التربية الدينيّة في المجتمع اللبنانيّ: مساهمة في حوار
النهار 3 تشرين أوّل - 2004
قرأنا مقاليّ الأب الدكتور جورج مسّوح والدكتورة لميا رستم شحادة حول التربية الدينيّة في لبنان، وبدا لنا ضروريّاً إبداء بعض الملاحظات في هذا السياق.
في تحليلي لمقالة الأب مسّوح لا يبدو أبداً أنّه قد سعا إلى ديانة توفيقيّة، بل أنّه ينهي مقالته بالدعوة مجدّداً إلى "معرفة حقيقيّة للآخر كما هو"، وهذه هي الرؤية العامّة التي حاول أن ينقلها والتي أشاركه إياها شخصيّاً. وقد طرح بشكل واضح رؤيةً للتربية الدينيّة تشمل شقّين، الأوّل هو "المعرفة الحقّ بالأديان ومن ذلك أهم عقائدها، وممارساتها" وفي هذا لا بدّ أن تختلف الأديان بشكل جليّ وأن لا تكون مقبولة عند الدين الآخر، والشقّ الثاني لطرْحِه هو معرفةُ قيم الأديان "والفضائل التي تدعو إليها ونظرتها إلى الإنسان والمجتمع" وفي هذا لا بدّ أن نجد الكثير من نقاط اللقاء والكثير ممّا هو مشترك والذي يمكن للطلاّب أن يتعرّفوا عليه. وبالتالي تنتفي صفة التوفيقيّة أو التلفيقيّة إذا ما قرأنا المقال قراءة متأنّية.
لقد بدا أنّ الدكتورة شحادة تقترح في مقالها أن تؤدّي المدارس العلمانيّة الدور الأساس في توحيد المواطنين - كما فهمنا- من خلال تعليم إنسانويٍّ لا دينيٍّ لقيم إنسانيّة كـ"الاحترام وقدسيّة الفرد وحرّية معتقداته" و"تقبّل الآخر في جميع أفكاره ومعتقداته وتقبّل المساواة الإنسانيّة". ولكنّنا نرى أنّ ما ذكرته هو جزء من التراث المسيحيّ، والإسلامي على حدّ علمنا، ويمكن، بل يجب، التطرّق إليه في إطار رؤية جديدة للتربيّة الدينية. وبرأيي أنّ الأب مسّوح والدكتورة شحادة يشتركان في المبادئ الإنسانيّة التي ذكرتها الدكتورة، كلّ ما في الأمر أنّ الأب مسّوح ركّز على إمكانيّة دراسة هذه المبادئ من خلال التربية الدينيّة. فمن جهةِ ما أرادته الدكتورة شحادة من "الاحترام وقدسيّة الفرد" فقد ذكر الأب مسّوح، بالإضافة إلى ضرورة الجمع بدل التفرقة أثناء حصّة التربية الدينيّة وضرورة التفريق بين ممارسات المنتسبين إلى الأديان ومبادئ الأديان نفسها، ذكر الإيمان بالله الواحد ورحمته، ودعوة الأديان إلى التراحم، وإلى العدل ومقاومة الشرّ والظلم والإهتمام بالفقراء والمساكين مادّياً، وإلى احترام الإنسان والإيمان بالمساواة لأنّ الإنسان هو "ابن الله" أو "خليفته". أمّا من جهة "حرّية معتقداته (أي معتقدات الفرد)" و"تقبّل الآخر في جميع أفكاره ومعتقداته وتقبّل المساواة الإنسانيّة"، فمن الممكن بل الواجب التركيز عليها في التربية الدينيّة، فإنّ الدين الإسلامي، على حدّ علمي، يقول أنّ مرجع الناس إلى الله وهو الذي يحكم بما كانوا فيه يختلفون من معتقدات، وأنّ الله خلق الناس مختلفين وذلك دعوة منه لكي يتعارفوا لأنّه لو شاء لجعل الناس أمّة واحدة، وأنّ الناس المختلفين مخلوقون سواسية من نفس واحدة. أمّا الدين المسيحيّ فيرى الله محبّة والناس، كلّ الناس، مخلوقون على صورته، وقد غفر المسيح من صلبوه لأنّهم "لا يدرون ماذا يفعلون"، وبالتالي فهو يقبل الاختلاف حتّى الرفض، كما أنّه واقف على باب القلب يقرع منتظراً مَنْ يفتح له، والمسيحيّون مدعوون أن يتمثّلوا مسيحهم. وتجدر الملاحظة في هذا السياق أنّ تقبّل الآخر بأفكاره ومعتقداته لا يعني القبول بها ولكن يعني القبول بهذا الآخر، بوجوده، أي القبول بالإنسان الذي من أجله جائت الديانات، ومن ضرورات احترام الآخر احترام اختلافه.
إذاً برأيي، فإنّ ما دعت إليه الدكتورة شحادة يمكن أن يُبلغ من خلال تربية دينيّة حقّة تنقل الأديان للتلامذة، بلا تلفيق ولا توفيق يبقيا سطحيّين، ولكن أيضاً بلا إشاحة الوجه عن مجالات التشابه واللقاء. بل برأيي، ونظراً لمكانة الدين في عقول معظم اللبنانيّين (والله أدرى بقلوبهم) ولما لذلك من أثر على نظرتهم لبعضهم البعض (بحيث أنّ معظمهم لا يعرف النقاط الدينيّة المشتركة بل يعرف نقاط الاختلاف أو ما يظنّه عن جهلٍ أنّه كذلك)، فإنّ معرفة صحيحة في إطار تربية دينيّة متنوّرة سيكون لها ، إن شاهدت النور، أثر أكبر وأجدى من مجرّد طرح إنسانويّ، على أهمّيته، لا يولي البعد الديني في المجتمع اللبنانيّ أهمّية، إلاّ بشكل هامشيّ، بينما لا يزال الدين حاضراً في ثقافة معظم اللبنانيّين. تقتضي هنا ملاحظة أساسيّة، وهي أنّ الحرب اللبنانيّة أثبتت أنّ الكثير من اللبنانيّين، في مقاربتهم للّه، يستخدمونه بدل أن يخدمونه ممّا يجعل المرء يتساءل عن مدى إيمان اللبنانيّين رغم "تديّنهم" الظاهريّ. وهذه الملاحظة تدفعني للاقتناع أكثر بضرورة أنْ تُقارَب التربية الدينيّة بالمنظار التعارفيّ الحقيقيّ، وبروح الاحترام التي هي محكّ الإيمان الأصيل. وفي العبرة القديمة "الإنسان عدوّ ما يجهل" حكمة لا بأس أن نتعلّم منها نحن في لبنان.
لكنّ ظنّي أنّ التربية الدينيّة كتعليم وحوار غير كافية على أهمّيتها، إذا لم يتواجد فيها البعد "التطبيقيّ"، بُعد الحياة. حوار الحياة هو المحكّ وهو الذي يلامس به الإنسان بشكل عميق وفريد وحيّ ما يكون قد "فهمه" من "دروس" التربية الدينيّة. فعلى صعيد التربية الدينيّة من الممكن، برأيي، أن يلتزم الطلاّب المنتسبين لحصّة التربية الدينيّة، وبشكل طوعيّ، بنشاط واقعيّ في محيطهم، يجسّدون فيه التعاليم المشتركة والخاصة التي يكونوا تعرّفوا إليها، مثال على ذلك التزام بيئيّ في محيطهم، التزام مساعدة الطلاب الأصغر عمراً في دروسهم، التزام بدعم مادّي لعائلة محرومة... القناعات العقلية تبقى سطحيّة ولا تمسّ "قلب" الإنسان إن لم يمارسها، لا تصير كيانيّة أي جزءاً من الشخصيّة.
لا يسعني أخيراً إلاّ التعليق على بعض الأمور التي ذكرتها الدكتورة شحادة في مقالها. تدعو الدكتورة شحادة إلى أن تستلم المدارس العلمانيّة "هذه التجربة". وإن كان المرء يفهم أوّلاً أنها تقترح أنْ تقوم المدارس العلمانيّة بالتربية الدينيّة، إلاّ أنّ قرءة المقاطع التي تلت تبيّن أنّ التربية المرجوّة هي تربية إنسانويّة، تركّز على مبادئ إنسانيّة لا دينيّة. إلاّ إنّ تعليقي هو على تبريرها لهذا الطرح بقولها أنّ ما يميّز المدارس العلمانيّة هو "عدم التزامها سلفاً لأيّ هدف أو رسالة"، وهذا غير صحيح واقعيّاً، فكلّ مؤسّسة لها هدف معلن أو مضمر، والمدارس العلمانيّة تهدف، من جملة ما تهدف، أن تنقل رسالة علمانيّة لا دينيّة للتلاميذ، وهي رسالة أقدّرها حقّ التقدير، إلاّ أنّها تبقى رسالة وهدفاً. ملاحظتنا الثانية هي أنّ مدارس لبنان العلمانيّة لا تضمّ في جنباتها جميع التلامذة، بل قد تكون أقلّية، وبالتالي يبقى من الضروري أن تتكوّن رؤية للتربية الدينيّة كتلك التي حاول الأب جورج مسّوح أن يفتح النقاش حولها. أمّا عن تساؤل الكاتبة القلِق حول تحكيم العقل والمعرفة الحديثة بقولها "ألا يمكن أن يؤثّرذلك سلباً على إيمانهم"، فإنّني وإن كنت أشارك الكاتبة إشارتها أنّ الإيمان لا يُبلغ بالعقل فقط، إلاّ أنّني أرى أنّ التربية الدينيّة، موضوعَ حديثنا، يمكنها أن تساهم في تعميق الإيمان. فالمعرفة الصحيحة لمعتقدات الدين الشخصيّ ودين الآخر ومقابلتها -الأمر الذي لا بدّ أن يحصل على صعيد النفس- ومعرفة ما تشترك فيه الأديان من دعوات حياتيّة تمسّ صميم الحياة الواحدة في أرض واحدة، يمكن أن ينعكس إيجاباً على الإيمان إذا اكتشف الإنسان حقائق دينه والأديان الأخرى بدل أن يبني رؤيته للناس وتصرّفاته على أفكار مغلوطة عن دينه والأديان الأخرى فتضحي هذه التصرّفات عرضة للتعارض مع مبادئ الدين الذي ينتمي إليه. وأمّا ما طرحه الأب مسّوح من ضرورة "تحليل" الإيمان على ضوء المعارف الحديثة كجزء من التربية الدينيّة، فيبدو لي متناسبٌ مع دراسة مادة تعليميّة جامعيّة أكثر منه مع تربية دينيّة مدرسيّة، وعلى كلّ فقد بدا هذا الطرح غير واضح كفاية في سياق المقال.
وأخيراً فإنّ الكاتبة تصف رؤيتها الدينية الخاصة بقولها، في معرض كلامها عمّا يمكن تعليمه للتلاميذ حول الدين في حصص التربية الإنسانويّة التي تقترحها، أنّ "حياتنا لا تكتسب معناها الحقيقي إلاّ بإيماننا بالله وتسليمنا بمشيئته، وتكون وظيفة الأديان شرح أسباب شقاء الإنسان وعذابه ومساعدته على تقبّلها في سيره نحو قدره المحتوم". هنا أخالف رؤيتها هذه حول وظيفة الأديان وكيفيّة اكتساب حياة الإنسان معناها، إذ أنّ الدكتورة شحادة لا ترى الإنسان إلاّ مخلوقاً عليه أن يتقبّل خضوعه للقهر وللعذاب ولمشيئة الله (التي تبدو في سياق النصّ وكأنها لا تحمل سوى الألم للإنسان) إلى أن يموت (الإنسان). فالأديان، عند المؤمنين، وجدت لتنقل خطاباً من الله للإنسان يشرح ماهيّة علاقة الإنسان بالله وبالإنسان الآخر، وكيف للإنسان أن يحقّق حياته بشكل إيجابيّ، أي ما هي المبادئ التي يمكنها أن ترشده خلال حياته ليفعل ويحقّق سعادته (الملكوت) التي أرادها الله له، فالله كما يتجلّى في الأديان يريد للإنسان الفرح لا العذاب.
إنّنا نرى، للأسباب التي حاولنا مناقشتها أعلاه، أنّ وجود تربيةٍ دينيّة حقيقيّة تبتعد عن أسلوب الدعوة ومحاولات التهجّم، وتقدّم ايّ دين في عقائده كما هي، لا كما يراها الدين الآخر، وذلك في مقاربة صادقة، كاشفة لخصوصيّة كلّ دين وللرؤى المشتركة للأديان جميعاً، على أن تكون تربية معيوشة تطبيقاً، هو أمر حيويّ في لبنان. وإذا كانت هكذا تربية لا تزال مجال نقاش ومسعى أتفق مع الكاتبين على صعوبة تحقيقه، إلاّ أنّني أرى أنّ الصعوبة هنا هي مدعاة للمزيد من التفكير والبحث واستنباط الحلول، وليست مدعاة استسلامٍ وكسلٍ لا يزالان، مع الجهل والخوفِ والتقوقعِ، من السمات المميّزة لمعظم التعليم الديني في لبنان.
خريستو المر
في تحليلي لمقالة الأب مسّوح لا يبدو أبداً أنّه قد سعا إلى ديانة توفيقيّة، بل أنّه ينهي مقالته بالدعوة مجدّداً إلى "معرفة حقيقيّة للآخر كما هو"، وهذه هي الرؤية العامّة التي حاول أن ينقلها والتي أشاركه إياها شخصيّاً. وقد طرح بشكل واضح رؤيةً للتربية الدينيّة تشمل شقّين، الأوّل هو "المعرفة الحقّ بالأديان ومن ذلك أهم عقائدها، وممارساتها" وفي هذا لا بدّ أن تختلف الأديان بشكل جليّ وأن لا تكون مقبولة عند الدين الآخر، والشقّ الثاني لطرْحِه هو معرفةُ قيم الأديان "والفضائل التي تدعو إليها ونظرتها إلى الإنسان والمجتمع" وفي هذا لا بدّ أن نجد الكثير من نقاط اللقاء والكثير ممّا هو مشترك والذي يمكن للطلاّب أن يتعرّفوا عليه. وبالتالي تنتفي صفة التوفيقيّة أو التلفيقيّة إذا ما قرأنا المقال قراءة متأنّية.
لقد بدا أنّ الدكتورة شحادة تقترح في مقالها أن تؤدّي المدارس العلمانيّة الدور الأساس في توحيد المواطنين - كما فهمنا- من خلال تعليم إنسانويٍّ لا دينيٍّ لقيم إنسانيّة كـ"الاحترام وقدسيّة الفرد وحرّية معتقداته" و"تقبّل الآخر في جميع أفكاره ومعتقداته وتقبّل المساواة الإنسانيّة". ولكنّنا نرى أنّ ما ذكرته هو جزء من التراث المسيحيّ، والإسلامي على حدّ علمنا، ويمكن، بل يجب، التطرّق إليه في إطار رؤية جديدة للتربيّة الدينية. وبرأيي أنّ الأب مسّوح والدكتورة شحادة يشتركان في المبادئ الإنسانيّة التي ذكرتها الدكتورة، كلّ ما في الأمر أنّ الأب مسّوح ركّز على إمكانيّة دراسة هذه المبادئ من خلال التربية الدينيّة. فمن جهةِ ما أرادته الدكتورة شحادة من "الاحترام وقدسيّة الفرد" فقد ذكر الأب مسّوح، بالإضافة إلى ضرورة الجمع بدل التفرقة أثناء حصّة التربية الدينيّة وضرورة التفريق بين ممارسات المنتسبين إلى الأديان ومبادئ الأديان نفسها، ذكر الإيمان بالله الواحد ورحمته، ودعوة الأديان إلى التراحم، وإلى العدل ومقاومة الشرّ والظلم والإهتمام بالفقراء والمساكين مادّياً، وإلى احترام الإنسان والإيمان بالمساواة لأنّ الإنسان هو "ابن الله" أو "خليفته". أمّا من جهة "حرّية معتقداته (أي معتقدات الفرد)" و"تقبّل الآخر في جميع أفكاره ومعتقداته وتقبّل المساواة الإنسانيّة"، فمن الممكن بل الواجب التركيز عليها في التربية الدينيّة، فإنّ الدين الإسلامي، على حدّ علمي، يقول أنّ مرجع الناس إلى الله وهو الذي يحكم بما كانوا فيه يختلفون من معتقدات، وأنّ الله خلق الناس مختلفين وذلك دعوة منه لكي يتعارفوا لأنّه لو شاء لجعل الناس أمّة واحدة، وأنّ الناس المختلفين مخلوقون سواسية من نفس واحدة. أمّا الدين المسيحيّ فيرى الله محبّة والناس، كلّ الناس، مخلوقون على صورته، وقد غفر المسيح من صلبوه لأنّهم "لا يدرون ماذا يفعلون"، وبالتالي فهو يقبل الاختلاف حتّى الرفض، كما أنّه واقف على باب القلب يقرع منتظراً مَنْ يفتح له، والمسيحيّون مدعوون أن يتمثّلوا مسيحهم. وتجدر الملاحظة في هذا السياق أنّ تقبّل الآخر بأفكاره ومعتقداته لا يعني القبول بها ولكن يعني القبول بهذا الآخر، بوجوده، أي القبول بالإنسان الذي من أجله جائت الديانات، ومن ضرورات احترام الآخر احترام اختلافه.
إذاً برأيي، فإنّ ما دعت إليه الدكتورة شحادة يمكن أن يُبلغ من خلال تربية دينيّة حقّة تنقل الأديان للتلامذة، بلا تلفيق ولا توفيق يبقيا سطحيّين، ولكن أيضاً بلا إشاحة الوجه عن مجالات التشابه واللقاء. بل برأيي، ونظراً لمكانة الدين في عقول معظم اللبنانيّين (والله أدرى بقلوبهم) ولما لذلك من أثر على نظرتهم لبعضهم البعض (بحيث أنّ معظمهم لا يعرف النقاط الدينيّة المشتركة بل يعرف نقاط الاختلاف أو ما يظنّه عن جهلٍ أنّه كذلك)، فإنّ معرفة صحيحة في إطار تربية دينيّة متنوّرة سيكون لها ، إن شاهدت النور، أثر أكبر وأجدى من مجرّد طرح إنسانويّ، على أهمّيته، لا يولي البعد الديني في المجتمع اللبنانيّ أهمّية، إلاّ بشكل هامشيّ، بينما لا يزال الدين حاضراً في ثقافة معظم اللبنانيّين. تقتضي هنا ملاحظة أساسيّة، وهي أنّ الحرب اللبنانيّة أثبتت أنّ الكثير من اللبنانيّين، في مقاربتهم للّه، يستخدمونه بدل أن يخدمونه ممّا يجعل المرء يتساءل عن مدى إيمان اللبنانيّين رغم "تديّنهم" الظاهريّ. وهذه الملاحظة تدفعني للاقتناع أكثر بضرورة أنْ تُقارَب التربية الدينيّة بالمنظار التعارفيّ الحقيقيّ، وبروح الاحترام التي هي محكّ الإيمان الأصيل. وفي العبرة القديمة "الإنسان عدوّ ما يجهل" حكمة لا بأس أن نتعلّم منها نحن في لبنان.
لكنّ ظنّي أنّ التربية الدينيّة كتعليم وحوار غير كافية على أهمّيتها، إذا لم يتواجد فيها البعد "التطبيقيّ"، بُعد الحياة. حوار الحياة هو المحكّ وهو الذي يلامس به الإنسان بشكل عميق وفريد وحيّ ما يكون قد "فهمه" من "دروس" التربية الدينيّة. فعلى صعيد التربية الدينيّة من الممكن، برأيي، أن يلتزم الطلاّب المنتسبين لحصّة التربية الدينيّة، وبشكل طوعيّ، بنشاط واقعيّ في محيطهم، يجسّدون فيه التعاليم المشتركة والخاصة التي يكونوا تعرّفوا إليها، مثال على ذلك التزام بيئيّ في محيطهم، التزام مساعدة الطلاب الأصغر عمراً في دروسهم، التزام بدعم مادّي لعائلة محرومة... القناعات العقلية تبقى سطحيّة ولا تمسّ "قلب" الإنسان إن لم يمارسها، لا تصير كيانيّة أي جزءاً من الشخصيّة.
لا يسعني أخيراً إلاّ التعليق على بعض الأمور التي ذكرتها الدكتورة شحادة في مقالها. تدعو الدكتورة شحادة إلى أن تستلم المدارس العلمانيّة "هذه التجربة". وإن كان المرء يفهم أوّلاً أنها تقترح أنْ تقوم المدارس العلمانيّة بالتربية الدينيّة، إلاّ أنّ قرءة المقاطع التي تلت تبيّن أنّ التربية المرجوّة هي تربية إنسانويّة، تركّز على مبادئ إنسانيّة لا دينيّة. إلاّ إنّ تعليقي هو على تبريرها لهذا الطرح بقولها أنّ ما يميّز المدارس العلمانيّة هو "عدم التزامها سلفاً لأيّ هدف أو رسالة"، وهذا غير صحيح واقعيّاً، فكلّ مؤسّسة لها هدف معلن أو مضمر، والمدارس العلمانيّة تهدف، من جملة ما تهدف، أن تنقل رسالة علمانيّة لا دينيّة للتلاميذ، وهي رسالة أقدّرها حقّ التقدير، إلاّ أنّها تبقى رسالة وهدفاً. ملاحظتنا الثانية هي أنّ مدارس لبنان العلمانيّة لا تضمّ في جنباتها جميع التلامذة، بل قد تكون أقلّية، وبالتالي يبقى من الضروري أن تتكوّن رؤية للتربية الدينيّة كتلك التي حاول الأب جورج مسّوح أن يفتح النقاش حولها. أمّا عن تساؤل الكاتبة القلِق حول تحكيم العقل والمعرفة الحديثة بقولها "ألا يمكن أن يؤثّرذلك سلباً على إيمانهم"، فإنّني وإن كنت أشارك الكاتبة إشارتها أنّ الإيمان لا يُبلغ بالعقل فقط، إلاّ أنّني أرى أنّ التربية الدينيّة، موضوعَ حديثنا، يمكنها أن تساهم في تعميق الإيمان. فالمعرفة الصحيحة لمعتقدات الدين الشخصيّ ودين الآخر ومقابلتها -الأمر الذي لا بدّ أن يحصل على صعيد النفس- ومعرفة ما تشترك فيه الأديان من دعوات حياتيّة تمسّ صميم الحياة الواحدة في أرض واحدة، يمكن أن ينعكس إيجاباً على الإيمان إذا اكتشف الإنسان حقائق دينه والأديان الأخرى بدل أن يبني رؤيته للناس وتصرّفاته على أفكار مغلوطة عن دينه والأديان الأخرى فتضحي هذه التصرّفات عرضة للتعارض مع مبادئ الدين الذي ينتمي إليه. وأمّا ما طرحه الأب مسّوح من ضرورة "تحليل" الإيمان على ضوء المعارف الحديثة كجزء من التربية الدينيّة، فيبدو لي متناسبٌ مع دراسة مادة تعليميّة جامعيّة أكثر منه مع تربية دينيّة مدرسيّة، وعلى كلّ فقد بدا هذا الطرح غير واضح كفاية في سياق المقال.
وأخيراً فإنّ الكاتبة تصف رؤيتها الدينية الخاصة بقولها، في معرض كلامها عمّا يمكن تعليمه للتلاميذ حول الدين في حصص التربية الإنسانويّة التي تقترحها، أنّ "حياتنا لا تكتسب معناها الحقيقي إلاّ بإيماننا بالله وتسليمنا بمشيئته، وتكون وظيفة الأديان شرح أسباب شقاء الإنسان وعذابه ومساعدته على تقبّلها في سيره نحو قدره المحتوم". هنا أخالف رؤيتها هذه حول وظيفة الأديان وكيفيّة اكتساب حياة الإنسان معناها، إذ أنّ الدكتورة شحادة لا ترى الإنسان إلاّ مخلوقاً عليه أن يتقبّل خضوعه للقهر وللعذاب ولمشيئة الله (التي تبدو في سياق النصّ وكأنها لا تحمل سوى الألم للإنسان) إلى أن يموت (الإنسان). فالأديان، عند المؤمنين، وجدت لتنقل خطاباً من الله للإنسان يشرح ماهيّة علاقة الإنسان بالله وبالإنسان الآخر، وكيف للإنسان أن يحقّق حياته بشكل إيجابيّ، أي ما هي المبادئ التي يمكنها أن ترشده خلال حياته ليفعل ويحقّق سعادته (الملكوت) التي أرادها الله له، فالله كما يتجلّى في الأديان يريد للإنسان الفرح لا العذاب.
إنّنا نرى، للأسباب التي حاولنا مناقشتها أعلاه، أنّ وجود تربيةٍ دينيّة حقيقيّة تبتعد عن أسلوب الدعوة ومحاولات التهجّم، وتقدّم ايّ دين في عقائده كما هي، لا كما يراها الدين الآخر، وذلك في مقاربة صادقة، كاشفة لخصوصيّة كلّ دين وللرؤى المشتركة للأديان جميعاً، على أن تكون تربية معيوشة تطبيقاً، هو أمر حيويّ في لبنان. وإذا كانت هكذا تربية لا تزال مجال نقاش ومسعى أتفق مع الكاتبين على صعوبة تحقيقه، إلاّ أنّني أرى أنّ الصعوبة هنا هي مدعاة للمزيد من التفكير والبحث واستنباط الحلول، وليست مدعاة استسلامٍ وكسلٍ لا يزالان، مع الجهل والخوفِ والتقوقعِ، من السمات المميّزة لمعظم التعليم الديني في لبنان.
خريستو المر