|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٢ تمّوز / يوليو ٢٠٢٥
حين سأل التلاميذ يسوع أن يخبرهم مَن هو الأعظم في ملكوت الله، قال لهم «إن لم تعودوا كالأطفال فلا تدخلوا ملكوت السماوات»، على ما يُخبر متّى في كتابه عن «الخبر المُفرح» (المعنى الحرفي لكلمة إنجيل). لكن كلام يسوع في كتاب متّى يبدو كأنّه جزء من مجموعة من الكلمات جمعها متّى معا دون سياق. لوقا من جهته يضع جملة شبيهة في سياق حادثة محدّدة، فيُخبر بأنّ البعض حاول أن يمنع الأطفال من الاقتراب من يسوع فما كان منه إلّا أن دعاهم لترك الأطفال يأتون إليه وأضاف «لأنّ لمثل هؤلاء ملكوت الله». في الحالتين لم يفسّر يسوع مقصده تماما. ما هو وجه الشبه بين الذي يدخل ملكوت السماوات (الجنّة) وبين الأطفال، وكيف يعود الإنسان إلى الطفولة، إلى الموقف الذي يتميّز به الطفل؟ الجملة تفتح الباب أمام التفسير، ومقنع أن يُقال أنّ موقف الأطفال يتّسم بالتصديق. يسلّم الطفل أمره للأهل لشعوره بالأمان معهم (نتكلّم عن الأهل الأسوياء فقط). من هذه الزاوية، موقف الطفولة هو موقف الإنسان المسلّم أمره لله، الذي يشعر أنّه مهما كانت الظروف فإنّ الله يعتني به كما يعتني الريح بالعصافير، والهواء بالرئتين، هو موقف مَن جعل من الله مركز حياته، أو ربّان السفينة في خضمّ أمواج الحياة. بالطبع الأمر يأتي فقط على سبيل التشبيه، فالإنسان البالغ يبقى هو الربّان الفعليّ، إذ لن يتّخذ أحد قرارًا عن البالغ في أمر أو آخر، بل على الإنسان أن يتحمّل مسؤوليّاته. المهمّ في التشبيه ه والمغزى العام، المهمّ أنّ الأمان يجعل الطفل مُصغِ لأهله الأسوياء، «مُطيعا» لهما، والطاعة كلمة غامضة ويشوبها سوء الفهم فعادة ما يعني فيها مستعملوها «الخضوع»، بينما أصل الكلمة في اللاتينيّة يفيد معنى الإصغاء. يُصغي الطفل لأهله الأسوياء لأنّه يشعر بهذا الحبّ الذي منحوه له، وبذلك يُسلم لهما، لمشيئتهما ويمشي على هدى كلمة الحياة التي يؤمّن أنّها موجودة في كلماتهم. هكذا، عندما «يعود» وبالأحرى يكون الإنسان مع الله «مثل الأطفال»، يؤمن بأنّ كلمة حياة موجودة في المعاني التي ألقاها الله بطريقة ما (يُقال لها الوحي) في كلمات البشر، فيحاول أن يقرأها ويُصغي إلى معانيها، ويمشي في هُداها. لكنّ الإصغاء ليس الميّزة الوحيدة في الطفولة. هناك ميّزة أخرى حاضرة وينساها الكبار لأنّهم معظم الأحيان حين يجدونها في الأطفال لا يفهمونها، ويتبرّمون منها، وحبّذا لو يتعلّمون منها. هناك ميّزة أخرى ظنّي أنّ يسوع كان يقصدها أيضا حين قال جملته تلك، ميّزة محفورة في الجسد والنفس، تطفو إلى السطح في العام الثاني لميلاد كلّ إنسان، وتعبّر عن نفسها بكلمة واحدة، خارقة، هائلة، صاعقة، أخّاذة، ثوريّة عند مَن يتأمّل بها، كلمة: «لا». في العام الثاني، يبدأ الطفل بتمييز نفسه عن محيطه ككائن مستقل وليس كامتداد للأهل، كائن له كلمته وغير خاضع لإرادة الأهل بشكل أوتوماتيكيّ. يؤكّد الطفل نفسه وحرّيته (المتعثّرة بالطبع) كإنسان متمايز عبر تلك الكلمة الرائعة: «لا». هي لا النافية للخضوع، لا النافية للعبودية، لا النافية للإلغاء، إنّها لا من أجل الحرّية. يُعقلن الكبار أحيانا كثيرة مواقفهم الذليلة بضرورة «الواقع». الأطفال في قولتهم «لا»، التي تستمرّ لفترة طويلة في عمر السنتين، يرفضون الخضوع ويسعون إلى الوجود أحرارا. بهذه الـ«لا» يمكن للأطفال أن يذكّروا الكبار بالأمر الحقيقيّ الواقعيّ المسجّل في كيانهم ألا وهو الحرّية، الحرّية التي بها نكون أنفسنا لا أدوات ولا وسائل. الله لا يحتاج إلى عبيد، إلى رضوخ ذليل، هو جعل من الحرّية جزءا من الجسد والنفس، يعبّر الإنسان عن وجودها في تلك الـ«لا» الصارخة في عمر السنتين، «لا» تذكّرنا بالحاجة الدائمة إلى تحقيق حرّيتنا، إلى الثورة على كلّ شخص، أو بنية، أو مؤسّسة، أو حكم، أو كيان، يحاول أن يحوّلنا لوسائل وأدوات يستعملها لبلوغ أهدافه. الله خلقنا أناس نسعى إلى الحرّية، لنتحرّر ونُحرّر، لا لنخضع. ما نحتاج اليوم في لبنان، وسوريا، وفلسطين، هو أن نعود كالأطفال، أن نقول لا للصهيونيّة، تلك الموجودة كدولة وتلك المعشّشة في العقول، أن نقول «لا» للإمبراطورية التي تريد إخضاعنا، للاستعمار الذي يريدنا عبيدا، ونحتاج أن نكون بالغين فنعدّ أنفسنا لوسائل المقاومة، عوض الانتظار واللامبالاة بالمصير. حينها نكون في طريق حرّية، مخلصين لوصيّة الحرّية التي سجّلها الله في كيان كلّ إنسان، مخلصين لشعبنا، مخلصين لأنفسنا، مخلصين لله، مدافعين عن كرامتنا الإنسانيّة جميعا. هذا الإصغاء لروح الله الذي يحتجّ في كلّ إنسان أخضع نفسه، هو ما قد يفتح لنا باب الملكوت، إن أحببنا وطلبنا الحرّية حتّى النهاية. وعلى طريق الحرّية التي نخوضها محبّة بأنفسنا وبالناس وبالله، منّا مَن قد ينال الشهادة فيكون أعظمنا في الملكوت. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed