|
خريستو المرّ، الثلاثاء ١٠ حزيران 2025
في زمن التزوير السياسي والتواطؤ المقنّع، تُطرح مسألة «تطبيع العلاقات» أو «السلام» مع الكيان الصهيوني في لبنان كأنّها خيار سياسي مشروع، بل كأنها مخرج من أزمة مستمرة. يَظهر التطبيع في الخطاب الإعلامي لبعض النخب وكأنه ضرورة «واقعيّة» تقتضيها التغيرات الجيوسياسية أو «فرصة» اقتصاديّة، وأنّ كلّ احتلال أو «خرق» إسرائيلي سوف تحسمه العلاقات الدولية والقانون الدولي ومجلس الأمن. فلنبدأ بالبديهي، لا بدّ أن يكون الإنسان غبيّاً أو منافقاً ليعتقد أنّ العلاقات الدولية للبنان ومجلس الأمن ستحميه من نظام الإبادة الصهيونيّ، فذاكرتنا لا تزال تشهد بأنّ قرار مجلس الأمن 425 القاضي بانسحاب جيش الاحتلال من لبنان والذي صدر في 19 آذار من عام 1978 لم يشهد تنفيذاً رغم 22 عاماً من العلاقات الدولية واستجداء الأمم المتّحدة، وهذا قرار من مجلس الأمن ليس أقلّ. ولم يخرج العدوّ من الجنوب (أو معظمه) إلّا تحت ضغط المقاومة المسلّحة التي كلّفته ما يكفي لطرده. واليوم كلّ القوانين الدوليّة لا تمنع الإبادة ضدّ أهلنا في غزّة. كما إنّ الجلوس على أيّ طاولة «مفاوضات» لبحث أيّ أمر لمطلق أيّ بلد مع بلد آخر، لا يغدو كونه استسلاماً إن لم يمتلك البلد مقوّمات القوّة. هذا بديهي، ولكن نسوق مثلاً للإيضاح: عندما سلّمت منظّمة التحرير كلّ أوراق قوّتها فأوقفت انتفاضة الحجارة، والعمل المسلّح، واعترفت بإسرائيل فاتحة باباً أمام العالم ليقيم علاقات معها، ومهّدت للأمم المتّحدة لتلغي قرارها بأنّ الصهيونيّة شكل من أشكال العنصريّة، كان ذلك إعلان استسلام، ولذلك باءت المفاوضات المفترضة للحلّ الشامل وإعلان الدولة الفلسطينيّة بالفشل، فالفشل محتوم في ظلّ انعدام القوّة. من هنا، فمن الحكمة والعقل في لبنان الامتناع عن الدعوة، والسعي، إلى نزع السلاح الوحيد القادر - حتّى في الحرب الأخيرة (التي لم تنتهِ بعد) - على منع العدوّ من احتلال الأرض، وهذا عمل جبّار وليس بالعمل الهامشيّ! يتسرّع القائلون إنّ المقاومة فشلت في حماية لبنان. هذا غير صحيح، المقاومة فشلت في معادلة الردع، ولكنّها لم تفشل كلّياً في حماية لبنان، فهي منعت تقدّم العدوّ أكثر من بضع مئات من الأمتار. اتّفاق وقف إطلاق النار قد أفشل التضحيات التي قدّمها شعب لبنان لكي يمنعوا تقدّم الاحتلال (أعلم أنّ الغبيّ والحاقد والمنافق لا يعتبر أهل الجنوب شعبنا، ولكنّ الغباء والحقد والنفاق لا تقدّم ولا تؤخّر في الحقيقة). إذاً، المقاومة لم تفشل بشكل كامل، بل برزت بوضوح حدود قدرتها: صدّ العدوان البرّي. وإذا تذكّرنا أنّ كلّ الدول العربيّة -ومنها اليمن الحرّ- لا تمتلك قدرة صاروخيّة قادرة على ردع سلاح الطيران للعدوّ الصهيونيّ، يكون من الواضح أنّ وجود مقاومة أفضل من عدم وجودها، فالمقاومة تسمح بصدّ العدوان البرّي، بينما غيابها يعني انتفاء وجود أيّ قوّة لا في البرّ ولا في الجوّ. لذلك، إنّ كلّ ذي عقل راجح يسعى أن (لا يمثّل أنّه) يدافع واقعيّاً عن الناس في لبنان ويهمّه حياتهم، لا بدّ أن يتمسّك بالقوّة الوحيدة القادرة على الحماية البرّية، وأن يفكّر كيف يمكنه أن يوسّع القدرة هذه بمدّ الجيش الوطني بقدرة مماثلة، وبرفد البلاد بقدرة على الدفاع الجوّي، عوض التفكير في كيفيّة نزع السلاح القادر الوحيد. ومَن يعتقد أنّ ذلك غير ممكن بسبب الضغط الأميركيّ (وأنا لا أعتقد أنّ هذا صحيح) فذلك يجب أن يدفعه أكثر للتمسّك بالقدرة الوحيدة الموجودة في البلاد. أمّا بالنسبة إلى من يحبّون الدول المثاليّة حيث كلّ شيء واضح، والجيش هو الوحيد الذي يحمي البلاد، فيمكنهم أن يبنوا قدرة الجيش ويبرهنوا للناس أن الجيش أصبح قادراً على حماية حياة الناس، عوض الكلام المتهوّر عن ضرورة نظريّة لحصريّة السلاح. لكن فلنفكّر قليلاً في ظلّ أوضاعنا الحقيقيّة المعقّدة، القول بحصريّة السلاح بالدولة ليس وصيّة إلهيّة، هي فكرة إنسانيّة حول الدول لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنّها ليست الابتكار الوحيد الممكن في العالم. لمَ لا يمكن التفكّر، في ظلّ ظروفنا، بكيفيّة يمكن التوفيق فيها بين وجود مقاومة عسكريّة شعبيّة، وبين وجود جيش للبلاد؟ نحن كبشر ابتكرنا ما نراه أمامنا كلّ يوم في حضارة اليوم، ويمكننا أن نبتكر إطاراً للتعاضد في الدفاع عن البلاد بين الجيش وبين القوّة المسلّحة الشعبيّة. فتكون المقاومة جزءاً من الدولة أو من إستراتيجيّتها الدفاعيّة. هل هذا مستحيل؟ أجزم بأن لا. لدى البشريّة أفضل العقول لابتكار أفضل الحلول في ألف مسألة ومسألة، لن تعصى مسألة كهذه علينا إن صفت النيّات وتثبّتت الثقة بين المقاومة وبين المخلصين لفكرة بناء الدولة القادرة. المهمّ أن تكون الرؤية هي حماية حياة الناس. الآن نردّ على السؤال الذي يقفز في خلفيّة ذهن كثير من القرّاء: لمَ نعفي المقاومة من النقد؟ هل المقاومة الموجودة بعيدة من النقد وخالية من العيوب؟ لا، أبداً. يمكن نقدها لتبيان مواضع ضعفها وقوّتها، وأخطائها، وخطاياها السياسيّة الفاقعة: التحالف الموضوعي مع المصارف والفاسدين، والدفاع المستميت عن الأوضاع الظالمة القائمة وأن تمنع قيام وحدة وطنيّة. فهذه المسائل مرتبطة بالقدرة على الدفاع عن حياة الناس. لا يمكن بعد اليوم أن يقبل حتّى مؤيّدو المقاومة بأن تدافع عن الظلم وتحميه، وأن تحمي نظاماً لا ينتج سوى التفكّك ويظلم معظم الناس (أليس النظام الذي يسمح للمصارف بنهب الناس نظاماً ظالماً؟)، وأن تتعاون حتّى مع أعدائها السياسيّين في كلّ أنواع انتخابات فتمنع عمليّاً أيّ تغيير في السلطة القائمة، وأن تمتنع عن التقدّم بمشروع، أو عن دعم مشروع، يوحّد شعبها. أليس الرفض الفعلي للتغطية الصحّية الشاملة، والرفض الفعليّ لتكون الانتخابات بحسب مكان السكن لا الولادة، جزءاً من التفخيخ لأيّ مشروع لدولة عصريّة، وهو تفخيخ يشارك فيه الممثّلون السياسيّون للمقاومة مع غيرهم؟ إنّ مستقبلنا يتوقّف على مدى قدرتنا الجماعيّة على السير معاً من أجل حياة الناس كلّهم. نحن الذين نحبّ الحياة لجميع الناس ونحبّها أوفر، نحن في المركب نفسه، إمّا نغرق معاً أو ننجو معاً. في مطلق أيّ وطن لا توجد فرقة ناجية وحدها. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed