|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٣ حزيران / يونيو ٢٠٢٥
في قلب الرؤية المسيحيّة، لا يُفهم الإيمان على أنّه حالة شعوريّة فرديّة أو مجموعة من الطقوس والعقائد النظريّة، بل هو قبل كلّ شيء حياة متجسّدة في المسيح، مسيرة تحرّر تتجسّد في التاريخ، وليس خارجه، مسيرة تحرّر من الخطيئة ومن آثارها في الفرد وفي المجتمع، تلك الآثار نراها في الأنانية، والانغلاق، والاستعلاء، واللامبالاة بالآخر ومصيره، والانكفاء عن مواجهة الظلم، والاستغلال، والقمع، والبطش، وغير ذلك. الإيمان، إذاً، ليس مجرّد علاقة شخصيّة بالله، بل هو يتجذّر بالتزام بواقع البشر، وخاصّة المظلومين منهم، كما تعلّمنا من تجسّد المسيح الذي حمل الألم الإنساني وسكن بين الفقراء والمنبوذين. والإيمان يمنح هذا الالتزام طول النفَس والرجاء اللذين ينقذان المناضلين من اليأس أثناء الفترات المظلمة من مسيرة التحرّر. لهذا كان الإيمان، بحسب القدّيس يعقوب، من دون أعمال، مائتاً. وإذا كانت الأعمال التي يُقصد بها في جوهرها هي أعمال المحبّة والعدل، فإنّ الصمت عن الظلم أو اللامبالاة تجاه القهر والاستعمار هما إعلان صريح عن غياب الإيمان الحقيقي، حتى لو وُجدت مظاهر دينيّة خارجيّة. الصمت أمام الآثار المدمّرة للخطيئة على حياة الآخرين خيانةٌ للمسيحيّة التي هي، في أصلها، مقاومةُ حبٍّ للشرّ، ومواجهة للظلم، وسعي دائم نحو الحقيقة والعدالة والكرامة. لهذا يُسائلنا بقوّة ويهزّ ضمائرنا غيابُ الالتزام المسيحي الجماعيّ في لبنان وسوريا، بل في عموم المشرق العربي، عن دعم نضال الشعب الفلسطينيّ في وجه الاستعمار الصهيونيّ، ولو عبر أشكاله الأكثر توافقاً مع التعليم المسيحيّ: المقاومة اللاعنفيّة عبر المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة التي تدعو إليها حملة المقاطعة (BDS). إذا كان المسيحي مدعواً إلى الدفاع عن المظلوم، فإنّ التملّص من هذا الواجب الأخلاقيّ والروحيّ – وبالأخصّ في سياق واضح وفجّ كالاستعمار الصهيونيّ لفلسطين والمطامع الاستعماريّة له في لبنان وسوريا – لا يمكن إلا أن يُعدّ خيانة للإيمان نفسه. المسيحي لا يُطلب منه أن يحمل السلاح بالضرورة (مع أنّ المسيحيّة برّرت حمل السلاح للدفاع عن الأوطان)، لكن يُطلب منه أن لا يصمت عن الظلم، وأن يواجهه في ظلّ الواقع الذي يعيش فيه، على الأقلّ عن الطريق الذي يتوافق بشكل واضح مع الإنجيل: طريق النضال اللاعنفيّ، الطريق الذي يمتزج فيه الضمير بالإرادة، والمحبّة بالعدالة. وإن كان نظاماً قمعيّاً كالذي كان أو الذي سيأتي في سوريا يمنع كلّ تعبير شعبيّ سياسيّ خارج إرادة السلطة، فإنّ لا أحد يمكنه أن يمنع سيّدة أو رجلاً من مقاطعة بضاعة محدّدة ومنتجين بعينهم، فمن قوّة المقاطعة أنّها تتمّ عن طريق سرّي هو طريق الامتناع عن دعم الشرّ بالامتناع عن الشراء من داعميه. طبعاً، المسيحيّون في لبنان مطالبون بأكثر لأنّ بلدهم يسمح لهم بحرّية سياسيّة وازنة. الغريب، والموجع في آن، هو أنّ الكنائس، والمؤسّسات المسيحيّة، والجماعات المنظّمة التي ترفع اسم المسيح في بلادنا، تنكفئ عن هذا الواجب. لا يُسمع صوتها لا في دعم الحق الفلسطينيّ، ولا في فضح الإجرام الصهيونيّ، ولا في تشجيع المقاطعة، ولا حتّى في تربية المؤمنين على وعي التحرّر والعدالة. هذا الصمت ليس حياداً، بل تواطؤ مع الشرّ، بالامتناع عن تسميته والدعوة إلى مواجهته. وهو انعدام مسؤوليّة إذ يترك الناس (الرعيّة) ضحايا عدم معرفتهم، والجهل ذئب الوعي. البعض يختبئ وراء شعارات «السلام» المفرغ من المضمون بانفصاله عن العدالة، أو يدّعي أنّ «الكنيسة لا تتدخّل في السياسة»، وكأنّ عدم التدخّل في السياسة ليس هو بسياسية. حين يُقال «لا نتدخّل في السياسة»، فإنّنا في الحقيقة نُعلن انحيازاً، وإن جاء متخفّياً بثوب الحياد. فالحياد في وجه الظلم هو انحياز للظالم، والصمت أمام القهر هو تأييد ضمنيّ له. إنّ عدم التدخّل في السياسة حين يُستشهد الأبرياء، ويُهجّر الضعفاء، وتُداس الكرامات، وتُباد الحياة، هو سياسةٌ بحدّ ذاتها — سياسة الخوف، أو اللامبالاة، أو الحفاظ على الامتيازات، أو مسايرة الأقوياء. إنّ اختيار عدم التدخّل في «السياسة»، هو قرار سياسيّ يتنكّر لوجع الناس، ويصنع من الكنيسة متحفاً للطقوس بدل أن تكون خيمة لقاء وشفاء ومواجهة. هو هروب من الصليب، لا حملاً له. هو وقوف في صفّ بيلاطس وهيرودس، لا في صفّ المصلوب والحقّ. السياسة في جوهرها هي تدبير شؤون البشر. وإن لم نكن فيها صوتاً للحقّ، صرنا صدى للباطل. وإن لم نكن فيها حضوراً للرحمة، صرنا غياباً لله. الصمت ليس براءة، بل مشاركة غير معلنة في صناعة الخراب. والمسيحي، حين يختار ألّا ينحاز، يكون قد انحاز — ولكن ضدّ الإنجيل. إنّ الكنيسة التي لا تتدخّل في وجه الظلم، هي كنيسة استقالت من رسالتها. أمّا الكنيسة التي تنأى بنفسها عن النضال اللاعنفيّ، فهي كنيسة فقدت بوصلتها الروحيّة. في يسوع المسيح، كلمة الله الذي صار إنساناً، لم يبقَ الله في علياء السماء يتأمّل الشرّ من بعيد. بيسوع دخل الله التاريخ، وتكلّم، ولامس، وغضب، وبكى، وواجه، حتى الموت. فكيف يتبع المسيحيّ ربّه المصلوب، ثمّ ينسحب من معركة الحقّ والحياة باسم الحياد؟ أليس الصليب نفسه تدخّلاً إلهياً في تاريخ البشر؟ أليست القيامة فعلاً سياسياً بامتياز، لأنّها تنقض منطق سياسات الموت والظلم وتفتح العالم على الأمل والعدالة؟ لقد بات من الضروريّ أن تعي الكنائس في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، أنّ فلسطين ليست فقط قضيّة «إسلاميّة» أو «سياسيّة»، بل هي معيار إنسانيّ وأخلاقيّ وروحيّ لاختبار صدق الإيمان المسيحيّ في واقعنا. وأنّ السكوت عن القهر، والتهرّب من الالتزام، هما شكل من أشكال التواطؤ، ولو بالصمت. إنّنا نعيش في أرض الخراب، لا لأنّ الخراب قد أحاط بنا من الخارج فقط، بل لأنّ الالتزام الإيمانيّ غاب من الداخل. وما من سبيل لاستعادة الإيمان الحيّ إلّا بالعودة إلى الجذور الإنجيليّة التي تنحاز للمظلوم، وترى في الدفاع عنه وجه المسيح المتألّم. المقاطعة اليوم ليست فقط أداة نضال فعّالة، بل هي أيضاً فعل إيمان. فمن لا يقاطع الظالم، يباركه، ولو بصمته. فهل ننتظر أن تنطق الحجارة حين يصمت المؤمنون؟ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed