|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٤ حزيران ٢٠٢٥
«اليوم، قُتل مئة فلسطيني. ليس في معركة. ولا في احتجاج. بل أثناء محاولتهم جلب كيس من الطحين إلى منازلهم. كيس من الطحين. مسحوق. غبار. الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة. اقتربوا منه بأيدٍ مرتجفة، فقوبلوا بالرصاص» (د. عز الدين، غزة، منصّة «إكس»). هذه الجريمة الفظيعة ليست حادثة معزولة. إنها مرآة تعكس وجه نظامٍ قائم على العنف المنهجي. إنها نتيجة مباشرة لإرهاب إسرائيل البنيوي المتجذّر— آلة قمع تُجرّد البشر من إنسانيتهم وتقتلهم بـفعاليّة بيروقراطيّة بلا عقاب، تذكّر بالآلة البيروقراطيّة الإباديّة النازيّة. هذه الجرائم ليست تجاوزات عارضة من حزبٍ سياسيّ أو حكومةٍ ما؛ بل هي منسوجة في هيكل الاحتلال ذاته—نظام بُني على السيطرة، والتفوّق العرقي، وتجريد السكّان الأصليّين من الأرض والحقوق. تغيير حكومات احتلال لن يُنهي هذا النظام الوحشي. فالعنف ليس طارئاً، بل هو أصلٌ في البنيان الصهيونيّ. وحده إنهاء الاحتلال يمكن أن يفتح أفقاً لسلامٍ حقيقيّ. لا سلام الخضوع، بل السلام القائم على العدالة: سلام يعيش فيه الفلسطينيون أحراراً على أرضهم، حيث لا يُعامل أحد كآخر، ولا يُجرّد أحد من إنسانيته، ولا يُجبر أحد على الصمت أمام الدبابات والجدران والطائرات المُسيّرة. فلسطين الحرة ليست حلماً، بل ضرورة أخلاقية وسياسية. لكنّ عنف الإمبراطوريّة لا يقتصر على فلسطين. في هذه اللحظة، يهدّد طغاة مجانين—أحدهم مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية—من دولتين نوويتين دولةً ذات سيادة هي إيران، ويسعون لإيقاف حتى أنشطتها النووية المدنيّة. التفكير في استخدام السلاح النووي، أو قصف منشآت نووية، ينذر بكارثة لا تطاول دولةً واحدة، بل تمتد إلى مناطق بأسرها، وتُزهق أرواحاً لا تُحصى. وكما هو متوقّع، تصطف الدول الديمقراطية في أوروبا وأميركا الشمالية إلى جانب هذا التوجّه المدمّر. كلماتهم تتحدّث عن الدبلوماسية، لكنّ أفعالهم تقول غير ذلك تماماً. المشكلة بالنسبة إلى تلك القوى ليست في استبداد النظام الإيراني. فلو كانت الاستبداديّة تهمّهم فعلاً، لفرضوا العقوبات على دول الخليج القمعيّة بدلاً من عقد صفقات السلاح معها. المسألة الحقيقية تكمن في رفضهم لأيّ دولة نامية أن تحقق تنمية وسيادة واستقلالاً حقيقيّاً. عداوتهم لإيران، وتصاعد عدائهم للصين، ينبعان من الجذر ذاته: رفضهم المطلق لصعود أي قوة مستقلة غير خاضعة. وهنا تكمن الصلة بين هذه القضايا: فلسطين، إيران، الصين، فنزويلا، وبقية دول أميركا اللاتينيّة. إنّ ما يخيف الغرب ليس العنف، بل السيادة. ليس القمع، بل الاستقلال. ولكي نزيل الغشاوة عن فكر البعض، إنّ واقع الخليج ليس ناطحات السحاب والتقدّم، بل فقدان الثروة والسيادة، ونهب المستعمِر لها باسم الشراكة (الاسم الحركيّ للاستعمار اليوم) هو مجرّد شاهد فظّ على ذلك، الشواهد الأخرى أكثر توارياً؛ شراء سلاح لا يُستخدم (سوى ضدّ الدول التي لا تخضع) شاهد آخر. إنّ ما يخيف الغرب هو السيادة واستعمال الثروات الوطنيّة للتقدّم والتمكّن. دعوني أشرح الرسالة الأساسية الكامنة وراء تصريحات مجموعة الدول السبع حول الهجوم (الذي سمّوه دفاعاً) الصهيونيّ على إيران: لا يُسمح لأي أمة أن تكون مستقلة أو قويّة لكي تخدم مشاريعنا وتستغلّ شركاتنا ثرواتها كما تشاء. بمجرد أن تبدأ دولة ما في النهوض، نختلق الاتّهامات، ننتهك القانون الدوليّ دون تردّد، ونُغلّف كل ذلك بشعارات «الأمن» و«الدفاع عن الديمقراطية». ونحن نراهن على أن شعوبنا منشغلة جدّاً، أو مبرمجة بما فيه الكفاية كي لا تطرح الأسئلة المحرجة. نكذب—بشكل سافر، متواصل، وبدون خجل—لأنّنا نحن وحلفاءنا، مستفيدون من الحروب، وأصدقاءنا يملكون وسائل الإعلام وسيكرّرون روايتنا بلا تردّد، ليضمنوا أن صوتنا وحده هو الذي يُسمع، ورؤيتنا وحدها هي التي تُرى. وهكذا، يوشك التاريخ أن يعيد نفسه، إذ لا تُخطط الحروب العالمية مسبقاً؛ بل تنفجر حين يصطدم جنون العظمة عند بعض القادة برغبتهم في المجد والسيطرة. وفي تلك اللحظات، تُجبر الدول الأخرى على الردّ، وإلا أصبحت الهدف التالي. والنتيجة؟ سلسلة من الكوارث تقود العالم إلى فوضى شاملة، وتخلّف ملايين القتلى. اليوم، ما نشهده من عدوان أميركي-صهيونيّ هو قاس جدّاً على الشعوب الواقعة تحت الحصار والاحتلال. لكنّ الخطر أكبر من ذلك: نحن على حافة انهيار شامل قد يطاول الكوكب بأسره. ثلّة من الأفراد في حكومتَين يقامرون الآن بحياة مئات الملايين من البشر، بمن فيهم نحن. ولا يُطلِق أنصار الحكّام صفات «الطغاة المجانين» عليهم إلا بعد فشلهم. حتّى ذلك الحين، يظلّون مسحورين بعروض القوة العسكريّة، عاجزين عن رؤية أن الكارثة، في النهاية، ستطاول الجميع—بمن فيهم هم. من غزة إلى طهران، ومن بكين إلى كاراكاس، القصة واحدة: المقاومة تُوصم بالإرهاب، والاستقلال يُعتبر استفزازاً، والعدالة تؤجَّل، حتى نقرّر نحن أن الوقت حان، وهذا القرار ليس ملكهم، بل ملكنا. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed