خريستو المرّ، الاثنين ٢٨ نيسان / أبريل ٢٠٢٥ منذ انتخابه حَبراً أعظم في عام 2013، دخل البابا فرنسيس قلب الكنيسة والعالم كنسمةٍ تحرّك الجمود وتفتح أبواب الرجاء في عالم أتعبه الظلم والجوع والحروب، وفي كنيسة علاها صدأ التاريخ والتحجّر الروحيّ. لم يكن البابا فرنسيس بابا تقليديّاً، بل كان شاهداً حياً لإنجيل المحبّة، وصورةً حيّة لبساطة المسيح، وتواضعه، وشهادة جريئة في وجه قوى المال والقهر واللامبالاة. بدأ عهده باختيار اسمه، اسم أراده علامةً فارقة تفتتح عهداً جديداً؛ وقع خياره على «فرنسيس»، تيمناً بالقديس فرنسيس الأسيزي، الفقير الذي أحب الخليقة وسلك بخفّة الروح وبقلب مجروح بالحبّ. هكذا، ومنذ اللحظة الأولى لتولّيه المسؤوليّة الأولى في الكنيسة الكاثوليكيّة، عبّر البابا عن مشروعه الكنسيّ: كنيسةٌ للفقراء، كنيسةٌ خارجة من قوقعتها، تلامس الجراح وتُبلسمها، أو على الأقلّ تسعى إلى ذلك. كان اختياره الاسم الرنّة التي دَوْزَن على نغمتها سيمفونيّةَ معانقة العالم، التي قادها وسط نغمات النشاز التي تكاثرت منذ اللحظة الأولى لكي تناوئَه. سكن في دار القدّيسة مرتا المتواضع، طالباً أن يُخاطَب بـ«الأب فرنسيس». زار السجناء والمهاجرين مطأطئاً رأسه عند حاجاتهم. لم يتكلّم فرنسيس، بل عاش، عاش ما نادى به. لا يُبالغ الإنسان إن قال أنّ البابا فرنسيس كان ثوريّاً، ليس بمعنى الانقلاب على الأصل ولا بالعودة الحرفيّة إلى الأصل، وإنّما الانقلاب على الواقع العفن بتأويل الأصل الإنجيليّ، ذاك الأصل الذي يقول إنّ المعلّمَ هو الخادمُ على ما بيّن يسوع منذ نحو أسبوعين حين غسل أرجل تلاميذه قائلاً «ما من تلميذ أعظم من سيّده»، ومعطيهم بذلك درساً أبديّاً في السيادة والسلطة نسيه المتربّعون على أرائك الحكم في الكنائس. ساد فرنسيس بتواضعه الفذّ على قلوب الملايين داخل الكنيسة الكاثوليكيّة وخارجها. كان فرنسيس بلسماً في بلادنا، للأرثوذكس الذين يحيون وسط صحراء خالية من التواضع، كان أملاً بأنّ نسمات الروح قد تبلغ أحياناً ذُرى السلطة الكنسيّة، كان من القلائل من الأساقفة الذين قال عنهم أحد القدّيسين إنّه صعب أن يدخلوا ملكوت السماوات. هل يدخل فرنسيس الملكوت؟ هذا خارج العِلم، ولكنّا نرجو أنّه أحبّ ومن أحبّ هو في الداخل. بابا الرحمة والحقّ في «سنة الرحمة» التي أعلنها، ذكّر من جديد بكلامه وتصرّفاته بأنّ الكنيسة هي كنيسة الخطأة الذين يتوبون. أكّد أن «اسم الله هو الرحمة»، وأن الكنيسة يجب أن تكون مستشفى ميدانياً لا محكمة إدانة. فلم يتردّد في لقاء من هم في الهامش: اللاجئون، المسلمون، المثليّون، السجناء، المرضى... وقف بجانب أولئك الذين يأنف العالم أن ينظر إليهم، مذكّراً إياهم بأن المسيح اختار أن يُولد مع البهائم ورائحتها المنفّرة، لا في قصر. ولكنّه كان يميّز الحقّ من الباطل. لذلك كان صارماً في تثبيت مسار إصلاحيّ في معالجة التحرّشات والاعتداءات الجنسيّة (وهي ظاهرة موجودة في كلّ كنيسة وكلّ دين) فباتت الكنيسة في عهده تواجه تلك القضايا بشكل واضح وعلنيّ ومن دون مواربة ولا تستّر. لولاه لما كان للمتحرّشين في الكنيسة المارونيّة في بلادنا أن يواجهوا العدالة الكنسيّة في روما، مع أنّ الكنيسة المحلّية في لبنان ما تزال تحمي هؤلاء وتحاول بشتّى الطرق تفخيخ إدانتهم، فتارة تصمت وتارة تستخفّ بالرعيّة فتترك لهم المجال لمزيد من النفاق وتصوير أنفسهم أنّهم مجرّد خطأة مثل كلّ الناس! لو تُرك للكنيسة المارونيّة أن تبني عدالتها الكنسيّة، كشقيقتها الكنيسة الأرثوذكسيّة، لكان مصير الضحايا الموارنة كأولئك الأرثوذكس: تستّر، تهجّم، محاولات تهميش، ضغط، نكران، في خيانة كاملة للمسؤوليّة. وقف فرنسيس ومَن حوله في مواجهة تيّار جعل من الكنيسة مسخرة وحامية لكلّ مرتكِب. بابا المشاركة وفي عالمٍ يُقدّس السوق ويشيطن الفقراء، رفع البابا صوته عالياً ضد «اقتصاد يقتل»، وانتقد «عولمة اللامبالاة». دعا إلى «ثورة حنان»، مطالباً بنظام عالميّ أكثر عدلاً، مدافعاً عن الأرض كبيتٍ مشترك، وعن حقوق الشعوب الأصلية، والمهاجرين، والعمّال المستَغلّين. لم يخف من كسر التقاليد. زار دولاً غالباً ما تجاهلتها السياسة البابوية التقليدية (فلسطين، العراق). مدّ اليد للمسلمين، مخالفاً بذلك خطاب التعالي للبابا السابق. وفي زمن صعود الشعبويّة، كان صوته يعلو ضدّ الكراهية والتمييز. أيّ نقد للبابا؟ والفذّ القدّيس البابا فرنسيس، ككلّ إنسان، لم يكن معصوماً من الخطأ والنقد. كمسؤول عالميّ له وزنه المعنويّ يؤخذ عليه أمران: بالطبع هناك كلام مزوّر كثير قيل عن لسانه على وسائل التواصل وهو غير صحيح، والناس لا يتحقّقون. أمّا قوله الفذّ إنّه يمكن للكاهن أن يبارك أعضاء رعيّته المثليّين فصحيح، وهو أمر لا يؤخذ عليه، وإنّما يُحسب له، ويُشكر عليه. لم يقم بخطوة السماح بالزواج المثليّ في الكنيسة وهذا أمر على الأرجح لن يكون وارداً لمئات من الأعوام الآتية، ولكنّه كان عمليّاً يقول إنّه مهما كان رأي الكنيسة بالمثلية وبالزواج المثلي، فإنّ عمل الكنيسة تجاه أعضائها هو أن تُظهر محبّة يسوع للجميع. إنّ الأخلاقيّات أمر يتغيّر بتغيّر الأزمنة، ومَن يقرأ الإنجيل يعلم أنّ الناس كانوا يعتبرون يسوع إنساناً بلا أخلاق لأنّه كان يجلس مع الذين اعتبرهم مجتمعهم «خطأة» فكان يؤاكلهم ويُشاربهم، ولذلك كانوا يقولون «هوذا إنسان أكول وشريب خمر، محبّ للعشارين والخطاة» على ما ذكر يسوع نفسه (متى 11: 19). لا، هذا لا يُنتقد. ما يُنتقد هو أنّه لم يقطع العلاقة مع إسرائيل. وإن كنّا نعلم أنّه انتقدها وأنّه سمّى الإبادة، إلّا أنّ الهويّة المزدوجة للفاتيكان كدولة وكنيسة، تحمّله المزيد من المسؤوليّة، وتحتّم عليه أن يتصرّف بشكل أكثر صرامة فيدعو إلى مقاطعة إسرائيل لإرغامها على إنهاء التمييز العنصريّ والاحتلال والاستعمار. لا شكّ في أنّ تهمة معاداة السامية كانت لتكون له بالمرصاد، وأنّ تاريخاً طويلاً حقيقيّاً من معاداة السامية، للمسيحيّة الأوروبيّة، كان ليُثقل على أيّ بابا مهمّة كهذه. إلّا أنّ هذا لا يعذره، فهنا، كان تقصيره الأكبر. التقصير الثاني، وهو مرتبط بالأوّل، هو موقفه من السكّان الأصليّين في كندا. فقد قام كهنة ورهبان وراهبات من الكنيسة الكاثوليكيّة بسوء معاملة وتعذيب وقتل أطفال عهدت الحكومة الكنديّة للكنيسة الكاثوليكيّة (وغيرها) مهمّة الـ«عناية» بهم - في الحقيقة كانت تلك «العناية» عبارة عن برامج تخطف الأولاد من أهلهم بقوّة القانون وتحاول قتل أرواحهم بمحو هويّتهم الثقافيّة. اشتركت الكنيسة الكاثوليكيّة في كندا في تلك البرنامج والكثيرين من رجالها ونسائها اشتركوا في إساءة المعاملة، والتعذيب، والتحرّش، والاغتصاب، والقتل، ثمّ الإخفاء في مقابر جماعية حول المدارس، لمئات من التلامذة من السكّان الأصليّين الذين خطفتهم الدولة من أهاليهم. المقابر ما تزال تتكشّف حقيقتها سنة بعد سنة. ماذا فعلت الكنيسة الكاثوليكيّة؟ زار البابا فرنسيس كندا وقابل الضحايا، واستقبل السكّان الأصليّين في الفاتيكان. قال كلاماً طيّباً، ولكنّ الكنيسة كانت قد هرّبت الوثائق المتعلّقة بتلك المرحلة من كندا وأخفتها في الفاتيكان، ولم تسمح بعودتها في عهد فرنسيس إلى كندا للتحقيق فيها. هذا عدا عن أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة في كندا لم تفِ بالتزاماتها الماليّة لتعويض الضحايا عن تلك الحقبة البشعة، التي لم تنتهِ إلّا في التسعينيات من القرن العشرين! هذا إخفاء يلامس الجريمة، ومهما كان موقف فرنسيس الشخصيّ يبقى مسؤولاً عن عدم الإفراج عن الوثائق طالما هو الذي كان رأس الكنيسة. خاتمة لم يتراجع فرنسيس عن السير في «الدرب الضيق»، ذاك الذي يصل بنا إلى الحياة. لم يَسِر كلّ الدرب. ربّما عُرقِلَ على الطريق. فالمتضرّرون من الوداعة والمحبّة في كنيسة سيّد المحبّة كثيرون؛ لكنّه يبقى العلامة الأبرز، وسيكون الوجه المحبوب في كنيسة المسيح لقرون ستأتي. لن نجد كلاماً شبيهاً نقوله في بطريرك أرثوذكسي في منطقتنا. لقد قال البابا الجميل فرنسيس عن المسيح: «إنّ الراعي يجب أن تكون له رائحة الخراف»، وقد كان هو الراعي الذي حمل رائحة المهمّشين، ولون دموعهم، وأملهم بقيامةٍ جديدة، وهُم شمّوا فيه عطر المسيح، إلى الحدّ الذي قدر عليه. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |

RSS Feed