|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٦ آب / أغسطس ٢٠٢٥
من أهمّ الأمور في الحياة هو المقياس الذي يقيس فيه الإنسان الأحداث والأفعال. يُعرَض على شعوبنا اليوم «سلامٌ» بلا عدالة، و«ازدهارٌ» بلا كرامة، وتطبيعٌ يُسمّى حكمةً. لكن الإنسان الواقعيّ يعلم أنّ السلام دون عدالة هو «سلام» السجون، والازدهار لا يحلّ في ظلّ حكم استعماريّ، والتطبيع غباء الذين لا يرون أنّ الكلمة تعني الخضوع وسفك دماء الأبرياء، وتهجير الناس من أراضيهم، والاستعباد العمليّ للباقين. يسوّق حكّامٌ في لبنان والعالم العربي دعاية مفادها: افتحوا الأبواب لإسرائيل تنحلّ أزمات الكهرباء والماء والرواتب، ونغدو في بحبوحة. ولكأنّ هذه الدعاية هي بشارة! هذه ليست بشارة إنجيلية؛ فالإنجيل يربط السلام بالحقّ الذي يحرّر. أمّا سلام المنفعة والخضوع، فمِحوره كاذبٌ قديم، «أبو الكذب»، الذي يزيّن للإنسان أنّ الموت هو حياة. ما يُسوَّق في سوق نخاسة الإعلام والسياسة ليس «شراكةً» بين أنداد، بل خضوعٌ لعدوّ يعلن قادته، قولاً وفعلاً، أنّ لا مكان عندهم لعدل، وأنّ مشروعهم توسّعيٌّ استعماريٌّ قائم على عنفٍ عنصريٍّ مُمنهج، ويبنونه بالإبادة. الإبادة في غزّة ليست حدثًا جانبيّا في هذا المشروع؛ إنّها نتيجة هويّة يستفحل فيها الاستعلاء العنصريّ الملغي للآخر. تحت ضوء حقيقة الصهيونيّة يتهاوى خطاب «السلام»، كما «الازدهار». إذ كيف يُبنى سلامٌ فوق الركام؟ وكيف تُقام شراكةٌ مع قوّةٍ تجعل من القتل طقسًا للاستمرار، ومن سلب الأرض حقًّا، ومن محو الذاكرة سياسةً عامة؟ بيع الوهم السياسيّ يترافق أيضا مع بيع وهم لاهوتيّ. فعلى صعيد اللاهوت يُستبدل سلامُ المسيح القائم على العدل بسكونِ المقابر ويُدعى الموت سلاما؛ ويُرفع «عِجلٌ ذهبيّ» جديد للعبادة مكان الله اسمه «السلام، «التطبيع»، «الشراكة»، وأحيانا «السوق». باسم المسيح يُرفع صنمٌ بأسماء كثيرة، له كهنته من رجال دين وملوك وأمراء ورؤساء جمهوريّات وحكومات ومفكّرين وإعلاميّين، صنمٌ تُقدَّم أمامه الدماء، والأرض، وحقوق السكّان الأصليّين، وحرّيتهم، وصحّّتهم، ومعرفتهم، قربانًا من اجل مال وامتيازات يتقاسمه حفنة من القتلة. يقلب المرّوجون اللاهوتيّون كلام المسيح فيُعبد المال عوض الله، ويسمّى ذلك حصافة وواقعيّة وسعي للسلام وبغض للحرب. لو كان هذا شأن المسيح لما قال «ما جئت لألقي سلاما على الأرض، بل سيفا» وهو يعني أنّه في سبيل الحقّ يضطر المسيح والمؤمن أن يفرزوا الصدق من النفاق، والسلام من الاستسلام. مع المسيح، لا بدّ من صراع. ولأنّ الكلّ يعرف أنّ الأوهام ستتكشّف مع الوقت، يصبح غسل الدماغ والقمع حاجتان لكهنة الصنم ذو الأسماء الكثيرة. فهم يعلمون أنّ الركوع لصنم التطبيع لا يمرّ إلا مع «هندسةٍ أخلاقية» تُطفئ الوعي وتخدّر الأخلاق الفطريّة وتكمّم الأفواه؛ هندسة تحوّل الكرامة إلى تهمةٍ، والمطالبة بالحقّ إلى جريمة. هكذا تُقام أنظمة بوليسيّة لحماية الصنم لا الإنسان، ويُستبدَل أمنُ المجتمع بأمن السلطة، والسلام بصمتِ خوفٍ مديدٍ يزحف إلى البيوت والضمائر. أما الوعود الاقتصاديّة ففخٌّ للروح قبل الجيب. فيُسمّى بيعُ المقدّرات «استثمارًا»، واستلابُ الخبرات «نقلَ معرفة». وتُنثَر فتاتُ المنافع على قلّةٍ من الخاضعين المستلبين الخانعين، فيما تُدفَع الأكثريّة إلى مزيدٍ من الإفقار والتهميش. في اللاهوت لا تُقرأ البحبوحة علامةَ رضا إن لم تقم على العدالة والمساواة. إنّ «خبزُ» ازدهار البعض المقتطع من جسد المظلومين هو إدانة للمدافعين عن الصنم. ينسى منافقو اللاهوت أنّ السلام ليس غياب الحرب، بل حضور الحقّ. فلا شركةَ مع قاتلِ الإخوة، ولا مصالحةَ تُقام فوق جماجم الضحايا. لذلك، لا يمكن للاهوت حقّ أن يبارك تسويةً تغسل اليدين من دم المصلوب. كلُّ «سلامٍ» يتجاوز المقهورين هو إنجيلٌ مقلوب، وكلُّ «واقعيّة» تُسوِّغُ الظلم ليست إلّا تبريرا للكذب وخدمة في بلاط «أبو الكذب». لسنا ندعو إلى عبثٍ، ولا إلى نُسكٍ سياسيّ، بل إلى تمييزٍ روحيٍّ حادّ: إلى رفضِ مسخ السلام، وإلى بناء سلامٍ حقيقيٍّ يبدأ بالاعتراف بالحقّ الفلسطينيّ الكامل والتام على أرض فلسطين كاملة، وبكرامة الإنسان كأيقونةٍ إلهيّة، ويستكملُه عقدٌ اجتماعيٌّ يحمي الحريّات بدل أن يخنقها، مستبقين الخيرات بتنمية المشاركة بدل أن استحواذ القلّة على الخيرات. ذاك طريقٌ شاقّ، لكنّه الطريق الذي لا ينتهي إلى قبرٍ بلا قيامة. إنّ بيع الوهم أخطر من الحرب، لأنه يُقايضُ الروحَ بامتيازات وهميّة (وأيّة امتيازات لعبيد؟)، ويُسمّي العبوديّة «استقرارًا»، ويحرسُ بوّابةَ الخراب بخُطبٍ عن التنمية. بعكس اللاهوت المقلوب لـ«أبي الكذب»، يقول لاهوت «الطريق الحق والحياة» أنّ لا قيامةَ بلا ألم الصليب، ولا عدالةَ بلا ثمن العمل والشهادة، ولا سلامَ بلا انتصار للحقّ. فإذا أغرانا الشياطين بيننا بهدوء العبوديّة، فلتكن لنا الشجاعة لنقول قول السيّد «اذهبْ عنّي يا شيطان»، فالإنجيلكلّه قائم على طلب القيامة والحياة عبر جلجلةِ طريق الحقّ. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed