الجنس والحبّ
الآداب، العدد 11 – 12، 2010
أمام الممارسات الجنسيّة التي يمكن أن توصف بالمتردّية، أي التي يُشَيّأ فيها الإنسانُ، قد تختلف مواقفُ المرء. فقد يقول واحدٌ إنّ هذا شأن خاصّ لا علاقة لأحد به؛ وقد يذهب آخرون إلى أنّ هذا وضع منافٍ للكرامة الإنسانيّة وللأخلاق، أو لأخلاق مجتمعـ"نا" و دينـ"نا"، ليقولوا بضرورة منع هذه الممارسات ولو بقوّة القانون. في هذه المقالة سنلقي على موضوع الممارسة الجنسيّة نظرةً نعتقد أنّها مختلفة، وقد تمكّن القارئ من مقاربة الموضوع من زاويةٍ أكثر واقعيّةً وإنسانيّةً، وأقلّ ميوعةً وتحجّرًا.
1 الجنس والحبّ
يبدو لنا بالخبرة اليوميّة أنّ الإنسان مدفوع إلى أمرَيْن: أن يتواصل بغيره إلى أقصى درجة ممكنة، وأن يكون ذاتَه إلى أقصى درجة ممكنة.[1]فالإنسان مدفوع، من ناحية، إلى الاتّحاد بالآخرين، إلى التواصل الحقيقيّ العميق الذي به يلاقي فعلاً شخصًا آخر وأشخاصًا آخرين؛ ذلك أنّ الإنسان، من دون تواصل، يبقى في عزلة لا تُحْتَمَل. لكنّ التواصل يمكن أن يكون حقيقيًا بحيث يحافظ كلّ على ذاته ويلاقي الآخر في غيريّته. ويمكن أن يكون وهميًا بحيث ينغلق الإنسان على ذاته هربًا من صعوبة التواصل، فيَخْضَعَ للآخرين ملغيًا فرادته، أو يتسلّط عليهم ملغيًا فرادتهم. ومن هنا فإنّ مسعى تحقيق الاتّحاد يستدعي بالضرورة مسعى الحرّية.
ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان مدفوع أن يكون ذاته، أن يحقّق إمكانيّاته، طاقاته، فرادته، وإلاّ فقد قدرته على أن ينمو بشكلٍ صحّيّ. إنّ أية علاقة متّزنة بالآخرين غير ممكنة بدون ذاتٍ صلبةٍ، متحقّقة. وتحقيق الذات يفترض بالضرورة التمايز عن الآخرين تحقيقًَا للفرادة الشخصيّة؛ فيتجنّبون جميعهم أيّة علاقة خضوع ـ تسلّط. ومن هنا نرى أنّ مسعى تحقيق الفرادة يستدعي، بدوره، مسعى تحقيق الحرّية.
ولكنّ مسعَيَي الاتّحاد والتمايز، اللذين يتمّان في بيئة الحرّية، يشكّلان معًا ما يمكن تسميته بمسعى تحقيق المحبّة. فالمحبّة هي مسعى الاتّحاد في التمايز، في بيئة الحرّية. ولا غنى للإنسان عن تحقيق مسعى المحبّة، هذا، لأنْ لا غنى له عن تحقيق الاتّحاد والفرادة، وإنْ بطرق مختلفة: بالصداقة، والنضال مع رفاق الدرب، وبالعلاقات داخل مجموعة إيمانيّة أو وطن؛ الشرط هو أن تحافظ هذه كلّها على مبدأي الاتّحاد والفرادة في آن، وذلك في بيئة الحرّية، بلا تسلّط ولا خضوع، خارج جدران العزلة.
إلاّ أنّ علاقة الاتّحاد في التمايز التي يدخل فيها الإنسانُ بذاته كاملةً، بكلّ جسده ووجدانه، هي علاقة الحبّ. الحبّ تحقيق فريد ومميّز لطاقة المحبّة، أكثر شمولاً لكلّيّة الإنسان من حيث البعدُ الجسديّ بكامله. من هذا المنظار، يكون الجنس طاقة إيجابيّة رائعة تدفعنا خارج عزلاتنا، كي نقيم علاقة اتّحاد عميق وأصيل مع آخر مختلف، فريد، في حرّية. ولهذا فإنّ الخبرة الجنسيّة تشوبها الخشية لأنّ الجنس ضربٌ لتوهّمنا بأنّنا كاملون بذاتنا.[2]
الجنس، من هذا المنظار الوجوديّ، لغةُ حبّ، لغةُ تواصلٍ بالجسد، كما أنّ الكلام لغةُ تواصلٍ باللسان، وكما أنّ العمل المشترك لغةُ تواصلٍ بالخلق، إلخ. بالطبع يتميّز الجنس عن الخبرات التواصليّة الأخرى بالكثافة، إذ يعيشه الإنسانُ بجسده ووجدانه، يعيشه بكلّيته. الجنس في الحبّ عنصرٌ في حركة اتّحادٍ لا يهدأ الإنسانُ حتّى يبْلغَها، ولا يبْلغَها حتّى يطلب منها المزيدَ؛ ذلك أنّ الاتّحاد حاصلٌ وغير مكتمل في آن واحد. هذا هو معنى الجنس: إنّه في الحبّ مساحةُ لقاءٍ بالآخر، وبه يتابع الحبيبان متعةَ لقائهما العاطفيّ والفكريّ بمتعة لقاءٍ جسديّ أكثر كثافةً من أيّة متعةٍ أخرى.
أما الجنس بلا حبّ، أكان مقابلَ مالٍ أمْ مجدٍ أمْ غير ذلك، فيصير مجرّد متعةٍ وإثارةٍ وانتفاضة أجساد، تبقى عند حدود جِلْد الآخر ولا تبلغ شخصَه، "قلبه،" لا تبلغه هو. تبقى الأنا مع الأنت، ولا يتشكّل الـ "نحن" الذي لا يلغي الأنا أو الأنتَ. يصير الجنس عزلةً تقابل عزلةً، "جدارًا يلتقي جدارًا"؛[3] هزّة جماعٍ مقابل هزّة جماع؛ عمليّةَ استمناءٍ مزدوج. والجدير بالذكر هنا أنّ الأبحاث النفسيّة دلّت على أنّ الإشباع الجنسيّ نفسه لا يلاقي قمّته بلا حبّ يجمع الطرفين.[4]
الجنس طاقة تُحرِّكنا نحو الآخر تسمح بتتويج مسار اتّحاد فكريّ وعاطفيّ متواصل. الجنس من دون مرمى الاتّحاد في التمايز، أي من دون مرمى الحبّ، يخفق في تحقيق غائيّته. من هذا المنظار يمكننا أن ننظر إلى الجنس نظرةً رحبةً تراه ذا معنى حقيقيّ ومُفرح، عوض أن ننظر إليه نظرةً متزمّتة تناهضه وتناهض بذلك قوى الحياة والفرح في الإنسان، أو نظرةً مائعةً تهْدر طاقات الحياة بقطعه عن غائيّته تلك. إنّ النظرتين المتزمّتة والمائعة تشتركان في قمع الجنس الإنسانيّ: الأولى تقمعه بمحاولة تكبيله وذمّه والنظر إليه بريبة وعلى أنّه شيء بشع وإنْ كان لا بدّ منه من أجل التوالد؛ والأخرى تقمعه بقطعه عن مداه، عن تحقيق مرماه، وذلك بتتفيهه، بإطفائه على الجلد عوضًا من اتّخاذه طاقةَ عبورٍ إلى أعماق الاتّحاد بالآخر.
2 عن بعض الممارسات الجنسيّة
لن نعلّق على ظاهرة الدعارة المنتشرة بشكل واسع، بل على ما يتناقله المجتمعُ من أخبار حول تصرّفات جنسيّة لا تتوافق مع الحبّ، وعادةً ما توصف بـ "الانحلال،"[5] وذلك من خلال المنظور أعلاه.
إنّ تحقيق المحبّة (الاتحاد في التمايز) مشكلة يواجهها الإنسانُ في حياته بطرقٍ مختلفة. فقد يخضع لغيره ليتخلّص من عبء ذاته، من عبء تحقيق الاتّحاد وتحقيق التمايز، وذلك مقابل وهْم التواصل (نقول "وهْم" لأنْ لا تواصل بلا ذات حرّة)؛ أو يتسلّط على غيره كي يبقى معه، فيتوهم أنّه في تواصل معه (وهذا غير ممكن أيضًا لأنّ ذات الآخر ليست حرّة). الطريقة الثالثة هي في محاولة الهروب من المشكلة بواسطة المخدّرات؛ فهذه تخدّر أساسًا الوجع الوجوديّ الناتج عن عدم القدرة على تحقيق المحبّة والحبّ، أيْ عدم القدرة على الاتّحاد في التمايز بآخر وآخرين.
لكنّ المخدّرات أنواع، منها المخدّرات المادّية المعروفة تحت هذا الاسم، ومنها المخدّرات المعنويّة كالجنس. إنّ الإثارة ـ اللذّة العارمة التي ترافق الجنس تسمح للإنسان بتناسي اللافرح الناتج من حالة اللالقاء واللااتّحاد واللاحبّ التي يعيشها. إنّها لذّة هاربة، يعود بعدها الإنسانُ إلى عزلته الداخليّة عقب رعشة الجماع. والمأساة التي قد يعيشها الإنسان عندها هي أنّه قد يعود ليجرّب الطريقَ ذاتَها، طريقَ الجنس المقطوع عن الحبّ، في نوع من الإدمان؛ إذ يشعر الإنسان بعزلته فيعاود طريق اللذة المبتورة عن اللقاء طلباً للذّة تنسيه العزلة للحظات، فإذا به يجد نفسه من جديد في عزلته، وهكذا دواليك.
إنّ الجنس هو خبرة مكثفة جدًا، وجميلة جدًا، إلى درجة أنّها مرشّحة أن تصبح وهمَ لقاءٍ عندما يتم فصلُها عن الحب، لأنّ لذّتَها تبقى مع أنّ غايتها لا تتحقّق، وطاقتَها تتفجّر مع أنّها لا تتّجه إلى هدف. عند فصل الجنس عن الحبّ، عن هدف الوحدة في التمايز، لا يبقى منه سوى شكل الممارسة، مع شيءٍ من لذّةٍ مرحليّة، ولكنْ ينتفي منه الإشباعُ الوجوديّ الذي لا ينتج إلاّ من لقاءٍ بالآخر، بـ "قلبه." قد نعود إلى هذه الخبرة أملاً في العثور على ذلك التواصل المفقود، والتغلّبِ على العزلة[6]؛ ولكنّ هذا غير ممكن بلا حبّ، أي بلا اتحاد في تمايز. ومن هنا فإنّ التهتّك، أو الاستهتار الجنسيّ، يدين ذاته بذاته، لأنّه يفشل في فتح باب تحقيق الحبّ، باب الاتّحاد بالآخر في التمايز، أمام الإنسان. بدون لقاء أصيل، بدون مسعى اتّحاد في التمايز، بدون مسعى حبّ، يبقى الجنس صرخةً في الفراغ، يبقى دون بلوغ منتهاه، يبقى بلا تحقيق لمعناه، لأنّه يُبقينا معزولين.
3 أبعاد أُخرى
لكنّ الحياة الجنسيّة تتأثّر أيضًا بالخبرة التي يعيشها الإنسانُ في مجتمعه. ويبدو لي أنّ السلوك المتهتّك يعكس لنا انعدامَ بوصلةٍ وجوديّةٍ في حياةِ مَن يعيشه. كما أنّه يعكس، في رأيي، وبخاصّةٍ عند الشباب، احتجاجًا هروبيًا من المجتمع المنافق، والسطحيّ، الذي نعيش فيه. وفي لبنان هو، برأيي، يعكس ردّة فعل على التدين المنافق والقيم المنافقة؛ فالحرب الأهلية في لبنان أظهرت بوضوح الوجه الـمُنافق للمجتمع اللبنانيّ (وخاصة التديّن المنافق) بسبب ارتكاب المذابح باسم الدين، واستخدام الطوائف لله أداةَ حربٍ وسؤددٍ واستكبار. أمّا الحرب فتوقّفت دون محاكمات ولا حتّى اعترافات بالجرائم واعتذارات (فسقطت القيم أي أسس الدولة)؛ ونشأت قيمة وحيدة في المجتمع اللبنانيّ، قيمةٌ أتت في المقام الأول (أكثر من أي وقت مضى) وهي قيمة المال، وتليها قيمة الشهرة. ولكن المال والشهرة كهدف في حياة الإنسان، يولّدان الخواء[7]؛ يولّدان فراغاً يؤدي إلى العزلة والضجر اللذين قد يدفعان إلى ممارسة جنسيّة استهلاكيّة[8] بلا أفق ولا فرح[9]، لأنّ الأحجية الأساس في الحياة الإنسانيّة، أحجيّة تحقيق المحبّة، لا تجد لها حلاّ بهما. وفي هذا السياق، يأتي الجنسُ المتهتّكُ وسيلة احتجاج وهروب، للتغلب على الفراغ والملل[10]، في مجتمع منافقٍ يؤلّهُ المالَ ويولّد الخواء، مجتمعٍ يدّعي الإيمان بإله محبّة، بينما يهمّش ـ في الممارسة اليوميّة ـ الحبَّ والعاطفةَ والفكرَ، ويشيّء الإنسان فعليًا. لهذا، وعلى الرغم من الوجه الاحتجاجي ـ الهروبيّ للجنس المقطوع عن الحبّ، والذي يُمارَسُ ردّةَ فعلٍ على الضياع العام والتفاهة، فإنّ الإنسان الذي يمارسه يبقى في ميدان المخدّرات، في ميدان الوهم، في ميدان قمع الجنس عن تحقيق مرماه، أي تحقيق اللقاء بالآخر، ويبقى بلا حلّ للأحجية الإنسانيّة التي يجب عليه أن يجيب عليها بلحمه ودمه، وبالتالي يبقى إنسانًا قلقًا حتّى الأعماق.
إنّ التهتّك والاستهتار الجنسيّ يسيران، كلاهما، في الخطّ الذي يسير فيه المجتمعُ اللبنانيّ الحاليّ القائم على عبادة المال وتهميش العاطفة والفكر والحبّ، ألا وهو خطّ تشييئ الإنسان وتتفيهه؛ خطُّ هدر الإنسان لذاته. ومن هنا قلنا إنّ الجنس المقطوع عن الحبّ احتجاج هروبيّ. فالاحتجاج الحقيقيّ الذي يستجيب توقَ أعماق الإنسان يكون في تأسيس نمط حياة، شخصيّة وجماعيّة، يُخالف التوجّهات الأخلاقيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي تتفّه الإنسان وتحكم عليه بالعزلة والضمور؛ يكون بتأسيس أطرٍ لعيش المحبّة والحبّ، شخصيًا، في الجماعة؛ يكون بممارسة حرّية حقيقيّة، حرّية حبّ حقيقيّ، حرّية وحدةٍ في التمايز.
4 خاتمة
بناء على تحليلنا هذا، فإنّنا نعتقد أنّ إعادةَ الاعتبار إلى المحبّة والحب قيمتين مركزيّتين في الحياة، وممارسةَ هاتين القيمتَين في أرض الواقع، هما اللتان يمكن أن تنجّيا الجنسَ من تتفيه الميوعة، ومن تكبيل التزمّت. ونرى أنّ مجتمعنا في حاجة حقيقيّة ومُلحّة إلى مشاريع ثقافيّة وأخلاقيّة وسياسيّة واجتماعية غير منافقة، تضع الإنسان ـ وبالتالي المحبّة والحبّ ـ في مركز النشاط البشريّ، فتطلق طاقاتِ الحياة، طاقاتِ الاتّحاد في التمايز، في بيئة الحرّية. وهذا ليس بأقلّ من ثورةٍ روحيّة، بالمعنى الأصيل للكلمة، معنى إحياء الإنسان بمدّه بوسائل تحقيق ملء قامته. وهذا، بالنسبة إلى من يؤمن، حياةٌ في الله، حياةٌ تجدّد وجهَ الأرض، من أجل أن يكون الإنسانُ في فرحِ الحبّ، في المدى الشخصيّ والاجتماعيّ في آن واحد.
خريستو المرّ
مراجع
[1]خريستو المرّ، «الانقلاب على المبادئ: هل من تقييم أخلاقيّ؟»، مجلّة الآداب، عدد 9-10، 2009، ص. 30-35
[2]كوستي بندلي، "الجنس في أنواره وظلاله"، منشورات النور، 2000، ص. 181-182
[3]يقول الشاعر خليل حاوي في قصيدة "زحفت يداك": كنّا جداراً يلتقي جدار/ ما أوجع الحوار/ ما أوجع القطيعه/ تغصّ بالفجيعة/ ما أوجع الجوار."
[4] كوستي بندلي، الجنس ومعناه الإنسانيّ ( منشورات النور، الطبعة 2، 1980)، ص45-52.
[5]أنظر الخبر التالي كمثل:
"شبان لبنانيون في المزاد العلني"، صحيفة النهار، الجمعة 08 كانون الثاني 2010 - السنة 77 - العدد 23923
[6] كوستي بندلي، "الجنس ومعناه الإنسانيّ"،ط. 3، منشورات النور، بيروت، 1985، ص. 42 - 43
[7] فإذا بالإنسان "يكثر من وسائل العيش les moyens de vivre على حساب مبرّرات العيش les raisons de vivre" كما يقول المحلّل النفسيّ جورج موكو؛ وإذا بالمرء "فقير وسط خيراته المتراكمة... وإذا به جائع كيانيّاً...ينهشه الفراغ المتأتّي عن إهماله تحقيق وجوده" كما يتابع كوستي بندلي. راجع:
كوستي بندلي، "فتنة الاستهلاك أم فرح المشاركة"، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، بيروت، 2001، ص. 126
[8] يشير المحلّل النفسيّ إريك فروم"بأنّ "الرغبة الجنسيّة يمكن أن تُحَفَّز بواسطة القلق من الوحدة"
Erich Fromm, “The Art of Loving”, New York, Perennial, 2000, p. 50
[9] Erich Fromm, “Avoir ou Etre”, Robert Laffont, Paris, 1978, p. 140
[10] إنّ استهلاك المخدّرات هو محاولة لنسيان الذات وقلقها بالدخول في حالة غيبوبة، ويستعمل الإنسان الكحول والممارسة الجنسيّة للوصول إلى الهدف نفسه، هدف نسيان الذات في محاولةٍ لتجاوز قلق العزلة. راجع:
Erich Fromm, “The Art of Loving”, Perennial, New York, 2000, p. 9-12
1 الجنس والحبّ
يبدو لنا بالخبرة اليوميّة أنّ الإنسان مدفوع إلى أمرَيْن: أن يتواصل بغيره إلى أقصى درجة ممكنة، وأن يكون ذاتَه إلى أقصى درجة ممكنة.[1]فالإنسان مدفوع، من ناحية، إلى الاتّحاد بالآخرين، إلى التواصل الحقيقيّ العميق الذي به يلاقي فعلاً شخصًا آخر وأشخاصًا آخرين؛ ذلك أنّ الإنسان، من دون تواصل، يبقى في عزلة لا تُحْتَمَل. لكنّ التواصل يمكن أن يكون حقيقيًا بحيث يحافظ كلّ على ذاته ويلاقي الآخر في غيريّته. ويمكن أن يكون وهميًا بحيث ينغلق الإنسان على ذاته هربًا من صعوبة التواصل، فيَخْضَعَ للآخرين ملغيًا فرادته، أو يتسلّط عليهم ملغيًا فرادتهم. ومن هنا فإنّ مسعى تحقيق الاتّحاد يستدعي بالضرورة مسعى الحرّية.
ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان مدفوع أن يكون ذاته، أن يحقّق إمكانيّاته، طاقاته، فرادته، وإلاّ فقد قدرته على أن ينمو بشكلٍ صحّيّ. إنّ أية علاقة متّزنة بالآخرين غير ممكنة بدون ذاتٍ صلبةٍ، متحقّقة. وتحقيق الذات يفترض بالضرورة التمايز عن الآخرين تحقيقًَا للفرادة الشخصيّة؛ فيتجنّبون جميعهم أيّة علاقة خضوع ـ تسلّط. ومن هنا نرى أنّ مسعى تحقيق الفرادة يستدعي، بدوره، مسعى تحقيق الحرّية.
ولكنّ مسعَيَي الاتّحاد والتمايز، اللذين يتمّان في بيئة الحرّية، يشكّلان معًا ما يمكن تسميته بمسعى تحقيق المحبّة. فالمحبّة هي مسعى الاتّحاد في التمايز، في بيئة الحرّية. ولا غنى للإنسان عن تحقيق مسعى المحبّة، هذا، لأنْ لا غنى له عن تحقيق الاتّحاد والفرادة، وإنْ بطرق مختلفة: بالصداقة، والنضال مع رفاق الدرب، وبالعلاقات داخل مجموعة إيمانيّة أو وطن؛ الشرط هو أن تحافظ هذه كلّها على مبدأي الاتّحاد والفرادة في آن، وذلك في بيئة الحرّية، بلا تسلّط ولا خضوع، خارج جدران العزلة.
إلاّ أنّ علاقة الاتّحاد في التمايز التي يدخل فيها الإنسانُ بذاته كاملةً، بكلّ جسده ووجدانه، هي علاقة الحبّ. الحبّ تحقيق فريد ومميّز لطاقة المحبّة، أكثر شمولاً لكلّيّة الإنسان من حيث البعدُ الجسديّ بكامله. من هذا المنظار، يكون الجنس طاقة إيجابيّة رائعة تدفعنا خارج عزلاتنا، كي نقيم علاقة اتّحاد عميق وأصيل مع آخر مختلف، فريد، في حرّية. ولهذا فإنّ الخبرة الجنسيّة تشوبها الخشية لأنّ الجنس ضربٌ لتوهّمنا بأنّنا كاملون بذاتنا.[2]
الجنس، من هذا المنظار الوجوديّ، لغةُ حبّ، لغةُ تواصلٍ بالجسد، كما أنّ الكلام لغةُ تواصلٍ باللسان، وكما أنّ العمل المشترك لغةُ تواصلٍ بالخلق، إلخ. بالطبع يتميّز الجنس عن الخبرات التواصليّة الأخرى بالكثافة، إذ يعيشه الإنسانُ بجسده ووجدانه، يعيشه بكلّيته. الجنس في الحبّ عنصرٌ في حركة اتّحادٍ لا يهدأ الإنسانُ حتّى يبْلغَها، ولا يبْلغَها حتّى يطلب منها المزيدَ؛ ذلك أنّ الاتّحاد حاصلٌ وغير مكتمل في آن واحد. هذا هو معنى الجنس: إنّه في الحبّ مساحةُ لقاءٍ بالآخر، وبه يتابع الحبيبان متعةَ لقائهما العاطفيّ والفكريّ بمتعة لقاءٍ جسديّ أكثر كثافةً من أيّة متعةٍ أخرى.
أما الجنس بلا حبّ، أكان مقابلَ مالٍ أمْ مجدٍ أمْ غير ذلك، فيصير مجرّد متعةٍ وإثارةٍ وانتفاضة أجساد، تبقى عند حدود جِلْد الآخر ولا تبلغ شخصَه، "قلبه،" لا تبلغه هو. تبقى الأنا مع الأنت، ولا يتشكّل الـ "نحن" الذي لا يلغي الأنا أو الأنتَ. يصير الجنس عزلةً تقابل عزلةً، "جدارًا يلتقي جدارًا"؛[3] هزّة جماعٍ مقابل هزّة جماع؛ عمليّةَ استمناءٍ مزدوج. والجدير بالذكر هنا أنّ الأبحاث النفسيّة دلّت على أنّ الإشباع الجنسيّ نفسه لا يلاقي قمّته بلا حبّ يجمع الطرفين.[4]
الجنس طاقة تُحرِّكنا نحو الآخر تسمح بتتويج مسار اتّحاد فكريّ وعاطفيّ متواصل. الجنس من دون مرمى الاتّحاد في التمايز، أي من دون مرمى الحبّ، يخفق في تحقيق غائيّته. من هذا المنظار يمكننا أن ننظر إلى الجنس نظرةً رحبةً تراه ذا معنى حقيقيّ ومُفرح، عوض أن ننظر إليه نظرةً متزمّتة تناهضه وتناهض بذلك قوى الحياة والفرح في الإنسان، أو نظرةً مائعةً تهْدر طاقات الحياة بقطعه عن غائيّته تلك. إنّ النظرتين المتزمّتة والمائعة تشتركان في قمع الجنس الإنسانيّ: الأولى تقمعه بمحاولة تكبيله وذمّه والنظر إليه بريبة وعلى أنّه شيء بشع وإنْ كان لا بدّ منه من أجل التوالد؛ والأخرى تقمعه بقطعه عن مداه، عن تحقيق مرماه، وذلك بتتفيهه، بإطفائه على الجلد عوضًا من اتّخاذه طاقةَ عبورٍ إلى أعماق الاتّحاد بالآخر.
2 عن بعض الممارسات الجنسيّة
لن نعلّق على ظاهرة الدعارة المنتشرة بشكل واسع، بل على ما يتناقله المجتمعُ من أخبار حول تصرّفات جنسيّة لا تتوافق مع الحبّ، وعادةً ما توصف بـ "الانحلال،"[5] وذلك من خلال المنظور أعلاه.
إنّ تحقيق المحبّة (الاتحاد في التمايز) مشكلة يواجهها الإنسانُ في حياته بطرقٍ مختلفة. فقد يخضع لغيره ليتخلّص من عبء ذاته، من عبء تحقيق الاتّحاد وتحقيق التمايز، وذلك مقابل وهْم التواصل (نقول "وهْم" لأنْ لا تواصل بلا ذات حرّة)؛ أو يتسلّط على غيره كي يبقى معه، فيتوهم أنّه في تواصل معه (وهذا غير ممكن أيضًا لأنّ ذات الآخر ليست حرّة). الطريقة الثالثة هي في محاولة الهروب من المشكلة بواسطة المخدّرات؛ فهذه تخدّر أساسًا الوجع الوجوديّ الناتج عن عدم القدرة على تحقيق المحبّة والحبّ، أيْ عدم القدرة على الاتّحاد في التمايز بآخر وآخرين.
لكنّ المخدّرات أنواع، منها المخدّرات المادّية المعروفة تحت هذا الاسم، ومنها المخدّرات المعنويّة كالجنس. إنّ الإثارة ـ اللذّة العارمة التي ترافق الجنس تسمح للإنسان بتناسي اللافرح الناتج من حالة اللالقاء واللااتّحاد واللاحبّ التي يعيشها. إنّها لذّة هاربة، يعود بعدها الإنسانُ إلى عزلته الداخليّة عقب رعشة الجماع. والمأساة التي قد يعيشها الإنسان عندها هي أنّه قد يعود ليجرّب الطريقَ ذاتَها، طريقَ الجنس المقطوع عن الحبّ، في نوع من الإدمان؛ إذ يشعر الإنسان بعزلته فيعاود طريق اللذة المبتورة عن اللقاء طلباً للذّة تنسيه العزلة للحظات، فإذا به يجد نفسه من جديد في عزلته، وهكذا دواليك.
إنّ الجنس هو خبرة مكثفة جدًا، وجميلة جدًا، إلى درجة أنّها مرشّحة أن تصبح وهمَ لقاءٍ عندما يتم فصلُها عن الحب، لأنّ لذّتَها تبقى مع أنّ غايتها لا تتحقّق، وطاقتَها تتفجّر مع أنّها لا تتّجه إلى هدف. عند فصل الجنس عن الحبّ، عن هدف الوحدة في التمايز، لا يبقى منه سوى شكل الممارسة، مع شيءٍ من لذّةٍ مرحليّة، ولكنْ ينتفي منه الإشباعُ الوجوديّ الذي لا ينتج إلاّ من لقاءٍ بالآخر، بـ "قلبه." قد نعود إلى هذه الخبرة أملاً في العثور على ذلك التواصل المفقود، والتغلّبِ على العزلة[6]؛ ولكنّ هذا غير ممكن بلا حبّ، أي بلا اتحاد في تمايز. ومن هنا فإنّ التهتّك، أو الاستهتار الجنسيّ، يدين ذاته بذاته، لأنّه يفشل في فتح باب تحقيق الحبّ، باب الاتّحاد بالآخر في التمايز، أمام الإنسان. بدون لقاء أصيل، بدون مسعى اتّحاد في التمايز، بدون مسعى حبّ، يبقى الجنس صرخةً في الفراغ، يبقى دون بلوغ منتهاه، يبقى بلا تحقيق لمعناه، لأنّه يُبقينا معزولين.
3 أبعاد أُخرى
لكنّ الحياة الجنسيّة تتأثّر أيضًا بالخبرة التي يعيشها الإنسانُ في مجتمعه. ويبدو لي أنّ السلوك المتهتّك يعكس لنا انعدامَ بوصلةٍ وجوديّةٍ في حياةِ مَن يعيشه. كما أنّه يعكس، في رأيي، وبخاصّةٍ عند الشباب، احتجاجًا هروبيًا من المجتمع المنافق، والسطحيّ، الذي نعيش فيه. وفي لبنان هو، برأيي، يعكس ردّة فعل على التدين المنافق والقيم المنافقة؛ فالحرب الأهلية في لبنان أظهرت بوضوح الوجه الـمُنافق للمجتمع اللبنانيّ (وخاصة التديّن المنافق) بسبب ارتكاب المذابح باسم الدين، واستخدام الطوائف لله أداةَ حربٍ وسؤددٍ واستكبار. أمّا الحرب فتوقّفت دون محاكمات ولا حتّى اعترافات بالجرائم واعتذارات (فسقطت القيم أي أسس الدولة)؛ ونشأت قيمة وحيدة في المجتمع اللبنانيّ، قيمةٌ أتت في المقام الأول (أكثر من أي وقت مضى) وهي قيمة المال، وتليها قيمة الشهرة. ولكن المال والشهرة كهدف في حياة الإنسان، يولّدان الخواء[7]؛ يولّدان فراغاً يؤدي إلى العزلة والضجر اللذين قد يدفعان إلى ممارسة جنسيّة استهلاكيّة[8] بلا أفق ولا فرح[9]، لأنّ الأحجية الأساس في الحياة الإنسانيّة، أحجيّة تحقيق المحبّة، لا تجد لها حلاّ بهما. وفي هذا السياق، يأتي الجنسُ المتهتّكُ وسيلة احتجاج وهروب، للتغلب على الفراغ والملل[10]، في مجتمع منافقٍ يؤلّهُ المالَ ويولّد الخواء، مجتمعٍ يدّعي الإيمان بإله محبّة، بينما يهمّش ـ في الممارسة اليوميّة ـ الحبَّ والعاطفةَ والفكرَ، ويشيّء الإنسان فعليًا. لهذا، وعلى الرغم من الوجه الاحتجاجي ـ الهروبيّ للجنس المقطوع عن الحبّ، والذي يُمارَسُ ردّةَ فعلٍ على الضياع العام والتفاهة، فإنّ الإنسان الذي يمارسه يبقى في ميدان المخدّرات، في ميدان الوهم، في ميدان قمع الجنس عن تحقيق مرماه، أي تحقيق اللقاء بالآخر، ويبقى بلا حلّ للأحجية الإنسانيّة التي يجب عليه أن يجيب عليها بلحمه ودمه، وبالتالي يبقى إنسانًا قلقًا حتّى الأعماق.
إنّ التهتّك والاستهتار الجنسيّ يسيران، كلاهما، في الخطّ الذي يسير فيه المجتمعُ اللبنانيّ الحاليّ القائم على عبادة المال وتهميش العاطفة والفكر والحبّ، ألا وهو خطّ تشييئ الإنسان وتتفيهه؛ خطُّ هدر الإنسان لذاته. ومن هنا قلنا إنّ الجنس المقطوع عن الحبّ احتجاج هروبيّ. فالاحتجاج الحقيقيّ الذي يستجيب توقَ أعماق الإنسان يكون في تأسيس نمط حياة، شخصيّة وجماعيّة، يُخالف التوجّهات الأخلاقيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي تتفّه الإنسان وتحكم عليه بالعزلة والضمور؛ يكون بتأسيس أطرٍ لعيش المحبّة والحبّ، شخصيًا، في الجماعة؛ يكون بممارسة حرّية حقيقيّة، حرّية حبّ حقيقيّ، حرّية وحدةٍ في التمايز.
4 خاتمة
بناء على تحليلنا هذا، فإنّنا نعتقد أنّ إعادةَ الاعتبار إلى المحبّة والحب قيمتين مركزيّتين في الحياة، وممارسةَ هاتين القيمتَين في أرض الواقع، هما اللتان يمكن أن تنجّيا الجنسَ من تتفيه الميوعة، ومن تكبيل التزمّت. ونرى أنّ مجتمعنا في حاجة حقيقيّة ومُلحّة إلى مشاريع ثقافيّة وأخلاقيّة وسياسيّة واجتماعية غير منافقة، تضع الإنسان ـ وبالتالي المحبّة والحبّ ـ في مركز النشاط البشريّ، فتطلق طاقاتِ الحياة، طاقاتِ الاتّحاد في التمايز، في بيئة الحرّية. وهذا ليس بأقلّ من ثورةٍ روحيّة، بالمعنى الأصيل للكلمة، معنى إحياء الإنسان بمدّه بوسائل تحقيق ملء قامته. وهذا، بالنسبة إلى من يؤمن، حياةٌ في الله، حياةٌ تجدّد وجهَ الأرض، من أجل أن يكون الإنسانُ في فرحِ الحبّ، في المدى الشخصيّ والاجتماعيّ في آن واحد.
خريستو المرّ
مراجع
[1]خريستو المرّ، «الانقلاب على المبادئ: هل من تقييم أخلاقيّ؟»، مجلّة الآداب، عدد 9-10، 2009، ص. 30-35
[2]كوستي بندلي، "الجنس في أنواره وظلاله"، منشورات النور، 2000، ص. 181-182
[3]يقول الشاعر خليل حاوي في قصيدة "زحفت يداك": كنّا جداراً يلتقي جدار/ ما أوجع الحوار/ ما أوجع القطيعه/ تغصّ بالفجيعة/ ما أوجع الجوار."
[4] كوستي بندلي، الجنس ومعناه الإنسانيّ ( منشورات النور، الطبعة 2، 1980)، ص45-52.
[5]أنظر الخبر التالي كمثل:
"شبان لبنانيون في المزاد العلني"، صحيفة النهار، الجمعة 08 كانون الثاني 2010 - السنة 77 - العدد 23923
[6] كوستي بندلي، "الجنس ومعناه الإنسانيّ"،ط. 3، منشورات النور، بيروت، 1985، ص. 42 - 43
[7] فإذا بالإنسان "يكثر من وسائل العيش les moyens de vivre على حساب مبرّرات العيش les raisons de vivre" كما يقول المحلّل النفسيّ جورج موكو؛ وإذا بالمرء "فقير وسط خيراته المتراكمة... وإذا به جائع كيانيّاً...ينهشه الفراغ المتأتّي عن إهماله تحقيق وجوده" كما يتابع كوستي بندلي. راجع:
كوستي بندلي، "فتنة الاستهلاك أم فرح المشاركة"، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، بيروت، 2001، ص. 126
[8] يشير المحلّل النفسيّ إريك فروم"بأنّ "الرغبة الجنسيّة يمكن أن تُحَفَّز بواسطة القلق من الوحدة"
Erich Fromm, “The Art of Loving”, New York, Perennial, 2000, p. 50
[9] Erich Fromm, “Avoir ou Etre”, Robert Laffont, Paris, 1978, p. 140
[10] إنّ استهلاك المخدّرات هو محاولة لنسيان الذات وقلقها بالدخول في حالة غيبوبة، ويستعمل الإنسان الكحول والممارسة الجنسيّة للوصول إلى الهدف نفسه، هدف نسيان الذات في محاولةٍ لتجاوز قلق العزلة. راجع:
Erich Fromm, “The Art of Loving”, Perennial, New York, 2000, p. 9-12