حاضنةٌ للحبّ في هذا العالم: هذه هي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة
النور، السنة 62، العدد 2، 2006
"ثورة المسيح ليست فرديّة، إنّها ثورة الشخص المشارك"(أوليفيه كليمان)[1]
قد لا يكون من البديهي القول بأنّ مهمّة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هو أن تكون حاضنة للحبّ في هذا العالم، ولكن كيف لا يكون ذلك وهي المهمّة نفسها المكلّفة بها الكنيسة التي أتى سيّدها ليخلّص العالم[2]، وكيف يكون خلاص بلا سُكنى الروح فينا، بلا محبّة الإنسان لله وللآخر الإنسان، بلا الله-المحبّة المتصوّر في الإنسان، بلا سُكنى الروح الذي ينقل إلينا حياة الله (أي النعمة)[3]. لكن ماذا يترتّب على حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من التزام هذه المهمّة؟ هذا ما سنحاول التأمّل به في ما يلي.
1 مهمّة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي مهمّة الكنيسة: أنْ تكون حاضنةً للحبّ في هذا العالمالكنيسة هي جسد المسيح، أي هؤلاء الذين صاروا مع المسيح واحداً، واحداً في الحبّ، في وحدةٍ تحفظ التمايز. الكنيسة في التاريخ هويّتها أنْ تكون أغصان المسيح-الكرمة[4]، أنْ تكون خادمةً للناس، أن تكون مكان تجلٍّ للمسيح، تنقل الروح القدس إلى العالم ليتجدّد العالم، ليتمجّد الله أي ليصير الناس أحياءً بالفعل[5]، هكذا تفهم الكنيسة نفسها باكورة الخلاص. لكن ما الخلاص سوى الاتّحاد الله، وما الاتّحاد بالله سوى باستقبالنا هبوب الروح، وما استقبالنا هبوب الروح سوى ممارسة محبّتنا الفاعلة لله والناس[6]، هذه الممارسة التي لا تكون إلاّ بجهادنا وبتنقّينا[7]؟ لكنّ الحُبّ يُعرف من ثماره، ومن ثمار الحبّ ومؤشّراته، العناية والمسؤوليّة والاحترام والمعرفة[8].
1.1 العناية بالعالمالعناية هو أن تجعل أمراً أو شخصاً ما يكبُر، يتقدّم، يحقّق ذاته، يحقّق طاقاته. الذي يحبّ يعتني، هذا نراه في عناية الأهل بأولادهم، وفي عناية الله بالبشر المُعَبَّر عنها بحبّه لهم، وبموت وقيامة كلمته المتجسّد، وبحواره مع الناس من خلال الكون، ومن خلال بعضهم البعض، ومن خلال أنبيائه، ومن خلال ما شعّ في ما كتبه البشر بوحي الروح[9]، ومن خلال حضوره اليوم في قدّيسيه، هؤلاء المحبّون بامتياز. المسيح قال لبطرس "أتُحبّني؟...إرع خرافي"[10]، لكن مَنْ هم "الخراف"[11]؟ المسيحيون ليسوا وحدهم الخراف[12]، بل كلّ إنسان هو ابنٌ لله، ينتظره الله حتّى إذا ما رآه من بعيد آتياً ركض إليه واستقبله[13]، بل أنّ خروفاً واحداً "ضالاًّ"، أي ضائعاً عن الحياة، أهمّ من تسعة وتسعين أبراراً[14]، هكذا يسعى الله أن يجتذب الكلّ إلى ملء الحياة إذ أنّ كلّ شخص محبوب من أجل نفسه، وشعر رأسه معدود[15].
علينا أن نُجَسِّد حبّنا المُعتَني، خاصّة أنّ المسيحيّة هي ديانة التجسّد. على صعيد المجتمع ذلك يقتضي العناية بالناس وبأوضاعهم المعيشيّة الاقتصاديّة والسياسيّة، كما وبعزلتهم وقلقهم، أي العناية بهم في غربتهم عن العيش الكريم وغربتهم عن الوجوه. على صعيد الحياة الداخليّة الحركيّة يقتضي ذلك إنشاء خلايا محبّة وصداقة -هي ما ندعوه الفرق- ليس بهدف الدراسة وإنّما بهدف العيش المُعتني بالآخر والمُحِبّ له (أي العيش الروحيّ)، الفرقة تصير خبرة محبّة، أمّا "الدراسة" أي فهم الإيمان ومعرفته (العقليّة) فهي أحد الجوانب المهمّة من خبرة المبّة هذه، خبرة تجسيد الإيمان، خبرة عيش معرفةٍ أُخرى هي المعرفة الإنجيليّة، أي العلاقة الشخصيّة بالله وبالآخرين. هذه الخبرة تعني أيضاً أن تكون الفرقة منفتحة على المجتمع، ملتزمة بيئتها، فتصير الفرقة هكذا مكاناً خاصّاً لعيش خبرة المحبّة، وانطلاقةً لعيشها في الحياة اليوميّة. وعلى صعيد آخر، تقتضي العناية، في الحركة، عدم الإقصاء بين الأجيال أو بين الحارّين والباردين، وتقتضي العناية بالغائبين أو الفاترين، تقتضي العناية لا فوق ولا تحت، لا رؤساء ولا مرؤوسين، لا مُدينين ولا مُدانين، بل مسعى إشعاع جماعيّ، يعتني بالشخص وبفرادته ومواهبه، ويشجّعها ويدعمها.
1.2 المسؤوليّة عن العالمما المسؤوليّة؟ ليست المسؤولية أنْ أكون مُجبراً على فعل أمر ما، بل هي التزام شخصيّ، هي أن أكون مدفوعاً بسبب من محبّتي للحياة أن أعتني بالآخر بدل الانسحاب إلى موقفٍ قاينيِّ لا يهتمّ بغيره[16]، وبالتالي لا يهتمّ بالحياة الشخصيّة، بالأنا الرحبة المنتعشة، التي لا تقوم بلا وجه الآخر.
المسؤولية عن العالم تفترض على الصعيد الاجتماعيّ محاربة الظالم والمُفَقِّر والمُستغِلّ لأننّا مسؤولون عن "صغار" العالم[17]. لكنّ مواجهتنا محكومة بمحبّة الأعداء التي تتناسب أكثر ما تتناسب مع أساليب النضال اللاعُنفيّ[18]. نناضل ضدّ الظلم ونبقى ننظر إلى الظالم كإنسان، لذلك نمتنع عن التشفّي والانتقام والحقد ذلك أنّنا مشدودون بين وصيتيّ محبّة الصغار ومحبّة الأعداء كما يوضح كوستي بندلي[19].
في الحياة الداخليّة الحركيّة، المسؤوليّة تعني التزاماً متواصلاً في الإرشاد والعمل المُنْتِج، حيث كلّ إنسان يشترك في العمل بحسب مواهبه وحيث كلّ شخص مهمّ بحدّ ذاته. والمسؤولية تقتضي التزام مشاكل الكنيسة الداخليّة، وتنمية الفكر النقديّ وحرّية التعبير والسؤال والبحث (المنتقصة حاليّاً)، وإرساء الروح المجمعيّة (الغائبة حاليّاً) وتأكيدها من خلال التزام مجالس الرعايا وتفعيلها، ومن خلال تحريك الجمود القائم في أنطاكية عن طريق عقد مجالس الأبرشيات، ولقاءات تجمع شعب الله حافظ الإيمان، وتُناقَش فيها هواجس المؤمنين. كم من إنسان، "علمانيّ" أو من "الإكيروس"، لا يعلم ما هي الصحارى التي نجتازها، لو علم بالصحارى لكانت له فرصة ليعرف بأنّه مُطالَب بالالتزام وبأنّ وجودَه وفِعْلَهُ مهمَّيْن لهذه الدرجة، علّه بذلك يضع يده على المحراث، فيزرع مع الزارعين، ويجمع مع الجامعين[20]. لقد بدا أحياناً أنّ الكثير منّا لا يعرفون حقيقة الأوضاع القائمة بسبب نقص في إشراك الناس في النقاش، وكأنّ معرفة الأزمات حكر على بعض "العارفين".
1.3 إحترام العالمالمحبّة تفترض احترام الكون وفهمه كما هو، كما تقتضي العناية به عوض تدميره المُنَظَّم. والمحبّة تفترض احترام حرّية الآخر طالما حرّيته لا تفعل شرّاً، أمّا في حالة الشرّ فالمحبّة تقتضي صلابة المواجهة لكن في أفق المصالحة، في أُفق اللقاء. احترام العالم يعني أن نحاول فهم العالم، وأن نحترم التمايز القائم في تنوّع الخبرة الإنسانيّة، ونسعى أن يكون هذا التمايز فرصة اكتشاف وغنى وتوبة. هذا الاحترام يعني أيضاً أن نتعرّف على مواضع النور أينما أشرقت وأن نستضيء بها، فلا نرفض مُسبقاً خبرة متمايزة، فقط لأنّها ليست نسخة عمّا ألفناه، دون أن يعني ذلك بأن نقبلها كما هي مُسبقاً، بل نختبر ونتمسّك بالحسن فلا نعيق عمل الروح[21].
1.4 معرفة العالمشرط احترام العالم/الإنسان ومحبّة العالم/الإنسان هو أن نسعى إلى معرفته كما هو من الداخل، معرفته كما هي المعرفة في الكتاب، أي معرفة العلاقة وليس فقط معرفة الدماغ. هذا الموقف يدعونا، على الصعيد الفرديّ والجماعيّ، إلى العناية بالطبيعة وحمايتها، وعلى الصعيد الشخصيّ العميق يعني ذلك رؤية العالم ووجودنا كأعجوبة وكهديّة من الله تستحقّ الحبّ والنضال والحياة.
على صعيد الفِعل الاجتماعيّ-السياسيّ-الاقتصاديّ الفاعل، المحبّة تعني معرفة العالم بالخبرة وبالعلم، وتضافر كلّ خبرة ومعرفةٍ ومساهمةٍ من أعضاء جسد المسيح المتناغم، جسد المسيح أي أبناء الكنيسة، وهؤلاء هم المحبّون من كلّ جهة أتوا لأنّ كلّ محبّ من الله يأتي، عَلِمَ ذلك أمْ لم يعلم[22].
1.5 الفكر والفعل في العالممن صلب مهمّة الحركة أن تتابع سعيها لـ"تنصير النصارى"، وتتابع نشر الفكر المسيحيّ الأرثوذكسيّ من خلال تعاونية النور الأرثوذكسيّة ومجلّة النور والإنترنت، وتواصل التزامها في العمل المسكونيّ على ما يعتريه من تردّد، والتزامها الحوار بين الأديان على القاعدة الحاليّة، قاعدة فهم الآخر كما هو، ونبذ التلفيق، ومحاولة اللّقاء على خدمة الإنسان وحمل هموم بلادنا ومنطقتنا العربيّة، و"الصحراء" كبيرة وتحتاج إلى إيمان وفعلٍ كثير[23]. وفي هذا الإطار، من الضروريّ أن نولي اهتماماً خاصّاً للّقاء بالشابات والشباب المنتسبين إلى جمعيّات وحركات شبابيّة أُخرى، مسيحيّة ولكن خاصّة إسلاميّة وعلمانيّة، ليس على صعيد القيادة فقط ولكن على صعيد الأعضاء أساساً. الإنسان لا يعرف طعم الملح إلاّ إذا ذاقه، عيش المحبّة كذوق الملح، يكون بالممارسة لا بالشرح؛ الكلام عن المحبّة والانفتاح، وقبول الآخر المختلف، وخدمة الناس كلّهم، واعتبارهم أبناء الله، لا يصير جزءاً من الشخصيّة الإنسانيّة إلاّ إذا عاشه الإنسان بالممارسة.
على صعيد آخر، فإنّ مواجهة تحدّيات الفكر المعاصر والمشاكل الجديدة المطروحة لا شكّ ضروري، لكن بالإضافة إلى الاطّلاع على التيّارات الفكريّة التي تطرح نفسها في منطقتنا وحول العالم ونقدها والحوار معها، فإنّ مفتاح رؤيةٍ مسيحيّةٍ مُبدعة في هذا المجال هو الإصغاء إلى الناس، إلى الشباب وإلى الأهالي وإلى العاملات والعمّال في بلاد الانتشار الحركيّ، الإصغاء إلى قلقهم وتساؤلاتهم ومخاوفهم والتفكّر معهم في ما يواجهون من مصاعب في العالم. إذا أمعنّا النظر نرى أموراً حيويّةً، ومشاكل وتحدّيات، تواجهنا في منطقتنا منذ زمن، وتطلّب صياغة ونشر روئً وتوجّهات تربويّة لمواجهتها؛ منها مثلاً الخوف، والقلق على الحاضر والمستقبل، والطائفيّة، والعنصريّة (الموجودة تحت ستار الوطنيّة)، واللاإلتزام، والالتزام السياسيّ العشوائيّ، والتهاون في مواجهة سياسات اقتصاديّة مجحفة، والتهاون بحقوق المظلومين (والفلسطينيّون منهم خاصّة[24])...
يمكن للحركة أن تلعب دوراً رائداً بالتعاون مع الجمعيات الأهليّة لخلق تيّار نقديّ للمجتمعات التي نعيش فيها، ومواجهٍ لتحدّياتٍ ومخاطر متعدّدة، ومنها ردّات الفعل الهستيريّة والحاقدة الذي يجرّنا إليها من لا يعرف للإنسان قيمة، ويغذّيها شعور المواطنين، لزمن طويل، بالعجز، والهامشيّة، والانسحاق تحت الأزمة الاقتصاديّة، والتهميش السياسيّ للمواطن الفرد.
تحدّي القرن الحاليّ هو "الخبز" والحرّية، وربّما كان هذا هو التحدّي الأكبر في مسيرة الإنسانيّة. المستغِلِّين يوهمون الناس بالحرّية (عندنا ولكن أيضاً في أميركا وأوروبا) و يمنعون عنهم"الخبز" (أي العمل، والطبابة، والسكن، والتعليم...). الحركة مارست وتمارس العمل الاجتماعيّ (كما في مشروع التبنّي المدرسيّ)، إلاّ أنّ معرفتنا للعالم اليوم تُعْلِمُنا بأنّ هناك بُنى إقتصاديّة سياسيّة واجتماعيّة هي التي تولّد الفقر والبطالة وتقمع الحرّيات (حرّية التعبير وحرّية العيش بكرامة)، هذه المعرفة تضعنا أمام مسؤوليتنا بأنّ نوسّع نشرها، ونعمّق التعليم الذي يكشف هذه الحقائق لأنّ في الحقائق مفاتيح الرؤية، الرؤية فالمسيرِ نحو التغيير، التغير ليس من أجل التغيير ولكن من أجل عالمٍ أكثرَ إنسانيّةً، أي أكثر ملكوتيّةً، وهذا من صلب الإيمان.
1.6 التغيير البنيويّلا يمكن للتغيير أن يقتصر على ممارسة الوعظ والتعليم والعطاء، على أهمّيتها وملحاحيّتها، بل عليه أن يتجاوز ذلك نحو تغيير المجتمع. وللحركة أن توضح أنّ هذا أمرٌ من صلب إيماننا، وجزء لا يتجزّأ منه، وليس أمراً جانبيّاً أو هامشيّاً فيه. فالمسيحيّة ولو أنّها لم تصف طرق الحكم الاجتماعيّ والسياسيّ، إلاّ أنّها ليست ديناً متحفيّاً، ولا هي دين "روحيّ" بالمعنى السلبيّ للعبارة أي بالمعنى الانسحابيّ الطقوسيّ البحت؛ حتّى الرهبان يلتزمون بالمجتمع ويلتصقون به عمليّاً[25]. هكذا فمن مهام الحركة أن تشجّع أعضاءها على الالتزام بالعمل الطلاّبيّ والنقابيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ والفنّي والثقافيّ، على أن يكونون شاهدين للمسيح[26] في كلّ ذلك، أي خادمين كلّ آخر وناقلين دفء محبّةِ الله، ومُستَدفِئين بعيون المُحبّين، ومُستَضيئين من كلّ حقيقة من أينما أتت، لأنّ كلّ حقيقة هي منه هو.
1.7 الاشتراك مع كلّ مخلص للإنسانالإيمان سُلّم إلينا مرّة واحدة[27]، لكنّ إيماننا ليس هو إيمان بمجموعة أفكار، وإنّما إيمانٌ-علاقةٌ بالله من خلال شخص يسوع المسيح، فإنْ كان المسيح وهب نفسه كلّياً، إلاّ أنّ موقفنا نحن من المسيح، علاقتنا نحن به، ليست محقَّقَة بشكل كامل، العلاقة به طريقٌ يسير فيه المحبّون، يتناضحون ويتناقلون نور الله، طريق يكشف فيها اللهُ نفسَه لهم من خلال بعضهم البعض، الله الذي أعطانا العالمَ أمانةً لكي نُنَمّيه ونُنَمّي أنفسنا[28] ونهتمّ بحياة بعضنا البعض[29].
على صعيد كلّ التزام في المجتمع، وخاصّة التزام العمل السياسيّ، هذا التوجّه يعني الانخراط في العمل ولكن مع المخلصين للإنسان كلّ إنسان، وليس فقط المخلصين للمسيحيّين أو اللبنانيّين، بل المخلصين لكلّ غريبٍ عن حرّية التعبير وكلّ غريبٍ عن العيش الإنسانيّ الكريم، لأنّ التحرّر من هاتين الغُرْبَتَيْن وحده يليق بصورة الله ويُسَهِّل المسير نحو مثاله. كما يعني الانخراط في العمل مع المخلصين للإنسان كلّ الإنسان، مهتمين مثلاً بالاستقلال والسيادة وحرّية التعبير ولكن أيضاً مهتمّين بإحقاق حقّ الناس بالعمل وبالطبابة والمأوى الكريم والصحّة والتربية والتعليم...
لكن أبعد من ذلك، المسيحيّ معنيّ بتجاوز تحقيق الحاجات-الحقوق تلك إلى رؤية الإنسان كابنة وابن لله وما ينبع من هذه الرؤية من سعيٍ كي يكون الإنسانُ دائماً هدفاً وليس وسيلة لأيّة قضيّة أو شعار أو شخص أو حزب أو فكرة[30] أو سياسة أو اقتصاد أو اجتماع. الإنسان هو محور اهتمامنا لأنّنا نرى فيه صورة الله حبيبنا. اتّخذ اللهُ البشرَ أجمعين بناتاً وأبناءً له بالتبنّي، صار الناس "عيالُ الله"[31]، صرنا على طريق الحرّية في الله فلا ينبغي أن نعود، أو نُهمل أحداً فيعود، إلى العبوديّة[32]. لقاء الله، الاتّحاد به، هو هدفنا، لهذا فإنّ التحرير الأخير هو تحرير الإنسان من الظلم ولكن في نفس الوقت تحرير طاقات الحبّ التي فيه، ذلك أنّنا نرى الله ساكن كلّ وجه جريح، جريح القهر السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وجريح انعدام الحبّ أيضاً؛ ونرى الإنسان صائراً إنساناً، مُحَقِّقاً طاقات إنسانيّته، في الاتّحاد بالله بممارسة المحبّة.
2 مخاطر حياة"...أُعطيك يدي!
أُعطيك حبّي الأثمن من المال،
أُعطيك نفسي قبل الوعظ أو القانون؛
هل ستعطيني نفسك؟ هل ستسافر معي؟
هلاّ التصقنا ببعض طالما حيينا؟" (الشاعر والت ويتمان)[33]
في المسعى الحركيّ الكنسيّ نحتاج إلى إيمان وعزم وحبٍّ للحياة، ونحتاج أن نتجاوز التجارب والأخطاء التي هي جزء من كلّ مغامرة حياة.
2.1 تجاوز تجربةِ ذهبيّةِ الماضيهذه التجربة، المترافقة مع نوع من البكاء على الأطلال، هي تجربة العودة إلى الماضي ورؤيته كعصر ذهبيّ، هي تجربة عامّة في الأديان وفي الحياة الشخصيّة (التفكّر بالماضي والتحسّر على أيّامه "الحلوة" ومقابلة ذلك بالأيّام الحاليّة "السيئة"، والحنين إلى تربية الماضي "الأفضل" من تربية اليوم)، وفي ذلك تعبير عن سأم من الواقع الحاليّ، وهروب غير مقصود من مواجهة تحدّيات الحاضر الجديدة وابتكار أُطر لتجاوزها، وتهرّب من ابتكار حلول جديدة لمشاكل جديدة وأوضاع، لا محال، جديدة. في إيماننا المسيحيّ لا هروب بل تحدٍّ للصعاب ومواجهة وتجاوز لها، إيماننا بالقيامة ليس إيمان بحدث ماضٍ بل هو إيمان بفاعليّة القيامة الآن من خلال الناس. القيامة فِعلٌ في التاريخ الذي يصنعه الإنسان مع الله كلّ يوم.
2.2 تجاوز تجربة تأبيد الماضيعامّة ما يكون النظر الدائم الحنينيّ إلى الماضي مترافقاً مع تجربة اعتبار أنّ كلّ جديد سيّء وأنّ الحقيقة هي في الماضي ونحن ليس علينا سوى نقلها كآلات تسجيل. لا شكّ أنّ الماضي يحمل حقائق ولكن مسؤوليتنا أن ننقلها في لغة اليوم، كما أنّ الحقيقة لم تتكشّف كلّها في الماضي ولا تتكشّف بشكل كامل لا اليوم ولا في المستقبل، ممّا يترك مجالاً لرؤية أوجهاً من الحقيقة لم تكن معروفة قبلاً إن فتحنا قلوبنا وعقولنا على نداءات أناس اليوم، وانفتحنا على روح الله الساكن فينا وأصغينا إلى هبوبه "حيث يشاء"[34]، وقرأنا "علامات الأزمنة"[35]التي نعيشها اليوم، وعملنا بجدّ.
2.3 تجاوز تجربة الطقوسيّةهناك أيضا مظهر من مظاهر الانسحاب من مواجهة أخطار ومشاكل وقلق الحياة، يكمن باللجوء إلى حلّ سحريّ -لا إيمانيّ- يكون بالانسحاب من التزام الحياة اليوميّة إلى الطقوس البحتة وهو أمرٌ لا يفعله حتّى الرهبان. إنّ في ذلك محاولة لإلغاء الدنيا بشكل وهميّ، محاولة للتهرّب من مواجهة ما تطرحه علينا السياسة والاقتصاد والمجتمع والتربية والحياة عامّةً من مواجهة وقلق. إلاّ أنّ هكذا تصرّف انسحابيّ ليس على "حسب قلب الله" الذي أراد أن نكون في العالم، معمّدين إياه[36]، أي محوّلينه إلى ملكوت، إلى مكان حضور إلهيّ في العلاقات اليوميّة.
2.4 تجاوز تجربة الدهريّةالتجربة الأخرى المناقضة لتجربة الطقوسيّة في الظاهر، والتي تشكّل وجهها الآخر في الحقيقة، هي تجربة الدهريّة، ليس بالمعنى الفلسفيّ للعبارة ولكن بمعنى إزاحة الله من الحياة اليوميّة. إنّه فعل طرد الله عمليّاً (ولو أنّنا في الظاهر نصلّي في الكنيسة) من الحياة الشخصيّة والارتماء في اتّباع النمط السائد من الوجود، نمط هذا الدهر، اتّباع "الشطارة" والـ"حرْبَقَة" (أي السرقة والاستغلال) وقياس الذات بما تملك والآخرين بما يملكون ("معك قرش بتسوى قرش") واتّباع نمط تجاريّ في الحياة مع الناس ("تتعامل" مع إنسان لأنّه "يمكن يلزملك"). هكذا يبقى العيش مُمِلاًّ بلا نكهة حياة، ذلك أنّه بعيداً عن المحبّة المعيوشة لا يوجد ماء[37] يروي عطش إنسانيّتنا إلى أن تصير أكثر إنسانيّةً، عطشها أن يملأها الحبّ، أي أن تتّحد بالله وبالبشر. في العمق تجربة الدهريّة هي تجربة عبادة الوثن[38]، ولو أنّ الفم يتلفّظ باسم الله[39].
أقول أنّ هذا النمط هو الوجه الآخر للوجه الطقوسيّ لأنّه هو أيضاً يحاول أن يغيّب ما يطرحه علينا العيش من قلق ومن تحدّيات ومن مواجهة ضروريّة لمشاكل تحتاج لابتكار حلول. ولكن بدل الهروب بوهم إلغاء الدنيا كما في تجربة الطقوسيّة، نُلغي أنفسنا ونذوب في الدنيا حتّى لا تبقى مسافة بيننا وبينها. في الحالتين نرى محاولة فاشلة لإلغاء الاختلاف بين الذات وبين العالم، محاولة لإلغاء التحدّي الذي يطرحه هذا الاختلاف، ولكن في ذلك خسارة للتوتّر الخلاّق الذي يمكن، لو تعهدناه، أن يكون فرصة إبداع وفرصة نموّ لنا في المسيح، فرصة نموّ في المحبّة التي لا تنمو إلاّ في الالتصاق بالله وتعهّد الدنيا لتصير تمتمة للملكوت. لا تنمو المحبّة إلاّ في تعهّد أوجاع الناس وغربتهم، تعهّدها بالعطاء والحنان كما وبالفعل السياسيّ والاقتصاديّ، بتغيير البُنى الجائرة منها، وتلك المكبّلة لطاقات المحبّة.
في حالتيّ الطقوسيّة والدهريّة نحن في إلغاء التمايز بين الذات والعيش، بالانسحاب أو بالذوبان، في الحالتين نحن في الخوف من مسؤوليّة الحرّية[40]، ونبقى تحت العبوديّة مخافة الموت[41]، الموت على صليب الحبّ.
2.5 تجاوز تجربة الأصوليّةالمسيح هو فينا، ولكنّه أمامنا، هو قال عن نفسه أنّه "الطريق"[42]، اللقاء به طريق، اللقاء به إذاً علاقةٌ حيّة ديناميّة، وليست علاقة جامدة اجتراريّة. المسيح لا يُمسك، لا يُمتلك، التسمّي به ليس صكّ ملكيّة[43]ـ لهذا فالإمساك بالحقيقة وامتلاكها غير ممكن. الأصوليّة تحاصر كلّ تجديد، وكلّ ريح تهبّ، وكلّ فكر رحب، وقد تختبئ خلف ستار الغيرة على الإيمان[44]، إلاّ أنّ الغيرة يجب أن تكون مقرونة بتمثّل موقف المسيح الذي لم يكسر قصبة مرضوضة ولم يُطفئ فتيلاً مدخّناً[45].
3 خلاصة: حبّ الله وحبّ الحياةالعودة إلى المسيحيّة كـ"ديانة الفرح"، الفرح والحبّ، الفرح من الحبّ، يجعلنا نتعهّد الحياة ونعارض أشكال الموت أينما وجدناها ونحاول أن نواجهها، فنصير قياميين.
وجود الحركة هو وجود مضيء أو تكون تخون سيّدها. في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مسعانا أن نشكّل بيئة ننمو فيها على محبّة الله والناس، الذين من مسؤوليّتنا الإيمانيّة أن نكون بينهم ولهم، لكي نحبّ جميعاً الحياة، ونفرح بها، مواجهين معاً صعوباتها. لهذا فنحن كأعضاء في الحركة مهمّتنا أن نعتني بالناس، ونحترم حرّيتهم، ونعرفهم، ونفكّر جاهدين ونفعل مثابرين، ونعمل مع مواطنينا على إرساء تغيير بنيويّ في مجتمعاتنا، ونسعى للاشتراك مع كلّ مخلص للإنسان من أجل إرساء تمتمات الحبّ في العالم، عاملين في مسعانا على تجاوز تجربة ذهبيّةِ الماضي وتأبيده، وتجاوز تجربة الانسحاب إلى طقوسيّة منعزلة، وتجربة الذوبان في دهريّة ميتة، وتجربة التحجّر في وهم امتلاك الحقيقة، منطلقين إلى رحاب الحبّ، حبّ الله وحبّ الناس، في تعهّدٍ للحياة التي وهبنا الله إيّاها، والتي يدمّرها المستغِلّون، وندمّرها بالاستكانة.
لا يمكن حبّ الله إلاّ بحبّ الحياة، نحن نعرف أنّنا "انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نحبّ الإخوة"[46]، هذا لبّ المسيحيّة وجسدها. الحبّ الفاعل هو حركتنا، هو حركة ثقتنا بأنّ الربّ قد غلب[47]، حتى تصير الأرض بمسعانا أرضاً جديدة يجدّدها روح الله الذي نزرعه في الهيكليّات الاجتماعيّة كما في العلاقات الشخصيّة ("ترسل روحك فيُخلقون وتجدّد وجه الأرض"[48])، حتّى يصير كلّ شيء جديداً، فتكون هكذا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة معبر حبٍّ-نارٍ أطلقه يومَ عُلِّقَ على خشبة، رجلٌ متروك ومُحتقرٌ كان قد قال الناس عنه يوماً أنّه مجنون[49]، وكان يتحرّق أن تكون تلك النار قد اشتعلت[50] حتّى تصير الأرض علّيقة ملتهبة[51]-أي مكان حضور إلهيّ- إلى أن يكون الله "كلّ شيء في كلّ شيء"، ويشرب المحبّون مع المسيح الخمرة جديدةً[52].
خريستو المرّ
[1] مذكور عند: كوستي بندلي، الإيمان والتحرير، منشورات النور، سلسلة الإنجيل على دروب العصر 13، طبعة ثانية، ص. 73
[2] "والله أرسَلَ اَبنَهُ إلى العالَمِ لا ليدينَ العالَمَ، بل ليُخلِّصَ بِه العالَمَ." (يو 3: 17)
[3] فلاديمير لوسكي،"اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق"، منشورات النور، 2000، ص. 144
[4] "أنا الكرمة وأنتم الأغصان"(يو 15: 5)
[5] حينما أقام المسيح لعازر قال لمرتا أنّ مجد الله سيظهر "أما قلتُ لكِ إنْ آمنت تشاهدين مجد الله؟". مجد الله إذاً هي قيامة الإنسان من الموت. وقد قال القدّيس نيقولا كاباسيلاس أنّ "مجد الله هو حياة الإنسان".
[6] يقول كوستي بندلي"لكنّ الكنيسة لن تخلص وحدها، لن تنجو من الفساد والتمزّق إلاّ إذا سعت جاهدة لإنقاذ المجتمع الواسع من فساده وتمزّقه".
كوستي بندلي "الإيمان والتحرير"، منشورات النور، 1997، ص. 98
[7] يقول سمعان اللاهوتي الحديث أنّ الثالوث "نورٌ لم يستطع أحد أن يراه قبل أن يتنقّّى، وأن يتقبّله قبل أن يراه، ذلك أنّ على المرء أن يراه أوّلاً ليقتنيه بعد ذلك بالمشقّاتوالجهادات المتعدّدة". راجع: فلاديمير لوسكي،"اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق"، منشورات النور، 2000، ص. 144
[8] لقد بنيتُ بداية تأمّلي على رأي إريك فروم في كتابه "فنّ الحبّ" بأنّ الحبّ يقتضي العناية بالآخر، والمسؤولية عنه، واحترامه، ومعرفته.
راجع: Erich Fromm, “The Art of Loving”, Perennial, 2000, p. 24-30
[9] راجع مثلاً في هذا الصدد كلام الله ليونان في سفر يونان، ذلك السفر الصغير والعميق بآن. وأيضاً سعي الله لرجوع الشعب (الحبيبة التي تركته) في إرميا.
[10] يو 21: 15-17
[11] نحن اليوم نستعمل أحيانا كلمة "الخراف" لندلّ على القطيعيّة والتبعيّة، أمّا هنا فتأتي بمعنى تحبُّـبِيّ، وتعكس حنان الله وسعيه المتواصل لرعاية الناس.
[12] من المفيد هنا أن نتأمّل بكلمة يسوع "ولي خرافٌ أخر ليست من هذه الحظيرة"(يو 10: 16).
[13] أنظر مثل الابن الضال، ومن المعبّر أكثر أن يُسمّى مثل الأب الحنون، (لو 15: 11-32) "فرآه أبوه قادما مِنْ بعيد، فأشفق عليه وأسرع إليه يعانقه ويقبّله"(الآية 20).
[14] "أقول لكم: هكذا يكون الفرح في السّماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التّوبة"(لو 15: 7)
[15] "أما يُباعُ خمسة عصافير بدرهمين؟ نعم، ولكنّ الله لا ينسى واحدا منها؟ لا بل شَعْرُ رؤوسكم نفسه معدود كلّه. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة!" (لو 12: 6-7)
[16] "فقال الرّبّ لقايين: «أين هابيل أخوك؟ قال: «لا أعرف. أحارِسٌ أنا لأخي؟" (تك 4: 9)
[17] "كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه...كلّ ما لم تفعلوه بأحد بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه". (متى 25: 31-46)
[18] يرى كوستي بندلي أنّ النضال المتوافق مع الإنجيل هو النضال اللاعنفيّ، ولكن في حالة استُنْفِذت كلّ الوسائل اللاعنفيّة لإزالة الظلم والقهر فإنّ النضال العنفيّ قد يكون أهون الشرّين، إلاّ أنّ الإيمان يفترض شروطاً جادّة وصارمة في حال اتّخاذ النضال العنفيّ سبيلَ تحريرٍ لأنّ عثرات النضال العنفيّ تاريخيّاً كبيرة جدّاً، وآخرها بالنسبة لنا الحرب الأهليّة اللبنانيّة البشعة التي استُعْمِلَت فيها كلّ الشعارات من أجل إلغاء الآخر. ومن هذه الشروط: اجتناب مذهبة العنف وتمجيده، أن لا يقترن العنف بالكراهية، ألاَّ يُقَدَّس الموت بحد ذاته، اجتناب احتقار الخصم وتجريده من إنسانيته، حصر العنف في هدف إزالة الظلم والقهر.
راجع: كوستي بندلي "نضال عنفيّ أو لا عنفيّ لإحقاق العدالة ؟"، منشورات النور، 1988
[19] المرجع السابق
[20] ولنذكر كلمة يسوع أنّ "من لا يجمع معي فهو يُفَرِّق" (لو 11: 23)
[21] "لا تعيقوا عمل الروح... إمتحنوا كلّ شيء وتمسّكوا بالحسن" (1 تس 5: 19، 21)
[22] يقول المطران جورج خضر "والكنيسة هي أنتَ والمسيح والذين يُحِبّونه بحقّ"
راجع: المطران جورج خضر "العثرات"، النهار، 3 كانون الأوّل 2005.
ويتكلّم كوستي بندلي عن كنيسة الله "التي تضمّ في رحابها كلّ من كان روح الله يسوع ساكنًا فيه حتى إذا كان خارج حدود الكنيسة المنظورة، وقد قيل بحق: أن كثيرين ممن يُظنون في الداخل هم في الخارج، وكثيرون ممن يُظنون في الخارج هم في الداخل"
راجع: كوستي بندلي، "موقف إيمانيّ من الطائفيّة"، منشورات النور، 1985، ص. 71
[23] "الحصاد كثير والفعلة قليلون"(لو 10: 2)
[24] يعتقد البعض أنّ على الإنسان أن يحبّ أهل بيته، ووطنه، أوّلاً. الحقيقة أنّ المحبّة هي طريقة حياة، لهذا يمارسها الإنسان بشكل تلقائيّ، بلا حدود. ثمّ أنّ وصية محبّة "الغريب"، بالمعنى العام، أيّ بمعنى كلّ ما لا ينتمي إليّ بالنسب أو بالمواطنيّة أو بالدين أو بأيّ شكل آخر من أشكال التعريف الأُخرى، هي وصيّة أساسيّة. هي وصيّة موجودة في العهد الجديد الذي يوصينا فيه المسيح بمحبّة الصغار، وبمحبّة القريب الذي تجعله قريباً إليك بمحبّتك له، وهذا ما علّمه يسوع في مثل السامري الصالح (لو 10: 25-37). إلاّ أنّ وصية محبّة الغريب موجودة أيضاً في العهد القديم: "شريعة واحدة تكون للمواطن والغريب النازل فيما بينكم" (خروج 49:12) "والغريب فلا تظلمه ولا تضايقه، فإنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خروج 25:22). "وليكن عندكم الغريب المقيم فيما بينكم كأحد مواطنيكم، أحبّوه مثلما تحبّون أنفسكم، لأنكم كنتم غرباء عن أرض مصر. أنا الرب إلهكم." (لاويين 33:19- 34)." كلّ إقصاء "للغرباء" عن دائرة ممارسة المحبّة، تراجع لإنسانيّتنا، وفي العمق هو عبادة لوثن، وثن العائلة، أو الدين، أو الطائفة، أو الوطن، أو القوميّة...
[25] راجع: المطران جورج خضر، "الفقر والغنى في الكتاب المقدّس"،منشورات النور، سلسلة تعرّف إلى كنيستك 5، 1982
راجع أيضاً: كوستي بندلي، الإيمان والتحرير، منشورات النور، سلسلة الإنجيل على دروب العصر 13، طبعة ثانية، ص 15
[26] " الرّوح القدس يحلّ عليكم ويهَبُكُم القوّة، وتكونونَ لي شُهوداً في أورشليم واليهوديّة كلّها والسّامرة، حتى أقاصي الأرض"(أع 1: 8)
[27] "الإيمان الّذي سُلِّمَ مرّة واحدة للقدّيسين" (يهوذا 1: 3)
[28] مثل الوزنات (متّى 25: 14-30)
[29] يتكلّم يسوع في مثل الخادم الأمين عن "الخادم الأمين العاقِل الّذي أوكل إليه سيّده أن يعطي خدمه طعامهم في حينه". (متّى 24: 45-51)
[30] هتلر أتى تحت شعار "الاشتراكيّة" وستالين "الماركسيّة" والولايات المتّحدة "الحرّية" وأوروبا "تحضير" (من حضارة) "المتخلّفين"، إلى ما هنالك من شعارات وأفكار أقربها زمنيّاً تلك التي مارسها البعض في لبنان بجنون مدمّر للإنسان ولمقوّمات حياة كريمة في لبنان أثناء الحرب البشعة.
[31] "الخلقُ كلُّهم عيال الله فأحبّهم إليه أنفعُهم لعياله"، حديثٌ شريف.
[32] "لقد اشتُريتم بثمن فلا تصيروا عبيداً للناس" (1 كو 7 : 23)
[33] مذكور في:
Erich Fromm “The Heart of Man”, Harper, 1964, p. 61
[34] "فالرّيحُ تهبُّ حيث تشاء، فتسمع صوتَها ولا تعرف مِنْ أين تجيء وإلى أين تذهب: هكذا كلّ مَنْ يولدُ مِنَ الرّوح" (يو 3: 8)
[35] متى 16: 1-4
[36] "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم معمّدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس"(متى 28: 19)
[37] "نبذوني أَنا ينبوع الحياة، وحفروا لأنفسهم آباراً مُتَصدِّعة لا تضْبط ماء" (إرميا 2: 13)
[38] "أمّا أنْتَ ياشعبَ الله فقد زنيْت مع عُشَّاقٍ كثيرين، فهلاّ ترجع إليّ؟" (إرميا 3: 1). هذا نداء الله للمسيحيين أيضاً.
[39] "هذا الشعب يمجّدني بشفتيه وأمّا قلبه فبعيد عنّي، فهوَ يخافُني ويعبُدُني بتعاليم وضعها البشر" (إشعيا 29: 13) (متى 15: 8-9)
[40] راجع كتاب إريك فروم حول الحرّية والخوف من الحرّية:
Erich Fromm, “Fear from Freedom”, Routledge Classics, 2004
يقول الفيلسوف الروسيّ نيقولا بردياييف: "الحرّية في الحياة الدينيّة واجب. الإنسان ملزمٌ بأن يحمل عبء الحرّية وليس له الحقّ بأن يتخلّص منه. الله لا يقبل إلاَّ البشر الأحرار، إنّه لا يحتاج إلاّ إلى بشرٍ أحرار."
راجع: كوستي بندلي "إله الإلحاد المعاصر"، منشورات النور، 1968، ص. 141
[41] " شاركهم يسوع كذلك في طبيعتهم هذه ليقضي بموته على الذي في يده سلطان الموت، أي إبليس، ويُحَرِّر الذين كانوا طوال حياتهم في العبوديّة خوفا من الموت" (عب 2: 14)
[42] "أنا هو الطريق والحقّ والحياة لا يَجيء أحدٌ إلى الآب إلاّ بي" (يو 14: 6)
[43] جاء عن لسان يوحنّا المعمدان: "لا تقولوا لأنفسكم أنّ أبانا هو إبراهيم. أقول لكم: إنّ الله قادر على أن يجعل من هذه الحجارة أبناءً لإبراهيم" (متى 3: 9)
[44] "غيرة على بيتك أكلتني" (مز 69: 10)
[45] "القصبة المرضوضة لم يكسر والفتيل المدخّن لم يُطفئ" (متّى 12 :20)
[46] 1 يو 3: 14
[47] "ثقوا قد غلبت العالم" (يو 16 :33)
[48] مز 104: 30
[49] "وسمِعَ أقاربه، فجاؤوا ليأخذوه لأنّ بعض النـاس قالوا: «فقَدَ صوابَهُ«" (مر 3: 21)
[50] "جئتُ لأُلقي ناراً على الأرض، وكم أتمنّى أن تكون اشتعلت" (لو 12: 29)
[51] "فتَراءى له مَلاكُ الرّبّ في لهيبِ نار منْ وسط العُلَّيقة. ورأى موسى العُلَّيقة تتوقَد بالنّار وهي لا تحترق" (خروج 3: 2)
[52] "لا أشرب بعد الآن مِنْ عصير الكرمة، حتى يجيء يوم فيه أشربه جديدا في ملكوت الله"(مر 14: 25)
قد لا يكون من البديهي القول بأنّ مهمّة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هو أن تكون حاضنة للحبّ في هذا العالم، ولكن كيف لا يكون ذلك وهي المهمّة نفسها المكلّفة بها الكنيسة التي أتى سيّدها ليخلّص العالم[2]، وكيف يكون خلاص بلا سُكنى الروح فينا، بلا محبّة الإنسان لله وللآخر الإنسان، بلا الله-المحبّة المتصوّر في الإنسان، بلا سُكنى الروح الذي ينقل إلينا حياة الله (أي النعمة)[3]. لكن ماذا يترتّب على حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من التزام هذه المهمّة؟ هذا ما سنحاول التأمّل به في ما يلي.
1 مهمّة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي مهمّة الكنيسة: أنْ تكون حاضنةً للحبّ في هذا العالمالكنيسة هي جسد المسيح، أي هؤلاء الذين صاروا مع المسيح واحداً، واحداً في الحبّ، في وحدةٍ تحفظ التمايز. الكنيسة في التاريخ هويّتها أنْ تكون أغصان المسيح-الكرمة[4]، أنْ تكون خادمةً للناس، أن تكون مكان تجلٍّ للمسيح، تنقل الروح القدس إلى العالم ليتجدّد العالم، ليتمجّد الله أي ليصير الناس أحياءً بالفعل[5]، هكذا تفهم الكنيسة نفسها باكورة الخلاص. لكن ما الخلاص سوى الاتّحاد الله، وما الاتّحاد بالله سوى باستقبالنا هبوب الروح، وما استقبالنا هبوب الروح سوى ممارسة محبّتنا الفاعلة لله والناس[6]، هذه الممارسة التي لا تكون إلاّ بجهادنا وبتنقّينا[7]؟ لكنّ الحُبّ يُعرف من ثماره، ومن ثمار الحبّ ومؤشّراته، العناية والمسؤوليّة والاحترام والمعرفة[8].
1.1 العناية بالعالمالعناية هو أن تجعل أمراً أو شخصاً ما يكبُر، يتقدّم، يحقّق ذاته، يحقّق طاقاته. الذي يحبّ يعتني، هذا نراه في عناية الأهل بأولادهم، وفي عناية الله بالبشر المُعَبَّر عنها بحبّه لهم، وبموت وقيامة كلمته المتجسّد، وبحواره مع الناس من خلال الكون، ومن خلال بعضهم البعض، ومن خلال أنبيائه، ومن خلال ما شعّ في ما كتبه البشر بوحي الروح[9]، ومن خلال حضوره اليوم في قدّيسيه، هؤلاء المحبّون بامتياز. المسيح قال لبطرس "أتُحبّني؟...إرع خرافي"[10]، لكن مَنْ هم "الخراف"[11]؟ المسيحيون ليسوا وحدهم الخراف[12]، بل كلّ إنسان هو ابنٌ لله، ينتظره الله حتّى إذا ما رآه من بعيد آتياً ركض إليه واستقبله[13]، بل أنّ خروفاً واحداً "ضالاًّ"، أي ضائعاً عن الحياة، أهمّ من تسعة وتسعين أبراراً[14]، هكذا يسعى الله أن يجتذب الكلّ إلى ملء الحياة إذ أنّ كلّ شخص محبوب من أجل نفسه، وشعر رأسه معدود[15].
علينا أن نُجَسِّد حبّنا المُعتَني، خاصّة أنّ المسيحيّة هي ديانة التجسّد. على صعيد المجتمع ذلك يقتضي العناية بالناس وبأوضاعهم المعيشيّة الاقتصاديّة والسياسيّة، كما وبعزلتهم وقلقهم، أي العناية بهم في غربتهم عن العيش الكريم وغربتهم عن الوجوه. على صعيد الحياة الداخليّة الحركيّة يقتضي ذلك إنشاء خلايا محبّة وصداقة -هي ما ندعوه الفرق- ليس بهدف الدراسة وإنّما بهدف العيش المُعتني بالآخر والمُحِبّ له (أي العيش الروحيّ)، الفرقة تصير خبرة محبّة، أمّا "الدراسة" أي فهم الإيمان ومعرفته (العقليّة) فهي أحد الجوانب المهمّة من خبرة المبّة هذه، خبرة تجسيد الإيمان، خبرة عيش معرفةٍ أُخرى هي المعرفة الإنجيليّة، أي العلاقة الشخصيّة بالله وبالآخرين. هذه الخبرة تعني أيضاً أن تكون الفرقة منفتحة على المجتمع، ملتزمة بيئتها، فتصير الفرقة هكذا مكاناً خاصّاً لعيش خبرة المحبّة، وانطلاقةً لعيشها في الحياة اليوميّة. وعلى صعيد آخر، تقتضي العناية، في الحركة، عدم الإقصاء بين الأجيال أو بين الحارّين والباردين، وتقتضي العناية بالغائبين أو الفاترين، تقتضي العناية لا فوق ولا تحت، لا رؤساء ولا مرؤوسين، لا مُدينين ولا مُدانين، بل مسعى إشعاع جماعيّ، يعتني بالشخص وبفرادته ومواهبه، ويشجّعها ويدعمها.
1.2 المسؤوليّة عن العالمما المسؤوليّة؟ ليست المسؤولية أنْ أكون مُجبراً على فعل أمر ما، بل هي التزام شخصيّ، هي أن أكون مدفوعاً بسبب من محبّتي للحياة أن أعتني بالآخر بدل الانسحاب إلى موقفٍ قاينيِّ لا يهتمّ بغيره[16]، وبالتالي لا يهتمّ بالحياة الشخصيّة، بالأنا الرحبة المنتعشة، التي لا تقوم بلا وجه الآخر.
المسؤولية عن العالم تفترض على الصعيد الاجتماعيّ محاربة الظالم والمُفَقِّر والمُستغِلّ لأننّا مسؤولون عن "صغار" العالم[17]. لكنّ مواجهتنا محكومة بمحبّة الأعداء التي تتناسب أكثر ما تتناسب مع أساليب النضال اللاعُنفيّ[18]. نناضل ضدّ الظلم ونبقى ننظر إلى الظالم كإنسان، لذلك نمتنع عن التشفّي والانتقام والحقد ذلك أنّنا مشدودون بين وصيتيّ محبّة الصغار ومحبّة الأعداء كما يوضح كوستي بندلي[19].
في الحياة الداخليّة الحركيّة، المسؤوليّة تعني التزاماً متواصلاً في الإرشاد والعمل المُنْتِج، حيث كلّ إنسان يشترك في العمل بحسب مواهبه وحيث كلّ شخص مهمّ بحدّ ذاته. والمسؤولية تقتضي التزام مشاكل الكنيسة الداخليّة، وتنمية الفكر النقديّ وحرّية التعبير والسؤال والبحث (المنتقصة حاليّاً)، وإرساء الروح المجمعيّة (الغائبة حاليّاً) وتأكيدها من خلال التزام مجالس الرعايا وتفعيلها، ومن خلال تحريك الجمود القائم في أنطاكية عن طريق عقد مجالس الأبرشيات، ولقاءات تجمع شعب الله حافظ الإيمان، وتُناقَش فيها هواجس المؤمنين. كم من إنسان، "علمانيّ" أو من "الإكيروس"، لا يعلم ما هي الصحارى التي نجتازها، لو علم بالصحارى لكانت له فرصة ليعرف بأنّه مُطالَب بالالتزام وبأنّ وجودَه وفِعْلَهُ مهمَّيْن لهذه الدرجة، علّه بذلك يضع يده على المحراث، فيزرع مع الزارعين، ويجمع مع الجامعين[20]. لقد بدا أحياناً أنّ الكثير منّا لا يعرفون حقيقة الأوضاع القائمة بسبب نقص في إشراك الناس في النقاش، وكأنّ معرفة الأزمات حكر على بعض "العارفين".
1.3 إحترام العالمالمحبّة تفترض احترام الكون وفهمه كما هو، كما تقتضي العناية به عوض تدميره المُنَظَّم. والمحبّة تفترض احترام حرّية الآخر طالما حرّيته لا تفعل شرّاً، أمّا في حالة الشرّ فالمحبّة تقتضي صلابة المواجهة لكن في أفق المصالحة، في أُفق اللقاء. احترام العالم يعني أن نحاول فهم العالم، وأن نحترم التمايز القائم في تنوّع الخبرة الإنسانيّة، ونسعى أن يكون هذا التمايز فرصة اكتشاف وغنى وتوبة. هذا الاحترام يعني أيضاً أن نتعرّف على مواضع النور أينما أشرقت وأن نستضيء بها، فلا نرفض مُسبقاً خبرة متمايزة، فقط لأنّها ليست نسخة عمّا ألفناه، دون أن يعني ذلك بأن نقبلها كما هي مُسبقاً، بل نختبر ونتمسّك بالحسن فلا نعيق عمل الروح[21].
1.4 معرفة العالمشرط احترام العالم/الإنسان ومحبّة العالم/الإنسان هو أن نسعى إلى معرفته كما هو من الداخل، معرفته كما هي المعرفة في الكتاب، أي معرفة العلاقة وليس فقط معرفة الدماغ. هذا الموقف يدعونا، على الصعيد الفرديّ والجماعيّ، إلى العناية بالطبيعة وحمايتها، وعلى الصعيد الشخصيّ العميق يعني ذلك رؤية العالم ووجودنا كأعجوبة وكهديّة من الله تستحقّ الحبّ والنضال والحياة.
على صعيد الفِعل الاجتماعيّ-السياسيّ-الاقتصاديّ الفاعل، المحبّة تعني معرفة العالم بالخبرة وبالعلم، وتضافر كلّ خبرة ومعرفةٍ ومساهمةٍ من أعضاء جسد المسيح المتناغم، جسد المسيح أي أبناء الكنيسة، وهؤلاء هم المحبّون من كلّ جهة أتوا لأنّ كلّ محبّ من الله يأتي، عَلِمَ ذلك أمْ لم يعلم[22].
1.5 الفكر والفعل في العالممن صلب مهمّة الحركة أن تتابع سعيها لـ"تنصير النصارى"، وتتابع نشر الفكر المسيحيّ الأرثوذكسيّ من خلال تعاونية النور الأرثوذكسيّة ومجلّة النور والإنترنت، وتواصل التزامها في العمل المسكونيّ على ما يعتريه من تردّد، والتزامها الحوار بين الأديان على القاعدة الحاليّة، قاعدة فهم الآخر كما هو، ونبذ التلفيق، ومحاولة اللّقاء على خدمة الإنسان وحمل هموم بلادنا ومنطقتنا العربيّة، و"الصحراء" كبيرة وتحتاج إلى إيمان وفعلٍ كثير[23]. وفي هذا الإطار، من الضروريّ أن نولي اهتماماً خاصّاً للّقاء بالشابات والشباب المنتسبين إلى جمعيّات وحركات شبابيّة أُخرى، مسيحيّة ولكن خاصّة إسلاميّة وعلمانيّة، ليس على صعيد القيادة فقط ولكن على صعيد الأعضاء أساساً. الإنسان لا يعرف طعم الملح إلاّ إذا ذاقه، عيش المحبّة كذوق الملح، يكون بالممارسة لا بالشرح؛ الكلام عن المحبّة والانفتاح، وقبول الآخر المختلف، وخدمة الناس كلّهم، واعتبارهم أبناء الله، لا يصير جزءاً من الشخصيّة الإنسانيّة إلاّ إذا عاشه الإنسان بالممارسة.
على صعيد آخر، فإنّ مواجهة تحدّيات الفكر المعاصر والمشاكل الجديدة المطروحة لا شكّ ضروري، لكن بالإضافة إلى الاطّلاع على التيّارات الفكريّة التي تطرح نفسها في منطقتنا وحول العالم ونقدها والحوار معها، فإنّ مفتاح رؤيةٍ مسيحيّةٍ مُبدعة في هذا المجال هو الإصغاء إلى الناس، إلى الشباب وإلى الأهالي وإلى العاملات والعمّال في بلاد الانتشار الحركيّ، الإصغاء إلى قلقهم وتساؤلاتهم ومخاوفهم والتفكّر معهم في ما يواجهون من مصاعب في العالم. إذا أمعنّا النظر نرى أموراً حيويّةً، ومشاكل وتحدّيات، تواجهنا في منطقتنا منذ زمن، وتطلّب صياغة ونشر روئً وتوجّهات تربويّة لمواجهتها؛ منها مثلاً الخوف، والقلق على الحاضر والمستقبل، والطائفيّة، والعنصريّة (الموجودة تحت ستار الوطنيّة)، واللاإلتزام، والالتزام السياسيّ العشوائيّ، والتهاون في مواجهة سياسات اقتصاديّة مجحفة، والتهاون بحقوق المظلومين (والفلسطينيّون منهم خاصّة[24])...
يمكن للحركة أن تلعب دوراً رائداً بالتعاون مع الجمعيات الأهليّة لخلق تيّار نقديّ للمجتمعات التي نعيش فيها، ومواجهٍ لتحدّياتٍ ومخاطر متعدّدة، ومنها ردّات الفعل الهستيريّة والحاقدة الذي يجرّنا إليها من لا يعرف للإنسان قيمة، ويغذّيها شعور المواطنين، لزمن طويل، بالعجز، والهامشيّة، والانسحاق تحت الأزمة الاقتصاديّة، والتهميش السياسيّ للمواطن الفرد.
تحدّي القرن الحاليّ هو "الخبز" والحرّية، وربّما كان هذا هو التحدّي الأكبر في مسيرة الإنسانيّة. المستغِلِّين يوهمون الناس بالحرّية (عندنا ولكن أيضاً في أميركا وأوروبا) و يمنعون عنهم"الخبز" (أي العمل، والطبابة، والسكن، والتعليم...). الحركة مارست وتمارس العمل الاجتماعيّ (كما في مشروع التبنّي المدرسيّ)، إلاّ أنّ معرفتنا للعالم اليوم تُعْلِمُنا بأنّ هناك بُنى إقتصاديّة سياسيّة واجتماعيّة هي التي تولّد الفقر والبطالة وتقمع الحرّيات (حرّية التعبير وحرّية العيش بكرامة)، هذه المعرفة تضعنا أمام مسؤوليتنا بأنّ نوسّع نشرها، ونعمّق التعليم الذي يكشف هذه الحقائق لأنّ في الحقائق مفاتيح الرؤية، الرؤية فالمسيرِ نحو التغيير، التغير ليس من أجل التغيير ولكن من أجل عالمٍ أكثرَ إنسانيّةً، أي أكثر ملكوتيّةً، وهذا من صلب الإيمان.
1.6 التغيير البنيويّلا يمكن للتغيير أن يقتصر على ممارسة الوعظ والتعليم والعطاء، على أهمّيتها وملحاحيّتها، بل عليه أن يتجاوز ذلك نحو تغيير المجتمع. وللحركة أن توضح أنّ هذا أمرٌ من صلب إيماننا، وجزء لا يتجزّأ منه، وليس أمراً جانبيّاً أو هامشيّاً فيه. فالمسيحيّة ولو أنّها لم تصف طرق الحكم الاجتماعيّ والسياسيّ، إلاّ أنّها ليست ديناً متحفيّاً، ولا هي دين "روحيّ" بالمعنى السلبيّ للعبارة أي بالمعنى الانسحابيّ الطقوسيّ البحت؛ حتّى الرهبان يلتزمون بالمجتمع ويلتصقون به عمليّاً[25]. هكذا فمن مهام الحركة أن تشجّع أعضاءها على الالتزام بالعمل الطلاّبيّ والنقابيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ والفنّي والثقافيّ، على أن يكونون شاهدين للمسيح[26] في كلّ ذلك، أي خادمين كلّ آخر وناقلين دفء محبّةِ الله، ومُستَدفِئين بعيون المُحبّين، ومُستَضيئين من كلّ حقيقة من أينما أتت، لأنّ كلّ حقيقة هي منه هو.
1.7 الاشتراك مع كلّ مخلص للإنسانالإيمان سُلّم إلينا مرّة واحدة[27]، لكنّ إيماننا ليس هو إيمان بمجموعة أفكار، وإنّما إيمانٌ-علاقةٌ بالله من خلال شخص يسوع المسيح، فإنْ كان المسيح وهب نفسه كلّياً، إلاّ أنّ موقفنا نحن من المسيح، علاقتنا نحن به، ليست محقَّقَة بشكل كامل، العلاقة به طريقٌ يسير فيه المحبّون، يتناضحون ويتناقلون نور الله، طريق يكشف فيها اللهُ نفسَه لهم من خلال بعضهم البعض، الله الذي أعطانا العالمَ أمانةً لكي نُنَمّيه ونُنَمّي أنفسنا[28] ونهتمّ بحياة بعضنا البعض[29].
على صعيد كلّ التزام في المجتمع، وخاصّة التزام العمل السياسيّ، هذا التوجّه يعني الانخراط في العمل ولكن مع المخلصين للإنسان كلّ إنسان، وليس فقط المخلصين للمسيحيّين أو اللبنانيّين، بل المخلصين لكلّ غريبٍ عن حرّية التعبير وكلّ غريبٍ عن العيش الإنسانيّ الكريم، لأنّ التحرّر من هاتين الغُرْبَتَيْن وحده يليق بصورة الله ويُسَهِّل المسير نحو مثاله. كما يعني الانخراط في العمل مع المخلصين للإنسان كلّ الإنسان، مهتمين مثلاً بالاستقلال والسيادة وحرّية التعبير ولكن أيضاً مهتمّين بإحقاق حقّ الناس بالعمل وبالطبابة والمأوى الكريم والصحّة والتربية والتعليم...
لكن أبعد من ذلك، المسيحيّ معنيّ بتجاوز تحقيق الحاجات-الحقوق تلك إلى رؤية الإنسان كابنة وابن لله وما ينبع من هذه الرؤية من سعيٍ كي يكون الإنسانُ دائماً هدفاً وليس وسيلة لأيّة قضيّة أو شعار أو شخص أو حزب أو فكرة[30] أو سياسة أو اقتصاد أو اجتماع. الإنسان هو محور اهتمامنا لأنّنا نرى فيه صورة الله حبيبنا. اتّخذ اللهُ البشرَ أجمعين بناتاً وأبناءً له بالتبنّي، صار الناس "عيالُ الله"[31]، صرنا على طريق الحرّية في الله فلا ينبغي أن نعود، أو نُهمل أحداً فيعود، إلى العبوديّة[32]. لقاء الله، الاتّحاد به، هو هدفنا، لهذا فإنّ التحرير الأخير هو تحرير الإنسان من الظلم ولكن في نفس الوقت تحرير طاقات الحبّ التي فيه، ذلك أنّنا نرى الله ساكن كلّ وجه جريح، جريح القهر السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وجريح انعدام الحبّ أيضاً؛ ونرى الإنسان صائراً إنساناً، مُحَقِّقاً طاقات إنسانيّته، في الاتّحاد بالله بممارسة المحبّة.
2 مخاطر حياة"...أُعطيك يدي!
أُعطيك حبّي الأثمن من المال،
أُعطيك نفسي قبل الوعظ أو القانون؛
هل ستعطيني نفسك؟ هل ستسافر معي؟
هلاّ التصقنا ببعض طالما حيينا؟" (الشاعر والت ويتمان)[33]
في المسعى الحركيّ الكنسيّ نحتاج إلى إيمان وعزم وحبٍّ للحياة، ونحتاج أن نتجاوز التجارب والأخطاء التي هي جزء من كلّ مغامرة حياة.
2.1 تجاوز تجربةِ ذهبيّةِ الماضيهذه التجربة، المترافقة مع نوع من البكاء على الأطلال، هي تجربة العودة إلى الماضي ورؤيته كعصر ذهبيّ، هي تجربة عامّة في الأديان وفي الحياة الشخصيّة (التفكّر بالماضي والتحسّر على أيّامه "الحلوة" ومقابلة ذلك بالأيّام الحاليّة "السيئة"، والحنين إلى تربية الماضي "الأفضل" من تربية اليوم)، وفي ذلك تعبير عن سأم من الواقع الحاليّ، وهروب غير مقصود من مواجهة تحدّيات الحاضر الجديدة وابتكار أُطر لتجاوزها، وتهرّب من ابتكار حلول جديدة لمشاكل جديدة وأوضاع، لا محال، جديدة. في إيماننا المسيحيّ لا هروب بل تحدٍّ للصعاب ومواجهة وتجاوز لها، إيماننا بالقيامة ليس إيمان بحدث ماضٍ بل هو إيمان بفاعليّة القيامة الآن من خلال الناس. القيامة فِعلٌ في التاريخ الذي يصنعه الإنسان مع الله كلّ يوم.
2.2 تجاوز تجربة تأبيد الماضيعامّة ما يكون النظر الدائم الحنينيّ إلى الماضي مترافقاً مع تجربة اعتبار أنّ كلّ جديد سيّء وأنّ الحقيقة هي في الماضي ونحن ليس علينا سوى نقلها كآلات تسجيل. لا شكّ أنّ الماضي يحمل حقائق ولكن مسؤوليتنا أن ننقلها في لغة اليوم، كما أنّ الحقيقة لم تتكشّف كلّها في الماضي ولا تتكشّف بشكل كامل لا اليوم ولا في المستقبل، ممّا يترك مجالاً لرؤية أوجهاً من الحقيقة لم تكن معروفة قبلاً إن فتحنا قلوبنا وعقولنا على نداءات أناس اليوم، وانفتحنا على روح الله الساكن فينا وأصغينا إلى هبوبه "حيث يشاء"[34]، وقرأنا "علامات الأزمنة"[35]التي نعيشها اليوم، وعملنا بجدّ.
2.3 تجاوز تجربة الطقوسيّةهناك أيضا مظهر من مظاهر الانسحاب من مواجهة أخطار ومشاكل وقلق الحياة، يكمن باللجوء إلى حلّ سحريّ -لا إيمانيّ- يكون بالانسحاب من التزام الحياة اليوميّة إلى الطقوس البحتة وهو أمرٌ لا يفعله حتّى الرهبان. إنّ في ذلك محاولة لإلغاء الدنيا بشكل وهميّ، محاولة للتهرّب من مواجهة ما تطرحه علينا السياسة والاقتصاد والمجتمع والتربية والحياة عامّةً من مواجهة وقلق. إلاّ أنّ هكذا تصرّف انسحابيّ ليس على "حسب قلب الله" الذي أراد أن نكون في العالم، معمّدين إياه[36]، أي محوّلينه إلى ملكوت، إلى مكان حضور إلهيّ في العلاقات اليوميّة.
2.4 تجاوز تجربة الدهريّةالتجربة الأخرى المناقضة لتجربة الطقوسيّة في الظاهر، والتي تشكّل وجهها الآخر في الحقيقة، هي تجربة الدهريّة، ليس بالمعنى الفلسفيّ للعبارة ولكن بمعنى إزاحة الله من الحياة اليوميّة. إنّه فعل طرد الله عمليّاً (ولو أنّنا في الظاهر نصلّي في الكنيسة) من الحياة الشخصيّة والارتماء في اتّباع النمط السائد من الوجود، نمط هذا الدهر، اتّباع "الشطارة" والـ"حرْبَقَة" (أي السرقة والاستغلال) وقياس الذات بما تملك والآخرين بما يملكون ("معك قرش بتسوى قرش") واتّباع نمط تجاريّ في الحياة مع الناس ("تتعامل" مع إنسان لأنّه "يمكن يلزملك"). هكذا يبقى العيش مُمِلاًّ بلا نكهة حياة، ذلك أنّه بعيداً عن المحبّة المعيوشة لا يوجد ماء[37] يروي عطش إنسانيّتنا إلى أن تصير أكثر إنسانيّةً، عطشها أن يملأها الحبّ، أي أن تتّحد بالله وبالبشر. في العمق تجربة الدهريّة هي تجربة عبادة الوثن[38]، ولو أنّ الفم يتلفّظ باسم الله[39].
أقول أنّ هذا النمط هو الوجه الآخر للوجه الطقوسيّ لأنّه هو أيضاً يحاول أن يغيّب ما يطرحه علينا العيش من قلق ومن تحدّيات ومن مواجهة ضروريّة لمشاكل تحتاج لابتكار حلول. ولكن بدل الهروب بوهم إلغاء الدنيا كما في تجربة الطقوسيّة، نُلغي أنفسنا ونذوب في الدنيا حتّى لا تبقى مسافة بيننا وبينها. في الحالتين نرى محاولة فاشلة لإلغاء الاختلاف بين الذات وبين العالم، محاولة لإلغاء التحدّي الذي يطرحه هذا الاختلاف، ولكن في ذلك خسارة للتوتّر الخلاّق الذي يمكن، لو تعهدناه، أن يكون فرصة إبداع وفرصة نموّ لنا في المسيح، فرصة نموّ في المحبّة التي لا تنمو إلاّ في الالتصاق بالله وتعهّد الدنيا لتصير تمتمة للملكوت. لا تنمو المحبّة إلاّ في تعهّد أوجاع الناس وغربتهم، تعهّدها بالعطاء والحنان كما وبالفعل السياسيّ والاقتصاديّ، بتغيير البُنى الجائرة منها، وتلك المكبّلة لطاقات المحبّة.
في حالتيّ الطقوسيّة والدهريّة نحن في إلغاء التمايز بين الذات والعيش، بالانسحاب أو بالذوبان، في الحالتين نحن في الخوف من مسؤوليّة الحرّية[40]، ونبقى تحت العبوديّة مخافة الموت[41]، الموت على صليب الحبّ.
2.5 تجاوز تجربة الأصوليّةالمسيح هو فينا، ولكنّه أمامنا، هو قال عن نفسه أنّه "الطريق"[42]، اللقاء به طريق، اللقاء به إذاً علاقةٌ حيّة ديناميّة، وليست علاقة جامدة اجتراريّة. المسيح لا يُمسك، لا يُمتلك، التسمّي به ليس صكّ ملكيّة[43]ـ لهذا فالإمساك بالحقيقة وامتلاكها غير ممكن. الأصوليّة تحاصر كلّ تجديد، وكلّ ريح تهبّ، وكلّ فكر رحب، وقد تختبئ خلف ستار الغيرة على الإيمان[44]، إلاّ أنّ الغيرة يجب أن تكون مقرونة بتمثّل موقف المسيح الذي لم يكسر قصبة مرضوضة ولم يُطفئ فتيلاً مدخّناً[45].
3 خلاصة: حبّ الله وحبّ الحياةالعودة إلى المسيحيّة كـ"ديانة الفرح"، الفرح والحبّ، الفرح من الحبّ، يجعلنا نتعهّد الحياة ونعارض أشكال الموت أينما وجدناها ونحاول أن نواجهها، فنصير قياميين.
وجود الحركة هو وجود مضيء أو تكون تخون سيّدها. في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مسعانا أن نشكّل بيئة ننمو فيها على محبّة الله والناس، الذين من مسؤوليّتنا الإيمانيّة أن نكون بينهم ولهم، لكي نحبّ جميعاً الحياة، ونفرح بها، مواجهين معاً صعوباتها. لهذا فنحن كأعضاء في الحركة مهمّتنا أن نعتني بالناس، ونحترم حرّيتهم، ونعرفهم، ونفكّر جاهدين ونفعل مثابرين، ونعمل مع مواطنينا على إرساء تغيير بنيويّ في مجتمعاتنا، ونسعى للاشتراك مع كلّ مخلص للإنسان من أجل إرساء تمتمات الحبّ في العالم، عاملين في مسعانا على تجاوز تجربة ذهبيّةِ الماضي وتأبيده، وتجاوز تجربة الانسحاب إلى طقوسيّة منعزلة، وتجربة الذوبان في دهريّة ميتة، وتجربة التحجّر في وهم امتلاك الحقيقة، منطلقين إلى رحاب الحبّ، حبّ الله وحبّ الناس، في تعهّدٍ للحياة التي وهبنا الله إيّاها، والتي يدمّرها المستغِلّون، وندمّرها بالاستكانة.
لا يمكن حبّ الله إلاّ بحبّ الحياة، نحن نعرف أنّنا "انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نحبّ الإخوة"[46]، هذا لبّ المسيحيّة وجسدها. الحبّ الفاعل هو حركتنا، هو حركة ثقتنا بأنّ الربّ قد غلب[47]، حتى تصير الأرض بمسعانا أرضاً جديدة يجدّدها روح الله الذي نزرعه في الهيكليّات الاجتماعيّة كما في العلاقات الشخصيّة ("ترسل روحك فيُخلقون وتجدّد وجه الأرض"[48])، حتّى يصير كلّ شيء جديداً، فتكون هكذا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة معبر حبٍّ-نارٍ أطلقه يومَ عُلِّقَ على خشبة، رجلٌ متروك ومُحتقرٌ كان قد قال الناس عنه يوماً أنّه مجنون[49]، وكان يتحرّق أن تكون تلك النار قد اشتعلت[50] حتّى تصير الأرض علّيقة ملتهبة[51]-أي مكان حضور إلهيّ- إلى أن يكون الله "كلّ شيء في كلّ شيء"، ويشرب المحبّون مع المسيح الخمرة جديدةً[52].
خريستو المرّ
[1] مذكور عند: كوستي بندلي، الإيمان والتحرير، منشورات النور، سلسلة الإنجيل على دروب العصر 13، طبعة ثانية، ص. 73
[2] "والله أرسَلَ اَبنَهُ إلى العالَمِ لا ليدينَ العالَمَ، بل ليُخلِّصَ بِه العالَمَ." (يو 3: 17)
[3] فلاديمير لوسكي،"اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق"، منشورات النور، 2000، ص. 144
[4] "أنا الكرمة وأنتم الأغصان"(يو 15: 5)
[5] حينما أقام المسيح لعازر قال لمرتا أنّ مجد الله سيظهر "أما قلتُ لكِ إنْ آمنت تشاهدين مجد الله؟". مجد الله إذاً هي قيامة الإنسان من الموت. وقد قال القدّيس نيقولا كاباسيلاس أنّ "مجد الله هو حياة الإنسان".
[6] يقول كوستي بندلي"لكنّ الكنيسة لن تخلص وحدها، لن تنجو من الفساد والتمزّق إلاّ إذا سعت جاهدة لإنقاذ المجتمع الواسع من فساده وتمزّقه".
كوستي بندلي "الإيمان والتحرير"، منشورات النور، 1997، ص. 98
[7] يقول سمعان اللاهوتي الحديث أنّ الثالوث "نورٌ لم يستطع أحد أن يراه قبل أن يتنقّّى، وأن يتقبّله قبل أن يراه، ذلك أنّ على المرء أن يراه أوّلاً ليقتنيه بعد ذلك بالمشقّاتوالجهادات المتعدّدة". راجع: فلاديمير لوسكي،"اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق"، منشورات النور، 2000، ص. 144
[8] لقد بنيتُ بداية تأمّلي على رأي إريك فروم في كتابه "فنّ الحبّ" بأنّ الحبّ يقتضي العناية بالآخر، والمسؤولية عنه، واحترامه، ومعرفته.
راجع: Erich Fromm, “The Art of Loving”, Perennial, 2000, p. 24-30
[9] راجع مثلاً في هذا الصدد كلام الله ليونان في سفر يونان، ذلك السفر الصغير والعميق بآن. وأيضاً سعي الله لرجوع الشعب (الحبيبة التي تركته) في إرميا.
[10] يو 21: 15-17
[11] نحن اليوم نستعمل أحيانا كلمة "الخراف" لندلّ على القطيعيّة والتبعيّة، أمّا هنا فتأتي بمعنى تحبُّـبِيّ، وتعكس حنان الله وسعيه المتواصل لرعاية الناس.
[12] من المفيد هنا أن نتأمّل بكلمة يسوع "ولي خرافٌ أخر ليست من هذه الحظيرة"(يو 10: 16).
[13] أنظر مثل الابن الضال، ومن المعبّر أكثر أن يُسمّى مثل الأب الحنون، (لو 15: 11-32) "فرآه أبوه قادما مِنْ بعيد، فأشفق عليه وأسرع إليه يعانقه ويقبّله"(الآية 20).
[14] "أقول لكم: هكذا يكون الفرح في السّماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التّوبة"(لو 15: 7)
[15] "أما يُباعُ خمسة عصافير بدرهمين؟ نعم، ولكنّ الله لا ينسى واحدا منها؟ لا بل شَعْرُ رؤوسكم نفسه معدود كلّه. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة!" (لو 12: 6-7)
[16] "فقال الرّبّ لقايين: «أين هابيل أخوك؟ قال: «لا أعرف. أحارِسٌ أنا لأخي؟" (تك 4: 9)
[17] "كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه...كلّ ما لم تفعلوه بأحد بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه". (متى 25: 31-46)
[18] يرى كوستي بندلي أنّ النضال المتوافق مع الإنجيل هو النضال اللاعنفيّ، ولكن في حالة استُنْفِذت كلّ الوسائل اللاعنفيّة لإزالة الظلم والقهر فإنّ النضال العنفيّ قد يكون أهون الشرّين، إلاّ أنّ الإيمان يفترض شروطاً جادّة وصارمة في حال اتّخاذ النضال العنفيّ سبيلَ تحريرٍ لأنّ عثرات النضال العنفيّ تاريخيّاً كبيرة جدّاً، وآخرها بالنسبة لنا الحرب الأهليّة اللبنانيّة البشعة التي استُعْمِلَت فيها كلّ الشعارات من أجل إلغاء الآخر. ومن هذه الشروط: اجتناب مذهبة العنف وتمجيده، أن لا يقترن العنف بالكراهية، ألاَّ يُقَدَّس الموت بحد ذاته، اجتناب احتقار الخصم وتجريده من إنسانيته، حصر العنف في هدف إزالة الظلم والقهر.
راجع: كوستي بندلي "نضال عنفيّ أو لا عنفيّ لإحقاق العدالة ؟"، منشورات النور، 1988
[19] المرجع السابق
[20] ولنذكر كلمة يسوع أنّ "من لا يجمع معي فهو يُفَرِّق" (لو 11: 23)
[21] "لا تعيقوا عمل الروح... إمتحنوا كلّ شيء وتمسّكوا بالحسن" (1 تس 5: 19، 21)
[22] يقول المطران جورج خضر "والكنيسة هي أنتَ والمسيح والذين يُحِبّونه بحقّ"
راجع: المطران جورج خضر "العثرات"، النهار، 3 كانون الأوّل 2005.
ويتكلّم كوستي بندلي عن كنيسة الله "التي تضمّ في رحابها كلّ من كان روح الله يسوع ساكنًا فيه حتى إذا كان خارج حدود الكنيسة المنظورة، وقد قيل بحق: أن كثيرين ممن يُظنون في الداخل هم في الخارج، وكثيرون ممن يُظنون في الخارج هم في الداخل"
راجع: كوستي بندلي، "موقف إيمانيّ من الطائفيّة"، منشورات النور، 1985، ص. 71
[23] "الحصاد كثير والفعلة قليلون"(لو 10: 2)
[24] يعتقد البعض أنّ على الإنسان أن يحبّ أهل بيته، ووطنه، أوّلاً. الحقيقة أنّ المحبّة هي طريقة حياة، لهذا يمارسها الإنسان بشكل تلقائيّ، بلا حدود. ثمّ أنّ وصية محبّة "الغريب"، بالمعنى العام، أيّ بمعنى كلّ ما لا ينتمي إليّ بالنسب أو بالمواطنيّة أو بالدين أو بأيّ شكل آخر من أشكال التعريف الأُخرى، هي وصيّة أساسيّة. هي وصيّة موجودة في العهد الجديد الذي يوصينا فيه المسيح بمحبّة الصغار، وبمحبّة القريب الذي تجعله قريباً إليك بمحبّتك له، وهذا ما علّمه يسوع في مثل السامري الصالح (لو 10: 25-37). إلاّ أنّ وصية محبّة الغريب موجودة أيضاً في العهد القديم: "شريعة واحدة تكون للمواطن والغريب النازل فيما بينكم" (خروج 49:12) "والغريب فلا تظلمه ولا تضايقه، فإنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خروج 25:22). "وليكن عندكم الغريب المقيم فيما بينكم كأحد مواطنيكم، أحبّوه مثلما تحبّون أنفسكم، لأنكم كنتم غرباء عن أرض مصر. أنا الرب إلهكم." (لاويين 33:19- 34)." كلّ إقصاء "للغرباء" عن دائرة ممارسة المحبّة، تراجع لإنسانيّتنا، وفي العمق هو عبادة لوثن، وثن العائلة، أو الدين، أو الطائفة، أو الوطن، أو القوميّة...
[25] راجع: المطران جورج خضر، "الفقر والغنى في الكتاب المقدّس"،منشورات النور، سلسلة تعرّف إلى كنيستك 5، 1982
راجع أيضاً: كوستي بندلي، الإيمان والتحرير، منشورات النور، سلسلة الإنجيل على دروب العصر 13، طبعة ثانية، ص 15
[26] " الرّوح القدس يحلّ عليكم ويهَبُكُم القوّة، وتكونونَ لي شُهوداً في أورشليم واليهوديّة كلّها والسّامرة، حتى أقاصي الأرض"(أع 1: 8)
[27] "الإيمان الّذي سُلِّمَ مرّة واحدة للقدّيسين" (يهوذا 1: 3)
[28] مثل الوزنات (متّى 25: 14-30)
[29] يتكلّم يسوع في مثل الخادم الأمين عن "الخادم الأمين العاقِل الّذي أوكل إليه سيّده أن يعطي خدمه طعامهم في حينه". (متّى 24: 45-51)
[30] هتلر أتى تحت شعار "الاشتراكيّة" وستالين "الماركسيّة" والولايات المتّحدة "الحرّية" وأوروبا "تحضير" (من حضارة) "المتخلّفين"، إلى ما هنالك من شعارات وأفكار أقربها زمنيّاً تلك التي مارسها البعض في لبنان بجنون مدمّر للإنسان ولمقوّمات حياة كريمة في لبنان أثناء الحرب البشعة.
[31] "الخلقُ كلُّهم عيال الله فأحبّهم إليه أنفعُهم لعياله"، حديثٌ شريف.
[32] "لقد اشتُريتم بثمن فلا تصيروا عبيداً للناس" (1 كو 7 : 23)
[33] مذكور في:
Erich Fromm “The Heart of Man”, Harper, 1964, p. 61
[34] "فالرّيحُ تهبُّ حيث تشاء، فتسمع صوتَها ولا تعرف مِنْ أين تجيء وإلى أين تذهب: هكذا كلّ مَنْ يولدُ مِنَ الرّوح" (يو 3: 8)
[35] متى 16: 1-4
[36] "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم معمّدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس"(متى 28: 19)
[37] "نبذوني أَنا ينبوع الحياة، وحفروا لأنفسهم آباراً مُتَصدِّعة لا تضْبط ماء" (إرميا 2: 13)
[38] "أمّا أنْتَ ياشعبَ الله فقد زنيْت مع عُشَّاقٍ كثيرين، فهلاّ ترجع إليّ؟" (إرميا 3: 1). هذا نداء الله للمسيحيين أيضاً.
[39] "هذا الشعب يمجّدني بشفتيه وأمّا قلبه فبعيد عنّي، فهوَ يخافُني ويعبُدُني بتعاليم وضعها البشر" (إشعيا 29: 13) (متى 15: 8-9)
[40] راجع كتاب إريك فروم حول الحرّية والخوف من الحرّية:
Erich Fromm, “Fear from Freedom”, Routledge Classics, 2004
يقول الفيلسوف الروسيّ نيقولا بردياييف: "الحرّية في الحياة الدينيّة واجب. الإنسان ملزمٌ بأن يحمل عبء الحرّية وليس له الحقّ بأن يتخلّص منه. الله لا يقبل إلاَّ البشر الأحرار، إنّه لا يحتاج إلاّ إلى بشرٍ أحرار."
راجع: كوستي بندلي "إله الإلحاد المعاصر"، منشورات النور، 1968، ص. 141
[41] " شاركهم يسوع كذلك في طبيعتهم هذه ليقضي بموته على الذي في يده سلطان الموت، أي إبليس، ويُحَرِّر الذين كانوا طوال حياتهم في العبوديّة خوفا من الموت" (عب 2: 14)
[42] "أنا هو الطريق والحقّ والحياة لا يَجيء أحدٌ إلى الآب إلاّ بي" (يو 14: 6)
[43] جاء عن لسان يوحنّا المعمدان: "لا تقولوا لأنفسكم أنّ أبانا هو إبراهيم. أقول لكم: إنّ الله قادر على أن يجعل من هذه الحجارة أبناءً لإبراهيم" (متى 3: 9)
[44] "غيرة على بيتك أكلتني" (مز 69: 10)
[45] "القصبة المرضوضة لم يكسر والفتيل المدخّن لم يُطفئ" (متّى 12 :20)
[46] 1 يو 3: 14
[47] "ثقوا قد غلبت العالم" (يو 16 :33)
[48] مز 104: 30
[49] "وسمِعَ أقاربه، فجاؤوا ليأخذوه لأنّ بعض النـاس قالوا: «فقَدَ صوابَهُ«" (مر 3: 21)
[50] "جئتُ لأُلقي ناراً على الأرض، وكم أتمنّى أن تكون اشتعلت" (لو 12: 29)
[51] "فتَراءى له مَلاكُ الرّبّ في لهيبِ نار منْ وسط العُلَّيقة. ورأى موسى العُلَّيقة تتوقَد بالنّار وهي لا تحترق" (خروج 3: 2)
[52] "لا أشرب بعد الآن مِنْ عصير الكرمة، حتى يجيء يوم فيه أشربه جديدا في ملكوت الله"(مر 14: 25)