|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٣ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٥
قد يختلف تقييم الناس داخل فلسطين وخارجها بشأن طبيعة وأثر عملية «طوفان الأقصى» أو أيّ عملية مسلحة كبيرة، فالتباين في القراءات طبيعي: البعض يراها ردّ فعلٍ مُبرَّر على سنوات من القمع، والبعض ينتقد انعكاساتها. كلّ الأسئلة مشروعة إن كان الهدف منها تقييم وسائل التحرّر الحاضرة من أجل تطويرها أو تغييرها لوسائل أجدى، أي إن كان الهدف منها تطوير العمليّة التحرّريّة.ما هو غير منطقي ولا عادل هو تحميل الشعب الفلسطيني، أو أي فصيل فلسطيني، مسؤولية الجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة المرتكبة من طرف الدولة الاستيطانية الاستعمارية بحقّ الشعب الفلسطينيّ. تلك الدولة مسؤولة عن سنوات طويلة من العنف المؤسسيّ، عن عقود من السياسات الممنهجة للتطهير العرقي والاستيطان والتهجير، منذ النكبة عام 1948، مروراً بتشريعات وممارسات تكرّست على مستوى كلّ بُعد من أبعاد هذه الدولة العنصريّة، ومؤسساتها المدنيّة والعسكريّة. مسؤولية الإبادة تقع على من يمارس العنف المنظّم بدعم دولي واقتصادي وسياسي، ومن يدعمه. من المهمّ أن لا يضيع العقل تحت عبء الألم والقهر، الضحية لا تتحمّل مسؤولية القهر والإبادة اللذين تتعرّض لهما! إنّ الشرائع المدنية والدينية والأخلاقيّة تحكم بشكل واضح لمصلحة الضحيّة لا المرتكِب. كلّ عنف يقوم به الفلسطينيون واللبنانيون بحقّ العصابات المسلّحة الصهيونيّة أكانت تلك العصابات على شكل «جيش» أو «شرطة» أو مسلحين مستوطنين، هو عنف دفاعيّ، تحرّريّ، لاحقٌ لعنف مؤسّسيّ بنيويّ يسبقه، يقوم به يومياً الاستعمار في منطقتنا. إن أي عنف مُمارَس من قِبل الشعوب التي تسعى إلى التحرّر يجب أن يُفهم في سياق كونه ردّ فعل على عنف سابق له، على عنفٍ أضخم بما لا يُقاس، عُنف الاستعمار الذي يُنشئ عنفه على شكل مؤسسات وبنى. لكن هذا العنف التحرّري عليه أن يتحلّى بأخلاق ثوريّة تحملها جملة من المبادئ المعروفة في الحروب، وأن يتشبّث بهدف التحرير السياسي والإنساني لا بالانتقام العشوائي، وذلك لأسباب كثيرة أهمّها سبب عمليّ: إنّ ضبط العنف بربطه بهدف التحرير مهم كي لا ينفلت العنف، إنّ انفلات العنف خطر على الهدف، فدائماً ما شهدنا كيف توجّه العنف بعد التحرير ضد أبناء الشعب (وتحرير فلسطين سيتحقّق بلا أدنى شكّ، عاجلاً أم آجلاً). إنّ ضبط العنف ليس تنازلاً عن العدالة، بل هو وسيلة للحفاظ على المشروع الوطني حيّاً. لكن فلنتذكّر أنّ العدوّ يبني قوّة، ونحن علينا أن نبني قوانا. إنّ القوّة الأخلاقيّة والقوانين الدولية لا نفع لهما من دون قوّة. هذا ما ينبغي أن نكون تعلّمناه من تاريخنا على الأقلّ، فقرار مجلس الأمن نفسه الرقم 425، والذي قضى بانسحاب العدوّ من جنوب لبنان بعد احتلال أجزاء منه، لم تطبّقه الدولة الصهيونيّة لأنّ الولايات المتّحدة بقوّتها حمتها. ما طبّق القرار 425 على أرض الواقع هو قوّة المقاومة اللبنانيّة (مهما كان اسمها). وينبغي أن نتعلّم هذا الدرس اليوم، فاليوم تقول الولايات المتحدة مع العدوّ الصهيونيّ: نحن لا نأبه بأيّ شرع ولا قانون، ولن نتوانى عن إبادتكم لتحقيق مصالحنا الماليّة، نحن نريد استعماركم واستغلالكم واستعباد بناتكم وأبنائكم وطردكم لاحتلال أرضكم وذبحكم حين يلزم. هذه هي الترجمة الفعلية لما تفعلانه الدولتان الإرهابيّتان من جرائم في غزة، ولبنان، وقطر. الكرة في ملعبنا. إمّا أن نرضى بإبادتنا واستعبادنا، أو أن نبني ونُراكم مواطن القوّة في منطقتنا. الدروس الممكن استخلاصها عدة: ضرورة بناء قوّة عسكريّة دفاعيّة حقيقيّة من دون رمي ما تحقّق، برامج إعادة إعمار للمناطق المتضررة، بناء مؤسسات مدنية وسياسية قادرة على استيعاب الصدمات، تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، الاستثمار في التعليم والبحث. الاستعداد للمستقبل يشمل قبل كلّ ذلك بناء مجتمع مواطنة لا مجتمع هويّات (متناحرة بالضرورة). إنّ السؤال عن شكل النضال اللازم والواقعي يبقى مشروعاً دائماً؛ أما الدعوة إلى رفض المقاومة كفكرة فهي رفض للحق في المقاومة وللكرامة الإنسانية. وفي نفس الوقت، إنّ مقاومة لا تُحترم فيها الكرامة لا تصمد أمام المستقبل، ونضال لا يراكم أدواتٍ وطنيّة (مدنية وسياسية وقانونية)، يسهل اختزاله إلى مجرد مواجهة عسكرية بلا رؤية. المهم أن يكون النضال منظَّماً، أخلاقياً، ومتجهّزاً بخططٍ إستراتيجية تضمن أن النصر، متى تحقق، لا يتحوّل إلى تكرار لهيمنة داخلية جديدة تُسفك فيها دماء الشعب نفسه. حلم، نعم، ولكنّه حلم واقعيّ، وبالتأكيد أفضل من الاستسلام والخيانة. لم يتحرّر شعب بعد معركة واحدة، هكذا يقول تاريخ الجزائر، هكذا يقول تاريخ ليبيا، هكذا يقول تاريخ كوبا، هكذا يقول تاريخ الهند. كاسترو وغاندي لم يكونا أوّل قادة تحرير في بلديهما، كانا آخر أولئك. فلنتشدّد. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed