خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٩ تمّوز / يوليو ٢٠٢٥ مسرحية "نزل السرور"، اعادة انتاج «محترف الميناء للمسرح» للمخرج جان رطل، مدينة الميناء، 1986 حين يُذكر اسم زياد الرحباني، يُستدعى في القلب صوتٌ مبدع، مستقل، ساخر، مثقّف، ومتمرّد. زياد لم يكن فنانًا عاديًا، بل ظاهرة ثقافية واجتماعية أعادت تعريف علاقة الفن بالسياسة، والضحك بالغضب، والمسرح بالمقاومة. هو نموذج نادر للفنان الذي لا يكتفي بعرض الواقع، بل يحرّض على تغييره. بتفرّد وإبداع فنّي، أعاد زياد الرحباني تشكيل المشهد الموسيقي اللبناني، خارجًا من عباءة الغناء الرومانسي للأخوين رحباني، هو الذي اتّهمهما مرّة عن حقّ بخلق وطن غير واقعيّ ولا هو موجود في أغانيهما. أدخل زياد إلى الأغنية نبرة جديدة من النقد الاجتماعي والسياسي. المتذوّقون لفنّه، موسيقى وكلمات، يمكنهم أن يلمحوا وسطه وجهًا واحدًا فيها هو وجه الإنسان، ويمكنهم التمييز أيضًا بين بُعدَين: بُعد ماركسيّ نقديّ، وبُعد الخبرة الإنسانيّة الشخصيّة في تناقضاتها. نرصد ملامح الوجه الماركسيّ في نقده للبنية الاقتصاديّة الاستغلاليّة في أغانٍ مثل «أنا مش كافر» أو «شو هالإيّام» اللتين شرح من خلالهما الاستغلال الطبقيّ واحتكار التجّار، وفضحَ نفاق المستغِلّين المتبرّعين بأموالهم للفقراء في وقت كان النفوس تُحضَّر للشراء-الخضوع من خلال التبرّعات في لبنان الثمانينيات. أمّا وجه الخبرة الإنسانيّة الشخصيّة في تناقضاتها، وجه العلاقات الإنسانيّة لليوميّات العادية، ذاك الوجه الذي يبرز عنده بعيدًا كلّ البعد عن العظات الأخلاقيّة (وهو ما جعله مقبولًا في القلوب) فيمكن ملاحظته من خلال أغان مثل «خلّيك بالبيت» «كيفك إنتَ»، «صباح ومسا»، «شو بخاف»، و«أنا فزعانة»، التي تأخذ المشاعر المتناقضة الإنسانيّة على محمل الجدّ؛ ونلاحظه في أغان تعكس القلق الوجوديّ على المصير كما في أغنيته «إيه في أمل» التي حمَلت في طياتها قلقًا ووعيًا عميقًا بواقع متأزم لبلد يأكل نفسه ويضمحلّ. هذا الوجه الإنسانيّ نلاحظه أيضًا في موسيقى تكاد تكون صرخات احتجاج كما في «أبو علي»، أو في مجرّد قصيدة للحزن كما في «تلّ الزعتر»، أو في حزن دائريّ لأناس يتخبّطون في حلقة من العنف العبثيّ وفي نفق بدا بلا نهاية كما في موسيقى يفوتني اسمها الآن. عدا جمال كلماته وألحانه كانت أغانيه لفيروز ابنة عصرها، تحكي قصص الحبّ الواقعيّ كما نعيشها جميعًا، أي في أفراح وأحزان، والأهمّ التناقضات، ولذلك كانت تخاطب كلّ جيل في كلّ زمن. ملامسة فنّ زياد لكلّ جيل تأتي بالضبط من ملامسته للحياة الواقعيّة، التي يمتزج فيها الحلم بالجسد الملموس، أي بهذا التناقض الأبديّ بين وجودنا في هذا العالم البائس والجميل وبين امتداد أفكار القلب إلى الرؤى. بالطبع كان هذا كلّه متسربلًا جمالًا موسيقيًّا رائعًا والجمال هو الأساس في العمل الفنّي، فنحن لا نتعامل مع الموسيقى إلّا كحاملة للجمال أوّلًا. أمّا من جهة المسرح، فبين يدي زياد تنقلب خشبة المسرح إلى مرآة للمجتمع، إلى مكان محاكمة سياسية واجتماعية لكل ما هو زائف ومنافق. شخصيّاته أناس مأزومون، مهمّشون، متمرّدون، منافقون. أمّا الضحك عنده فسلاح ضد النظام الطائفي، ضد الشعارات الفارغة، ضد التبعيّة الفكريّة والسياسيّة، ضدّ سحق البُنى السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة للإنسان. مسرحياته بابٌ للشك والأسئلة: من نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ولماذا ما زلنا ننتظر؟ وهو لم يوفّر الثقافة السياسيّة للناس من نقده، ولعلّ ذلك ما كان وراء عدم الإعجاب بمسرحيّاته الأخيرة بعد الحرب والذي عبّر عنه عديدون. رغم غيابه الموجع، ستبقى أعمال زياد حاضرة في الذاكرة الشعبية، في الوجدان العام، في احتجاجات الضمير. أجيالٌ كاملة تربّت على جمال فنّه، على صوته، على سخريته، على شجاعته في قول ما لا يُقال. لم يكن فنانًا للترف، بل فنانًا للضرورة؛ ضرورة أن نفكر، أن نشكّ، وأن نحلم واقعيًّا. كما العباقرة، زياد الرحباني هو زياد الرحباني، نصفه بنفسه، لا يمكن حصره في قالب؛ هو مبدع، مثقّف، مفكّر، ثائر، وساخر. صوته كان ولا يزال مرآة للعالم العربيّ بأزماته وحلمه. ومع كل استماع إلى أحد ألبوماته أو إعادة عرض لإحدى مسرحياته، يعود سؤال زياد الأهم ليطرق الأذهان: «بالنسبة لبكرا... شو؟» كأنّه يُسائلنا ماذا تفعلون اليوم؟ إبداع زياد الرحباني أنّه قال الأشياء في العمق، قال الواقع الذي اختفى عن القابعين في شرنقاتهم، قال الضوء والحرّية خارج الشرنقات، قال الحقيقة، والحقيقة مقام الأنبياء؛ وهو كان نبيّ الحياة اليوميّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |

RSS Feed