرّية على أنّها قدرة موجودة في الإنسان غايتها التوحّد مع الله، ولكنّ خطيئة الإنسان جعلته غير قادر على المسير بحرّيته إلى التوحّد بالله، إلى أن أتى المسيح فأعطى الإنسان القدرة على التحرّر الكامل، أي على التوحّد بالله في الروح القدس الذي يتمّم فعل المسيح التحريريّ. حرّر المسيح كلّ إنسان بدمه، لكنّ هذا التحرير يتطلّب فعل الإنسان ومساهمته، فتحرير المسيح لنا هو إمكانيّة أعطانا إيّاها، أي أنّ الحرّية صارت ممكنة بواسطة طاقة المسيح القياميّة التي وهبنا إيّاها بقيامته وصعوده، فصرنا قادرين على التحرّر من الموت وأشكال الموت المختلفة بواسطة الروح القدس الذي أرسله ليسكن فينا.
لكنّ "اقتناء" الحرّية في المسيح هو عمل ديناميّ يقوم به الإنسان مع الله وليس أمراً حاصلاً بفعل الله وحده، ولهذا كان القدّيس سارافيم ساروفسكي يقول أنّ هدف الحياة المسيحيّة هو "اقتناء الروح القدس"، فكان يشير بكلمة "الاقتناء" إلى أنّ الاتّحاد بالله، بقواه غير المخلوقة التي تكلّم عنها غريغوريوس النيصصي، هو عمليّة ديناميّة تتطلّب جهداً بشريّاً وحركة إنسانيّة، وليست عمليّة سلبيّة فاترة يكون الإنسان فيها ساكناً متلقّياً فقط للروح بشكل فاتر. وهذا ما يتناغم مع اللاهوت الأرثوذكسيّ القائل بالتآزر (synergy) بين الله والبشر، بحيث أنّ الله يفعل مع البشر؛ ولطالما فهمت الكنيسة قبول مريم، والدة الإله، لتجسّد كلمة الله، على أنّه مثال رائع عن هذا التآزر الإلهيّ الإنسانيّ، إذ أن قبولها سمح لكلمة الله أن يصير إنساناً فيسكن بيننا.
2 الإنسان الحرّ هو الإنسان المحبّلكن ما معنى أن يكون الإنسان حرّاً في المسيح والروح؟ إن أردنا الوضوح والدقّة لقلنا أنّه لا توجد حرّية إنسانيّة بشكل عام بل يوجد حرّية شخصيّة، يوجد إنسان حرّ (أو غير حرّ)؛ الإنسان الفرد يمكنه أن يكون حرّاً بأن ينال التبنّي (أي أن يصير إبناً لله بالتبنّي)، بأن يتّحد بالله، بأن يصير كالله، بأن يحقّق مثال الصورة في ذاته. الإنسان الحرّ هو ذاك الذي يصير مشاركاً لقوى الثالوث؛ لكن نحن نعرف أنّ الثالوث محبّة، لهذا فمن وجهة نظر مسيحيّة يمكن القول بأنّ الإنسان الحرّ هو الإنسان المحبّ.
ولكن هذه النتيجة تمليها علينا ليس فقط قراءة إيمانيّة مسيحيّة، وإنّما أيضاً قراءة لخبرتنا اليوميّة على هذه الأرض، لخبرتنا الوجوديّة. فالإنسان ليس جزيرة، ولا يمكنه أن يكون جزيرة، فالإنسان محكوم عليه بالجنون، وربّما بالموت، إن كان في عزلة تامّة. لهذا فالإنسان يسعى لتجاوز العزلة، لكنّ تجاوز العزلة السطحيّ لا يكفي، إذ لا يكفي الإنسان أن يكون مع آخرين حتّى لا يكون معزولاً، بل يجب أن يكون في لقاء عميق مع الآخرين. فالعزلة يمكن أن تبقى قائمة حتّى ولو أنّ الإنسان كان في وسط الحشود[2]، وحينها تكون المعيّة تراصف بشر عوض أن تكون لقاء. إذاً ليس التواجدُ مع آخرين هو ما يجعل تجاوزَ العزلة حقيقيّاً، وإنّما لقاؤهم. اللقاء هو مفتاح تجاوز العزلة، واللقاء هو السعي إلى الإطلالة على الآخر من الداخل، من عمقه هو، هو أن يلتقي عمقي بعمقه، ممّا يؤدّي بنا إلى وحدة حال. اللقاء الحقّ هو مسعى وحدة.
الإنسان إذاً يسعى إلى تجاوز العزلة بالسعي إلى الوحدة، السؤال هنا هو حول نوعيّة الوحدة التي يحقّقها الإنسان في حياته. لا توجد أيّة إمكانيّة وحدة بدون إمكانيّة التمايز بين البشر، فاللقاء بالآخرين والتوحّد معهم لا يمكن أن يتمّ بدون قطبي علاقة، "أنا" تلتقي "أنت" (أو "أنتم") وتتوحّد معها (أو معهم). لهذا فبالإضافة إلى السعي إلى تجاوز العزلة بالوحدة، بل من أجل أن يحقّق الإنسان تجاوز العزلة بالوحدة مع الآخرين، يسعى الإنسان بالضرورة لأن يكون ذاته، أن يكون هو، أي أن يحقّق فرادته، وهو أساساً يسعى إلى تحقيق فرادته ليختبر وجوده الشخصيّ كإنسان.
هكذا فاللقاء الحقّ هو مسعى وحدة ومسعى فرادة في آن (وإن كان مسعى الفرادة يتجاوز مجرّد تحقيق الوحدة لاختبار الوجود شخصيّاً). ويمكن أن ندعو هذا المسعى اللقائيّ مسعى حياة لأنّه يجعل الإنسان فرحاً ومتألّقاً خلاّقاً، كشخص فريد، متّحد بالآخر الإنسان والآخر الإله (إن كان مؤمناً). العزلة موت، اللقاء حياة، والجحيم يوصف في الأدب الرهبانيّ على أنّه المكان الذي لا يرى فيه الإنسان وجه الآخر.
من هذه الزاوية، يبدو أنّ العيش كلّه هو مسعى ترجمة لهذا التجاوز للعزلة، لهذا التوق إلى اللقاء، أي إلى الوحدة في الفرادة. لكن السؤال كلّه هو حول نوعيّة اللقاءات التي يحقّقها الإنسان في حياته، فليس كلّ ما ندعوه "لقاء" هو لقاء حقيقيّ، إذ يمكن لكلّ أمر أن يكون وهماً، ويمكن لكلّ تصرّف أن يكون هروباً من الحقيقة بالوهم. هكذا يمكن للمعيّة ألاّ تتحوّل إلى لقاء وتبقى سطحية، فلا يبلغ فيها الإنسان أبعد من جلد الإنسان الآخر أو أبعد من التعبيرات الدينيّة مع الله[3]، عندها يبقى على سطح طقوس اللقاء ولا يعبر إلى الآخر فيبقى في وهم وحدة. ولكن يمكن أيضاً للمعيّة أن تكون مسيرة لقاء، أعمق فأعمق، حتّى يصل الإنسان إلى التوحّد مع الآخر الإنسان ومع الآخر الإله؛ عندها تصير طقوس اللقاء تعبيراً عن وحدة وتجذيراً لها في مسعى إلى وحدة أعمق. ويمكن للمعيّة أن تحدث بدون تمايز بين إنسان وإنسان آخر، أو بينه وبين جماعة ، فتستشري علاقات الخضوع والتسلّط[4]؛ وبالتالي تكون الفرادات ضامرة وأطراف العلاقة يعيشون وهم فرادة،وبالتالي وهم لقاء، فاللقاء غير ممكن بدون وحدة بين متمايزين. لكن يمكن أيضاً أن تتمّ معيّة بين إنسان وإنسان آخر، أو بينه وبين جماعة، على أن يحقّق كلّ ذاته، في طاقاتها ومواهبها، قتنتعش فرادة كلّ إنسان، وتتمتّن الوحدة بسبب من انشراح كلّ منهما إلى ذاته؛ عندها تبقى الـ"أنا" والـ"أنت" ولكن يلدان حالة "نحن" جديدة في العالم. ويتجدّد كلّ شخص، يولد من جديد (يوحنّا 3: 3)، في مسيرته الوحدويّة مع آخرين، فيفيض حياةً لاتّحاده بالله كما وعد يسوع (يوحنّا 7: 37).
نوعيّة اللقاء هي في نوعيّة ما يدعوه الإنسان "وحدة" وما يدعوه "فرادة"، طالما بقي الإنسان في وهم لقاء ووهم فرادة بقي في وهم لقاء ووهم حياة، وبقي على سطح طقوس اللقاء من جلسات، وحفلات، واجتماعات، وموائد طعام، وصلاة (الصلاة نفسها هي أساساً طقس لقاء)، إذ لا تكون الطقوس عنده مسعى لقاء حقيقيّ، أي تعبيراً عن لقاء وتجذيراً له. مقياس اللقاء الحقّ نراه في ثمار الحياة المحقَّقَة في الوحدة والفرادة التي تفيض من المتلاقين. كلّ ما يضرب مسعيَيْ الوحدة والفرادة هو مميت وآسر. الحياة لقاء، أمّا العزلة وضمور الفرادة فموت.
لكن عندما نتكلّم عن مسعى وحدة وفرادة فنحن نتكلّم عن مسعى محبّة، فالمحبّة هي حركة التوحّد بالآخر في قلب التمايز عنه، هي حركة ترسم الثالوث في العلاقات الإنسانيّة. لكن المحبّة – أي مسيرة الوحدة في التمايز- لا تكون بدون حرّية، لأنّ بدون خيار وفعل حُرَّين لا توجد وحدة بل خضوع وتسلّط، ولا يوجد تمايز بل ذوبان وابتلاع. الحرّية شرط المحبّة لأنّ الحرّية هي شرط الوحدة وشرط التمايز. ولكن المحبّة أيضاً هي شرط الحرّية لأنّ بلا محبّة الإنسان ليس حرّاً بل هو أسير شهواته (نرجسيّة، تسلّط، تدمير، انعزال، كبرياء...) أو شهوات غيره (خضوع، تذلّل، خوف...). الإنسان المحبّ هو إنسان حرّ لأنّ المُحِبّ هو مَن حقّق حرّيته الكبرى (أي الوحدة في التمايز مع الآخر الإنسان والله)، والإنسان الحرّ هو إنسان محبّ لأنّ الحرّ هو إنسان فريد قادر على التوحّد العميق بالآخرين، خارج عن عبوديّة الذوبان والتذويب، عن عبوديّة الخضوع أو الابتلاع[5].
3 التبعات الوطنيّة للمحبّة والحرّيةلكن ما علاقة ذلك بالمواطنيّة؟ وإن أخذنا لبنان مثلاً فهل نحن نحيا في حرّية فيه؟
لا بدّ من ملاحظة أنّنا في لبنان لا نحيا حرّية على عكس ما يُقال[6]، ذلك أنّ الحقد مستشرٍ على أناس من طائفة أو دين أو وطن أو فريق سياسيّ آخر. وإن كان الحقد الفرديّ هو تعبير عن انقطاع إنسان عن الآخرين وأسرُ ذاته في عزلة فرديّة، فالحقد الجماعيّ يعني تشارك الكراهيّة للآخر القابع خارجالجماعة-القبيلة، يعني أسرَ الذات في عزلة جماعيّة، ويعني أيضاً ذوباناً في الجماعة-القبيلة، وما الذوبان سوى محاولة، فاشلة لا محالة، للوصول إلى وحدة وهميّة بدون تمايز واستقلاليّة. كما أنّ الحقد الجماعيّ يعني إيمانيّاً الخروج عن عبادة الله والدعوة إلى عبادةُ الجماعة-القبيلة، لأنّ القبيلة ترتفع لتصير شبه مقدّسة، غير خاطئة، والخاضع للقبيلة والذائب فيها يرى فيها مصدر حياته ووجوده، ويرى في كلّ اعتداء على رموزها الخطيئة الكبرى، وهذا ما يبدو في الانفعال الهائل تجاه أيّ اعتداء أو إهانة لرموز الجماعة-القبيلة: ممثّل الجماعة، زعيمها، شعاراتها، كتابها، تمثال يخصّها، إلخ؛ بينما لا تحظى إهانة رومز جماعة أُخرى بالانفعال نفسه، أو حتّى بانفعال ما؛ بل وفي حالة الجماعة الطائفيّة ينفعل الذائب في القبيلة لإهانة رموز الطائفة أكثر ممّا ينفعل لإهانة الله نفسه، علّة وجود أيّ دين سماويّ. وبما أنّ إله الحاقد الجماعيّ هو قبيلته وليس الله، فهو يَسْلُخُ عن الآخرِ المُختلف إنسانيتَه، ذلك أنّه يرى صورة الإله-القبيلة محصورة في أفراد جماعة قبيلته، أمّا الآخر من الجماعة المختلفة فهو خارج صورة القبيلة-إلهه، وبالتالي خارج الإنسانيّة التي يحصرها بقبيلته. هذا يعني أنّ عيش الحقد الجماعيّ هو عيشٌ وثنيّ من جهة، وعبوديّ من جهة أُخرى.
كيف نخرج إلى الحرّية إذاً؟
بما أنّ عيش الحرّية هو عيش المحبّة، فهذا يعني أنّه لا بدّ من إنماء الحرّية لإنماء المحبّة لأن لا محبّة بدون حرّية، ولكن أيضاً لا بدّ من إنماء المحبّة لإنماء الحرّية لأنّ لا حرّية في الحقد. لكن لا يكفي الكلام والإرشاد اللفظيّ لإنماء المحبّة، إذ لا بدّ من تأسيس شروط مُسانِدَةٍ لعيش المحبّة؛ وإن كان هناك شروط روحيّة و/أو أخلاقيّة لعيشها، فأنّ لهذا العيش أيضاً شروط نفسيّة وإجتماعيّة وسياسيّة وإقتصاديّة متشابكة. وسنأخذ بعض الأمثلة عن غياب الأطر السياسيّة والاقتصاديّة لعيش المحبّة، لنرى كيف أنّ هذا الغياب يدفع إلى صعوبة في عيش المحبّة واقعيّاً، ويهدّد بالتالي حرّية الإنسان، وبالتالي مشروع الملكوت، والحياة الروحيّة. فإذا أخذنا القمع والتفقير مَثَلَيْن سياسيَّين وإقتصاديَّين في عيشنا: نرى أنّه يكاد لا يمكن للمقموع أو للمفَقَّر أن يتذوّق حرّية التعبير، إذ يجب أن يكون متعلّماً لكي يقرأ ويكتب ويحصل بالتالي على معلومات نظيفة، فيحلّل الواقع ويقيّم برامج اقتصاديّة وسياسيّة، ويبلور ما يريده مصلحةً عامّة للمظلومين، ويعبّر عنه في برنامج. لا بل أنّ التوق إلى الله نفسه قد يجفّ عند مَن يعيش قمعاً وتفقيراً ساحقين فـ"مَن كان في عوز مفرط إلى الخبز اليوميّ يُفقد فيه كلّ تذوّق للخبز الأبديّ"، كما قال الشاعر شارل بيغي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الواقع الأساس القائم في الاستغلال والتفقير هو واقع افتقاد الإنسان لكرامته الإنسانيّة، وعيشه في علل صحيّ، وفي شحّ ثقافة يصل إلى الأمّية، وفي عيش شبه عبوديّ في خوف متواصل من البطالة، وشعور مستمرّ بانعدام الأمان، وبالعزلة؛ وهذا الواقع، عدا أنّه يعبّر عن سياسات قاتلة ينبغي تغييرها من وجهة نظر إيمانيّة وإنسانيّة، فإنّه يدفع في طريق خسارة الإنسان حرّيته -الأوسع من حرّية تعبيره-، لأنّه يدفع في طريق التعويض عن انعدام الأمان والعزلة بالذوبان الجماعيّ الطائفيّ والفاشيّ، بالإضافة إلى العنف والتدمير. إنّ الاستغلال والتفقير يأسرا الإنسانَ داخليّاً ويسحقانه، ويشكّلان تربة خصبة للانجذاب إلى السياسات الفاشيّة والطائفيّة التي تقدّم "خدمةَ" الإخضاعِ لمن ينزلق إلى طلب الخضوع الذوبانيّ سعياً لأمان ووحدة مع الآخرين (ولو وهمِيَّيْن).
4 شهادة الحركةلا يمكن للإنسان أن يكون محبّاً دون أن يكون حرّاً، ولهذا فهناك واجب وطنيّ عام ومسؤوليّة إيمانيّة مسيحيّة للإنشاء وطن تتحقق فيه أطر عيش الحرّية في العلاقات السياسيّة وفي العلاقات الاجتماعيّة كما وفي العلاقات الكنسيّة. لكن أيضاً، لا يمكن للإنسان أن يكون حرّاً دون أن يكون مُحبّاً، وللمحبّة شروط روحيّة، أي شروط العيش في لقاء الروح القدس، كما وشروط مادّية في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع، أي شروط تحقيق حرّية التعبير والفعل والتغيير، وتحقيق اقتصاد خادم للمواطنين، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة وما تقتضيه من حقوق في التعليم والطبابة والعمل والسكن، إلخ. هناك إذاً واجب وطنيّ عام لإنشاء وطن نؤسّس فيه أطرَ عيشٍ للمحبّة وشروطها الأرضيّة الواقعيّة، وبالتالي إلى إنشاء وطن عدالة إجتماعيّة تنتفي فيه علاقات الاستغلال التي تؤدّي إلى العزلة، فالجزع، فطلب الخضوع عوض طلب الحرّية، وطلب الذوبان الجماعيّ في طائفة أو حزب أو قوم أو وطن، عوض طلب الوحدة التي تحفظ التمايز.
روحيّاً، إيمانيّاً، وبالتالي واقعيّاً، لا توجد محبّة يمكن أن نعيشها دون أن تتجسّد في الأرض، وهذا كان تذكير المسيح الدائم لنا الذي ردّد صداه يوحنّا في رسائله، لا يمكن محبّة الله دون محبّة البشر، لا يمكن محبّة "السماء" دون محبّة "الأرض". هذه الحقيقة فهمتها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة عبر تاريخها، وتقع على عاتقها اليوم مسؤوليّة المبادرة مع المبادرين، والعمل مع العاملين، في مجال رعاية نموّ اللقاء، أي في مجال نموّ الحرّية والمحبّة، إنطلاقاً من فرادة رؤيتها الإيمانيّة المسيحيّة للعلاقات البشريّة، ولا يمكن للإنسان إلاّ أن يكون سعيداً بحضور الحركة في السنوات الأخيرة في قلب الأحداث في الوطن، كما وبسعيها لإطلاق مبادرات خلاّقة كالتبنّي المدرسيّ، وتعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، والمنتدى الحركيّ للإعلام والفكر. لكن كلّ إنسان في الحركة مسؤول أيضاً عن حرّيته الشخصيّة كإنسان، ومسؤول في الآن عينه عن حرّية الآخرين[7]، فمسؤوليّته كمؤمن أن يسعى مع الساعين، لاقتناء الروح القدس، بالصلاة والتأمّل كما وبالعمل المتواصل المُحَرِّك والمغيِّر والراسم لملكوت المحبّة والحرّية، هذا الملكوت الذي ينتظر الفعل الإنسانيّ المُقتَحِم لشرنقة السكون، والفاتح رحاب الوجود أمام الناس، فـ"ملكوت الله يُغتَصَب اغتصاباً" (متّى 11: 12)، أي أنّه يتطلّب جهداً وحركةً مستمرّين، فرديّاً وجماعيّاً، من أجل تجديد الحياة مع الله حتّى نرى "سماء جديدة وأرضاً جديدة"(رؤيا 21: 1). العلاقة مع الله تكون شخصيّة أو لا تكون، ولكن من جهة أُخرى فإنّ المسيحيّة ثورةٌ أسّسها المسيح، "إنّها ثورة الشخص المُشارك" كما عبّر مرّة اللاهوتي الأرثوذكسيّ أوليفيه كليمان[8]، وليست تركيزاً على علاقة فرديّة مغلقة مع الله تسعى لخلاص فرديّ منغلق. الكنيسة ليست كنيسة إلاّ لأنّها خميرة التغيير، سعي الإنسان المسيحيّ إلى تحقيق الوحدة في التمايز، إلى تحقيق فرادته، إلى المحبّة، إلى الحرّية، إلى السير نحو المثال، سعيٌ يتجسّد مشاركةً ومسؤوليّةً عن الذت والآخرين، سعيٌ، صحيح أنّه ينبع من خبرة القيامة والحياة الأبديّة في الروح، ولكنّه الصحيح أيضاً انّه يجذّرها.
الميناء 1- أيلول- 2008،
النور، السنة 64، العدد 8، 2008
خريستو المرّ
[1] Nicolas Berdiaeff, “Royaume de l’Esprit et Royaume de César”, Delachaux et Nieslé, 1951, p. 99
برأيي أنّ الحرّية ليس فقط وعياً، كما أتى في جملة بردياييف، وإنّما ممارسة حياة، أي عيش داخليّ - أو طاقة داخليّة - متجسّد ومتجذّر بطريقة حياة. لا شكّ أنّ كتابات بردياييف، ومنها الكتاب المُشار إليه، تعكس نظرة أوسع وأعمق إلى الحرّية، لكنّ المهمّ في جملة بردياييف الحاضرة أنّ الحرّية مطلوبة من الله وليس العبوديّة.
[2] "الحشد الوحيد" عنوان كتاب في علوم الاجتماع صدر عام 1950
David Reisman, Nathan Glazer and Reuel Denney, “The Lonely Crowd”, 1950
[3] "هذا الشعب يُكرِمُنِي بشَفَتَيْه، أَمّا قلبُه فبعيدٌ عنّي" (متّى 15: 8)
[4] خريستو المرّ، "الشخص في الكنيسة: الفرادة والوحدة في المسيح"، مجلّة النور، السنة 64، العدد 3
[5] لا بدّ هنا من ملاحظة أنّ الخضوع لتسلّط الذات المنعزلة عن الآخرين كما والخضوع لأسر الجماعة-الآخرين، أي العبوديّة للذات أو العبوديّة للآخرين، يتقاطعان وليسا متوازيّين. فكلّما كان الإنسان أسير ذاته، تضمر ذاته، ويصير منعزلاً، فتضعف فرادته، ويخاف، بل يصيبه الجزع، ولهذا فهو يتّجه للارتماء في حضن شخص او جماعة ما بشكل ذوبانيّ، في وحدة وهميّة، ليحاول أن يُسكِتَ في ذاته قلق الخواء والعزلة، ولكن تبقى المحاولة بلا جدوى. وكلّما كان الإنسان متّجهاً إلى العزلة كلّما كان ضعيفاً، قلقاً، جزعاً، وبالتالي كلّما كان عبداً لشهوة الانغلاق والاستئثار وربّما التسلّط، وكلّما كان في الوقت نفسه مدفوعاً لكي يصير عبداً لشهوة الذوبان في مجموعة ما ليغرق قلقه، ووعيه لواقعه كهزيل، في كتلة الجماعة، في كتلة بلا وجه. والحقيقة أنّ المنغلق هو إنسان يخاف الوجوه، ويخاف عنصر المغامرة الذي لا بدّ منه في كلّ رحلةِ لقاءٍ عميق، في كلّ رحلة صليبٍ قياميّة، ولهذا ينغلق؛ هذا الواقع الداخليّ المنغلق يتوافق مع وضع الذوبان في الجماعات الدينيّة أو القوميّة أو غيرها، لأنّ الجماعة تبقى بلا وجه، وبلا مغامرة لقاء شخصيّ، إذ هي كتلة وليست شخصاً.
[6] يكرّر السيّد سليم الحصّ مثلاً أنّه "يوجد في لبنان الكثير من الحرّية والقليل من الديموقراطيّة"، ورغم صحّة تعليقه حول غياب الديموقراطيّة، فإنّ قوله حول وجود الحرّية في لبنان ليس صحيح سوى جزئيّاً إذ يقتصر على حرّية التعبير عن الرأي - المنتقصة على كلّ حال - ولا يشمل حرّية الشخص ككلّ.
سليم الحصّ "للحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم بين 1998 و 2000"، ص. 11
[7] كتب بردياييف مرّة أنّ "الديكتاتوريّين يسمحون لأنفسهم، ولأتباعهم، بحرّية كبيرة جدّاً. لهذا فإنّ المحبّة الحقيقيّة، والاحترام الحقيقيّ للحرّية، يفترضان محبّة واحترام حرّية الآخر"، إلاّ أنّ الحرّية التي يذكرها هنا بردياييف هي حرّية التصرّف، إلاّ أنّها في الحقيقة عبوديّة لشهوة التسلّط عند المتسَلّطين (وليس فقط الديكتاتوريّين) وعبوديّة عند الخاضعين؛ كما أنّ هذه "الحرّية" ليست نتيجة خيار واعٍ حرّ فقط، ولكنّها أيضاً نتيجة خضوع المتسلّط لشهوة التحكّم التي تتحكّم لا شعوريّاً في تصرّفاته.
Nicolas Berdiaeff, “Au seuil de la Nouvelle époque”, Delachaux et Niestlé, 1947, p. 14
[8] Olivier Clément, “Etre Chrétien Orthodoxe Aujourd’hui”, S.O.P, No 119, juin 1987, p.25
مرجع مذكور في: كوستي بندلي، "الإيمان والتحرير: البعد الاجتماعي للحياة الروحية "، منشورات النور، 1997، ص. 73
لكنّ "اقتناء" الحرّية في المسيح هو عمل ديناميّ يقوم به الإنسان مع الله وليس أمراً حاصلاً بفعل الله وحده، ولهذا كان القدّيس سارافيم ساروفسكي يقول أنّ هدف الحياة المسيحيّة هو "اقتناء الروح القدس"، فكان يشير بكلمة "الاقتناء" إلى أنّ الاتّحاد بالله، بقواه غير المخلوقة التي تكلّم عنها غريغوريوس النيصصي، هو عمليّة ديناميّة تتطلّب جهداً بشريّاً وحركة إنسانيّة، وليست عمليّة سلبيّة فاترة يكون الإنسان فيها ساكناً متلقّياً فقط للروح بشكل فاتر. وهذا ما يتناغم مع اللاهوت الأرثوذكسيّ القائل بالتآزر (synergy) بين الله والبشر، بحيث أنّ الله يفعل مع البشر؛ ولطالما فهمت الكنيسة قبول مريم، والدة الإله، لتجسّد كلمة الله، على أنّه مثال رائع عن هذا التآزر الإلهيّ الإنسانيّ، إذ أن قبولها سمح لكلمة الله أن يصير إنساناً فيسكن بيننا.
2 الإنسان الحرّ هو الإنسان المحبّلكن ما معنى أن يكون الإنسان حرّاً في المسيح والروح؟ إن أردنا الوضوح والدقّة لقلنا أنّه لا توجد حرّية إنسانيّة بشكل عام بل يوجد حرّية شخصيّة، يوجد إنسان حرّ (أو غير حرّ)؛ الإنسان الفرد يمكنه أن يكون حرّاً بأن ينال التبنّي (أي أن يصير إبناً لله بالتبنّي)، بأن يتّحد بالله، بأن يصير كالله، بأن يحقّق مثال الصورة في ذاته. الإنسان الحرّ هو ذاك الذي يصير مشاركاً لقوى الثالوث؛ لكن نحن نعرف أنّ الثالوث محبّة، لهذا فمن وجهة نظر مسيحيّة يمكن القول بأنّ الإنسان الحرّ هو الإنسان المحبّ.
ولكن هذه النتيجة تمليها علينا ليس فقط قراءة إيمانيّة مسيحيّة، وإنّما أيضاً قراءة لخبرتنا اليوميّة على هذه الأرض، لخبرتنا الوجوديّة. فالإنسان ليس جزيرة، ولا يمكنه أن يكون جزيرة، فالإنسان محكوم عليه بالجنون، وربّما بالموت، إن كان في عزلة تامّة. لهذا فالإنسان يسعى لتجاوز العزلة، لكنّ تجاوز العزلة السطحيّ لا يكفي، إذ لا يكفي الإنسان أن يكون مع آخرين حتّى لا يكون معزولاً، بل يجب أن يكون في لقاء عميق مع الآخرين. فالعزلة يمكن أن تبقى قائمة حتّى ولو أنّ الإنسان كان في وسط الحشود[2]، وحينها تكون المعيّة تراصف بشر عوض أن تكون لقاء. إذاً ليس التواجدُ مع آخرين هو ما يجعل تجاوزَ العزلة حقيقيّاً، وإنّما لقاؤهم. اللقاء هو مفتاح تجاوز العزلة، واللقاء هو السعي إلى الإطلالة على الآخر من الداخل، من عمقه هو، هو أن يلتقي عمقي بعمقه، ممّا يؤدّي بنا إلى وحدة حال. اللقاء الحقّ هو مسعى وحدة.
الإنسان إذاً يسعى إلى تجاوز العزلة بالسعي إلى الوحدة، السؤال هنا هو حول نوعيّة الوحدة التي يحقّقها الإنسان في حياته. لا توجد أيّة إمكانيّة وحدة بدون إمكانيّة التمايز بين البشر، فاللقاء بالآخرين والتوحّد معهم لا يمكن أن يتمّ بدون قطبي علاقة، "أنا" تلتقي "أنت" (أو "أنتم") وتتوحّد معها (أو معهم). لهذا فبالإضافة إلى السعي إلى تجاوز العزلة بالوحدة، بل من أجل أن يحقّق الإنسان تجاوز العزلة بالوحدة مع الآخرين، يسعى الإنسان بالضرورة لأن يكون ذاته، أن يكون هو، أي أن يحقّق فرادته، وهو أساساً يسعى إلى تحقيق فرادته ليختبر وجوده الشخصيّ كإنسان.
هكذا فاللقاء الحقّ هو مسعى وحدة ومسعى فرادة في آن (وإن كان مسعى الفرادة يتجاوز مجرّد تحقيق الوحدة لاختبار الوجود شخصيّاً). ويمكن أن ندعو هذا المسعى اللقائيّ مسعى حياة لأنّه يجعل الإنسان فرحاً ومتألّقاً خلاّقاً، كشخص فريد، متّحد بالآخر الإنسان والآخر الإله (إن كان مؤمناً). العزلة موت، اللقاء حياة، والجحيم يوصف في الأدب الرهبانيّ على أنّه المكان الذي لا يرى فيه الإنسان وجه الآخر.
من هذه الزاوية، يبدو أنّ العيش كلّه هو مسعى ترجمة لهذا التجاوز للعزلة، لهذا التوق إلى اللقاء، أي إلى الوحدة في الفرادة. لكن السؤال كلّه هو حول نوعيّة اللقاءات التي يحقّقها الإنسان في حياته، فليس كلّ ما ندعوه "لقاء" هو لقاء حقيقيّ، إذ يمكن لكلّ أمر أن يكون وهماً، ويمكن لكلّ تصرّف أن يكون هروباً من الحقيقة بالوهم. هكذا يمكن للمعيّة ألاّ تتحوّل إلى لقاء وتبقى سطحية، فلا يبلغ فيها الإنسان أبعد من جلد الإنسان الآخر أو أبعد من التعبيرات الدينيّة مع الله[3]، عندها يبقى على سطح طقوس اللقاء ولا يعبر إلى الآخر فيبقى في وهم وحدة. ولكن يمكن أيضاً للمعيّة أن تكون مسيرة لقاء، أعمق فأعمق، حتّى يصل الإنسان إلى التوحّد مع الآخر الإنسان ومع الآخر الإله؛ عندها تصير طقوس اللقاء تعبيراً عن وحدة وتجذيراً لها في مسعى إلى وحدة أعمق. ويمكن للمعيّة أن تحدث بدون تمايز بين إنسان وإنسان آخر، أو بينه وبين جماعة ، فتستشري علاقات الخضوع والتسلّط[4]؛ وبالتالي تكون الفرادات ضامرة وأطراف العلاقة يعيشون وهم فرادة،وبالتالي وهم لقاء، فاللقاء غير ممكن بدون وحدة بين متمايزين. لكن يمكن أيضاً أن تتمّ معيّة بين إنسان وإنسان آخر، أو بينه وبين جماعة، على أن يحقّق كلّ ذاته، في طاقاتها ومواهبها، قتنتعش فرادة كلّ إنسان، وتتمتّن الوحدة بسبب من انشراح كلّ منهما إلى ذاته؛ عندها تبقى الـ"أنا" والـ"أنت" ولكن يلدان حالة "نحن" جديدة في العالم. ويتجدّد كلّ شخص، يولد من جديد (يوحنّا 3: 3)، في مسيرته الوحدويّة مع آخرين، فيفيض حياةً لاتّحاده بالله كما وعد يسوع (يوحنّا 7: 37).
نوعيّة اللقاء هي في نوعيّة ما يدعوه الإنسان "وحدة" وما يدعوه "فرادة"، طالما بقي الإنسان في وهم لقاء ووهم فرادة بقي في وهم لقاء ووهم حياة، وبقي على سطح طقوس اللقاء من جلسات، وحفلات، واجتماعات، وموائد طعام، وصلاة (الصلاة نفسها هي أساساً طقس لقاء)، إذ لا تكون الطقوس عنده مسعى لقاء حقيقيّ، أي تعبيراً عن لقاء وتجذيراً له. مقياس اللقاء الحقّ نراه في ثمار الحياة المحقَّقَة في الوحدة والفرادة التي تفيض من المتلاقين. كلّ ما يضرب مسعيَيْ الوحدة والفرادة هو مميت وآسر. الحياة لقاء، أمّا العزلة وضمور الفرادة فموت.
لكن عندما نتكلّم عن مسعى وحدة وفرادة فنحن نتكلّم عن مسعى محبّة، فالمحبّة هي حركة التوحّد بالآخر في قلب التمايز عنه، هي حركة ترسم الثالوث في العلاقات الإنسانيّة. لكن المحبّة – أي مسيرة الوحدة في التمايز- لا تكون بدون حرّية، لأنّ بدون خيار وفعل حُرَّين لا توجد وحدة بل خضوع وتسلّط، ولا يوجد تمايز بل ذوبان وابتلاع. الحرّية شرط المحبّة لأنّ الحرّية هي شرط الوحدة وشرط التمايز. ولكن المحبّة أيضاً هي شرط الحرّية لأنّ بلا محبّة الإنسان ليس حرّاً بل هو أسير شهواته (نرجسيّة، تسلّط، تدمير، انعزال، كبرياء...) أو شهوات غيره (خضوع، تذلّل، خوف...). الإنسان المحبّ هو إنسان حرّ لأنّ المُحِبّ هو مَن حقّق حرّيته الكبرى (أي الوحدة في التمايز مع الآخر الإنسان والله)، والإنسان الحرّ هو إنسان محبّ لأنّ الحرّ هو إنسان فريد قادر على التوحّد العميق بالآخرين، خارج عن عبوديّة الذوبان والتذويب، عن عبوديّة الخضوع أو الابتلاع[5].
3 التبعات الوطنيّة للمحبّة والحرّيةلكن ما علاقة ذلك بالمواطنيّة؟ وإن أخذنا لبنان مثلاً فهل نحن نحيا في حرّية فيه؟
لا بدّ من ملاحظة أنّنا في لبنان لا نحيا حرّية على عكس ما يُقال[6]، ذلك أنّ الحقد مستشرٍ على أناس من طائفة أو دين أو وطن أو فريق سياسيّ آخر. وإن كان الحقد الفرديّ هو تعبير عن انقطاع إنسان عن الآخرين وأسرُ ذاته في عزلة فرديّة، فالحقد الجماعيّ يعني تشارك الكراهيّة للآخر القابع خارجالجماعة-القبيلة، يعني أسرَ الذات في عزلة جماعيّة، ويعني أيضاً ذوباناً في الجماعة-القبيلة، وما الذوبان سوى محاولة، فاشلة لا محالة، للوصول إلى وحدة وهميّة بدون تمايز واستقلاليّة. كما أنّ الحقد الجماعيّ يعني إيمانيّاً الخروج عن عبادة الله والدعوة إلى عبادةُ الجماعة-القبيلة، لأنّ القبيلة ترتفع لتصير شبه مقدّسة، غير خاطئة، والخاضع للقبيلة والذائب فيها يرى فيها مصدر حياته ووجوده، ويرى في كلّ اعتداء على رموزها الخطيئة الكبرى، وهذا ما يبدو في الانفعال الهائل تجاه أيّ اعتداء أو إهانة لرموز الجماعة-القبيلة: ممثّل الجماعة، زعيمها، شعاراتها، كتابها، تمثال يخصّها، إلخ؛ بينما لا تحظى إهانة رومز جماعة أُخرى بالانفعال نفسه، أو حتّى بانفعال ما؛ بل وفي حالة الجماعة الطائفيّة ينفعل الذائب في القبيلة لإهانة رموز الطائفة أكثر ممّا ينفعل لإهانة الله نفسه، علّة وجود أيّ دين سماويّ. وبما أنّ إله الحاقد الجماعيّ هو قبيلته وليس الله، فهو يَسْلُخُ عن الآخرِ المُختلف إنسانيتَه، ذلك أنّه يرى صورة الإله-القبيلة محصورة في أفراد جماعة قبيلته، أمّا الآخر من الجماعة المختلفة فهو خارج صورة القبيلة-إلهه، وبالتالي خارج الإنسانيّة التي يحصرها بقبيلته. هذا يعني أنّ عيش الحقد الجماعيّ هو عيشٌ وثنيّ من جهة، وعبوديّ من جهة أُخرى.
كيف نخرج إلى الحرّية إذاً؟
بما أنّ عيش الحرّية هو عيش المحبّة، فهذا يعني أنّه لا بدّ من إنماء الحرّية لإنماء المحبّة لأن لا محبّة بدون حرّية، ولكن أيضاً لا بدّ من إنماء المحبّة لإنماء الحرّية لأنّ لا حرّية في الحقد. لكن لا يكفي الكلام والإرشاد اللفظيّ لإنماء المحبّة، إذ لا بدّ من تأسيس شروط مُسانِدَةٍ لعيش المحبّة؛ وإن كان هناك شروط روحيّة و/أو أخلاقيّة لعيشها، فأنّ لهذا العيش أيضاً شروط نفسيّة وإجتماعيّة وسياسيّة وإقتصاديّة متشابكة. وسنأخذ بعض الأمثلة عن غياب الأطر السياسيّة والاقتصاديّة لعيش المحبّة، لنرى كيف أنّ هذا الغياب يدفع إلى صعوبة في عيش المحبّة واقعيّاً، ويهدّد بالتالي حرّية الإنسان، وبالتالي مشروع الملكوت، والحياة الروحيّة. فإذا أخذنا القمع والتفقير مَثَلَيْن سياسيَّين وإقتصاديَّين في عيشنا: نرى أنّه يكاد لا يمكن للمقموع أو للمفَقَّر أن يتذوّق حرّية التعبير، إذ يجب أن يكون متعلّماً لكي يقرأ ويكتب ويحصل بالتالي على معلومات نظيفة، فيحلّل الواقع ويقيّم برامج اقتصاديّة وسياسيّة، ويبلور ما يريده مصلحةً عامّة للمظلومين، ويعبّر عنه في برنامج. لا بل أنّ التوق إلى الله نفسه قد يجفّ عند مَن يعيش قمعاً وتفقيراً ساحقين فـ"مَن كان في عوز مفرط إلى الخبز اليوميّ يُفقد فيه كلّ تذوّق للخبز الأبديّ"، كما قال الشاعر شارل بيغي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الواقع الأساس القائم في الاستغلال والتفقير هو واقع افتقاد الإنسان لكرامته الإنسانيّة، وعيشه في علل صحيّ، وفي شحّ ثقافة يصل إلى الأمّية، وفي عيش شبه عبوديّ في خوف متواصل من البطالة، وشعور مستمرّ بانعدام الأمان، وبالعزلة؛ وهذا الواقع، عدا أنّه يعبّر عن سياسات قاتلة ينبغي تغييرها من وجهة نظر إيمانيّة وإنسانيّة، فإنّه يدفع في طريق خسارة الإنسان حرّيته -الأوسع من حرّية تعبيره-، لأنّه يدفع في طريق التعويض عن انعدام الأمان والعزلة بالذوبان الجماعيّ الطائفيّ والفاشيّ، بالإضافة إلى العنف والتدمير. إنّ الاستغلال والتفقير يأسرا الإنسانَ داخليّاً ويسحقانه، ويشكّلان تربة خصبة للانجذاب إلى السياسات الفاشيّة والطائفيّة التي تقدّم "خدمةَ" الإخضاعِ لمن ينزلق إلى طلب الخضوع الذوبانيّ سعياً لأمان ووحدة مع الآخرين (ولو وهمِيَّيْن).
4 شهادة الحركةلا يمكن للإنسان أن يكون محبّاً دون أن يكون حرّاً، ولهذا فهناك واجب وطنيّ عام ومسؤوليّة إيمانيّة مسيحيّة للإنشاء وطن تتحقق فيه أطر عيش الحرّية في العلاقات السياسيّة وفي العلاقات الاجتماعيّة كما وفي العلاقات الكنسيّة. لكن أيضاً، لا يمكن للإنسان أن يكون حرّاً دون أن يكون مُحبّاً، وللمحبّة شروط روحيّة، أي شروط العيش في لقاء الروح القدس، كما وشروط مادّية في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع، أي شروط تحقيق حرّية التعبير والفعل والتغيير، وتحقيق اقتصاد خادم للمواطنين، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة وما تقتضيه من حقوق في التعليم والطبابة والعمل والسكن، إلخ. هناك إذاً واجب وطنيّ عام لإنشاء وطن نؤسّس فيه أطرَ عيشٍ للمحبّة وشروطها الأرضيّة الواقعيّة، وبالتالي إلى إنشاء وطن عدالة إجتماعيّة تنتفي فيه علاقات الاستغلال التي تؤدّي إلى العزلة، فالجزع، فطلب الخضوع عوض طلب الحرّية، وطلب الذوبان الجماعيّ في طائفة أو حزب أو قوم أو وطن، عوض طلب الوحدة التي تحفظ التمايز.
روحيّاً، إيمانيّاً، وبالتالي واقعيّاً، لا توجد محبّة يمكن أن نعيشها دون أن تتجسّد في الأرض، وهذا كان تذكير المسيح الدائم لنا الذي ردّد صداه يوحنّا في رسائله، لا يمكن محبّة الله دون محبّة البشر، لا يمكن محبّة "السماء" دون محبّة "الأرض". هذه الحقيقة فهمتها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة عبر تاريخها، وتقع على عاتقها اليوم مسؤوليّة المبادرة مع المبادرين، والعمل مع العاملين، في مجال رعاية نموّ اللقاء، أي في مجال نموّ الحرّية والمحبّة، إنطلاقاً من فرادة رؤيتها الإيمانيّة المسيحيّة للعلاقات البشريّة، ولا يمكن للإنسان إلاّ أن يكون سعيداً بحضور الحركة في السنوات الأخيرة في قلب الأحداث في الوطن، كما وبسعيها لإطلاق مبادرات خلاّقة كالتبنّي المدرسيّ، وتعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، والمنتدى الحركيّ للإعلام والفكر. لكن كلّ إنسان في الحركة مسؤول أيضاً عن حرّيته الشخصيّة كإنسان، ومسؤول في الآن عينه عن حرّية الآخرين[7]، فمسؤوليّته كمؤمن أن يسعى مع الساعين، لاقتناء الروح القدس، بالصلاة والتأمّل كما وبالعمل المتواصل المُحَرِّك والمغيِّر والراسم لملكوت المحبّة والحرّية، هذا الملكوت الذي ينتظر الفعل الإنسانيّ المُقتَحِم لشرنقة السكون، والفاتح رحاب الوجود أمام الناس، فـ"ملكوت الله يُغتَصَب اغتصاباً" (متّى 11: 12)، أي أنّه يتطلّب جهداً وحركةً مستمرّين، فرديّاً وجماعيّاً، من أجل تجديد الحياة مع الله حتّى نرى "سماء جديدة وأرضاً جديدة"(رؤيا 21: 1). العلاقة مع الله تكون شخصيّة أو لا تكون، ولكن من جهة أُخرى فإنّ المسيحيّة ثورةٌ أسّسها المسيح، "إنّها ثورة الشخص المُشارك" كما عبّر مرّة اللاهوتي الأرثوذكسيّ أوليفيه كليمان[8]، وليست تركيزاً على علاقة فرديّة مغلقة مع الله تسعى لخلاص فرديّ منغلق. الكنيسة ليست كنيسة إلاّ لأنّها خميرة التغيير، سعي الإنسان المسيحيّ إلى تحقيق الوحدة في التمايز، إلى تحقيق فرادته، إلى المحبّة، إلى الحرّية، إلى السير نحو المثال، سعيٌ يتجسّد مشاركةً ومسؤوليّةً عن الذت والآخرين، سعيٌ، صحيح أنّه ينبع من خبرة القيامة والحياة الأبديّة في الروح، ولكنّه الصحيح أيضاً انّه يجذّرها.
الميناء 1- أيلول- 2008،
النور، السنة 64، العدد 8، 2008
خريستو المرّ
[1] Nicolas Berdiaeff, “Royaume de l’Esprit et Royaume de César”, Delachaux et Nieslé, 1951, p. 99
برأيي أنّ الحرّية ليس فقط وعياً، كما أتى في جملة بردياييف، وإنّما ممارسة حياة، أي عيش داخليّ - أو طاقة داخليّة - متجسّد ومتجذّر بطريقة حياة. لا شكّ أنّ كتابات بردياييف، ومنها الكتاب المُشار إليه، تعكس نظرة أوسع وأعمق إلى الحرّية، لكنّ المهمّ في جملة بردياييف الحاضرة أنّ الحرّية مطلوبة من الله وليس العبوديّة.
[2] "الحشد الوحيد" عنوان كتاب في علوم الاجتماع صدر عام 1950
David Reisman, Nathan Glazer and Reuel Denney, “The Lonely Crowd”, 1950
[3] "هذا الشعب يُكرِمُنِي بشَفَتَيْه، أَمّا قلبُه فبعيدٌ عنّي" (متّى 15: 8)
[4] خريستو المرّ، "الشخص في الكنيسة: الفرادة والوحدة في المسيح"، مجلّة النور، السنة 64، العدد 3
[5] لا بدّ هنا من ملاحظة أنّ الخضوع لتسلّط الذات المنعزلة عن الآخرين كما والخضوع لأسر الجماعة-الآخرين، أي العبوديّة للذات أو العبوديّة للآخرين، يتقاطعان وليسا متوازيّين. فكلّما كان الإنسان أسير ذاته، تضمر ذاته، ويصير منعزلاً، فتضعف فرادته، ويخاف، بل يصيبه الجزع، ولهذا فهو يتّجه للارتماء في حضن شخص او جماعة ما بشكل ذوبانيّ، في وحدة وهميّة، ليحاول أن يُسكِتَ في ذاته قلق الخواء والعزلة، ولكن تبقى المحاولة بلا جدوى. وكلّما كان الإنسان متّجهاً إلى العزلة كلّما كان ضعيفاً، قلقاً، جزعاً، وبالتالي كلّما كان عبداً لشهوة الانغلاق والاستئثار وربّما التسلّط، وكلّما كان في الوقت نفسه مدفوعاً لكي يصير عبداً لشهوة الذوبان في مجموعة ما ليغرق قلقه، ووعيه لواقعه كهزيل، في كتلة الجماعة، في كتلة بلا وجه. والحقيقة أنّ المنغلق هو إنسان يخاف الوجوه، ويخاف عنصر المغامرة الذي لا بدّ منه في كلّ رحلةِ لقاءٍ عميق، في كلّ رحلة صليبٍ قياميّة، ولهذا ينغلق؛ هذا الواقع الداخليّ المنغلق يتوافق مع وضع الذوبان في الجماعات الدينيّة أو القوميّة أو غيرها، لأنّ الجماعة تبقى بلا وجه، وبلا مغامرة لقاء شخصيّ، إذ هي كتلة وليست شخصاً.
[6] يكرّر السيّد سليم الحصّ مثلاً أنّه "يوجد في لبنان الكثير من الحرّية والقليل من الديموقراطيّة"، ورغم صحّة تعليقه حول غياب الديموقراطيّة، فإنّ قوله حول وجود الحرّية في لبنان ليس صحيح سوى جزئيّاً إذ يقتصر على حرّية التعبير عن الرأي - المنتقصة على كلّ حال - ولا يشمل حرّية الشخص ككلّ.
سليم الحصّ "للحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم بين 1998 و 2000"، ص. 11
[7] كتب بردياييف مرّة أنّ "الديكتاتوريّين يسمحون لأنفسهم، ولأتباعهم، بحرّية كبيرة جدّاً. لهذا فإنّ المحبّة الحقيقيّة، والاحترام الحقيقيّ للحرّية، يفترضان محبّة واحترام حرّية الآخر"، إلاّ أنّ الحرّية التي يذكرها هنا بردياييف هي حرّية التصرّف، إلاّ أنّها في الحقيقة عبوديّة لشهوة التسلّط عند المتسَلّطين (وليس فقط الديكتاتوريّين) وعبوديّة عند الخاضعين؛ كما أنّ هذه "الحرّية" ليست نتيجة خيار واعٍ حرّ فقط، ولكنّها أيضاً نتيجة خضوع المتسلّط لشهوة التحكّم التي تتحكّم لا شعوريّاً في تصرّفاته.
Nicolas Berdiaeff, “Au seuil de la Nouvelle époque”, Delachaux et Niestlé, 1947, p. 14
[8] Olivier Clément, “Etre Chrétien Orthodoxe Aujourd’hui”, S.O.P, No 119, juin 1987, p.25
مرجع مذكور في: كوستي بندلي، "الإيمان والتحرير: البعد الاجتماعي للحياة الروحية "، منشورات النور، 1997، ص. 73