المقالة الأصليّة
التواضع، قيمة النشاط الإنسانيّ، وقضايا أُخرى (١ من ٢)
مجلّة النور الأرثوذكسيّة، عدد ١، ٢٠١٩
التواضع، قيمة النشاط الإنسانيّ، وقضايا أُخرى (١ من ٢)
مجلّة النور الأرثوذكسيّة، عدد ١، ٢٠١٩
كثيرا ما يتمّ ذكر كلمة التواضع في التعليم الكنسيّ، ولكن يبدو لي أنّ بعض هذا التذكير بضرورة التواضع ملتبس، إذ طالما قيلت أمور أو كتبت أمور توحي بأنّ التواضع هو على تضاد مع العلم أو ضرورة مواجهة الأخطاء والمطالبة بتصحيح أمور الحياة. وتهدف هذه المقالة إلى النظر إلى التواضع وعلاقته بمجالات الحياة الإنسانيّة المتنوّعة.
لا بدّ أن نبدأ بهدف الحياة في الإيمان المسيحي حتّى نوضح أهمّية مجالات الحياة الإنسانيّة وعلاقتها بالتواضع.
التألّه كهدف للحياة الإنسانيّةأتى يسوع المسيح ليخلّص العالم، فالآب " هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنّا ٣: ١٦) و"الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح"(يوحنّا ١٧: ٣)؛ هذه "الحياة في المسيح" هي الحياة الأبديّة ويحياها من حفظ كلام يسوع " أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً" (يو ٤: ٢٣) ويكون هؤلاء المحبّين ليسوع معا فيكون "رعية واحدة وراع واحد" (يو ١٠: ١٦) وقد وضع يسوع سرّ الشكر في العشاء الأخير كوسيلة لنكون واحدا معه ومع بعضنا البعض، لتتشكّل هذه الرعيّة للراعي الواحد على أرض الواقع، وأعطانا هذه الإمكانيّة لإقامة سرّ الشكر في العنصرة يوم حلّ الروح القدس على الحاضرين فشكّل الروح الكنيسة جسدًا ليسوع المسيح.
لهذا، تعتبر المسيحيّة أنّ هدف الله من الخلق هو أن يوجِدَ مخلوقات - وقمّتها مخلوق هو الإنسان - لتشاركه الحياة الإلهيّة. وترى بأنّ الإنسان مدعوّ أن يكون في حالة وحدة مع الله، أي مدعوّ إلى التألّه. وحالة الوحدة هذه لا يمكن أن تتمّ دون محبّة لأنّ "الله محبّة"، طبيعته هي محبّة، لهذا كتب يوحنّا "لنحب بعضنا بعضا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة"(١ يوحنّا ٤: ٧-٨).
الإنسان إذا مدعوّ لا أن يفكّر فقط، لا أن يؤمن بفكرة، مثلا بفكرة أنّ المسيح هو ابن الله المتجسّد، أو بفكرة أنّ الإله الواحد ثالوث، وإنّما أن يؤمن بالله، وهذا الإيمان لا يعني القبول بفكرة الله وإنّما أن يدخل في علاقة مع الله الذي يمدّ كلّ إنسانٍ بالقدرة على المحبّة، بالقدرة على ممارسة المحبّة في حياته، بالقدرة على الوحدة معه [أي مع الله]. بحسب الإيمان المسيحي، ربّى الله الإنسانَ على قبوله بواسطة الأنبياء في العهد القديم، ثمّ تجسّد أقنوم الكلمة، ابن الله، شخصيّاً لكي يتمكّن الله من مشاركة الإنسان في طبيعته وكلّ حياته (ما خلا الخطيئة)، فيكون واحدا مع الإنسان، يشاركه عيش الألم والبؤس والموت، وإذ يموت يقوم ويصعد إلى السماء، ويرسل الروح القدس، حتّى يتمكّن الإنسان من أن يصير في وحدة مع الله-المحبّة. فالروح القدس يجعل الإنسان الفرد في علاقة خاصّة فريدة مع الله، كما أنّه يجمع الإنسان الفرد مع أخواته وإخوته في وحدة جماعيّة مع يسوع المسيح، وحدة تحفظ التمايز بين الأفراد، أي تحفظ كلّ أقنوم إنسانيّ، فيصبح الجميع "جسدا واحدا" للمسيح دون أن تختلط "الأعضاء" أو تقهر بعضها البعض، بل تتناغم في وحدة مع السيّد الوحيد يسوع المسيح (١ كورنثوس ١١: ١-٣١).
عبارة "الجسد الواحد" تبدو أحياناً ملتبسة، وتكاد تفقد معناها من كثرة تردادها أوتوماتيكياً. أن يكون الجميع جسدا واحدا في أعضاء متنوّعة (كما يصف الرسول بولس بشكل عميق ورائع)، إذا تذكّرنا ما قلناه فوق عن كون الله محبّة وأنّنا نحن نحبّ في كنف الروح القدس لنكون مع الآب في يسوع المسيح، وجمعناها مع كلام بولس عن "الجسد الواحد"، نفهم أنّ عبارة "الجسد الواحد" تعني أن يحيا كلّ إنسان حياته الفريدة بشخصه الفريد، مُحِبّاً للمسيح وللآخرين، المحبّة هي التي تصنع الوحدة التي بحسب قلب الله، لا وحدة التسلّط والخضوع وإنّما علاقة الإخوة للآب الواحد، في علاقة تجمع البعد الذاتي الشخصيّ بذلك الجماعيّ. ومن خلال علاقة المحبّة[1] يتحوّل الإنسان تدريجيّاً إلى أخ فعليّ ليسوع بالتصرّف والعمل والعيش، مُفَعِّلاً معموديّته التي غَرَسَت المسيح فيه، بحيث يحوّله سرّ الشكر[2] والصلاة وممارسة المحبّة الصعبة عن "إخطاء الهدف" (المعنى الأصلي لكلمة خطيئة) بـ"تغيير الذهن" (المعنى الأصلي لكلمة توبة) وطريقة الحياة، فيتحوّل شيئا فشيئاً، قولاً وفعلاً، إلى ابنة أو ابن لله بالتبنّي، ويتحوّل الجميع إلى عائلة لله.
إنّ مسيرة الوحدة بالله، وتَشَرُّبِ الروح القدس المنساب في المسيح الذي نحن فيه مغروسون كما الأغصان في شجرة، تنشر نور المسيح الإلهيّ في كلّ خبراتنا، في كلّ مجالات حياتنا. هذا كلّه لا ينطلق من فراغ وإنّما من حرّيتنا وتفعيل بذور المحبّة الموجودة فينا، والحرّية والمحبّة هما من صورة الله التي نحن مخلوقون عليها. فصورة الله فينا هي ختم الله، دمغته على شمع قلوبنا، دمغةٌ لا يملأ فراغها إلاّ هو، ومن هنا شوقنا له. نحن ننطلق من حرّيتنا ومن القدرة على المحبّة (كطاقة تحتاج لنموّ) التي منحنا إياها الله، كصورته فينا، لننفتح على الروح القدس، والروح هو الذي يُتْحِدُنا معاً بالمسيح، ويجعلنا في علاقة خاصّة فريدة مع الله. هذا يجعلنا في حالة وحدة محبّة مع الله ومع الآخرين، تنمو مع الوقت عبر التعثّر (الخطايا) والقيام (تغيير الذهن والتصرّف)، في اندفاع دائم إلى الأمام. ونمشي هذا الطريق الآن، في هذه الحياة، من مجدٍ إلى مجدٍ، من محبّة أقلّ عمقا إلى محبّة أعمق، من علوّ إلى علوّ، "في سلسلة بديات لا تنتهي"، كأنّ كلّ وضعٍ نحياه وصولٌ وبدايةٌ في الآن عينه.
وفي هذه الطريق، ينيرنا الروح القدس من الداخل، ينير حياتنا كلّها، فتصير حياتنا كلّها روحيّة بمعنى أنّها مُحتَضَنَة من الروح القدس، أي في الروح القدس. ينيرنا الروح القدس كلّنا، بكلّ ذواتنا الإنسانيّة، أي ينير جسدنا وعقلنا وفكرنا وتصرّفاتنا، وأعمالنا، وحبّنا، وصداقاتنا، وفنّنا، وأعيادنا، وأفراحنا، وأحزاننا، وبؤسنا، ووحدتنا، وأوضاعنا في قممها وفي حضيضها. والاخلاص الإيمانيّ هو أن نبقى عبر كلّ عثرات الحياة وصعوباتها وأفراحها في هذه العلاقة مع ربّ الحبّ، مع نبع الحبّ ومصبّه: الثالوث، القدّوس وحده.
وفي هذه المسيرة، الجميع هم قدّيسون بمعنى أنّهم يتقدّسون بقدر مسيرتهم في علاقة الوحدة بالله القدّوس، بواسطة علاقة المحبّة، التي تجمعنا في وحدة وتمايز، بلا خضوع مبتذل وتسلّط أكثرابتذالاً.
التواضعإنّ الباب الأساس للإيمان ولكلّ هذه المسيرة التي وصفناها هو التواضع، التواضع لا أمام شيء أو فكرة، وإنّما أمام الله والناس. ولكن ما هو التواضع؟ الكلمة تشوّهت كثيراً من كثرة الاستعمالات الغريبة عن الانجيل. التواضع هو موقف داخليّ من الآخر، وهو موقف ضروريّ حتّى يتمكّن الإنسان من التواصل مع آخر، ولهذا فهو موقف ضروريّ في الصداقة والحبّ والمحبّة وحتّى في العلوم، هو موقف يقبل أنّ الآخر ضروريّ لي كي أحيا، وأنّي لا أحيا بذاتي، ولا أحمل كلّ الحقّ.
وإذا كان الإيمان بالله ليس مجرّد تصديق وجوده (فالشيطان نفسه يصدّق أنّ الله موجود) وإنّما هو الدخول بعلاقة مع الله، يغدو التواضع الخطوة الكيانيّة الأساس في الإيمان، إنّه موقف عميق يرى بأنّ الإنسان لا ينبع من ذاته وإنّما الله هو نبع حياته ومصبّ أشواقه.
لكن التواضع كما نشرحه هنا، لا يلغي أيّ شيء آخر في حياتنا، ولا يجعل من أيّ أمر خيِّرٍ نقوله أو نفعله، أكان تعليما أم صلاة أم عظة أم أغنية أم نكتة أم مناغاة لطفل أم عملاً منزليّا أم عملاً وظيفيّاً أم كهنوتاً أم عملا سياسيّا أم خدمة اجتماعيّة أم اضرابًا أم علماً أم فنّا أم تربية أم صلاة أم زواجاً أم عزوبةً أم رهبنة أم صداقة، أمراً أقلّ أهمّية بالنسبة لنا أو لله من التواضع.
لا يمكن للتواضع الذي ننفتح به على الله، أن يجعل من أعمالنا الأرضيّة أموراً هامشيّة مقارنة به، فإن كان الله نفسه لم يجعل من حياتنا الأرضيّة أمراً هامشيّاً بالنسبة له وهو الله، فكيف نسمح نحن لأنفشنل أن نجعل من حياتنا الأرضيّة بكلّ ما فيها من غنى أمرًا هامشيّاً بالنسبة لأيّ شيء أو جزء من هذه الحياة. إنّ الله يجعل من كلّ أمر من أمورنا، مهما كانت، أمراً أكثر أهمّية، لأنّه يعطي أعمالنا وكلامنا معنى آخر، معنى إطلالة الحبّ منه ومعه وله، فمع الله تغدو نشاطاتنا الإنسانيّة نشاطات نحياها في حبّ منه ومعه وبشكل من الأشكال له، رغم أنّنا أيضاً نحياها مع أخواتنا وإخوتنا وأحبابنا وأصدقائنا ومنهم ولهم. هذا أمر مفروغٌ منه، لأنّنا إن انتبهنا أنّ محبّتنا لله ليست أمرا فكريّاً أو شعوريّاً وإنّما تغيير في طريقة الحياة من أجل أن نحبّ أكثر، وأنّها لا تحصل مرّة واحدة بل هي مسيرة في المسيح الذي هو "الطريق"، نفهم أنّه أن نحبّ هو طريقة حياة، مع الله، وطريقة الحياة بالنسبة لنا نحن البشر نعبّر عنها من خلال عدد متنوّع من النشاطات، وخلال حياة بأكملها.
فإن كانت أقوالنا وأعمالنا الإنسانيّة تهدف إلى تثبيت طريقة الحياة الإلهيّة فينا وحولنا، أي تثبيت المحبّة والخلق والإبداع، فإنّ هذه الأقوال والأعمال لا شكّ تدفعنا إلى المشاركة مع الآخرين في وحدة وتمايز، دون انغلاق ودون امّحاء ذاتي، في حراثة للكون (وصيّة الله لآدم) وقراءة لكلمات الله المنثورة في هذا الكون (نقول ذلك في خطّ مكسيموس المعترف) لكي يتحوّل هذا الكون إلى كون الله، إلى كنيسة، إلى مكان محبّة ثالوثيّة، أي بتعبير أبسط، إلى مكان تحيا فيه المخلوقات في محبّة تعبّر عن نفسها بطرق مختلفة: احترام للطبيعة، صداقات، مواطنة، صداقة، حبّ، رهبنة، فنّ، عناية بالحياة، أبوّة، أمومة، عناية، تشجيع، ثقة، مسؤوليّة، احترام، معرفة، إلخ. هكذا، فالتواضع الذي هو باب إلى اعتبار الله نبع الحياة ومصبّها، واعتبار الآخر أساس لي حتّى التنفّس (وهذه باب كلّ علاقة صداقة ومحبّة وحبّ)، لا يهمّش أقوالنا وأفعالنا، أو يخفّف من قيمتها، وإنّما يجعلها متّصلة بالحياة الإلهيّة، بالله الذي يعطيها قيمة تفوق أيّة قيمة بشريّة محضة، إذ يجعلها متّصلة بمعنى التألّه، بالملكوت، بمعنى الحياة الأبديّة، بنبع المعنى: الله. التواضع باب المحبّة، والمحبّة تجعل خبراتنا كلّها ونشاطاتنا كلّها طريقًا إلى التألّه، ومُجَسِّدَةً للتألّه في الحياة اليوميّة، وما من أمر أعظم من هذا.
مع الله تغدو أقوالنا وأفعالنا مجالات لترجمة محبّتنا لله التي لا يمكن أن تكون حقيقيّة دون أن تتجسّد في أفعال واقوال مُحيية لأنفسنا وللناس. ومع الله تغدو أقوالنا وأفعالنا مجالات لتجذير محبّتنا لله وتعميقها، لنسير قُدُما في تبنّي طريقة الحياة الإلهية: المحبّة، لنسير قُدُما في الحياة في المسيح والروح القدس، أي لتغدو أقوالنا وأفعالنا مجالات للتألّه، في المسيح، في رعاية ورفقة الروح القدس.
هكذا، لا يوجد تناقض أو تعارض بين التواضع وبين سائر النشاطات الإنسانيّة، ولكأنّ الواحدة تلغي الأخرى. إنّ التواضع (وهو دواء الكبرياء) لا يلغي الإنسان في ميادينه جميعا، وفي أبعاده جميعاً، في جسده وعقله؛ إنّه لا يجعل من العلم والفكر والفنّ والتربية والعمل المنزلي والعمل الوظيفيّ، إلى ما هنالك من نشاطات إنسانيّة، أموراً تافهة، بل على العكس، هو باب يجعلنا نقبل الله كنبع ومصبّ لحياتنا، ممّا يعطي نشاطاتنا الإنسانيّة كلّ أهمّيتها ويؤكّدها بمدّها ببعدٍ إلهيّ. المسيح نفسه لم يردنا خارج العالم وإنّما أرادنا ليس منه، ولكنّه أرادنا فيه.
خريستو المرّ
مراجع
[1] أليس الفرح لفرح الآخر والحزن لآلامه يدلّ على هذه المحبّة المتعاطفة حتّى الأعماق والتي دلّ عليها بولس الرسول بقوله "فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ" (١ كرورنثوس ١١: ٢٦)
[2] يشير الرسول إلى المعموديّة وسرّ الشكر (المناولة) في قوله "أَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا" (١ كرورنثوس ١١: ١٣)
لا بدّ أن نبدأ بهدف الحياة في الإيمان المسيحي حتّى نوضح أهمّية مجالات الحياة الإنسانيّة وعلاقتها بالتواضع.
التألّه كهدف للحياة الإنسانيّةأتى يسوع المسيح ليخلّص العالم، فالآب " هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنّا ٣: ١٦) و"الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح"(يوحنّا ١٧: ٣)؛ هذه "الحياة في المسيح" هي الحياة الأبديّة ويحياها من حفظ كلام يسوع " أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً" (يو ٤: ٢٣) ويكون هؤلاء المحبّين ليسوع معا فيكون "رعية واحدة وراع واحد" (يو ١٠: ١٦) وقد وضع يسوع سرّ الشكر في العشاء الأخير كوسيلة لنكون واحدا معه ومع بعضنا البعض، لتتشكّل هذه الرعيّة للراعي الواحد على أرض الواقع، وأعطانا هذه الإمكانيّة لإقامة سرّ الشكر في العنصرة يوم حلّ الروح القدس على الحاضرين فشكّل الروح الكنيسة جسدًا ليسوع المسيح.
لهذا، تعتبر المسيحيّة أنّ هدف الله من الخلق هو أن يوجِدَ مخلوقات - وقمّتها مخلوق هو الإنسان - لتشاركه الحياة الإلهيّة. وترى بأنّ الإنسان مدعوّ أن يكون في حالة وحدة مع الله، أي مدعوّ إلى التألّه. وحالة الوحدة هذه لا يمكن أن تتمّ دون محبّة لأنّ "الله محبّة"، طبيعته هي محبّة، لهذا كتب يوحنّا "لنحب بعضنا بعضا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة"(١ يوحنّا ٤: ٧-٨).
الإنسان إذا مدعوّ لا أن يفكّر فقط، لا أن يؤمن بفكرة، مثلا بفكرة أنّ المسيح هو ابن الله المتجسّد، أو بفكرة أنّ الإله الواحد ثالوث، وإنّما أن يؤمن بالله، وهذا الإيمان لا يعني القبول بفكرة الله وإنّما أن يدخل في علاقة مع الله الذي يمدّ كلّ إنسانٍ بالقدرة على المحبّة، بالقدرة على ممارسة المحبّة في حياته، بالقدرة على الوحدة معه [أي مع الله]. بحسب الإيمان المسيحي، ربّى الله الإنسانَ على قبوله بواسطة الأنبياء في العهد القديم، ثمّ تجسّد أقنوم الكلمة، ابن الله، شخصيّاً لكي يتمكّن الله من مشاركة الإنسان في طبيعته وكلّ حياته (ما خلا الخطيئة)، فيكون واحدا مع الإنسان، يشاركه عيش الألم والبؤس والموت، وإذ يموت يقوم ويصعد إلى السماء، ويرسل الروح القدس، حتّى يتمكّن الإنسان من أن يصير في وحدة مع الله-المحبّة. فالروح القدس يجعل الإنسان الفرد في علاقة خاصّة فريدة مع الله، كما أنّه يجمع الإنسان الفرد مع أخواته وإخوته في وحدة جماعيّة مع يسوع المسيح، وحدة تحفظ التمايز بين الأفراد، أي تحفظ كلّ أقنوم إنسانيّ، فيصبح الجميع "جسدا واحدا" للمسيح دون أن تختلط "الأعضاء" أو تقهر بعضها البعض، بل تتناغم في وحدة مع السيّد الوحيد يسوع المسيح (١ كورنثوس ١١: ١-٣١).
عبارة "الجسد الواحد" تبدو أحياناً ملتبسة، وتكاد تفقد معناها من كثرة تردادها أوتوماتيكياً. أن يكون الجميع جسدا واحدا في أعضاء متنوّعة (كما يصف الرسول بولس بشكل عميق ورائع)، إذا تذكّرنا ما قلناه فوق عن كون الله محبّة وأنّنا نحن نحبّ في كنف الروح القدس لنكون مع الآب في يسوع المسيح، وجمعناها مع كلام بولس عن "الجسد الواحد"، نفهم أنّ عبارة "الجسد الواحد" تعني أن يحيا كلّ إنسان حياته الفريدة بشخصه الفريد، مُحِبّاً للمسيح وللآخرين، المحبّة هي التي تصنع الوحدة التي بحسب قلب الله، لا وحدة التسلّط والخضوع وإنّما علاقة الإخوة للآب الواحد، في علاقة تجمع البعد الذاتي الشخصيّ بذلك الجماعيّ. ومن خلال علاقة المحبّة[1] يتحوّل الإنسان تدريجيّاً إلى أخ فعليّ ليسوع بالتصرّف والعمل والعيش، مُفَعِّلاً معموديّته التي غَرَسَت المسيح فيه، بحيث يحوّله سرّ الشكر[2] والصلاة وممارسة المحبّة الصعبة عن "إخطاء الهدف" (المعنى الأصلي لكلمة خطيئة) بـ"تغيير الذهن" (المعنى الأصلي لكلمة توبة) وطريقة الحياة، فيتحوّل شيئا فشيئاً، قولاً وفعلاً، إلى ابنة أو ابن لله بالتبنّي، ويتحوّل الجميع إلى عائلة لله.
إنّ مسيرة الوحدة بالله، وتَشَرُّبِ الروح القدس المنساب في المسيح الذي نحن فيه مغروسون كما الأغصان في شجرة، تنشر نور المسيح الإلهيّ في كلّ خبراتنا، في كلّ مجالات حياتنا. هذا كلّه لا ينطلق من فراغ وإنّما من حرّيتنا وتفعيل بذور المحبّة الموجودة فينا، والحرّية والمحبّة هما من صورة الله التي نحن مخلوقون عليها. فصورة الله فينا هي ختم الله، دمغته على شمع قلوبنا، دمغةٌ لا يملأ فراغها إلاّ هو، ومن هنا شوقنا له. نحن ننطلق من حرّيتنا ومن القدرة على المحبّة (كطاقة تحتاج لنموّ) التي منحنا إياها الله، كصورته فينا، لننفتح على الروح القدس، والروح هو الذي يُتْحِدُنا معاً بالمسيح، ويجعلنا في علاقة خاصّة فريدة مع الله. هذا يجعلنا في حالة وحدة محبّة مع الله ومع الآخرين، تنمو مع الوقت عبر التعثّر (الخطايا) والقيام (تغيير الذهن والتصرّف)، في اندفاع دائم إلى الأمام. ونمشي هذا الطريق الآن، في هذه الحياة، من مجدٍ إلى مجدٍ، من محبّة أقلّ عمقا إلى محبّة أعمق، من علوّ إلى علوّ، "في سلسلة بديات لا تنتهي"، كأنّ كلّ وضعٍ نحياه وصولٌ وبدايةٌ في الآن عينه.
وفي هذه الطريق، ينيرنا الروح القدس من الداخل، ينير حياتنا كلّها، فتصير حياتنا كلّها روحيّة بمعنى أنّها مُحتَضَنَة من الروح القدس، أي في الروح القدس. ينيرنا الروح القدس كلّنا، بكلّ ذواتنا الإنسانيّة، أي ينير جسدنا وعقلنا وفكرنا وتصرّفاتنا، وأعمالنا، وحبّنا، وصداقاتنا، وفنّنا، وأعيادنا، وأفراحنا، وأحزاننا، وبؤسنا، ووحدتنا، وأوضاعنا في قممها وفي حضيضها. والاخلاص الإيمانيّ هو أن نبقى عبر كلّ عثرات الحياة وصعوباتها وأفراحها في هذه العلاقة مع ربّ الحبّ، مع نبع الحبّ ومصبّه: الثالوث، القدّوس وحده.
وفي هذه المسيرة، الجميع هم قدّيسون بمعنى أنّهم يتقدّسون بقدر مسيرتهم في علاقة الوحدة بالله القدّوس، بواسطة علاقة المحبّة، التي تجمعنا في وحدة وتمايز، بلا خضوع مبتذل وتسلّط أكثرابتذالاً.
التواضعإنّ الباب الأساس للإيمان ولكلّ هذه المسيرة التي وصفناها هو التواضع، التواضع لا أمام شيء أو فكرة، وإنّما أمام الله والناس. ولكن ما هو التواضع؟ الكلمة تشوّهت كثيراً من كثرة الاستعمالات الغريبة عن الانجيل. التواضع هو موقف داخليّ من الآخر، وهو موقف ضروريّ حتّى يتمكّن الإنسان من التواصل مع آخر، ولهذا فهو موقف ضروريّ في الصداقة والحبّ والمحبّة وحتّى في العلوم، هو موقف يقبل أنّ الآخر ضروريّ لي كي أحيا، وأنّي لا أحيا بذاتي، ولا أحمل كلّ الحقّ.
وإذا كان الإيمان بالله ليس مجرّد تصديق وجوده (فالشيطان نفسه يصدّق أنّ الله موجود) وإنّما هو الدخول بعلاقة مع الله، يغدو التواضع الخطوة الكيانيّة الأساس في الإيمان، إنّه موقف عميق يرى بأنّ الإنسان لا ينبع من ذاته وإنّما الله هو نبع حياته ومصبّ أشواقه.
لكن التواضع كما نشرحه هنا، لا يلغي أيّ شيء آخر في حياتنا، ولا يجعل من أيّ أمر خيِّرٍ نقوله أو نفعله، أكان تعليما أم صلاة أم عظة أم أغنية أم نكتة أم مناغاة لطفل أم عملاً منزليّا أم عملاً وظيفيّاً أم كهنوتاً أم عملا سياسيّا أم خدمة اجتماعيّة أم اضرابًا أم علماً أم فنّا أم تربية أم صلاة أم زواجاً أم عزوبةً أم رهبنة أم صداقة، أمراً أقلّ أهمّية بالنسبة لنا أو لله من التواضع.
لا يمكن للتواضع الذي ننفتح به على الله، أن يجعل من أعمالنا الأرضيّة أموراً هامشيّة مقارنة به، فإن كان الله نفسه لم يجعل من حياتنا الأرضيّة أمراً هامشيّاً بالنسبة له وهو الله، فكيف نسمح نحن لأنفشنل أن نجعل من حياتنا الأرضيّة بكلّ ما فيها من غنى أمرًا هامشيّاً بالنسبة لأيّ شيء أو جزء من هذه الحياة. إنّ الله يجعل من كلّ أمر من أمورنا، مهما كانت، أمراً أكثر أهمّية، لأنّه يعطي أعمالنا وكلامنا معنى آخر، معنى إطلالة الحبّ منه ومعه وله، فمع الله تغدو نشاطاتنا الإنسانيّة نشاطات نحياها في حبّ منه ومعه وبشكل من الأشكال له، رغم أنّنا أيضاً نحياها مع أخواتنا وإخوتنا وأحبابنا وأصدقائنا ومنهم ولهم. هذا أمر مفروغٌ منه، لأنّنا إن انتبهنا أنّ محبّتنا لله ليست أمرا فكريّاً أو شعوريّاً وإنّما تغيير في طريقة الحياة من أجل أن نحبّ أكثر، وأنّها لا تحصل مرّة واحدة بل هي مسيرة في المسيح الذي هو "الطريق"، نفهم أنّه أن نحبّ هو طريقة حياة، مع الله، وطريقة الحياة بالنسبة لنا نحن البشر نعبّر عنها من خلال عدد متنوّع من النشاطات، وخلال حياة بأكملها.
فإن كانت أقوالنا وأعمالنا الإنسانيّة تهدف إلى تثبيت طريقة الحياة الإلهيّة فينا وحولنا، أي تثبيت المحبّة والخلق والإبداع، فإنّ هذه الأقوال والأعمال لا شكّ تدفعنا إلى المشاركة مع الآخرين في وحدة وتمايز، دون انغلاق ودون امّحاء ذاتي، في حراثة للكون (وصيّة الله لآدم) وقراءة لكلمات الله المنثورة في هذا الكون (نقول ذلك في خطّ مكسيموس المعترف) لكي يتحوّل هذا الكون إلى كون الله، إلى كنيسة، إلى مكان محبّة ثالوثيّة، أي بتعبير أبسط، إلى مكان تحيا فيه المخلوقات في محبّة تعبّر عن نفسها بطرق مختلفة: احترام للطبيعة، صداقات، مواطنة، صداقة، حبّ، رهبنة، فنّ، عناية بالحياة، أبوّة، أمومة، عناية، تشجيع، ثقة، مسؤوليّة، احترام، معرفة، إلخ. هكذا، فالتواضع الذي هو باب إلى اعتبار الله نبع الحياة ومصبّها، واعتبار الآخر أساس لي حتّى التنفّس (وهذه باب كلّ علاقة صداقة ومحبّة وحبّ)، لا يهمّش أقوالنا وأفعالنا، أو يخفّف من قيمتها، وإنّما يجعلها متّصلة بالحياة الإلهيّة، بالله الذي يعطيها قيمة تفوق أيّة قيمة بشريّة محضة، إذ يجعلها متّصلة بمعنى التألّه، بالملكوت، بمعنى الحياة الأبديّة، بنبع المعنى: الله. التواضع باب المحبّة، والمحبّة تجعل خبراتنا كلّها ونشاطاتنا كلّها طريقًا إلى التألّه، ومُجَسِّدَةً للتألّه في الحياة اليوميّة، وما من أمر أعظم من هذا.
مع الله تغدو أقوالنا وأفعالنا مجالات لترجمة محبّتنا لله التي لا يمكن أن تكون حقيقيّة دون أن تتجسّد في أفعال واقوال مُحيية لأنفسنا وللناس. ومع الله تغدو أقوالنا وأفعالنا مجالات لتجذير محبّتنا لله وتعميقها، لنسير قُدُما في تبنّي طريقة الحياة الإلهية: المحبّة، لنسير قُدُما في الحياة في المسيح والروح القدس، أي لتغدو أقوالنا وأفعالنا مجالات للتألّه، في المسيح، في رعاية ورفقة الروح القدس.
هكذا، لا يوجد تناقض أو تعارض بين التواضع وبين سائر النشاطات الإنسانيّة، ولكأنّ الواحدة تلغي الأخرى. إنّ التواضع (وهو دواء الكبرياء) لا يلغي الإنسان في ميادينه جميعا، وفي أبعاده جميعاً، في جسده وعقله؛ إنّه لا يجعل من العلم والفكر والفنّ والتربية والعمل المنزلي والعمل الوظيفيّ، إلى ما هنالك من نشاطات إنسانيّة، أموراً تافهة، بل على العكس، هو باب يجعلنا نقبل الله كنبع ومصبّ لحياتنا، ممّا يعطي نشاطاتنا الإنسانيّة كلّ أهمّيتها ويؤكّدها بمدّها ببعدٍ إلهيّ. المسيح نفسه لم يردنا خارج العالم وإنّما أرادنا ليس منه، ولكنّه أرادنا فيه.
خريستو المرّ
مراجع
[1] أليس الفرح لفرح الآخر والحزن لآلامه يدلّ على هذه المحبّة المتعاطفة حتّى الأعماق والتي دلّ عليها بولس الرسول بقوله "فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ" (١ كرورنثوس ١١: ٢٦)
[2] يشير الرسول إلى المعموديّة وسرّ الشكر (المناولة) في قوله "أَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا" (١ كرورنثوس ١١: ١٣)