|
خريستو المرّ، الأحد ١٣ أيّار / مايو ٢٠٢٥
في زمنٍ عزّت فيه الحرّية، وفي بلادٍ تتغنّى بالفكر وحقوق الإنسان بينما تسحقهما تحت حذاء المصالح، يتربّع جورج عبد الله في زنزانته، لا مهزوماً بين القضبان، بل على عرش، عرش قافلة الأحرار، عرش الحقّ الساكن عيون الفقراء والمظلومين، يجلس كمن اختار أن يكون جسراً للعبور من الظلم إلى المعنى. جورج عبد الله، ابن الأرض التي ولدت أنبياء النار والحبّ، يمشي منذ أكثر من ثلاثة عقود في دهاليز الأسر، وعلى وجهه ملامح من غسل أقدام الفقراء، وفي طيّات وجهه رائحة ابن الجليل الذي قال: «ما ينتفع الإنسان إن ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو فقدها؟» لا نلمح في جورج خوفاً، بل اطمئناناً لا يعرفه إلّا مَن صعد على خشبة وقبل لطمة وذاق طعم المسامير لكي لا يحني ركبة لبعل، لصنم، لاستعمار. نحن من الخارج نرى ونعرف أنّ السجّان هو الخائف الحقيقي، نعرف أنّه يخاف من الضوء المشعّ من كلمات الحرّية، من وجوه الذين صاروا بحياتهم ومواقفهم كلمات حرّية وحقّ. فرنسا، التي تعزف أهازيج العدالة وتكرّم مفكّريها، تُمعن في أسره رغم قرارات الإفراج، كأنّ حبر العدالة يجفّ كلّما اقترب من رجلٍ مسكونٍ بالذين تبعثر لحمهم على جدران الهامش، أولئك الذين ينساهم العالم لأنّ العالم لا يعرفهم والعالم لا يعرف إلّا خاصّته وخاصّته ملوك من بطش وظلم، والبطش والظلم يزولان وكلمات الحقّ والحرّية لا تزول، ولهذا يرغي البطّاشون ويزبدون كلّما لاحت فضيحتهم وهزيمتهم في الأفق. ربّما لم يقرأ جورج الإنجيل حرفاً حرفاً، ولكنّ الذين يعرفون وجه الناصريّ يعرفون أنّه عاش كلام الذي مشى في جبل الزيتون، ذاك أنّه اقترب من جرح المقهورين، وسكن فيه، وصار له لساناً وموقفاً. ربّما لم يقرأ جورج الإنجيل حرفاً حرفاً، ولكنّ الذين يعرفون وجه الناصريّ يعرفون أنّه عاش كلام الذي مشى في جبل الزيتون، ذاك أنّه اقترب من جرح المقهورين، وسكن فيه، وصار له لساناً وموقفاً. هو ذاك الرجل الذي قرأ وكتب وعاش ليرى في عيون الأطفال خريطة للضوء والحرّية، وليحميهم من مخالب الوحش، ويحمي نفسه من خدعة الأكثريّة تلك التي تخلط نبض القلب ونبض الحياة. اختار أن يكون في نهر الحياة ومصير النهر جذور الشجر وآفاق المحيط. قال لنفسه إنّ الجوع لا يهبط من السماء، بل يخرج من أقبية السلطة والأرباح. وحين رأى جسد المخيّمات ينام على تراب العدم، ورأى الجسد الممتدّ من المحيط إلى الخليج هامداً ومبعثراً، سأل «ما اسمك»، ويُقال إنّ الناصريّ سأل السؤال نفسه لروح شرّير، وظنّي أنّ جورج سمع الجواب نفسه «اسمي جحفلٌ، لأنّنا كثيرون». عندها شاء أن يكون صوتاً صارخاً، فأراد من حياته أن تكون كلمة تنهر الأرواح الكثيرة لتخرج من الجسد المتعب لكي يتطهّر بالحرّية والكرامة. وحين دخل السجن استوى على التضحية عرشاً. ربّما لم يعرف أنّه غدا شيئاً فشيئاً شبه ذاك الذي مشى في أزقّة فلسطين مع بضعة صيّادين وقيل إنّه انتصر على خشبة منصوبة خارج المدينة. اختار أن يبقى حرّاً، أن يقول «لا» بوجه العالم الذي يصادر الحلم. قال «لا» في وجه نظام عالميّ يبيع الموت في علب الكلمات الأنيقة. قال «لا» ولم تكن تلك عنده شعاراً، بل حياة تُعاش، تقاوم، وتصير حكاية للأجيال. مع السنين توهّج جورج كسنبلة. صار المعلم، صار الرفيق. صار السنديانة التي تضيء بالحضور لتمنع الوحدة من التهام الأرواح. جورج عبد الله، الأسير الذي طافت حوله المعاني. يمشي كما مشى الأنبياء بين الجراح. جورج عبد الله الذي لم يخسر يوماً ذاته، بل كشف خسارة العالم لذاته، وصار فضيحةً لحضارة الذين لا يعدلون. نرجو أن نراه خارج الأسر ليفرح الحقّ ونفرح به. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed