|
خريستو المرّ، الثلاثاء ١٨ آذار / مارس ٢٠٢٥
إنّ تفلّت العنف المجانيّ الانتقاميّ الذي نراه يتصاعد اليوم في سوريا على شكل مذابح، له أسباب كثيرة منها أنّ الجماعات المسلّحة التي باتت جزءاً من سلطة الأمر الواقع تعانق إيديولوجيات إلغائيّة متطرّفة؛ وهذا التطرّف حقيقيّ أكثر من السيناريو المكتوب الذي يقرأه «القائد» الجديد والذي يتلوه من وقت لآخر ليخدّر به الحذر المنطقيّ ممّا قد يؤسّسه من ديكتاتوريّة تشابه سابقتها في البشاعة، مُضافاً إليها بشاعة اتّجاهه التطبيعيّ مع عدوّ وجودنا. لكنّّ هناك بُعدين آخرين مؤجّجين للعنف يقبعان في خلفيّة الإيديولوجيّات الإلغائيّة للجماعات المسلّحة السوريّة، ألا وهما: عنف الاستعمار الذي ينطق به بشكل واضح وفجّ المشروع الصهيونيّ وبلغ أوجه في الإبادة الحاليّة، وعنف الديكتاتوريّة البائدة. فالاستعمار دائم العنف ضدّ الشعوب الأصليّة، ولا يمكنه إلّا أن يكون كذلك لأنّ هدفه هو انتزاع الأرض وجني الثروات وتزوير التاريخ، ولذلك فالعنف جزء من هويّته بشكل دائم وليس فقط عند الخطوة الأولى له. إنّ العنف الاستعماريّ الأوروبيّ القائم في منطقتنا والمتمثّل بدولة الاحتلال، يمارس أشدّ أنواع العنف والقمع والتعذيب والقتل والاغتصاب والتنكيل والتدمير للإنسان وللأرض وللممتلكات، والطرد والانتهاكات لحقوق الإنسان، أكثر بكثير من أيّ نظام قمعيّ عربي. هذا العنف القمعيّ المؤسّسي الاستعماريّ يُنشئ بلا شكّ عنفاً مضاداً لصدّه، وهذا العنف قد ينجرف عن أهدافه فيتحوّل إلى قمع للضعفاء، وهو ما نراه واضحاً في فلسطين أكثر منه في سوريا، في عنف سلطة أوسلو في حقّ شعبها، من ملاحقات، وسجن، وتعذيب، واغتيال. أمّا العنف الحاليّ في سوريا فهو يحدث ليس فقط على خلفيّة التأطير الإيديولوجيّ العنفيّ الذي يستبيح الناس لاختلافهم في العقيدة، وليس فقط على خلفيّة عنف وقمع الاستعمار ضدّ أهل البلاد منذ سايكس بيكو وحتّى الحرب الأخيرة، وإنّما أيضاً على خلفيّة النظام البائد الذي توحّش على أجساد ونفوس السوريّين والسوريّات. فذاك النظام أنشأ مدرسة في العنف والقمع طبعت سيكولوجيا شعب كامل بالخوف والرغبة بالانتقام، فلا عجب والحال هذه أن يكون مَن تعرّض للعنف البارحة، وبات اليوم مُمسكاً بوسائله (السلاح وسلطته) أن يميل إلى تقليد العنف الذي تعرّض له هو أو أهله من النظام البائد، فيُذيق الأضعف منه عنفاً مماثلاً انتقاماً لما تعرّض له حين كان الأضعف. من المعروف أنّ العنف الانتقاميّ يبحث دائماً عن كبش محرقة، عن مسالمين عُزَّل لتفريغ الرغبة بالانتقام على أجسادهم ونفوسهم، تماماً كما كان يفعل النظام البائد بشعبه بهدف بسط سلطته التي أرادها أبديّة بعكس كلّ منطق وتاريخ. ولا بدّ من كلمتين حول أبديّة الحكم التي قال بها النظام البائد، إنّ الأبديّة هي مسعى وهميّ كامن خلف كلّ سلطة تسعى أن تكون مطلقة، فالسعي إلى سلطة مطلقة هو مسعى خفيّ إلى الحيازة على الألوهة، بعد أن يكون الساعي قد مسخ الألوهة في صورة ألوهة قاتلة متعسّفة متجبّرة. كلّ مسعى إلى الإطلاق هو مسعى إلى الحيازة على الألوهة، كما أشار إليه أجدادنا في هذه المنطقة منذ ابتكروا الأساطير. إنّ الآلية النفسيّة التي تدفع إلى تدوير العنف حيث يتحوّل مقموع الأمس إلى قامع اليوم، معروفة منذ بدايات القرن العشرين باسم «التماهي مع المعتدي»، حيث يتحوّل الذي تعرّض للاعتداء إلى جلّاد بحقّ مَن هم أضعف منه عندما يستطيع. وسنرى ردود فعل عنيفة على العنف الحاليّ، وعنفاً مضاداً، وهكذا دواليك حتّى يضيع العنف المؤسِّس لكلّ المذابح: العنف الاستعماريّ، والعنف الديكتاتوريّ (العلمانيّ)، وعنف التطرّف الدينيّ (الذي يشجّعه ويموّله مستعمرو منطقتنا وزبانيتهم المحليون) وهو عنف معادل للديكتاتوريّة البائدة في الكراهية والحقد، والقدرة على التدمير، والسعي إلى ألوهة مشوّهة عن طريق السلطة المطلقة. لا يعرف أحد بالطبع ما هي النهاية، ولكن إن تتابع المنحى العنفيّ الحاليّ، عنف الإلغاء الجسديّ وعنف الإلغاء المعنويّ في الإعلان الدستوريّ، فإنّنا نعرف بالتأكيد أمرين، الأوّل أنّ الشعب والدولة السوريّة، ومستقبلنا في المنطقة، كلهم سيتابعون معاناتهم دون أمل بعدالة أو بحياة أفضل، ونعرف أنّ الاستعمار الأميركيّ والصهيونيّ ووكلاءه من دول في الخليج والمحيط، ومصالح الدول الإقليميّة من إيران إلى تركيا، سينهشون من لحمنا الحيّ ومن لحم أرضنا. ماذا يملك السوريّون ونحن أن نفعل؟ ليس أمامنا سوى الانتظام في العمل العام الجماعيّ لمن يريد أن يبقى وأن يرى مستقبلاً أفضل له ولأولاده ومواطنيه. هذه حاجة وضرورة، ففي كلّ بلد، عاجلاً أم آجلاً، سيحتاج الذين حملوا السلاح، عن حقّ وعن باطل، إلى مخرج من الجنون المطبق الآتي، ولن يجدوا مخرجاً لهم من بحيرة الدم إلّا أولئك الذين حضّروا لليوم التالي للعنف الداخليّ خريطةً لحياة وطنيّة حقيقيّة، بواسطة عملهم الجماعيّ السياسيّ، دون أن يمتلكوا سلطة عسكريّة. لا أحد يعرف النهاية، ولكنّ النهاية لا يكتبها فقط مَن امتلكوا وسائل العنف، وإنّما أيضاً الشعوب التي تنتظم في عمل سياسيّ جماعيّ، أنقابياً كان أم حزبياً، لحماية حياتها بمواجهة هجمة الاستعمار الحاليّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed