|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٨ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٥
الرؤية في المسيحيّة هي أنّ كلّ ما يقوم به الإنسان ينبغي أن يصبّ في المحبّة، أي في التعاضد البشريّ، وأنّ النهاية التي يرجوها الإنسان هو أن يحيا بسلام مع عدوّ الأمس، بل أنّ بعض القدّيسين كانوا يصلّون للشياطين كي يتوبوا. هذه الرؤية لا تنجّي من الخطأ، ولا من الصراع. فالخطيئة تعني حرفيّا في اللغة اليونانيّة التي كُتِبَ بها الانجيل «إخطاء الهدف»، ولهذا تأتي التوبة وهي تعني حرفيّا في اللغة نفسها «تغيير الذهن» بهدف العودة إلى الطريق الذي يوصل إلى الهدف من جديد: محبّة الإله والبشر التي لا يمكن تجسيدها والتأكّد من وجودها إلّا عن طريق التعاضد الإنسانيّ، الذي من جهة يؤكّد وجود المحبّة ومن جهة يجذّرها ويعمّقها. ولكن الرؤية لا تنجّي من الصراع، فالعودة عن إخطاء الهدف إلى الهدف، إلى الطريق والحقّ والحياة الذي قال يسوع أنّها هو، إلى التعاضد الإنسانيّ يقتضي صراعا مع الذات لكي يعي الإنسان واقعه ويجهد لكي يغيّر ما في نفسه، وكذلك مع قوى الظلمة التي تخرّب التعاضد الإنسانيّ وتمزّق أجسادنا ونفوسنا. أفق التعاضد الإنسانيّ هذا، ينبغي أن يفرض نفسه فرضا على أتباع المسيح، وفي هذه البقعة من الدنيا، هذا يعني التطلّع إلى رفع الظلم، إن كان ظلم طاغٍ داخليّ أم طاغٍ خارجيّ. والواقع يدلّنا، أحببنا اللفة أم لم نحبها، أنّ الطغيان الاستعماريّ هو أكثر ما خرّب بلادنا وطالما نصّب عليها الطغاة. وهو اليوم يدعو إلى المزيد من إفراغ الأرض من أهلها بعدما أفرغ ما أفرغ منها بحروبه الوحشيّة. المسيحيّون معنيّون بهذا الإفراغ كجماعة، ليس لأنّ عددهم أصلا صغير والإفراغ سيمحوهم من البقاع التي مشى فيها المسيح، ولكن لأنّ الإنسان المستضعف في هذه الديار، ديارنا، هو المسيح نفسه، والمسيحيّون مدعوّون للتمسّك به والاهتمام برفع الظلم عنه، عوض نكرانه كبطرس أو بيعه بأربعين من الفضّة كيهوذا؛ وهذا هو المعار الوحيد لكونهم مسيحيّين فعلا لا قولا. صحيح المسيح موجود في كلّ مكان، وكلّ مكان فيه مستضعفون لكنّ الإنسان مسؤول أوّلا عن البقعة التي هو ساكنها. لكنّ أهمّ ما في الأمر أن يعمل المسيحيّون كمواطنين في بلادهم وليس كجماعة منفصلة، أي يعملون من منطلق إيمانهم ولكن علمانيّا، كما يعمل كلّ إنسان من منطلق إيمانه بالله أو بمبدأ، بوسائل يراها منسجمة مع الأهداف التي يسعى إليها، والعقل والتعاضد الإنسانيّ يدلّان الجميع عن أوجه الوسائل المناسبة في كلّ عمل، والإنسان يخطؤ ويصيب ولكنّه لا يقعد عن العمل بل يبقى مسؤولا عن العالم الوديعة التي وضعها الله بين أيدي الناس ليحرثوها، ليعملوا فيها معه، ويحوّلونها إلى تهجئة للملكوت الآتي بحيث يرسمون في لحم الأرض ملامح السماء، أي العدل والمشاركة الإنسانيّة. بهذا يكون الإنسان – ليس المنفصل، بل المرتبط بغيره في جماعات واحدة الأهداف ومتنوّعة المنطلقات – خليفة لله على الأرض، أو يكون هو حارثها معه. قد يقول العالم كلّه أنّ على الإنسان أن يتصالح مع الظلم ويحتفل به، فيسمّي رضوخ السجين سلاما، وخضوع المجتمع طاعة، والفقر رضا، والمرض لأسباب الفقر والإهمال قدرا، والتفاف «النخبة» حول المال والسلطة نجاحا، والاحتفاء بالشياطين واقعيّة، والتعاون مع الذئاب على الغنم حنكة. لكنّ هذا لا يكون مع مَن كان صادقا في التزامه باتّباع السيّد الذي مشى مع الفقراء والمساكين وحاول رفع الظلم عنهم، فأطعمهم وأعتنى بمرضهم ولم يتركهم لذئب، بل كان الذي رعى الحياة لتهزم الموت. الموت آت من بين أنياب الاستعمار وذئابه في الداخل، هنا المحكّ في أن يكون الإنسان فعلا أو لا يكون. مَن لم يقف مع الفلسطينيّين واللبنانيّين الذين كانوا تحت أنياب الحديد الأميركيّ-الصهيونيّ، لم يقف مع نفسه ولا هو اتّبع ذاك الذي أتى لتكون الحياة للناس وتكون أوفر، ذاك المسيح، لا هذا الذي نبني أصنامه ورسومه حولنا وفي قلوبنا لنهدّئ بها خياناتنا له. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed