المقالة الأصليّة
التواضع، قيمة النشاط الإنسانيّ، وقضايا أُخرى (٢ من ٢)
مجلّة النور الأرثوذكسيّة، عدد ٢، ٢٠١٩
التواضع، قيمة النشاط الإنسانيّ، وقضايا أُخرى (٢ من ٢)
مجلّة النور الأرثوذكسيّة، عدد ٢، ٢٠١٩
حاولنا أن نبيّن في الجزء الأوّل من مقالتنا أنّه لا يوجد تناقض أو تعارض بين التواضع وبين سائر النشاطات الإنسانيّة.
ترابط الفضائل وتناغمهالا بدّ هنا من ملاحظة، إنّ تضخيم فضيلة على حساب فضائل أخرى قد يصل بنا إلى الرذيلة، فالفضائل تتكامل ولا يمكن التركيز تركيزا مفرطاً على واحدة دون المسّ بتكامل الشخص الإنسانيّ ومسيرته الروحيّة.
فإنّ المصغي للآخر، مثلاً، الذي يفتقد الشجاعة لمواجهة أخطاء الآخر، هو إنسان يعيش في الخطأ، ويسمح بالخطأ، ويتهاون بحياته وبحياة إخوة يسوع الصغار، أي أنّه ليس "متواضعاً" سوى بالشكل، لأنّه لا ينفتح على الحقّ، وإنّما يخضع للآخر ورغباته وأخطائه وخطاياه. هكذا إصغاء "متواضع" هو رذيلة. هكذا فإنّ "التواضع" أمام آخر دون شجاعة المواجهة لأخطائه يغدو خنوعا متستّراً، أي رذيلة مستّرة بثياب الفضيلة.
وإن انفصلت الشجاعةُ في مواجهة أخطاء الآخر دفاعا عن الحقّ والحقيقة ومن أجل سلامة حياة الآخر وحياتنا الشخصيّة، عن احترام شخص الآخرفهي تنزلق إلى تسلّط وتحكّم وتدمير وهو ما يخلو بلا شكّ من التواضع أمام الحقّ. هكذا "شجاعة" مفتقدة للمحبّةِ التي تتضمّن حكما الاحترام، هب في حقيقتها تحكّم وتسلّك قد ينجرف إلى إيذاء معنوي وحتّى جسدي للآخر وصولا حتّى إلى تدميره تحت ذريعة "الشجاعة" والدفاع عن "الحقّ"، و"الإخلاص" لصفاء العقيدة، وحتّى "المحبّة"! ونتذكّر هنا ما كان لـ"أخويّ الرعد" يعقوب ويوحنا من حميّة للحقّ حتّى أنّهما طلبا من يسوع مرّة أن يدعهما يُنزلا النار على آخرين عقابا لهم، فانتهرهما يسوع لأنّ "حميّتهما" خلت من المحبّة وغدت تدميرًا متخفّيًا بثوب الغيرة (لوقا 9: 45). هكذا فإنّ فضيلة الشجاعة المنفصلة عن فضيلة المحبّة تغدو رذيلة؛ فالمحبّة، أي حياة الوحدة والتمايز عن الآخر، هي ما تلجم الشجاعة من الانجراف إلى أيّ تصرّف مدمّر.
من هنا فإنّ ما يوازن الإنسان ويبقيه في طريق أقرب إلى الحقّ وحياة روحية أقرب إلى السلامة، ليس هو التركيز على التواضع بشكل حصريّ وإنّما إعادة قيمة الفضائل المسيحيّة الأخرى المختلفة إلى الواجهة، بعد أن غابت في معظم العظات والكتابات الدوريّة والكتب. ويبدو لي أنّ التأكيد على فضيلة الشجاعة حاليّاً ضروريّ لموازنة التضخّم الحاصل في التأكيد على ضرورة التواضع، وسوء الاستخدام المنتشر لهذه الكلمة.
هذا بالإضافة إلى ضرورة إيضاح معاني فضيلة التواضع، وغيرها من الفضائل، فعند استخدام هذه الكلمات أو كتابتها فإنّ المعاني التي تنطبع في الأذهان من جرّائها قد تكون بعيدة عن معناها المقصود لدرجة خيانته. فكما أنّ مفهوم التواضع يُفهم ويُعَلَّمُ بشكلٍ مشوّه، كذلك فضيلة المحبّة؛ فالمحبّة، وهي قمّة الفضائل، لا تُشرح بشكل كافٍ وتبقى غامضة المعنى معظم الأحيان، بحيث أنّها باتت تُفهَمُ عامّة بأنّها شعورٌ لطيفٌ صداقيُّ ورديّ تجاه الآخر، وهذا ليس تعريفا صحيحاً، وهو تعريف يجافي خبرة الإنسان الشعوريّة اليوميّة وينفّر الكثيرين عن حقّ من الإيمان، وإذا بهم يرفضون التعليم المسيحيّ الأكثر جذريّة والأكثر جدّية بسبب سوء فهم معنى كلمة "المحبّة".
إنّ الفضائل مترابطة، وإن أخذنا مثلا التواضع والشجاعة والمحبّة، فإنّ مَن تحلّى بالتواضع ليصغي إلى غيره، ولكنّه بقي شجاعا ليواجه خطاياه الذاتية مع الآخرين ليعود عنها فيخدم بذلك حياته الذاتية وحياة الآخرين الذين أخطأ بحقّهم ويبقى بتواصل مع ربّ الحياة؛ وكذلك مَن بقي شجاعا ليواجه خطايا الآخر وأخطائِه باحترامٍ مُحبٍّ، فوقفَ إلى جانب ذاته و/أو الأخوات والإخوة "الصغار" لحمايتهم من أخطاء الآخر، فإنّه يكون في الحقّ لأنّه يدافع عن الحقّ دون أن يقطع نفسه عن الآخر وعن الله وعن ذاته، ويحاول أن يخدم الحياة في ذاته وفي المظلوم وفي الظالم.
وكذلك فإنّ الشُجاع الذي يقف إلى جانب الحقّ ولكنّه يبقى مُحِبّاً، أي يسعى إلى حياة الوحدة مع الآخر والتمايز عنه، توجّه محبّتُه شجاعَتَه بحيث لا تنجرف إلى أيّ تصرّف مدمّر، ويُبقيه تواضعه متنبّها إلى أنّه ليس الحقّ، وإلى أنّ الحقّ يتجاوزه دائما، ممّا يدفعه إلى الإصغاء للآخر لعلّ الآخر يحملُ ما يُحيي ذاته ويضيئُها ليُصلحها، على أن يبقى مستعدّاً للشهادة للحقّ وما تقتضيه من مواجهة للآخر دون تدمير، إن اقتضى الأمر.
إنّ المحبّة - أي الوحدة في التمايز- نفسها لا يمكن أن تعاش دون شجاعة وتواضع. فالتواضع يجعل الإنسان منفتحاً إلى الآخرين، مصغيا، ليحاول أن يفهمهم من الداخل ويتمكّن من أن يبدأ مشوار الوحدة معهم؛ والشجاعةُ تسمح له بالشهادة للحقّ ومخالفة الآخرين عند الضرورة، ممّا يسمح بأن يبقى الجميع متمايزين فلا يذوبوا ببعضهم البعض. هكذا فالتواضع يدفع للوحدة والشجاعة تدفع للتمايز، ممّا يحقّق إمكانيّة المحبّة.
الخلاصة هو أنّ التعليم حول فضيلة التواضع دون فضائل أُخرى، إن كان مفرطاً (وهو مفرط حاليّاً) ليس فقط يثير الريبة وإنّما هو خطير ومضرّ روحيّا (البعد عن الحقّ والمحبّة) ونفسيّا (الخنوع والتبعية) وجسديّا (الأمراض النفجسديّة)، ولذلك من الضروري موازنته بالتركيز على فضائل أخرى كالشجاعة، والمحبّة، والتمييز الذي يقتضي قداسةً ولكن أيضًا فِكرًا (هل يمكن لأيّ منّا أن يميّز في أيّ شيء بدون عقل وفهم؟)، وغيرها.
تواضع الكنيسةأخيرا فإنّ بعض من الخطاب الكنسيّ يضع الكنيسة في مواجهة العالم، وكأنّ العالم كلّه في الخطيئة والضلال، ولكأنّ المسيحيون الذين في بلادنا فقط (وليس المسيح) يحملون الحقّ وحدهم ولهذا مهمّتهم تكمن في إنقاذ الناس الذين هم في "الخارج". هذه النظرة تبدو أكثر ما تبدو في الكتابات العظات التي تتحدّث بشكل شموليّ عن أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة، أي عن الناس في تلك النواحي.
إنّ دعوة أيّ إنسان إلى الإيمان بيسوع المسيح مهمّة قائمة، لكن من المهمّ أن نبقى ككنيسة متنبّهين إلى أنّ المخلّص هو المسيح، وليس المسيحيّين، أي ليس الكنيسة المنظورة بمؤسّساتها وبُناها. هذا الانتباه ضروري حتّى لا نُماهي بيننا كأشخاص وبين إرادة المسيح، كما ولا نُماهي بين أيّة جغرافية وثقافة ولغة وعادات اجتماعيّة وبين المسيح. لا شكّ أنّ الكنيسة هي جسد المسيح، وأنّ أعضاء الكنيسة المنظورة يشاركون في الأسرار، ويحيون حياتهم - أو ينبغي أن يحيوها - بحسب قلب الله، منسجمين مع الرأس-المسيح. لكن هذا على الصعيد المنظور وليس لنا أن "نفحص القلوب" إذ يبقى الله وحده دون سواه "فاحص القلوب"؛ ولهذا ليس لنا أن نعرف من هو في قلب الكنيسة فعلاً، ويحيا وحدةً بالفعل مع المسيح يسوع، ومَن هو خارج جسد المسيح السرّي. هذا أمرٌ متروك لما يكشفه حضور الله للقلوب في اليوم الأخير. نحن نستطيع أن نقول من هو مؤسّساتيًا خارج الكنيسة، من هو خارج المؤسّسات الكنسيّة، من هو خارج الكنيسة المنظورة (مثلا مَنْ لم يعتمد لا ينتمي إلى الكنسيّة الرسميّة) ولكن لا يمكننا أن نحكم إن كان أقرب منّا أم لا إلى قلب الله، وإن كان واحداً في القلب والممارسة مع المسيح أم لا. فالكنيسة المنظورة لا تحتكر المسيح، ويبقى المسيح متمايزاً عن الكنيسة الرسميّة بشكل مُطلق، رغم أنّها هي في ألقها - وليس في خياناتها - جسده الأرضيّ. من هنا من الخطأ أن ننزلق إلى الكلام الشمولي والتعميمات الجاهزة عن أوروبا أو أميركا الشماليّة أو أيّ مكان آخر لكأنّه لا حقّ فيه ولا ضوء ولكأنّ بلادنا وناسنا وكنيستنا تحتكر نور المسيح.
الكنيسة الرسميّة لا تحتكر الروح القدس الذي نقول دائمًا - دون أن ننتبه على ما يبدو - أنّه "الحاضر في كلّ مكان وصقع والمالئ الكلّ". لا بدّ أنّ الروح يرعى مباشرة مَنْ هم خارج حدود الكنيسة الرسميّة المنظورة، وله وحده أن يفحص القلوب. المحبّة هي من صورة الله في الإنسان، كلّ إنسان، والروح القدس يرعى صورة الله في قلوب كلّ البشر. مَنْ وَقَفَ حياته على خدمة البشر وهو ليس مسيحيٌّ رسميّاً، أو هو مسيحيّ من طائفة أخرى نختلف معها في العقيدة، مَنْ نحنُ لنقول أنّه فعل ذلك دون رعاية الروح القدس، ولنطلق عليه أحكامنا المطلقة؟ أين التواضع الذي طالما ركّزنا عليه في أحكامنا هذه؟ فجأة يختفي التواضع؟ يجب أن نخشى دائما تجربة امتلاك الألوهة، وحصرها فينا، أو بشكل متخفّ بحصرنا الروح القدس في الأسرار الكنسيّة حصريًّا، علينا أن نخشى دائمًا وضع ذواتنا الفرديّة وذاتنا الجماعيّة مكان الله وأحيانًا فوقه (أليس هذا ما يفعله البعض برفضهم وجود الروح القدس خارج الأسرار الكنسيّة، ولكنيستهم بالذات؟)، فإنّ ذلك يوقعنا مباشرة في فخّ الخطيئة الأصليّة.
إنّ تواضع الكنيسة، جسد المسيح، ينبغي أن يجعلها ترى أنّ مؤسّساتها لا تحتكر سيّد الكون، وأن يجعلها مصغية للحقّ أنّى كان مَنْ نطق به، أكان داخل أم خارج الأطر الكنسيّة الرسميّة. لله أن يعلّمنا ويضيء بنوره علينا ويردّنا إليه تائبين بواسطة من يشاء.
إنّ عمل الكنيسة المنظورة هو أن تسير في خطى سيّدها، وأن تجهد ليَصِلَ يسوعُ المسيح إلى القلوب وأن تصل القلوبُ إليه؛ عملها أن يتمتم هذا العالم عالم الله، أن يصير كنيسة الله قدر الإمكان؛ ولهذا فإنّ الكنيسة المنظورة لا تُعَلِّم وتشهد فقط للربّ، ربّ المحبّة والحياة، ولا تواجه فقط الانحرافات فيها كما وخارجها، وإنّما تتعلّم أيضاً من تجلّيات للربّ تقع خارج حدودها المنظورة، لتتوب عن انحرافات في ممارستها، كما ولتعرف كيف تتخطّى التحدّيات الحاليّة التي تواجهها، من ذهنيّة الزبائنيّة والخنوع، وضعف المناقبيّة فيها، والمقاربات السحريّة للإيمان، والخضوع الأعمى للأشخاص، والتسلّط، والكراهية للآخر، والتعصّب والتكفير، والعنصريّة، والمخاطر النفسيّة والجسديّة التي يتعرّض لها الأحداث والشابات والشباب كما والعاملون والعاملات في الكنيسة ومؤسّساتها، وغياب التخطيط والتناغم والتعاون بين الأبرشيات، والضيق الاقتصاديّ، وضعف المناقبيّة في العمل في الحقل العام، ومدى شهادة المؤسّسات الكنسيّة لمحبّة يسوع المسيح، وغير ذلك الكثير ممّا لا يمكن مواجهته إلاّ بعمل كنسيّ جماعيّ نصغي به إلى أوجاع الموجوعين، ونستخدم فيه المكتسبات التي وصلت إليها البشريّة اليوم من تربية، وعلوم، وإرشاد اجتماعيّ، وطبّ نفسيّ، وتعليم، وطبابة، وفهم اقتصاديّ، وغير ذلك؛ ولا ننسى أنّ الإنسان وصل إلى هذه المكتسبات اليوم بتفعيله صورة الله فيه من فكرٍ وحرّية، وإن استدعى بعض هذه المكتسبات تمحيصًا ونقاشًا فهذان ينبغي أن يكونا بالضرورة فاهِمَيْن عالِمَيْن بعيدين عن الخوف والتكفير والانغلاق.
لعلّ الربّ يقود كنيسته بتجلّياته في كلّ حقيقة، لتتوب عن أخطائها، تلك التي رأيناها عبر التاريخ، وتلك التي نراها اليوم في حاضرنا، وفي كلّ حاضرٍ يستدعينا أن نشهد فيه للحقّ (٢ بطرس ١: ١٢).
خريستو المرّ