|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٧ أيار 2025
الإيمان جزءٌ لا يتجزأ من شخصيّة الإنسان، وهو ينبع من أعماقه بوصفه يقينًا بإله ينبع عنه التزام بجملة قيم كالعدالة والحرية والكرامة. وعندما يتحول هذا الإيمان الفردي إلى ممارسة جماعية، ينشأ الدين بوصفه قوة اجتماعية منظّمة، ذات طقوس وتعاليم وهيكليات. وكلّ إيمان لجماعة، حتّى ولو كان إيمانا بمبادئ دون إله، يُنشئ دينًا بوصفه مجموعة من الطقوس المشتركة لدى الجماعة والتي تعبّر بها عن هويّتها المشتركة. كلّنا جماعيّون في نهاية الأمر، حتّى أكثرنا تفرّدا (لاحظوا الأمر في المباريات الرياضية). لكن الدين على ضرورته لكلّ جماعة للتعبير عن هويّتها، ليس خاليًا من التحدّيات. الخطر الكامن فيه يتمثل في الخلط بين التدين والإيمان. فقد ينشأ الناس على الدين، في ظلّ طقوس جماعيّة، ويظنون أن ممارستهم لتلك الطقوس كافية ليكونوا مؤمنين، أي يخلطون بين الإيمان بوصفه علاقة شخصيّة مع إله والتزام شخصيّ بمبادئ، وبين التعبير الجماعيّ عن ذلك وهذا أمر مغاير كلّيا، إذ يستطيع الإنسان أن يمارس طقسا دون أن يلتزم معناه، أي يستطيع أن يكتفي بالرموز الموجودة في الطقوس دون علاقة شخصيّة بالمرموز عنه. وهذا ما نلاحظه بشكل واضح في الفصام القائم بين الممارسة والكلام عند المتديّنين. كما يمكن ملاحظة ذلك خلال الظروف الصعبة التي تطرح التحدّيات. فالإيمان هو التزام بالمبادئ، تمسّك بالحق والتزام شخصيّ لا يرتبط بالظروف. أما التدين من دون إيمان، فهو قشرة خفيفة، قابلة للانكسار تحت ضغط الظروف والمصالح. لهذا السبب، يثبت المؤمنون الحقيقيون على مواقفهم حتى في أحلك الظروف وأكثر عدم ملائمة، بينما يتهاوى من تديّن بلا إيمان عندما تهبّ رياح الصعوبات. هذا التمييز بين الإيمان والتديّن يشرح الكثير من التحوّلات التي شهدتها مجتمعاتنا: تديّن (التزام بالطقوس) في زمن الشيوعية لم يكن متّسقًا مع القيم التي يدّعي تمثيلها، وتديّن آخر في زمن المقاومة الحديثة، يرفع شعارات الإيمان، لكنه قد يفرّط بها عند تغيّر الواقع في ظلّ ضغط الاستعمار أو المصالح. تاريخيًا، الإيمان – لا التدين – كان الوقود الأساسي لحركات المقاومة، لأنه يجعل من الالتزام بالقضية قضية وجود ومعنى، لا قضية مكسب وظرف. لكن رغم هذه القوة الدافعة، يبرز تحدي سياسيّ كبير لكلّ متأمّل في مستقبلنا: لا يمكن لمشروع سياسي قائم على الدين -حتّى ولو كان منفتحًا ورحبًا- أن يكون مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا في لبنان، ولا في أي مجتمع تعدّدي في المحيط العربيّ. فالتنوع الديني والاختلاف العقائدي – من مؤمنين بأديان مختلفة إلى ملحدين إلى لادينيين – يحتّم أن يكون المشروع السياسي المقاوم للاستعمار مشروعًا شاملاً للجميع. هذا ما يفسّر، مثلاً، لماذا لم تتمكن المقاومة في لبنان، رغم انتصارها التاريخي عام 2000، من تولّي الحكم وهو الأمر المنطقيّ. لو كانت المقاومة تنتمي إلى حركة وطنية أو قومية متنوّعة تتبنّى هوية جامعة، لكان استلام الحركة السياسية الجامعة للتنوّع أمرا مقبولا، لا بل مطلوبا، شعبيّا. من هنا، تصبح الحاجة ملحّة إلى صيغة جديدة: مشروع سياسيّ يجمع قدرة المقاومة المبنيّة على قوّة الإيمان (المصدر الروحي والأخلاقي)، وفي الوقت نفسه ينفتح على أفق سياسي جامع، يتجاوز الهويات الخاصّة ويحتضن التعدد والاختلاف، بحيث لا تلغي الوحدة التنوّع، ولا يشرذم التنوّع الوحدة. ابتكار هذا الشكل من العمل السياسيّ الذي لا يفرّط بمصادر القوّة ويُبقي عينه وهمّه على الوحدة الحقيقيّة - لا ذاك التكاذب المفتّت الذي نراه في ممارسات متعدّدة منها انتخابات بلدية بيروت- هو ابتكار يجمع المقاومة بالقدرة على الحكم، يجمع روحية الإيمان والعقلانية، المبدئية والواقعيّة، هو ابتكار ليس مستحيل، إن وجدت الإرادة الصادقة لذلك. هذ الابتكار يمكن تجسيده في تحالف سياسيّ مقاوم، في مشروع وطنيّ واضح المعالم، يُعلي من شأن الكرامة والحرية والعدالة، ومن امتلاك القدرة على حمايتها. إن طبيعة مستقبلنا، في لبنان وسواه، يتوقّف على نجاحنا في ابتكار هذا المسار. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed