إلى جورج وماغي، ورزان ونور ورنا، وقرّاء الأب مسّوح ومحبّيه وكنيسته
لسنوات وسنوات تابع قرّاء الأب مسّوح مقالاته عبر الصحف والأنترنت، ولحسن حظّهم، وحظّ مَن فاته شيئاً من مقالاته، صدرت مؤخرا مجموعةٌ من هذه المقالات في كتاب عن تعاونية النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع بعنوان " الآن وهنا"، وهي عبارةٌ استخدمها الأب مسّوح في كتابه هذا ثلاث مرّات على ما أحصينا وتعبّر أيّما تعبير عن رغبته الدائمة في تأوين الإيمان المستقيم بلغة وأوضاع الإنسان اليوم.
تشكّل هذه المقالة قراءة لفكر الأب مسّوح بحسب ما ورد في كتابه هذا حصراً، والأرقام الواردة فيها هي أرقام الصفحات التي وردت فيها آرائه التي جمعناها هنا. وقد اختبر الكاتب خلال إعادة قراءته لمقالات الأب مسّوح هذه فرحاً جميلاً، رغم شعور الكاتب الكثيف بالحزن لفقدان صديق، لا يوازيه سوى شعوره بكثافة حضور هذا الصديق بشكل سرّي، وسوى فرح وتصميم استمرارهما معاً إلى اليوم – كلّ في وضعه - في مسيرة طالما تأمّلا بها.
استقامة الإيمان والدعوة للتجديد
اعتبر الأب جورج مسّوح أنّ كتاباته تندرج في إطار "مواجهة المُغالين في المحافظة التقليديّة على الشكل أكثر من المضمون" (١١)، لهذا كانت مقالاته دعوة للتجديد دون خيانة للتقليد من جهة ودون تحنيط له من جهة أخرى، فالتحنيط إدارة ظهر للروح؛ فالإيمان، كما يقول القدّيس إيريناوس في استعارة إنجيليّة، "يشبه كنزاً في وعاء ثمين لم يزل يجدّد نفسه، ويجعل تاليًا أن يتجدّد الوعاء الذي يحمله على نحو مماثل"(١٦). كلّ كتابات الأب مسّوح في هذا الكتاب وخارجه، وكلّ حياته ككاهن وأستاذ جامعي، كانت صراعا من أجل إيمان مستقيم، وغيرة للإخلاص والشهادة لعلاقة حبّ يسوع للإنسان.
عيش المحبّة لكلّ الناس خارج جدران الطوائف والأوطانيرى الأبّ مسّوح أنّ المسيحيّة هي في عيش المحبّة (٢٦) وخدمة الإنسان (٣٨) فالإنسان له الأولويّة وليس الأديان (ص. ٤٥)، وللإنسان الأولويّة في القداسة على التراب والمعابد (٥٤)، وهذه الأولويّة تُتَرجم بالعمل من أجل حياة الإنسان فللعمل أولويّة على التعليم (٤١). وأمّا العمل فهو من أجل كلّ إنسان مظلوم وليس من أجل الأقرباء بالدين والطائفة والبلد، فالقرابة هي لكلّ مؤمن مع الجميع (٥٠). ثمّ أنّ المؤمن مسؤول عن مدّ إيمانه خارج جدران الكنائس (٦٦، ٧٠)؛ وإلاّ وقع بالتشييء (١٣٢) والعنصريّة (١٤٦). ولهذا أدان الأب مسّوح للانغلاق (١٦٦ و ١٧٦) وتحالف الكنيسة مع الدولة (١١٠) ودخولها في بازرات التقاتل على السلطة (٥٨ و ٨١)، بينما الإنسان مرميّ على طرقات الزمن والحروب.
ولهذا أيضاً دعا الكنيسة للاهتمام بالفقير، فهذا الاهتمام هو عيشٌ أساسٌ للوحدة الكنسيّة (٦٠ و ٧٢)، ودعا أيضاً إلى "أن نأخذ على عاتقنا هموم الإنسان المعاصر مع متاعبه وجراحاته ومشاكلها الكثيرة" (٣٨)، فـ"أهل العراق وسورية وفلسطين لا تكفيهم الصلاة وإضاءة الشموع والخطب والمسيرات ... بل هم في حاجة إلى تضامن حقيقي يستدعي من المؤمنين ومن القائمين على الكنائس، استثمار كلّ ما لديهم من أجل التخفيف من معاناتهم عبر وضع كلّ ما تملكه الكنائس من أملاك وأموال وعلاقات في خدمتهم" (٤٢)، ولا شكّ أنّ صوته في الدفاع عن هموم الناس كان معزّياً هؤلاء الذين كان باستطاعتهم أن يروا كاهنا يصرخ "أن ترحم الناس أهمّ، في نظر الله، من الصلاة والصوم" (٥٨)، إذ "لا تتجلّى وحدة المؤمنين ... في وحدة الصلاة وحسب، بل بتقاسم الأرزاق وبالشركة في كلّ شيء، ولا سيّما الشركة في الأموال والمقتنيات" (٥٩)، فـ"نحن مدعوون، إذاً، إلى أن نأخذ على عاتقنا هموم الإنسان ... ولا سيّما هموم الناس في أزمنة الحروب والتهجير"(٣٨).
هذه الدعوة إلى عيش المحبّة خارج الكنائس كانت لديه مركزيّة خوفا من تجربة انغلاق الجماعة المؤمنة على نفسها وتوهّمها استيلائها على الله، ولهذا نراه يحذّر مراراً السلطات الكنسيّة والمؤمنين من اغواء احتكار الله (١٥٦، ١٩١، ١٩٤)، الذي يعني في النهاية تشييئه والعودة إلى الوثنيّة وإلى تعامل سحريّ مع الله، ولهذا واجه أيضاً ظواهر التديّن الشعبيّة المخالفة للإيمان، مثل التعامل السحريّ مع ظاهرة النور الآتي من القدس، مع ما يرافق هذه الظاهرة من تصرّفات تحمل طابعاً شوفينيّاً-فوقيّاً تجاه الطوائف الأُخرى (١٦٦).
وكرّر الأب مسّوح تحذيراته هذه مخاطباً المسيحيين حتّى وصل إلى صرخة أخيرة، بدت نداءَ كاهن حزين وثائر معاً، حزين ممّا آلت إليه أوضاع الإيمان وثائر عليها بآن، فكتب ساخراً ومنتقداً تصرّفاتٍ مخزية لمسيحيين "يهلّلون ويرحّبون بهيرودس، وبأصدقاء هيرودس، وبحلفاء هيرودس"، وفي محاولة ناجحة منه لفضحِ الانفصام بين إيمان بعض المسيحيّين وأفعالهم صرخ متكلّما باسمهم إلى يسوع قائلاً: "أنت [يا يسوع] ارحل عنّا وحسب، وابقَ مشرّداً كما شئتَ وقلتَ. أمّا نحن فلنا لبنانيّتنا نكتفي بها، ونُفاخر بها الأمم كافة" (٢٤٩-٢٥١). وفي خطّ الإيمان المسيحيّ الذي يدعونا إلى الانفتاح على الآخر المختلف ومحبّته، دعا الأب مسّوح إلى إيجاد كتاب دينيّ موحّد يُعرِّف فيه كلُّ دين عن نفسه كما يرى ذاته، ويُعَلَّم في المدارس ليسمح بذلك للمواطنين بتجاوز الجهل العميم عن الآخر الذي يحيون معه في الوطن الواحد (٢٢٨).
الشهادة للإيمان
كانت خشية الأب مسّوح واضحة من أن يبتعد المسيحيّون عن إيمانهم، عن يسوع المسيح، وخشيته من استغلال الإيمان في السياسة كوسيلة لجني المكاسب وللمجد الباطل، لذلك أدان تجيير الدين للمصالح وخاصّة في الحرب "فكلّ انخراط مباشر في الحرب الطائفيّة أو المذهبيّة... هو خيانة فاضحة للمسيح" (٧٩)، فالحرب الطائفيّة تأخذ الناس إلى الحقد وإلى المسيح الدجّال (ص. ١٣٩)، وأدان أيضاً "ما يسمّى زورا وبهتانا بـ«الحرب المقدّسة»"(٩٩).
وفي خضّم الحروب الهادرة في بلادنا، كانت دعوته الدائمة للمسيحيين للتمسّك بأرض أجدادهم (٢٨). وأمكننا أن نلاحظ أنّه منذ اندلاع الحرب السوريّة بدأ الأب مسّوح يذكر في مقالاته تاريخ المسيحيّين الأوّلين لشعوره بأنّ عصرنا هو "عصر مماثل" (١٠٥). فاعتمد على تاريخ مواجهة المسيحيّة للاضطهاد الإيمانيّ بشجاعة، ليدعو الناس الذين تعصف فيهم الحروب والمصاعب إلى تحمّل الصعاب والاضطهادات وعدم اليأس (٨٧، ١٠٥، ١٠٦، ١٢٠، ٢٠٨). وتجلّت في مقالاته خشيتُه الدائمة من تجيير الإيمان في المصالح السياسيّة وفي شنّ الحروب وتقديسها (٩٣، ٩٧، ٩٩، ١٩٥). ومن هنا إدانته للعنف المجانيّ بحقّ الأبرياء (١٥٠) مهما كانت الخلفيّة الدينيّة لمرتكبيه.
وفي خطّ التأمّل في ما يعلّمنا إياه التاريخ المسيحي، تابع الأب مسّوح في مقالات عديدة ذكر الشهداء والمسيحيين الأوّلين وشهادتهم للمحبّة وسط الموت، وذلك دأباً منه - كما نرى- على تشجيع المسيحيين في سوريا والعراق على التمسّك بالإيمان رغم الخوف من الموت، وعلى عدم إدارة الظهر ليسوع رغم الصعاب وتجارب وفظائع الحروب. هكذا، نراه يذكر مرارا "بذل الذات حتّى الموت"(٢٦)، وشهادة الدم (٦١)، أو تقديم الذوات على مذبح الربّ (٨٧)، و"الثبات في الإيمان" و"عدم الارتداد" و"مديح الشهادة والاستشهاد" (١٠٥، ١٠٧)، مذكّراً المسيحيّين بأولويّة التوبة على أيّ أمر آخر(١٣٠).
ولكنّه أيضاً كتب مقالات كانت بمثابة رسائل تعزية للمسيحيين وسط الصعاب، فـ"المسيح يشاء منهم أن يحملوا صليبهم كما حمل هو صليبه، فيفرحون ويفرح هو معهم بقيامتهم الآتية لا ريب"(٢٦)، ولا شكّ أنّ التأكيد البادي في عبارة "لا ريب" يعزّي أناسًا طحنتهم الحروب؛ وهذا ما يبدو أيضاً في قوله "والذي جاد بنفسه على الصليب لن يبخل عليهم بالسكنى معه في الملكوت" (٣٠)، وكذلك "العنصرة هي التي أمدّت الرسل بالشجاعة لإعلان البشارة الجديدة، فانطلقوا... وواجهوا أخطار السفر...و قبلوا الاستشهاد ببطولة فائقة... آمن الرسل بقول الربّ إنّه سيكون معهم دائما مهما جرت الظروف" (٣٢). وقد ذكّر الأب مسّوح بأنّ القدّيس أغناطيوس قبل أن يُنَفَّذَ فيه حكم الإعدام كتب إلى أهل رومة "اكتفوا بأن تطلبوا لي القوّة الداخليّة والخارجيّة لأكون مسيحيّاً ليس بالفم وحسب بل بالقلب أيضاً، وليس بالاسم فقط بل بالفعل أيضاً. فإنّي إذا ما ظهرتُ مسيحيّاً بالفعل، استحققتُ أيضًا هذا الاسم. وإذا ما غبتُ عن هذا العالم، ظهر إيمانيّ بلمعان أسمى"(١٤٠). كأنّ هذه الكلمات مكتوبة لمسيحيّي اليوم في الإرهاق الذي يحلّ بهم مع إخوانهم من الأديان الأخرى في اوطانهم، وكأنّ الأب مسّوح يشدّد عزيمة الذين هم تحت الألم الساحق ويدلّهم أن يغتنموه فرصة – طالما أنّهم غير قادرين على ردّه – لتنقية الإيمان وللتوبة والشجاعة. وهو يطمئن المسيحيين المضطهدين من اجل اسم يسوع، كالأقباط، على ديمومتهم فـ"عندما سيأتي المسيح في آخر الزمان، سيجد بأنّ الأجراس لا تزال تقرع في وادي النيل"، وأبعد من الأقباط يمكن لكلّ مسيحيّ أن يجد تعزية في هذا الكلام إذ لا يسعنا إلاّ أن نلمح في خلفيّة كلماته إيماننا بأنّ "كنيسة الله التي اقتناها الله بدمه"(أعمال ٢٠: ٢٨) " لن تقوى عليها أبواب الجحيم"(متّى ١٦: ١٨). ويذكّر الأب مسّوح كلّ من يحاول التهرّب من انتمائه إلى هذه الأرض بأنّ هذه المنطقة من العالم تكلّمت فيها المسيحيّة بالعربيّة منذ نشأتها وأنّه "لن يتمكّن أحد من أن يقتلعها من جذورها الضاربة في الماضي والحاضر والآتي من الدهور" (٢٣٩) مذكّراً بسلسلة الشهداء والقدّيسين من بلادنا (٢٤٤).
وفي خطّ الشهداء في الكنيسة حرص الأب مسّوح على ذكر شهداء جدد كالأب باسيليوس نصّور (١٠٩) والأب فادي حدّاد (١١٣) اللذين قضيا قتلا، وعُذِّبَ أحدهما (الأب فادي)، بسبب إيمانهما ومحاولتهما عيش هذا الإيمان وسط أتون الحرب السوريّة، وسعيهما لمساعدة الناس الأبرياء وسط ذاك الجحيم. وبرأي كاتب هذه المقالة أنّ هذين الشهيدين نزلا إلى جحيم الناس محبّة بهم، على صورة السيّد الذي نزل إلى جحيمنا.
التساوي بالكرامة: دولة المواطنة العلمانيّة لا الدولة الدينيّة
عالج الأب مسّوح قضايا وطنيّة كالعلاقة بين المواطن والدولة وإشكاليّة شكل الحكم. فانطلاقا من مبدأ مساواة الناس في الكرامة الإنسانيّة، ومن حرصه على المحافظة على الوحدة الوطنيّة بين الناس في الوطن الواحد، رفض الأب مسّوح الدولة الدينيّة، وبيّن مساوئها، سواء أكانت دولة "مسيحيّة" في الماضي، أو كانت دعوات لقيام دولة "إسلاميّة" في الحاضر. وسمّى الدولة التي يطمح إليها الإنسان دولة مدنيّة (١٥٧، ١٨٦، ١٩٥) ودولة المواطنة (٢١٧، ٢٢٠، ٢٣٦، ٢٤٢، ٢٤٦، ٢٥٤)، أو دولة علمانيّة في مقالات أخرى.
ورفض الأب مسّوح الذمّية، فالمسيحيّون هم أهل الكلمة "ليسوا أهل كتاب ولا أهل ذمّة ولا يرضون أن يكونوا في ذمّة أحد"(١١٧). وعبّر عن رفضه القاطع بأن يُحكَمَ المسيحيّون بالشريعة الاسلاميّة لأنّها لا تساوي بين المواطنين، وتُعَبِّر عن حالة محتلّ يُخضِعْ آخرين مُحتَلّينَ، وليس عن حالة مواطنين متساوين في دولة واحدة "فالعاملون على العودة إلى الشريعة [الإسلاميّة] لتنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين إنّما يتعاملون بمنطق الفتوحات القديمة، أي الغلبة القائمة على مبدأ السيادة المطلقة من جماعة منتصرة في الحرب على جماعة مُحتَلَّة وليس شريكة في الوطن" (٢١٨) وبهذا كان الأب مسّوح من أكثر الأصوات وأوضحها وأكثرها ثقابة ورجاحة في التحليل النقديّ المعبّر عن رفض المسيحيين لتطبيق الشريعة الإسلاميّة عليهم في زمننا.
ومن هنا أيضاً نقده الواضح والحاد (كما يجب) للطائفيّة والطائفيّين؛ فالتقوقع الطائفيّ خيانةٌ لعمل المسيح الخلاصيّ (٢٠٠)، المسيح الذي كسر القوميّة المنغلقة لينفتح الإنسان على رحاب الإنسانيّة. ولهذا كان له رأي نقديّ لخيارات سياسيّة في لبنان ترشح منها الطائفيّة مثل الاقتراح القاضي بأن تنتخب كلّ طائفة نوّابها (٢٠٢) أو اقتراح إنشاء "الهيئة المدنيّة" لطائفة للروم الأرثوذكس (٢٠٣). ويشي الفكر النقدي للأب مسّوح، بفكر مؤمن ومتوقّد، يفضح التناقض لدى الآخر، فيذكّر بأنّ "الهيئة المدنيّة" لا تعدو كونها عودة إلى نظام الملّة العثمانيّ وخروجاً من فكرة الوطن والجماعة الوطنيّة، وتعصّبا دينيّاً وطائفيّاً (٢٠٤). ولهذا حذّر الأرثوذكس من سمّ عقدة الأقلويّة "الزعاف" الذي قد يودي بهم إلى غيتوّات مغلقة منكفئين إلى هويّة طائفيّة انعزاليّة، يخونون فيها هويّتهم الإيمانيّة.
أثر دراساته وبحثه في الدراسات الإسلاميّة
الأب جورج مسّوح دكتور في الدراسات الإٍسلاميّة، وقد جاء أثر دراسته وبحثه في الفكر الدينيّ الإسلاميّ واضحَ المعالم في التعابير التي استعملها، والتي دلّت أنّه كان يحرص بخطابه أن يتوجّه للقارئ المسلم، مستخدماً التعابير اللغوية التي ألفها هذا الأخير؛ وقد لاحظنا ذلك في استعماله كلمات مثل "جاد [يسوع] بنفسه على الصليب" (٣٠) وعبارة "الجود" مستلهمة برأينا من طيموثاوس الجاثُليق بطريرك الكنيسة النسطوريّة (780-825) في بغداد، في حواراته مع المسلمين حول ألوهة يسوع. ومثل ذلك أيضاً تعبير "تخشى الله وقضاءه"(٥٨)، أو توضيحه أنّ كلمة "أباكم" تعني "الله" في الآية الإنجيليّة التالية "كما أنّ أباكم (الله) رحيم" وهو أمر لا يخفى على مسيحيّ وإنّما غير واضح للقارئ غير المسيحي وغير المطّلع على الإنجيل. وكذلك استلاله من التراث الإسلاميّ فكرة "أركان" الدين (الخمسة في الإسلام) فوصف "التواضع والتوبة والمحبة والغفران" بأنّها "الأركان الأربعة" للدين المسيحي(٦٨)، واستخدام عبارات من التراث الإسلاميّ مثل "العياذ بالله"(٧٨)، و"المسيح بن مريم" (٩٧)، و"الخيرات الآتية" المستوحاة من العبارة القرآنيّة "واسْتَبِقوا الخيرات" (١٢٦)، وكذلك عبارة "سلطان جائر" (١٤٥، ١٤٩) المستوحية من حديث نبويّ. هذا بالإضافة إلى عبارات أخرى، نثرها في مقالاته، عائدة لطبيعة تلك المقالات التي يتناول فيها آيات أو أفكاراً في الدين الإسلامي (مثلاً: ٧٠، ١١٦، ١٦٩، ١٧٥، ١٧٩، ١٨٨).
ولكن رغم كلامه الطيّب في الفكر الإسلامي، لم يداهن الأب مسّوح بل طرح الأمور كما هي، فتراه يتساءل بعد حديث طيّب عن الحجّ كرهبانيّة للمسلمين: "يبقى لي سؤال أوجّهه إلى أحبّائي وأصدقائي المسلمين: متى أستطيع، أنا غير المسلم، زيارة بيت حجّكم؟" (٢١٦) في إشارة نقديّة إلى واقع منع أيّ مسيحيّ من دخول مكّة؛ هذا عدا عن تصريحه الشجاع مرارا وتكراراً برفضه للذمّية وللحكم الإسلامي، كما للحكم المسيحيّ أو أيّ حكم دينيّ آخر لأنّ "الدولة الدينيّة استبداديّة حتماً"(١٨٥).
قضيّة الحرّية وفضح الازدواجيّةتناول الأب مسّوح الازدواجيّة في التصرّفات. ففضح اهتمام الناس بمظهر الأمور عوض جوهرها، وانصرافهم إلى دفع الأموال لدعم النشاطات التي تودي إلى التشاوف والكبرياء (كدور العبادة) عوض تقديم وقتهم وأموالهم للاهتمام بقضايا الناس (كالمدارس) (١٧٢). ولم يحيّد رجال الدين المسيحيّين والمسلمين عن النقد، بل فضح الازدواجيّة التي يمارسونها مرّات عديدة، فرجال الدين المسيحيّين والمسلمين يدعون للحرّية لهم ويمارسون قمع الحريّات العامة بحقّ المخالفين لرأيهم من خلال تعاملهم القمعيّ مع المواد الفنّية من أفلام ومسرحيّات، وطالما مارسوا التحريض باسم الحرص على الدين (١٧٠).
وهكذا، دافع عن حرّية الإنسان تجاه السلطة الدينيّة، تجاه هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم متحدّثين باسم الله (، ١٧٩، ١٨٨، ١٨٩) بينما هم ما يزالون يتاجرون بفكر دينيّ متدنٍّ، ويمارسون الإرهاب الفكريّ والدينيّ (١٩١) ويعتبرون أنفسهم معصومين (١٩٠). كما دافع عن حرّية الإنسان في الإيمان وفي البحث والتساؤل ومحاولته إيجاد الأجوبة، وانتقد المؤمنين المسيحيّين الذين يقمعون الفكر ويكفّرون يمنة ويسرة من يخالفهم الرأي أو يجتهد في بحث (١٩٤).
وعلى الصعيد السياسي، رأى الأب مسّوح أنّ المسيحيّين "مدعوّون، اليوم أكثر من أيّ زمن مضى، إلى مواجهة الاستبداد والظلم" ليس بأيّ وسيلة وإنّما "بالسعي الدائم إلى الاقتداء بعظمائهم من المسيح الذي احتمل الصلب طائعًا، وصولاً إلى القدّيسين والأبرار الذين عاشوا بمقتضى صليب المسيح، كي ينسجموا مع ما يقوله إيمانهم بالأفعال لا بالأقوال" (٢٢٣)، ممّا يضع دعوته في إطار النضال اللاعنفيّ وهو بطبيعة الحال يتنافى مع الخنوع. وينسجم موقفه هذا مع دعوة مجموعة "وقفة حقّ" تلك المجموعة من المسيحيّين الفلسطينيّين، التي أشاد بها الأبّ مسّوح بها، خاتمًا كتابه بمقالة عن نشاطاتها. فـ"وقفة حقّ" أدانت الاحتلال الصهيونيّ وأدانت أيّ تبرير له، ودعمت موقف مقاومته، مؤكّدة أنّ تبرير قيام دولة الاحتلال الاسرائيليّة هو "خطيئة ضدّ الله وضدّ الإنسانيّة" و"بعيد عن تعاليم الكنيسة"، ودعت إلى رفض الاحتلال ومقاومته لاعنفيّاً. لكنّ الأب مسّوح يلاحظ بأنّ "وقفة حقّ" "لا تدين خيار المقاومة المسلّحة بل تعتبره مشروعا لوضح حدّ للاحتلال" (٢٥٤)، ولربّما كان هذا موقف الأب مسّوح نفسه.
ووسط الخراب القائم في المنطقة، حذّر الأب مسّوح في صرخة نبويّة مدويّة من أنّ "الكنيسة لا يجوز لها، خوفاً من أيّ أحد، أن تفقد صوتها النبويّ الصادع بالحقّ" (٧٩) إذ "يكاد يغيب صوت الكنيسة الصادع بالحقّ... وصمت الكنيسة أو تواطؤها في بعض الأحيان، الناتج عن الخشية الكنسيّة على المصير الآتي للوجود المسيحيّ سيؤدّي حتما إلى موت شهادتها ورسالتها في عالم اليوم، ولن يحافظ، في الآن عينه، قطعيًّا على الوجود المسيحيّ. الخشية على الوجود قد تؤدّي إلى خسارة الوجود والشهادة معًا. وإذا كان موضوع الوجود لا يعلمه إلاّ علاّم الغيوب، فما على «الأنطاكيّين» أن يخشوا سوى فقدان شهادتهم" (٢٤٧).
وجه المسيح والشهادة له
كان وجه المسيح، نبع المحبّة والجمال، هو البدء والمنتهى في كتابات الأب الحبيب جورج مسّوح، ولذا دعا إلى التوبة إلى الجمال "متى يخلع الناس أقنعتهم؟ حين يتجمّلون. شرط خلع القناع هو الجمال"(١٥٣). فالمسيح ساكن الكنيسة وكلَّ من هو "جميل الروح" (ص. ٢٣). فنحن "نعود إلى الكلمة الإلهيّة، كي نستوحي منها، نحن خلاّن يسوع، سلوكَنا بما يتّفق مع هذه الكلمة حتّى لا نقع في التجربة" (٨٧).
المطلوب واحد وهو وجه المسيح، ولا شكّ أنّه رأى في وجه الإنسان وجه المسيح ولهذا كانت صرخته الدائمة أنّ "الإنسان أوّلاً، كلّ إنسان" (٣٨)، فـ"المطلوب الواحد هو الإنسان، ما عدا ذلك باطل، باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل"(١٦٧)، ونلاحظ هنا كيف استوحى الأب جورج مسّوح الآية الانجيليّة التي نطق بها يسوع قائلاً أنّ المطلوب واحد ألا وهي كلمته أو وجهه، ليقول أنّ المطلوب هو الإنسان، ذلك أنّ الأب مسّوح عاش بفكره وقلبه المؤمن، أنّه إن لم نرَ وجه المسيح في وجه كلّ إنسان لم نرَ الله، لأنّ "بعد الله عليك أن ترى كلّ إنسان الله نفسه" كما ورد في قول مأثور في التراث الرهبانيّ. الإنسان أوّلا عند المسيحي لأنّ المسيح أولاً، ولكنّنا "نحيا زمن المحنة الكُبرى، فلا نفقدنَّ المسيح تحت أيّ ذريعة أُخرى، وإن كانت هذه الذريعة، وفق الفطرة البشريّة، شرعيّة"، إنّ تحذير الأب مسّوح هذا يبقى مخاطبا لنا في كلّ زمن، وخاصة اليوم.
نعم، "لا شكّ في أنّ الأمانة ليسوع تتطلّب من الإنسان أن يبذل الغالي والرخيص، حتّى حياته ليست أغلى من الشهادة للحقّ" (٨١)، كلّ من يعرف الأب مسّوح يعرف أنّه بذل حياته للمسيح، للحقّ، ولهذا كتب.
خريستو المرّ
لسنوات وسنوات تابع قرّاء الأب مسّوح مقالاته عبر الصحف والأنترنت، ولحسن حظّهم، وحظّ مَن فاته شيئاً من مقالاته، صدرت مؤخرا مجموعةٌ من هذه المقالات في كتاب عن تعاونية النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع بعنوان " الآن وهنا"، وهي عبارةٌ استخدمها الأب مسّوح في كتابه هذا ثلاث مرّات على ما أحصينا وتعبّر أيّما تعبير عن رغبته الدائمة في تأوين الإيمان المستقيم بلغة وأوضاع الإنسان اليوم.
تشكّل هذه المقالة قراءة لفكر الأب مسّوح بحسب ما ورد في كتابه هذا حصراً، والأرقام الواردة فيها هي أرقام الصفحات التي وردت فيها آرائه التي جمعناها هنا. وقد اختبر الكاتب خلال إعادة قراءته لمقالات الأب مسّوح هذه فرحاً جميلاً، رغم شعور الكاتب الكثيف بالحزن لفقدان صديق، لا يوازيه سوى شعوره بكثافة حضور هذا الصديق بشكل سرّي، وسوى فرح وتصميم استمرارهما معاً إلى اليوم – كلّ في وضعه - في مسيرة طالما تأمّلا بها.
استقامة الإيمان والدعوة للتجديد
اعتبر الأب جورج مسّوح أنّ كتاباته تندرج في إطار "مواجهة المُغالين في المحافظة التقليديّة على الشكل أكثر من المضمون" (١١)، لهذا كانت مقالاته دعوة للتجديد دون خيانة للتقليد من جهة ودون تحنيط له من جهة أخرى، فالتحنيط إدارة ظهر للروح؛ فالإيمان، كما يقول القدّيس إيريناوس في استعارة إنجيليّة، "يشبه كنزاً في وعاء ثمين لم يزل يجدّد نفسه، ويجعل تاليًا أن يتجدّد الوعاء الذي يحمله على نحو مماثل"(١٦). كلّ كتابات الأب مسّوح في هذا الكتاب وخارجه، وكلّ حياته ككاهن وأستاذ جامعي، كانت صراعا من أجل إيمان مستقيم، وغيرة للإخلاص والشهادة لعلاقة حبّ يسوع للإنسان.
عيش المحبّة لكلّ الناس خارج جدران الطوائف والأوطانيرى الأبّ مسّوح أنّ المسيحيّة هي في عيش المحبّة (٢٦) وخدمة الإنسان (٣٨) فالإنسان له الأولويّة وليس الأديان (ص. ٤٥)، وللإنسان الأولويّة في القداسة على التراب والمعابد (٥٤)، وهذه الأولويّة تُتَرجم بالعمل من أجل حياة الإنسان فللعمل أولويّة على التعليم (٤١). وأمّا العمل فهو من أجل كلّ إنسان مظلوم وليس من أجل الأقرباء بالدين والطائفة والبلد، فالقرابة هي لكلّ مؤمن مع الجميع (٥٠). ثمّ أنّ المؤمن مسؤول عن مدّ إيمانه خارج جدران الكنائس (٦٦، ٧٠)؛ وإلاّ وقع بالتشييء (١٣٢) والعنصريّة (١٤٦). ولهذا أدان الأب مسّوح للانغلاق (١٦٦ و ١٧٦) وتحالف الكنيسة مع الدولة (١١٠) ودخولها في بازرات التقاتل على السلطة (٥٨ و ٨١)، بينما الإنسان مرميّ على طرقات الزمن والحروب.
ولهذا أيضاً دعا الكنيسة للاهتمام بالفقير، فهذا الاهتمام هو عيشٌ أساسٌ للوحدة الكنسيّة (٦٠ و ٧٢)، ودعا أيضاً إلى "أن نأخذ على عاتقنا هموم الإنسان المعاصر مع متاعبه وجراحاته ومشاكلها الكثيرة" (٣٨)، فـ"أهل العراق وسورية وفلسطين لا تكفيهم الصلاة وإضاءة الشموع والخطب والمسيرات ... بل هم في حاجة إلى تضامن حقيقي يستدعي من المؤمنين ومن القائمين على الكنائس، استثمار كلّ ما لديهم من أجل التخفيف من معاناتهم عبر وضع كلّ ما تملكه الكنائس من أملاك وأموال وعلاقات في خدمتهم" (٤٢)، ولا شكّ أنّ صوته في الدفاع عن هموم الناس كان معزّياً هؤلاء الذين كان باستطاعتهم أن يروا كاهنا يصرخ "أن ترحم الناس أهمّ، في نظر الله، من الصلاة والصوم" (٥٨)، إذ "لا تتجلّى وحدة المؤمنين ... في وحدة الصلاة وحسب، بل بتقاسم الأرزاق وبالشركة في كلّ شيء، ولا سيّما الشركة في الأموال والمقتنيات" (٥٩)، فـ"نحن مدعوون، إذاً، إلى أن نأخذ على عاتقنا هموم الإنسان ... ولا سيّما هموم الناس في أزمنة الحروب والتهجير"(٣٨).
هذه الدعوة إلى عيش المحبّة خارج الكنائس كانت لديه مركزيّة خوفا من تجربة انغلاق الجماعة المؤمنة على نفسها وتوهّمها استيلائها على الله، ولهذا نراه يحذّر مراراً السلطات الكنسيّة والمؤمنين من اغواء احتكار الله (١٥٦، ١٩١، ١٩٤)، الذي يعني في النهاية تشييئه والعودة إلى الوثنيّة وإلى تعامل سحريّ مع الله، ولهذا واجه أيضاً ظواهر التديّن الشعبيّة المخالفة للإيمان، مثل التعامل السحريّ مع ظاهرة النور الآتي من القدس، مع ما يرافق هذه الظاهرة من تصرّفات تحمل طابعاً شوفينيّاً-فوقيّاً تجاه الطوائف الأُخرى (١٦٦).
وكرّر الأب مسّوح تحذيراته هذه مخاطباً المسيحيين حتّى وصل إلى صرخة أخيرة، بدت نداءَ كاهن حزين وثائر معاً، حزين ممّا آلت إليه أوضاع الإيمان وثائر عليها بآن، فكتب ساخراً ومنتقداً تصرّفاتٍ مخزية لمسيحيين "يهلّلون ويرحّبون بهيرودس، وبأصدقاء هيرودس، وبحلفاء هيرودس"، وفي محاولة ناجحة منه لفضحِ الانفصام بين إيمان بعض المسيحيّين وأفعالهم صرخ متكلّما باسمهم إلى يسوع قائلاً: "أنت [يا يسوع] ارحل عنّا وحسب، وابقَ مشرّداً كما شئتَ وقلتَ. أمّا نحن فلنا لبنانيّتنا نكتفي بها، ونُفاخر بها الأمم كافة" (٢٤٩-٢٥١). وفي خطّ الإيمان المسيحيّ الذي يدعونا إلى الانفتاح على الآخر المختلف ومحبّته، دعا الأب مسّوح إلى إيجاد كتاب دينيّ موحّد يُعرِّف فيه كلُّ دين عن نفسه كما يرى ذاته، ويُعَلَّم في المدارس ليسمح بذلك للمواطنين بتجاوز الجهل العميم عن الآخر الذي يحيون معه في الوطن الواحد (٢٢٨).
الشهادة للإيمان
كانت خشية الأب مسّوح واضحة من أن يبتعد المسيحيّون عن إيمانهم، عن يسوع المسيح، وخشيته من استغلال الإيمان في السياسة كوسيلة لجني المكاسب وللمجد الباطل، لذلك أدان تجيير الدين للمصالح وخاصّة في الحرب "فكلّ انخراط مباشر في الحرب الطائفيّة أو المذهبيّة... هو خيانة فاضحة للمسيح" (٧٩)، فالحرب الطائفيّة تأخذ الناس إلى الحقد وإلى المسيح الدجّال (ص. ١٣٩)، وأدان أيضاً "ما يسمّى زورا وبهتانا بـ«الحرب المقدّسة»"(٩٩).
وفي خضّم الحروب الهادرة في بلادنا، كانت دعوته الدائمة للمسيحيين للتمسّك بأرض أجدادهم (٢٨). وأمكننا أن نلاحظ أنّه منذ اندلاع الحرب السوريّة بدأ الأب مسّوح يذكر في مقالاته تاريخ المسيحيّين الأوّلين لشعوره بأنّ عصرنا هو "عصر مماثل" (١٠٥). فاعتمد على تاريخ مواجهة المسيحيّة للاضطهاد الإيمانيّ بشجاعة، ليدعو الناس الذين تعصف فيهم الحروب والمصاعب إلى تحمّل الصعاب والاضطهادات وعدم اليأس (٨٧، ١٠٥، ١٠٦، ١٢٠، ٢٠٨). وتجلّت في مقالاته خشيتُه الدائمة من تجيير الإيمان في المصالح السياسيّة وفي شنّ الحروب وتقديسها (٩٣، ٩٧، ٩٩، ١٩٥). ومن هنا إدانته للعنف المجانيّ بحقّ الأبرياء (١٥٠) مهما كانت الخلفيّة الدينيّة لمرتكبيه.
وفي خطّ التأمّل في ما يعلّمنا إياه التاريخ المسيحي، تابع الأب مسّوح في مقالات عديدة ذكر الشهداء والمسيحيين الأوّلين وشهادتهم للمحبّة وسط الموت، وذلك دأباً منه - كما نرى- على تشجيع المسيحيين في سوريا والعراق على التمسّك بالإيمان رغم الخوف من الموت، وعلى عدم إدارة الظهر ليسوع رغم الصعاب وتجارب وفظائع الحروب. هكذا، نراه يذكر مرارا "بذل الذات حتّى الموت"(٢٦)، وشهادة الدم (٦١)، أو تقديم الذوات على مذبح الربّ (٨٧)، و"الثبات في الإيمان" و"عدم الارتداد" و"مديح الشهادة والاستشهاد" (١٠٥، ١٠٧)، مذكّراً المسيحيّين بأولويّة التوبة على أيّ أمر آخر(١٣٠).
ولكنّه أيضاً كتب مقالات كانت بمثابة رسائل تعزية للمسيحيين وسط الصعاب، فـ"المسيح يشاء منهم أن يحملوا صليبهم كما حمل هو صليبه، فيفرحون ويفرح هو معهم بقيامتهم الآتية لا ريب"(٢٦)، ولا شكّ أنّ التأكيد البادي في عبارة "لا ريب" يعزّي أناسًا طحنتهم الحروب؛ وهذا ما يبدو أيضاً في قوله "والذي جاد بنفسه على الصليب لن يبخل عليهم بالسكنى معه في الملكوت" (٣٠)، وكذلك "العنصرة هي التي أمدّت الرسل بالشجاعة لإعلان البشارة الجديدة، فانطلقوا... وواجهوا أخطار السفر...و قبلوا الاستشهاد ببطولة فائقة... آمن الرسل بقول الربّ إنّه سيكون معهم دائما مهما جرت الظروف" (٣٢). وقد ذكّر الأب مسّوح بأنّ القدّيس أغناطيوس قبل أن يُنَفَّذَ فيه حكم الإعدام كتب إلى أهل رومة "اكتفوا بأن تطلبوا لي القوّة الداخليّة والخارجيّة لأكون مسيحيّاً ليس بالفم وحسب بل بالقلب أيضاً، وليس بالاسم فقط بل بالفعل أيضاً. فإنّي إذا ما ظهرتُ مسيحيّاً بالفعل، استحققتُ أيضًا هذا الاسم. وإذا ما غبتُ عن هذا العالم، ظهر إيمانيّ بلمعان أسمى"(١٤٠). كأنّ هذه الكلمات مكتوبة لمسيحيّي اليوم في الإرهاق الذي يحلّ بهم مع إخوانهم من الأديان الأخرى في اوطانهم، وكأنّ الأب مسّوح يشدّد عزيمة الذين هم تحت الألم الساحق ويدلّهم أن يغتنموه فرصة – طالما أنّهم غير قادرين على ردّه – لتنقية الإيمان وللتوبة والشجاعة. وهو يطمئن المسيحيين المضطهدين من اجل اسم يسوع، كالأقباط، على ديمومتهم فـ"عندما سيأتي المسيح في آخر الزمان، سيجد بأنّ الأجراس لا تزال تقرع في وادي النيل"، وأبعد من الأقباط يمكن لكلّ مسيحيّ أن يجد تعزية في هذا الكلام إذ لا يسعنا إلاّ أن نلمح في خلفيّة كلماته إيماننا بأنّ "كنيسة الله التي اقتناها الله بدمه"(أعمال ٢٠: ٢٨) " لن تقوى عليها أبواب الجحيم"(متّى ١٦: ١٨). ويذكّر الأب مسّوح كلّ من يحاول التهرّب من انتمائه إلى هذه الأرض بأنّ هذه المنطقة من العالم تكلّمت فيها المسيحيّة بالعربيّة منذ نشأتها وأنّه "لن يتمكّن أحد من أن يقتلعها من جذورها الضاربة في الماضي والحاضر والآتي من الدهور" (٢٣٩) مذكّراً بسلسلة الشهداء والقدّيسين من بلادنا (٢٤٤).
وفي خطّ الشهداء في الكنيسة حرص الأب مسّوح على ذكر شهداء جدد كالأب باسيليوس نصّور (١٠٩) والأب فادي حدّاد (١١٣) اللذين قضيا قتلا، وعُذِّبَ أحدهما (الأب فادي)، بسبب إيمانهما ومحاولتهما عيش هذا الإيمان وسط أتون الحرب السوريّة، وسعيهما لمساعدة الناس الأبرياء وسط ذاك الجحيم. وبرأي كاتب هذه المقالة أنّ هذين الشهيدين نزلا إلى جحيم الناس محبّة بهم، على صورة السيّد الذي نزل إلى جحيمنا.
التساوي بالكرامة: دولة المواطنة العلمانيّة لا الدولة الدينيّة
عالج الأب مسّوح قضايا وطنيّة كالعلاقة بين المواطن والدولة وإشكاليّة شكل الحكم. فانطلاقا من مبدأ مساواة الناس في الكرامة الإنسانيّة، ومن حرصه على المحافظة على الوحدة الوطنيّة بين الناس في الوطن الواحد، رفض الأب مسّوح الدولة الدينيّة، وبيّن مساوئها، سواء أكانت دولة "مسيحيّة" في الماضي، أو كانت دعوات لقيام دولة "إسلاميّة" في الحاضر. وسمّى الدولة التي يطمح إليها الإنسان دولة مدنيّة (١٥٧، ١٨٦، ١٩٥) ودولة المواطنة (٢١٧، ٢٢٠، ٢٣٦، ٢٤٢، ٢٤٦، ٢٥٤)، أو دولة علمانيّة في مقالات أخرى.
ورفض الأب مسّوح الذمّية، فالمسيحيّون هم أهل الكلمة "ليسوا أهل كتاب ولا أهل ذمّة ولا يرضون أن يكونوا في ذمّة أحد"(١١٧). وعبّر عن رفضه القاطع بأن يُحكَمَ المسيحيّون بالشريعة الاسلاميّة لأنّها لا تساوي بين المواطنين، وتُعَبِّر عن حالة محتلّ يُخضِعْ آخرين مُحتَلّينَ، وليس عن حالة مواطنين متساوين في دولة واحدة "فالعاملون على العودة إلى الشريعة [الإسلاميّة] لتنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين إنّما يتعاملون بمنطق الفتوحات القديمة، أي الغلبة القائمة على مبدأ السيادة المطلقة من جماعة منتصرة في الحرب على جماعة مُحتَلَّة وليس شريكة في الوطن" (٢١٨) وبهذا كان الأب مسّوح من أكثر الأصوات وأوضحها وأكثرها ثقابة ورجاحة في التحليل النقديّ المعبّر عن رفض المسيحيين لتطبيق الشريعة الإسلاميّة عليهم في زمننا.
ومن هنا أيضاً نقده الواضح والحاد (كما يجب) للطائفيّة والطائفيّين؛ فالتقوقع الطائفيّ خيانةٌ لعمل المسيح الخلاصيّ (٢٠٠)، المسيح الذي كسر القوميّة المنغلقة لينفتح الإنسان على رحاب الإنسانيّة. ولهذا كان له رأي نقديّ لخيارات سياسيّة في لبنان ترشح منها الطائفيّة مثل الاقتراح القاضي بأن تنتخب كلّ طائفة نوّابها (٢٠٢) أو اقتراح إنشاء "الهيئة المدنيّة" لطائفة للروم الأرثوذكس (٢٠٣). ويشي الفكر النقدي للأب مسّوح، بفكر مؤمن ومتوقّد، يفضح التناقض لدى الآخر، فيذكّر بأنّ "الهيئة المدنيّة" لا تعدو كونها عودة إلى نظام الملّة العثمانيّ وخروجاً من فكرة الوطن والجماعة الوطنيّة، وتعصّبا دينيّاً وطائفيّاً (٢٠٤). ولهذا حذّر الأرثوذكس من سمّ عقدة الأقلويّة "الزعاف" الذي قد يودي بهم إلى غيتوّات مغلقة منكفئين إلى هويّة طائفيّة انعزاليّة، يخونون فيها هويّتهم الإيمانيّة.
أثر دراساته وبحثه في الدراسات الإسلاميّة
الأب جورج مسّوح دكتور في الدراسات الإٍسلاميّة، وقد جاء أثر دراسته وبحثه في الفكر الدينيّ الإسلاميّ واضحَ المعالم في التعابير التي استعملها، والتي دلّت أنّه كان يحرص بخطابه أن يتوجّه للقارئ المسلم، مستخدماً التعابير اللغوية التي ألفها هذا الأخير؛ وقد لاحظنا ذلك في استعماله كلمات مثل "جاد [يسوع] بنفسه على الصليب" (٣٠) وعبارة "الجود" مستلهمة برأينا من طيموثاوس الجاثُليق بطريرك الكنيسة النسطوريّة (780-825) في بغداد، في حواراته مع المسلمين حول ألوهة يسوع. ومثل ذلك أيضاً تعبير "تخشى الله وقضاءه"(٥٨)، أو توضيحه أنّ كلمة "أباكم" تعني "الله" في الآية الإنجيليّة التالية "كما أنّ أباكم (الله) رحيم" وهو أمر لا يخفى على مسيحيّ وإنّما غير واضح للقارئ غير المسيحي وغير المطّلع على الإنجيل. وكذلك استلاله من التراث الإسلاميّ فكرة "أركان" الدين (الخمسة في الإسلام) فوصف "التواضع والتوبة والمحبة والغفران" بأنّها "الأركان الأربعة" للدين المسيحي(٦٨)، واستخدام عبارات من التراث الإسلاميّ مثل "العياذ بالله"(٧٨)، و"المسيح بن مريم" (٩٧)، و"الخيرات الآتية" المستوحاة من العبارة القرآنيّة "واسْتَبِقوا الخيرات" (١٢٦)، وكذلك عبارة "سلطان جائر" (١٤٥، ١٤٩) المستوحية من حديث نبويّ. هذا بالإضافة إلى عبارات أخرى، نثرها في مقالاته، عائدة لطبيعة تلك المقالات التي يتناول فيها آيات أو أفكاراً في الدين الإسلامي (مثلاً: ٧٠، ١١٦، ١٦٩، ١٧٥، ١٧٩، ١٨٨).
ولكن رغم كلامه الطيّب في الفكر الإسلامي، لم يداهن الأب مسّوح بل طرح الأمور كما هي، فتراه يتساءل بعد حديث طيّب عن الحجّ كرهبانيّة للمسلمين: "يبقى لي سؤال أوجّهه إلى أحبّائي وأصدقائي المسلمين: متى أستطيع، أنا غير المسلم، زيارة بيت حجّكم؟" (٢١٦) في إشارة نقديّة إلى واقع منع أيّ مسيحيّ من دخول مكّة؛ هذا عدا عن تصريحه الشجاع مرارا وتكراراً برفضه للذمّية وللحكم الإسلامي، كما للحكم المسيحيّ أو أيّ حكم دينيّ آخر لأنّ "الدولة الدينيّة استبداديّة حتماً"(١٨٥).
قضيّة الحرّية وفضح الازدواجيّةتناول الأب مسّوح الازدواجيّة في التصرّفات. ففضح اهتمام الناس بمظهر الأمور عوض جوهرها، وانصرافهم إلى دفع الأموال لدعم النشاطات التي تودي إلى التشاوف والكبرياء (كدور العبادة) عوض تقديم وقتهم وأموالهم للاهتمام بقضايا الناس (كالمدارس) (١٧٢). ولم يحيّد رجال الدين المسيحيّين والمسلمين عن النقد، بل فضح الازدواجيّة التي يمارسونها مرّات عديدة، فرجال الدين المسيحيّين والمسلمين يدعون للحرّية لهم ويمارسون قمع الحريّات العامة بحقّ المخالفين لرأيهم من خلال تعاملهم القمعيّ مع المواد الفنّية من أفلام ومسرحيّات، وطالما مارسوا التحريض باسم الحرص على الدين (١٧٠).
وهكذا، دافع عن حرّية الإنسان تجاه السلطة الدينيّة، تجاه هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم متحدّثين باسم الله (، ١٧٩، ١٨٨، ١٨٩) بينما هم ما يزالون يتاجرون بفكر دينيّ متدنٍّ، ويمارسون الإرهاب الفكريّ والدينيّ (١٩١) ويعتبرون أنفسهم معصومين (١٩٠). كما دافع عن حرّية الإنسان في الإيمان وفي البحث والتساؤل ومحاولته إيجاد الأجوبة، وانتقد المؤمنين المسيحيّين الذين يقمعون الفكر ويكفّرون يمنة ويسرة من يخالفهم الرأي أو يجتهد في بحث (١٩٤).
وعلى الصعيد السياسي، رأى الأب مسّوح أنّ المسيحيّين "مدعوّون، اليوم أكثر من أيّ زمن مضى، إلى مواجهة الاستبداد والظلم" ليس بأيّ وسيلة وإنّما "بالسعي الدائم إلى الاقتداء بعظمائهم من المسيح الذي احتمل الصلب طائعًا، وصولاً إلى القدّيسين والأبرار الذين عاشوا بمقتضى صليب المسيح، كي ينسجموا مع ما يقوله إيمانهم بالأفعال لا بالأقوال" (٢٢٣)، ممّا يضع دعوته في إطار النضال اللاعنفيّ وهو بطبيعة الحال يتنافى مع الخنوع. وينسجم موقفه هذا مع دعوة مجموعة "وقفة حقّ" تلك المجموعة من المسيحيّين الفلسطينيّين، التي أشاد بها الأبّ مسّوح بها، خاتمًا كتابه بمقالة عن نشاطاتها. فـ"وقفة حقّ" أدانت الاحتلال الصهيونيّ وأدانت أيّ تبرير له، ودعمت موقف مقاومته، مؤكّدة أنّ تبرير قيام دولة الاحتلال الاسرائيليّة هو "خطيئة ضدّ الله وضدّ الإنسانيّة" و"بعيد عن تعاليم الكنيسة"، ودعت إلى رفض الاحتلال ومقاومته لاعنفيّاً. لكنّ الأب مسّوح يلاحظ بأنّ "وقفة حقّ" "لا تدين خيار المقاومة المسلّحة بل تعتبره مشروعا لوضح حدّ للاحتلال" (٢٥٤)، ولربّما كان هذا موقف الأب مسّوح نفسه.
ووسط الخراب القائم في المنطقة، حذّر الأب مسّوح في صرخة نبويّة مدويّة من أنّ "الكنيسة لا يجوز لها، خوفاً من أيّ أحد، أن تفقد صوتها النبويّ الصادع بالحقّ" (٧٩) إذ "يكاد يغيب صوت الكنيسة الصادع بالحقّ... وصمت الكنيسة أو تواطؤها في بعض الأحيان، الناتج عن الخشية الكنسيّة على المصير الآتي للوجود المسيحيّ سيؤدّي حتما إلى موت شهادتها ورسالتها في عالم اليوم، ولن يحافظ، في الآن عينه، قطعيًّا على الوجود المسيحيّ. الخشية على الوجود قد تؤدّي إلى خسارة الوجود والشهادة معًا. وإذا كان موضوع الوجود لا يعلمه إلاّ علاّم الغيوب، فما على «الأنطاكيّين» أن يخشوا سوى فقدان شهادتهم" (٢٤٧).
وجه المسيح والشهادة له
كان وجه المسيح، نبع المحبّة والجمال، هو البدء والمنتهى في كتابات الأب الحبيب جورج مسّوح، ولذا دعا إلى التوبة إلى الجمال "متى يخلع الناس أقنعتهم؟ حين يتجمّلون. شرط خلع القناع هو الجمال"(١٥٣). فالمسيح ساكن الكنيسة وكلَّ من هو "جميل الروح" (ص. ٢٣). فنحن "نعود إلى الكلمة الإلهيّة، كي نستوحي منها، نحن خلاّن يسوع، سلوكَنا بما يتّفق مع هذه الكلمة حتّى لا نقع في التجربة" (٨٧).
المطلوب واحد وهو وجه المسيح، ولا شكّ أنّه رأى في وجه الإنسان وجه المسيح ولهذا كانت صرخته الدائمة أنّ "الإنسان أوّلاً، كلّ إنسان" (٣٨)، فـ"المطلوب الواحد هو الإنسان، ما عدا ذلك باطل، باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل"(١٦٧)، ونلاحظ هنا كيف استوحى الأب جورج مسّوح الآية الانجيليّة التي نطق بها يسوع قائلاً أنّ المطلوب واحد ألا وهي كلمته أو وجهه، ليقول أنّ المطلوب هو الإنسان، ذلك أنّ الأب مسّوح عاش بفكره وقلبه المؤمن، أنّه إن لم نرَ وجه المسيح في وجه كلّ إنسان لم نرَ الله، لأنّ "بعد الله عليك أن ترى كلّ إنسان الله نفسه" كما ورد في قول مأثور في التراث الرهبانيّ. الإنسان أوّلا عند المسيحي لأنّ المسيح أولاً، ولكنّنا "نحيا زمن المحنة الكُبرى، فلا نفقدنَّ المسيح تحت أيّ ذريعة أُخرى، وإن كانت هذه الذريعة، وفق الفطرة البشريّة، شرعيّة"، إنّ تحذير الأب مسّوح هذا يبقى مخاطبا لنا في كلّ زمن، وخاصة اليوم.
نعم، "لا شكّ في أنّ الأمانة ليسوع تتطلّب من الإنسان أن يبذل الغالي والرخيص، حتّى حياته ليست أغلى من الشهادة للحقّ" (٨١)، كلّ من يعرف الأب مسّوح يعرف أنّه بذل حياته للمسيح، للحقّ، ولهذا كتب.
خريستو المرّ