|
خريستو المرّ، الثلاثاء ١٧ حزيران 2025
من المضحك المبكي مضغ الإعلام والحكّام في الخليج لكلمة «الشراكة» التي يغدقها عليهم ممثّلو الامبراطوريّة الأميركيّة، فالشراكة هي الاسم الجديد للاستعمار، وما من شيء يدعو للفخر عندما يأتي المستعمِر ويجبرك على أن تدفع له جزية (تُسمّى حياء استثمارا) وأنت تولم له وتحتفي. ومهما يكن وصفنا لمسارات التطبيع الذليلة التي لا علاقة بابراهيم بشيء، فإن «السلام» (عداك عن التطبيع) في الحالة اللبنانية ليس قرارًا سياسيًا عاديًّا، بل فعل خيانة للذاكرة الجماعية، وتواطؤ مع من يحتلّ أرضنا، ويقتل بنات وأبناء هذا البلد، ويدمّر القرى والمدن، ويرتكب نظامه الإبادة في حقّ الشعب الفلسطينيّ، ويسعى لطرده من الضفّة الغربيّة، وتعلن نخبه السياسية أنّها تريد احتلال لبنان! أيّ سلام ممكن بين السكّين والضحية، وأيّ سلام بين القاتل والقتيل، وبين المبيد والذي يُنوى إبادته؟ ثمّة لحظات في تاريخ الشعوب تكون فيها الكلمات أسوأ من رصاصة، والصمت أخطر من هزيمة. يهرول المطبّعون، والذين يريدون أن يبنوا دولة دون أيّ مشروع ولا عناصر قوّة، ليطلبوا منّا أن نمحو أنفسنا وليس فقط ذاكرتنا. يقولون السلام ويريدون التطبيع. يريدون أن نُعيد تشكيل وعينا على مقاسات نتائج آنيّة، أن نرفع أيدينا فورًا ونحن لم نُهزم بعد، أن نغسل دماء شهدائنا في نهر «السلام» الذي يجرف دماء وأشلاء، وثروات، ومستقبل، سكّان المنطقة. وعوض أن يجتمع الذين يشعرون فعلا أنّ إسرائيل خطر علينا لينظّموا صفوفهم لمواجهة الوحش الكامن لنا في فلسطين، يسرعون بإعلان «الهزيمة» وبضرورة طيّ المرحلة والدخول في مرحلة بناء «الدولة». وكيف تُبنى الدولة دون مشروع ودون عناصر قوّة عسكريّة؟ ما من مجيب. يعرف كلّ ذي حكمة، ونعرف، نحن أبناء هذا التراب، أن السلام لا يُصنع مع صنّاع المذبحة، وأنّ اليد التي هدمت ومزّقت بيوتنا أجسادًا لا تريد السلام، بل الإبادة والإخضاع ونهب الخيرات، ولذلك لا تُصافَح، بل تُقاوَم. في لبنان، العدوّ الصهيوني ليس فكرة مجرّدة، ولا عدوّا على طاولة مفاوضات، هو الطائرة التي تقصفنا، والعصابات في ثياب جنود التي تدمّر قرانا وتسرق أشجارنا وتطردنا من أرضنا، وقنابل الفوسفور فوق التراب والأجساد. فهل نُحوّل اليوم هذا الواقع والتاريخ إلى مجال للتنسيق والحوار؟ هل نسمّي التهجير فرصة للتفاهم؟ هل نغفر للمحتلّ لأنه بات سجّانًا لمساجين المشاريع الإقليمية؟ أم نطلب الحرّية؟ الكيان الصهيوني لا يمثّل «دولة جارة» كما تحاول بعض الأصوات تصويره، بل مشروعا استيطانيّا قائما على الإلغاء والاقتلاع واحتلال المزيد من الأرض في كلّ بلد لصيق بفلسطين. لبنان ليس الخليج ولن يكونه. لبنان أرضه ملاصقة لفلسطين. فلسطين ليست وحدها ضحية الكيان، بل لبنان أيضًا، من أهله المهجّرين إلى أسراه الذين قضوا سنوات في المعتقلات تحت التعذيب. لا يُعقَل أن يُبنى «سلام» مع هكذا كيان. لا يُمكن أن تُنشأ علاقات «طبيعية» مع كيان إباديّ، مع كيان إحلاليّ يسعى لطرد السكّان الأصليّين لهذه الأرض ليحلّ مكانهم، مع كيان لا يزال يستبيح الأجواء اللبنانية، مع كيان يقتل ويُهدّد كلّ يوم. من الحكمة أن يتّعظ شعبنا من الإبادة المستمرّة بحقّ الفلسطينيّين وأن يرى في مسار إبادة الشعب الفلسطينيّ، وفي أرض غزّة المحروقة، وفي أشلاء الأولاد المرميّة للكلاب، مستقبل شعبنا إن لم يقاوم. السلام الحقيقي يبدأ من تفكيك نظام الاستعمار الصهيونيّ، وعودة الحقوق إلى أصحابها. ما عدا ذلك، فهو تواطؤ مغلّف، واستسلام بأقنعة أنيقة. ومن يتحدث اليوم عن "الحياد" في لبنان، أو عن "النأي بالنفس" في ما يخصّ غزّة أو سوريا أو إيران أو أيّ اعتداء صهيونيّ على دولة أخرى، ينسى أو يتناسى أن العدو الصهيوني لم يكن يومًا موضوعًا خارجيًا بالنسبة للبنان، بل كان ولا يزال طرفًا معتديًا، مارس أبشع أنواع الاحتلال والاستغلال بحقّ شعبنا. الحياد في هذه المسألة ليس موقفًا نزيهًا، بل اصطفاف مع الظالم تحت قناع الواقعية. مَن يساوي بين الضحية والجلاد هو نذل يُنكر الدماء التي سُفكت، والتضحيات التي قُدّمت. ثمّة من يعتقد أن التطبيع قد يحمل فرصًا اقتصادية للبنان. ولكن، بأيّ ثمن؟ هل نبيع ذاكرتنا مقابل مشاريع واستثمارات؟ هل نُفرّط في دمائنا مقابل تسهيلات مصرفية أو صفقات طاقة؟ الحرّية والكرامة الوطنية لمطلق أيّ شعب ليست بندًا في مفاوضات اقتصادية، هي أساس وجوده السياسي والأخلاقي. ثمّ من الوهم أن يظنّ إنسان أنّ عدوّا استعماريّا سيسمح بأيّ نوع من التنمية فهو يريد أن يضمن تفوّقه. وَهمُ التنمية الذي يُبنى على التطبيع، هو وهمٌ مُلوث بالعار ولن يُثمر سوى المزيد من التبعيّة وانحدار في التنمية. مَن يريد بالفعل مستقبلا للبلاد، ودولة، يختار مسار مقاومة الاحتلال لأنّه يريد لشعب هذه الأرض الحرّيةَ والعدل، لا أن يكونوا خَدماً لمشروع استعماري جديد يُعاد تسويقه بلغة السلام الزائف والمشاريع الاقتصاديّة و«الشراكة» المثيرة للسخرية. لا سلام دون حرية، ولا حرية دون قدرة وعدالة، ولا قدرة ولا عدالة مع التطبيع مع الوحش. من يبرّر التطبيع من بوابة المصالح الاقتصادية لا يعرف شيئًا عن الشعوب التي تعيش على احترام الأمم لها أوّلا بسبب قدرتها. ومن يراه ضرورة جيوسياسية، فليسمّ موقفه باسمه: خضوع. لا مصالحة من ينكّل بنا، ويقصفنا ليقلب أعيادنا مآتم، ويمنع عنا حتّى الحداد. الكرامة ليست سلعة، والحقّ لا يُفاوض عليه. هناك أمور لا تُباع ولا تُشترى، ولكن أنّى لمن فقد كرامته أن يفهم ذلك؟ فلنعدّ ما استطعنا من قوّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed