لن أكتب عن كوستي بندلي كصديق أو معلّم بل عن كيفيّة الإخلاص لفكر كوستي بندلي في قلب التحدّيات الحاليّة التي نراها في قلب الكنيسة والمجتمع.
الكنيسة هي جسد المسيح، أي هي امتداده في هذا العالم، مجال حضوره المحيي، أو هكذا ينبغي أن تكون. وعندما نقول "أو هكذا ينبغي أن تكون" فذلك لوعينا أنّ الأعضاء في هذا الجسد، أي كلّ إنسان تعمّد وصار معروفا لدينا أنّه ينتمي إلى الكنيسة، هي/هو إنسان خاطئ وقد يخون المسيح في لحظة أو زمن، فالكنيسة في النهاية هي "كنيسة الخطأة الذين يتوبون". ولهذا ينبغي علينا التمييز بين واقعٍ ما يعيشه أعضاء جسد المسيح (الخطيئة والتوبة) وبين المرتجى من جسد المسيح (القداسة الذي تتجلّى في محبّة مشعّة في المجتمع). ولهذا نتكلّم عن تحدّيا وأزمات تعيشها الكنيسة، فالكنيسة في واقعها ليست كما في مرتجاها، وإن كانت تحمل وجوديّاً في قلب كلّ واحد من أعضائها، وفيهم مجتمعين، هاتين الحقيقتين معاً (القمح والزؤان).
كوستي بندلي هو (ولا أقول كان) رجل بدت عليه علامات القداسة من محبّةٍ لا تكلّ ولا تفتر، ومن بذلٍ للذات من أجل الآخرين، ووهبٍ للوقت والحياة والجهد من اجل نشر فكر تربويّ ولاهوتيّ مبدع منفتح مخلص للمعلّم الأوحد يسوع المسيح، الذي بدا لنا في إنجيله وفي جمالات التراث. وبهذا، كوستي بندلي محبوب للكثيرين. لكنّ المهمّ دائما ليس العاطفة التي يكنّها إنسان أو مجموعة لشخص، أكان ذلك الشخص قدّيساً أو نبيّاً أو إلهاً، فالعبرة هي في التصرّف، أي في المواقف التي نتّخذها بعد أن نُعجَب بفكر أو شخص؛ إذ كما يقول الربّ "ليس كلّ من يقول لي يا ربّ يا ربّ يدحل ملكوت السماوات بل من يفعل إرادة أبي الذي في السماوات"(متّى ٧: ٢١).
في هذه المقالة سنعرّج على بعض ما تجلّى في تعليم كوستي بندلي، ونحلّل كيف يمكن اليوم للذي يدّعي محبّة لبندلي أن يترجم هذه المحبّة في تصرّف يوافق الفكر الإنجيليّ الذي كتبه الرجل. لقد تميّز كوستي بكتاباته التربويّة والتعليميّة الدينيّة (اللاهوتيّة)، وفي المجالين أبدع؛ ولن أتناول هنا سوى ثلاثة خطوط في فكره: خطّ التربية الجنسيّة، وخطّ اللاهوت الراسخ والمنفتح، وخطّ التزام شؤون العالم.
خطّ التربية الجنسيّةفي خطّ التربية الجنسيّة كتب بندلي وعلّم (وقد هوجم في البداية من الأصوليّين والمتزّمتين من أجل ذلك) عن أولويّة الحبّ في العلاقة الجنسيّة، وعن أولويّة الحبّ في الزواج، أي أنّه ربط الجنس والزواج ليس بروابط فروض وواجبات وتحليل وتحريم، بل بأساس كلّ الحياة ألا وهو الحبّ، فالإنسان مخلوق على صورة الله-المحبّة، أي هو يحمل علامات تشبه ما في الله (بحسب الإيمان المسيحي) كالفكر والحرّية والمحبّة. بل إنّ التعريف المسيحيّ الواضح الوحيد الذي يرد في العهد الجديد عن الله هو أنّه محبّة "الله محبّة"(١ يوحنّا ٤: ٨)، الله-المحبّة إذا هو الألف والياء، البداية والنهاية؛ والإنسان يصبح في علاقة وحدة مع الله بقدر عيشه للمحبّة في حياته. لهذا فالعلاقات من صداقة أو زواج وغيرهما لا معنى وجوديّ لها، ولا يشعّ فيها الأثر الإلهيّ إلاّ إذا تمتّ بمحبّة. والمحبّة هنا لا تعني مجرّد مشاعر وإنّما أيضاً موقف عميق من الآخر يتجلّى في المعرفة له والمسؤوليّة عنه والاحترام لشخصه وغيريّته، والسعي الدائم للتوحّد معه أكثر.
كيف يمكن أن نتابع اليوم ما قاله وأوضحه وابتكره كوستي بندلي في هذا المجال؟ اليوم بالطبع يمكننا ويجب أن نكرّر ونوضح ما قاله، ونطوّر به على ضوء العلوم المستجدّة، وهو ما يقوم به مثلاً الدكتور جورج معلولي بكتاباته حول ربط علوم الدماغ بتوق المحبّة الإنسانيّة المزروع فينا. ولكن هناك أيضا أمورٌ أخرى حول الجنس والمحبّة لم تطرح نفسها على بندلي، وهي تطرح نفسها علينا اليوم، وبندلي قد أرسى لنا الأساس الذي يمكننا أن نبني عليه مثل إضافة مواضيع ضروريّة في التربية الجنسيّة كالتوعية على التحرّش الجنسيّ والاعتداء الجنسيّ والقيام بخطوات عمليّة للحماية منهما.
فكما أوضح بندلي، الجنس بين شخصين هو طاقة حبّ وفرح، لهذا لا يعتبر بندلي أنّ ضلال الجنس عن غايته يكمن في مجرّد مخالفة لتشريع زواج أو عقد، وإنّما هو في الممارسة الجنسيّة خارج الحبّ (حتّى ولو حدث ذلك ضمن الزواج) لأنّه بذلك يفقد معناه الإنسانيّ. فإن كان الجنس بين رجل وامرأة المرتبطين في رابط زوجيّ يضلّ عن خطّه إن مارسا الجنس دون حبّ فكيف بالأحرى فعل تحرّش أو اعتداء جنسيّ قام به مطلق أي شخص بحقّ شخص آخر، خاصّة عندما يكون هذا المعتدي صاحب سلطة (عائليّة أو كنسيّة) يستخدمها للإيقاع بضحاياه؟ المخلصاتُ والمخلصون حقّاً لكوستي بندلي لا يستطيعون أن يتابعوا دفن رؤوسهم في الرمل في تأبيد لديكتاتوريّة الصمت، بل ينبغي لمحبّتهم كي تكون حقّة أن يتعاونوا لمطالبة المدارس وأماكن التعليم الديني بإدخال التربية الجنسيّة ضمن برامجها التربويّة، لتوعية الأهل والأولاد حول الجنس الإنسانيّ وموضوعي التحرّش والاعتداء وكيفيّة مواجهتهما. كما ينبغي لمن يعلن عن نفسه أنّه يكن محبّة كبرى للرجل وفكره أن يتعاون مع غيره ليساهموا بمطالبة الدولة والكنيسة والمؤسّسات الخاصّة لمواجهة الموضوع بصلابة، وتأمين وسائل هذه المواجهة من تأسيس لخطوط ساخنة للشكوى، ولأشكال الدعم النفسي والقضائيّ، ولأماكن حماية المشتكين عند الضرورة، وغير ذلك. هكذا تصرّف يكون يفعل إرادة رجل الله الذي هو كوستي بندلي، عوض ترداد اسم الرجل والتأسّف على رحيله. عدم التزام الفكر الإنجيليّ الذي أبدعه بندلي أمام تحدّيات اليوم، ومتابعة دفن الرأس في الرمل هو خيانة للإنجيل قبل أن يكون خيانة للرجل. كلّ مُحبِّات ومحِبّي كوستي بندلي مدعوّون لكي يخرجوا من ازدواجيّة العاطفة النبيلة تجاه الشخص وخيانة فكره في التصرّف، وهو ما نحن جميعا مدعوّون إليه مع المسيح: الخروج من ازدواجيّة حمل عاطفة نبيلة لفكر المسيح وإنجيله، وخيانته في التصرّف.
خطّ اللاهوت الراسخ والمنفتحفكر كوستي بندلي اللاهوتيّ (بالمعنى الضيّق للعبارة، ذلك أنّ فكره التربوي حول الجنس مثلا هو لاهوتيّ بامتياز برأينا) تجلّى خاصة في كتابه حول الله والشرّ والمصير، الذي بحث فيه بمعنى الشرّ والخطيئة والتوبة والاعتراف وموقف الله من الإنسان وخطيئته، وصورة الله في أذهاننا، والدينونة، والمصير. وقد دافع بندلي عن أنّ الكشف الكامل لوجه الله الذي أعلنه يسوع المسيح بموته على الصليب، يكمن في أنّ الله هو إله محبّةٍ مصلوب من أجل الإنسان (وليس صالبا له)، ومشاركا إيّاه الآلام لكي يمنحه القيامة في هذا العالم من الخطيئة وأشكال الموت المختلفة، وفي العالم الآتي قيامة بجسد ممجّد مع جميع الناس. واعتبر كوستي بأنّ الله كما كشفه لنا صليب يسوع المسيح لا يؤذي الإنسان أو ينزل به المصائب ولا حتّى لـ"تأديبه". ثمّ أضاف قراءة مبدعة لمعنى المصائب وموقف الله منها، شرح فيها كيف أنّ المصائب موجودة بما أنّ هذا الكون ناقص وخارج من العدم وبما أنّ الله يحترم الكون كخليقة مختلفا عنه لها وجودها المغاير (إذ هي ليست دمية بيد الله)، وكون الإنسان حرّ بأن يفعل الشرّ؛ وأوضح بأنّ الله من جهة يشارك الإنسان آلامه، ومن جهة أخرى لا يقف من مآسينا موقف المتفرّج وإنّما يكافح نقصان الكون من خلال توجيهه في خدمة الحياة (التطوّر) حتّى يحين تجلّيه في الأزمنة الأخيرة، ومن خلال الإنسان الذي يعمل على تخطّي نقصان الكون بالابتكار؛ وهو بمحبّته الجنونيّة التي تجلّت بالتجسد وبموت الصليب منح الإنسان قوّة القيامة ليدوس الموت ويصبح شريك الطبيعة الإلهيّة.
كما دافع بندلي عن كون الله مختلف وأوسع من كلّ تصوّراتنا حوله، وحذّرنا من مغبّة تحويله إلى صنم بمحاولة الاستيلاء عليه من خلال الطائفيّة أو الإيمان، ولهذا أشار دائما إلى ضرورة التمسّك بأرثوذكسيّة منفتحة على الآخر متعلّمة منه أكان مؤمنا أم ملحدا، وباحثة عمّا هو مشترك معه وتوظيفه خدمةً للإنسان، دون تفريط في الإيمان ودون تلفيق بين المذاهب والأديان. وتمسّك بندلي بصورة المسيح الكونيّ الذي ينتمي إليه المحبّون، الذين يعمّدهم المسيح مباشرة، على حسب قول القديس كاباسيلاس "إنّ مَنْ لم تعمّدهم الكنيسة يُعمّدهم عريس الكنيسة". ولهذا ذكّرنا بندلي دائما برجاء القديس النيصصي (ورجاء الكنيسة) بأن يخلص الجميع في النهاية، ولو أنّ ذلك نقوله على الرجاء دون أيّ تأكيد ومن هنا كان يصلّي قدّيس كإسحق السرياني للشيطان نفسه.
هذا الفكر الأرثوذكسي الصافي، المتمسّك بالإيمان دون تعصّب، هو الذي يجب على الذين يكنّون لبندلي المحبة أن يقوموا بنشره، لأنّهم بذلك يكونون يبشّرون بالمسيح مخلّصا للعالم أجمع، دون أن يحاولوا الاستيلاء عليه، ودون أن يتسرّب إلى النفوس سمّ الانغلاق المتعصّب الذي يحاول من حيث لا يدري أن يستولي على الألوهة. هذا التعليم الكنسي الذي يواجه التيار المتعصّب في الكنيسة، بالتعليم ونشر الكلمة، واحترام العقل كما احترام القلب، هو أقلّ المطلوب من محبّي كوستي بندلي ليكونوا مخلصين لمحبّتهم له، فيتجاوزوا مجرّد العاطفة للموقف والالتزام بما شرحه من فكر المسيح.
خطّ التزام شؤون العالمالخطّ الثالث الذي أودّ ذكره هو خط ترجمة الإيمان بالتزام شؤون العالم، وما يقتضيه ذلك من نقد لأيّ انحرافات في الحضارة التي نعيش، تؤدي إلى تفكّك الإنسان أو تشييئه، مثل حضارة مجتمع الاستهلاك التي تستلب الإنسان بإلهائه بسعي محموم نحو الأشياء والامتلاك، فتغلق عليه في جحيم استهلاك تصوّره له أنّه ملكوت، وترميه في النهاية في العزلة والبؤس الكيانيّ.
كما أنّ ترجمة الإيمان يقتضي - بحسب بندلي - الدفاع عن حرّية الإنسان من التسلّط في المجتمع وفي الكنيسة، والدفاع عن كرامة الإنسان بالسعي لإحقاق عدالة هنا على هذه الأرض من ناحية الصحة والتعليم والغذاء والعمل، صحيح أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ولكن كما يقول الشاعر شارل بيغي "من كان في عوز مفرط إلى الخبز اليوميّ يُفقد فيه كلّ تذوّق للخبز الأبديّ". هذ الجمع بين الحرّية والخبز شدّد عليهما بندلي في خطّ الفيلسوف الأرثوذكسي الروسي بردياييف.
من يجاهر بمحبّته لكوستي بندلي ينبغي أن ينبذ التهليل للأحقاد العنصريّة بين الطوائف والأوطان، والتهليل للقساة والطغاة داخل المجتمع المحليّ والمجتمعات الأخرى، وداخل الكنيسة بطبيعة الحال؛ وأن يسعى – إن أتيحت له الظروف- إلى ممارسة حقّه الانتخابي بانتخاب أناس شرفاء عوض أن ينغمس في لعبة التكبّر الطائفيّة والمدمّرة للجميع، أو في لعبة الاستزلام لزعيم يحتقر من يشتريهم بمال أو خدمات، أو يسقط في فخّ الاستسلام لليأس والإحباط اللذين يجفّفان الإيمان من القلب. من يحبّ بندلي، ويسوع الذي شهد له بندلي، يعمل مؤمنا بأنّ عالما آخر ممكن لأنّ الله نزل إلى هذا العالم بالذات، ومات عن هذا العالم بالذات وبثّ فيه أي فيّ وفيكِ وفيكَ، روحه لنسعى معاً إلى الانتصار به على قوى الظلام، وما أكثرها، مستعملين عقولنا وقلوبنا، وما تتفتّق عليه من إمكانات نجاح وفشلٍ، وإصرار على متابعة الطريق غير عابئين إن تحقٌّ الرجاء يوم نكون أحياء بالجسد أو يوم ننظر من العالم الآخر إلى هذا العالم ويرتاح قلبنا أن آخرين وصلوا إلى ما عملنا على تحقيقه في معيّة الروح القدس والمسيح المصلوب المصوّر في قلوبنا.
المحبّة لا تعني شعورا ورديّا تجاه شخص أو فكر، وإنّما موقفا وطريقة حياة، ولهذا يعبر فيها التعب والنضال. الأحياء هم الذين يحبّون، والذين يحبّون يناضلون، والذين يناضلون بحبّ يُصلبون ويقومون. الألم نصيب كلّ إنسان حيّ، لكن لمن الأفضل أن يتوفّى الإنسان متألما ومحبّاً حيّاً مناضلاً قائماً، من أن يتوفّى متألما وقد فقد نفسه أو أضاعها.
خريستو المرّ
12 كانون أوّل 2017
في ذكرى السنوية الرابعة لانتقال كوستي بندلي عنّا
الكنيسة هي جسد المسيح، أي هي امتداده في هذا العالم، مجال حضوره المحيي، أو هكذا ينبغي أن تكون. وعندما نقول "أو هكذا ينبغي أن تكون" فذلك لوعينا أنّ الأعضاء في هذا الجسد، أي كلّ إنسان تعمّد وصار معروفا لدينا أنّه ينتمي إلى الكنيسة، هي/هو إنسان خاطئ وقد يخون المسيح في لحظة أو زمن، فالكنيسة في النهاية هي "كنيسة الخطأة الذين يتوبون". ولهذا ينبغي علينا التمييز بين واقعٍ ما يعيشه أعضاء جسد المسيح (الخطيئة والتوبة) وبين المرتجى من جسد المسيح (القداسة الذي تتجلّى في محبّة مشعّة في المجتمع). ولهذا نتكلّم عن تحدّيا وأزمات تعيشها الكنيسة، فالكنيسة في واقعها ليست كما في مرتجاها، وإن كانت تحمل وجوديّاً في قلب كلّ واحد من أعضائها، وفيهم مجتمعين، هاتين الحقيقتين معاً (القمح والزؤان).
كوستي بندلي هو (ولا أقول كان) رجل بدت عليه علامات القداسة من محبّةٍ لا تكلّ ولا تفتر، ومن بذلٍ للذات من أجل الآخرين، ووهبٍ للوقت والحياة والجهد من اجل نشر فكر تربويّ ولاهوتيّ مبدع منفتح مخلص للمعلّم الأوحد يسوع المسيح، الذي بدا لنا في إنجيله وفي جمالات التراث. وبهذا، كوستي بندلي محبوب للكثيرين. لكنّ المهمّ دائما ليس العاطفة التي يكنّها إنسان أو مجموعة لشخص، أكان ذلك الشخص قدّيساً أو نبيّاً أو إلهاً، فالعبرة هي في التصرّف، أي في المواقف التي نتّخذها بعد أن نُعجَب بفكر أو شخص؛ إذ كما يقول الربّ "ليس كلّ من يقول لي يا ربّ يا ربّ يدحل ملكوت السماوات بل من يفعل إرادة أبي الذي في السماوات"(متّى ٧: ٢١).
في هذه المقالة سنعرّج على بعض ما تجلّى في تعليم كوستي بندلي، ونحلّل كيف يمكن اليوم للذي يدّعي محبّة لبندلي أن يترجم هذه المحبّة في تصرّف يوافق الفكر الإنجيليّ الذي كتبه الرجل. لقد تميّز كوستي بكتاباته التربويّة والتعليميّة الدينيّة (اللاهوتيّة)، وفي المجالين أبدع؛ ولن أتناول هنا سوى ثلاثة خطوط في فكره: خطّ التربية الجنسيّة، وخطّ اللاهوت الراسخ والمنفتح، وخطّ التزام شؤون العالم.
خطّ التربية الجنسيّةفي خطّ التربية الجنسيّة كتب بندلي وعلّم (وقد هوجم في البداية من الأصوليّين والمتزّمتين من أجل ذلك) عن أولويّة الحبّ في العلاقة الجنسيّة، وعن أولويّة الحبّ في الزواج، أي أنّه ربط الجنس والزواج ليس بروابط فروض وواجبات وتحليل وتحريم، بل بأساس كلّ الحياة ألا وهو الحبّ، فالإنسان مخلوق على صورة الله-المحبّة، أي هو يحمل علامات تشبه ما في الله (بحسب الإيمان المسيحي) كالفكر والحرّية والمحبّة. بل إنّ التعريف المسيحيّ الواضح الوحيد الذي يرد في العهد الجديد عن الله هو أنّه محبّة "الله محبّة"(١ يوحنّا ٤: ٨)، الله-المحبّة إذا هو الألف والياء، البداية والنهاية؛ والإنسان يصبح في علاقة وحدة مع الله بقدر عيشه للمحبّة في حياته. لهذا فالعلاقات من صداقة أو زواج وغيرهما لا معنى وجوديّ لها، ولا يشعّ فيها الأثر الإلهيّ إلاّ إذا تمتّ بمحبّة. والمحبّة هنا لا تعني مجرّد مشاعر وإنّما أيضاً موقف عميق من الآخر يتجلّى في المعرفة له والمسؤوليّة عنه والاحترام لشخصه وغيريّته، والسعي الدائم للتوحّد معه أكثر.
كيف يمكن أن نتابع اليوم ما قاله وأوضحه وابتكره كوستي بندلي في هذا المجال؟ اليوم بالطبع يمكننا ويجب أن نكرّر ونوضح ما قاله، ونطوّر به على ضوء العلوم المستجدّة، وهو ما يقوم به مثلاً الدكتور جورج معلولي بكتاباته حول ربط علوم الدماغ بتوق المحبّة الإنسانيّة المزروع فينا. ولكن هناك أيضا أمورٌ أخرى حول الجنس والمحبّة لم تطرح نفسها على بندلي، وهي تطرح نفسها علينا اليوم، وبندلي قد أرسى لنا الأساس الذي يمكننا أن نبني عليه مثل إضافة مواضيع ضروريّة في التربية الجنسيّة كالتوعية على التحرّش الجنسيّ والاعتداء الجنسيّ والقيام بخطوات عمليّة للحماية منهما.
فكما أوضح بندلي، الجنس بين شخصين هو طاقة حبّ وفرح، لهذا لا يعتبر بندلي أنّ ضلال الجنس عن غايته يكمن في مجرّد مخالفة لتشريع زواج أو عقد، وإنّما هو في الممارسة الجنسيّة خارج الحبّ (حتّى ولو حدث ذلك ضمن الزواج) لأنّه بذلك يفقد معناه الإنسانيّ. فإن كان الجنس بين رجل وامرأة المرتبطين في رابط زوجيّ يضلّ عن خطّه إن مارسا الجنس دون حبّ فكيف بالأحرى فعل تحرّش أو اعتداء جنسيّ قام به مطلق أي شخص بحقّ شخص آخر، خاصّة عندما يكون هذا المعتدي صاحب سلطة (عائليّة أو كنسيّة) يستخدمها للإيقاع بضحاياه؟ المخلصاتُ والمخلصون حقّاً لكوستي بندلي لا يستطيعون أن يتابعوا دفن رؤوسهم في الرمل في تأبيد لديكتاتوريّة الصمت، بل ينبغي لمحبّتهم كي تكون حقّة أن يتعاونوا لمطالبة المدارس وأماكن التعليم الديني بإدخال التربية الجنسيّة ضمن برامجها التربويّة، لتوعية الأهل والأولاد حول الجنس الإنسانيّ وموضوعي التحرّش والاعتداء وكيفيّة مواجهتهما. كما ينبغي لمن يعلن عن نفسه أنّه يكن محبّة كبرى للرجل وفكره أن يتعاون مع غيره ليساهموا بمطالبة الدولة والكنيسة والمؤسّسات الخاصّة لمواجهة الموضوع بصلابة، وتأمين وسائل هذه المواجهة من تأسيس لخطوط ساخنة للشكوى، ولأشكال الدعم النفسي والقضائيّ، ولأماكن حماية المشتكين عند الضرورة، وغير ذلك. هكذا تصرّف يكون يفعل إرادة رجل الله الذي هو كوستي بندلي، عوض ترداد اسم الرجل والتأسّف على رحيله. عدم التزام الفكر الإنجيليّ الذي أبدعه بندلي أمام تحدّيات اليوم، ومتابعة دفن الرأس في الرمل هو خيانة للإنجيل قبل أن يكون خيانة للرجل. كلّ مُحبِّات ومحِبّي كوستي بندلي مدعوّون لكي يخرجوا من ازدواجيّة العاطفة النبيلة تجاه الشخص وخيانة فكره في التصرّف، وهو ما نحن جميعا مدعوّون إليه مع المسيح: الخروج من ازدواجيّة حمل عاطفة نبيلة لفكر المسيح وإنجيله، وخيانته في التصرّف.
خطّ اللاهوت الراسخ والمنفتحفكر كوستي بندلي اللاهوتيّ (بالمعنى الضيّق للعبارة، ذلك أنّ فكره التربوي حول الجنس مثلا هو لاهوتيّ بامتياز برأينا) تجلّى خاصة في كتابه حول الله والشرّ والمصير، الذي بحث فيه بمعنى الشرّ والخطيئة والتوبة والاعتراف وموقف الله من الإنسان وخطيئته، وصورة الله في أذهاننا، والدينونة، والمصير. وقد دافع بندلي عن أنّ الكشف الكامل لوجه الله الذي أعلنه يسوع المسيح بموته على الصليب، يكمن في أنّ الله هو إله محبّةٍ مصلوب من أجل الإنسان (وليس صالبا له)، ومشاركا إيّاه الآلام لكي يمنحه القيامة في هذا العالم من الخطيئة وأشكال الموت المختلفة، وفي العالم الآتي قيامة بجسد ممجّد مع جميع الناس. واعتبر كوستي بأنّ الله كما كشفه لنا صليب يسوع المسيح لا يؤذي الإنسان أو ينزل به المصائب ولا حتّى لـ"تأديبه". ثمّ أضاف قراءة مبدعة لمعنى المصائب وموقف الله منها، شرح فيها كيف أنّ المصائب موجودة بما أنّ هذا الكون ناقص وخارج من العدم وبما أنّ الله يحترم الكون كخليقة مختلفا عنه لها وجودها المغاير (إذ هي ليست دمية بيد الله)، وكون الإنسان حرّ بأن يفعل الشرّ؛ وأوضح بأنّ الله من جهة يشارك الإنسان آلامه، ومن جهة أخرى لا يقف من مآسينا موقف المتفرّج وإنّما يكافح نقصان الكون من خلال توجيهه في خدمة الحياة (التطوّر) حتّى يحين تجلّيه في الأزمنة الأخيرة، ومن خلال الإنسان الذي يعمل على تخطّي نقصان الكون بالابتكار؛ وهو بمحبّته الجنونيّة التي تجلّت بالتجسد وبموت الصليب منح الإنسان قوّة القيامة ليدوس الموت ويصبح شريك الطبيعة الإلهيّة.
كما دافع بندلي عن كون الله مختلف وأوسع من كلّ تصوّراتنا حوله، وحذّرنا من مغبّة تحويله إلى صنم بمحاولة الاستيلاء عليه من خلال الطائفيّة أو الإيمان، ولهذا أشار دائما إلى ضرورة التمسّك بأرثوذكسيّة منفتحة على الآخر متعلّمة منه أكان مؤمنا أم ملحدا، وباحثة عمّا هو مشترك معه وتوظيفه خدمةً للإنسان، دون تفريط في الإيمان ودون تلفيق بين المذاهب والأديان. وتمسّك بندلي بصورة المسيح الكونيّ الذي ينتمي إليه المحبّون، الذين يعمّدهم المسيح مباشرة، على حسب قول القديس كاباسيلاس "إنّ مَنْ لم تعمّدهم الكنيسة يُعمّدهم عريس الكنيسة". ولهذا ذكّرنا بندلي دائما برجاء القديس النيصصي (ورجاء الكنيسة) بأن يخلص الجميع في النهاية، ولو أنّ ذلك نقوله على الرجاء دون أيّ تأكيد ومن هنا كان يصلّي قدّيس كإسحق السرياني للشيطان نفسه.
هذا الفكر الأرثوذكسي الصافي، المتمسّك بالإيمان دون تعصّب، هو الذي يجب على الذين يكنّون لبندلي المحبة أن يقوموا بنشره، لأنّهم بذلك يكونون يبشّرون بالمسيح مخلّصا للعالم أجمع، دون أن يحاولوا الاستيلاء عليه، ودون أن يتسرّب إلى النفوس سمّ الانغلاق المتعصّب الذي يحاول من حيث لا يدري أن يستولي على الألوهة. هذا التعليم الكنسي الذي يواجه التيار المتعصّب في الكنيسة، بالتعليم ونشر الكلمة، واحترام العقل كما احترام القلب، هو أقلّ المطلوب من محبّي كوستي بندلي ليكونوا مخلصين لمحبّتهم له، فيتجاوزوا مجرّد العاطفة للموقف والالتزام بما شرحه من فكر المسيح.
خطّ التزام شؤون العالمالخطّ الثالث الذي أودّ ذكره هو خط ترجمة الإيمان بالتزام شؤون العالم، وما يقتضيه ذلك من نقد لأيّ انحرافات في الحضارة التي نعيش، تؤدي إلى تفكّك الإنسان أو تشييئه، مثل حضارة مجتمع الاستهلاك التي تستلب الإنسان بإلهائه بسعي محموم نحو الأشياء والامتلاك، فتغلق عليه في جحيم استهلاك تصوّره له أنّه ملكوت، وترميه في النهاية في العزلة والبؤس الكيانيّ.
كما أنّ ترجمة الإيمان يقتضي - بحسب بندلي - الدفاع عن حرّية الإنسان من التسلّط في المجتمع وفي الكنيسة، والدفاع عن كرامة الإنسان بالسعي لإحقاق عدالة هنا على هذه الأرض من ناحية الصحة والتعليم والغذاء والعمل، صحيح أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ولكن كما يقول الشاعر شارل بيغي "من كان في عوز مفرط إلى الخبز اليوميّ يُفقد فيه كلّ تذوّق للخبز الأبديّ". هذ الجمع بين الحرّية والخبز شدّد عليهما بندلي في خطّ الفيلسوف الأرثوذكسي الروسي بردياييف.
من يجاهر بمحبّته لكوستي بندلي ينبغي أن ينبذ التهليل للأحقاد العنصريّة بين الطوائف والأوطان، والتهليل للقساة والطغاة داخل المجتمع المحليّ والمجتمعات الأخرى، وداخل الكنيسة بطبيعة الحال؛ وأن يسعى – إن أتيحت له الظروف- إلى ممارسة حقّه الانتخابي بانتخاب أناس شرفاء عوض أن ينغمس في لعبة التكبّر الطائفيّة والمدمّرة للجميع، أو في لعبة الاستزلام لزعيم يحتقر من يشتريهم بمال أو خدمات، أو يسقط في فخّ الاستسلام لليأس والإحباط اللذين يجفّفان الإيمان من القلب. من يحبّ بندلي، ويسوع الذي شهد له بندلي، يعمل مؤمنا بأنّ عالما آخر ممكن لأنّ الله نزل إلى هذا العالم بالذات، ومات عن هذا العالم بالذات وبثّ فيه أي فيّ وفيكِ وفيكَ، روحه لنسعى معاً إلى الانتصار به على قوى الظلام، وما أكثرها، مستعملين عقولنا وقلوبنا، وما تتفتّق عليه من إمكانات نجاح وفشلٍ، وإصرار على متابعة الطريق غير عابئين إن تحقٌّ الرجاء يوم نكون أحياء بالجسد أو يوم ننظر من العالم الآخر إلى هذا العالم ويرتاح قلبنا أن آخرين وصلوا إلى ما عملنا على تحقيقه في معيّة الروح القدس والمسيح المصلوب المصوّر في قلوبنا.
المحبّة لا تعني شعورا ورديّا تجاه شخص أو فكر، وإنّما موقفا وطريقة حياة، ولهذا يعبر فيها التعب والنضال. الأحياء هم الذين يحبّون، والذين يحبّون يناضلون، والذين يناضلون بحبّ يُصلبون ويقومون. الألم نصيب كلّ إنسان حيّ، لكن لمن الأفضل أن يتوفّى الإنسان متألما ومحبّاً حيّاً مناضلاً قائماً، من أن يتوفّى متألما وقد فقد نفسه أو أضاعها.
خريستو المرّ
12 كانون أوّل 2017
في ذكرى السنوية الرابعة لانتقال كوستي بندلي عنّا