|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٢ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٥
عندما نحاول أن نفهم الآخر بشكل صحيح وحقيقيّ، لا يمكننا أن ننطلق من تصوّراتنا نحن عنه، بل من فهمه هو لنفسه. فالمعرفة الحقيقية لا تتحقّق بإسقاط أفكارنا، أوهامنا ومخاوفنا عليه، بل تبدأ عندما نصغي إليه كما هو، ونسعى إلى فهمه من داخله، من رؤيته هو لذاته، لتاريخه، لآماله، ولألمه. هذه ليست مسألة تقنيّة في الفهم، بل موقفٌ روحيّ وأخلاقيّ يتطلّب منّا التواضع والانفتاح. يمكننا أن نفهم ذلك جيّداً عبر واقعنا الطائفيّ والدينيّ في لبنان. فحين أتحدّث عن طائفة غير طائفتي، لا يجوز أن أشرحها بحسب ما أظنّ عنها، أو بحسب ما تخبرني به معتقداتي أو مخاوفي أو تجاربي معها. إن فعلت ذلك، وقعت في إسقاط الذات على الآخر، وتحوّل «الآخر» إلى مجرّد ظلّ لرغباتي أو مشاريعي. أمّا الفهم الحقيقي، فلا يتحقّق إلا إذا سعيتُ إلى أن أفهم هذه الطائفة كما يفهمها بناتها وأبناؤها: ما الذي تعنيه لهم؟ ما غاياتها؟ ما مبادئها من الداخل؟ عندها فقط أبدأ في رؤية الآخر لا كمرآة لي، بل ككائن حرّ له رؤيته وتجربته وكرامته. الأمر نفسه يحصل بين المحبّين. فالعاشق قد يرى المحبوب عبر حاجاته هو، عبر ما ينقصه أو ما يحلم به. وقد يطلب من الآخر أن يلبّي هذه النواقص، دون أن يرى من يكون حقّاً. هذا ليس حبّاً، هذه نرجسيّة. لكنّ علاقة الحبّ الحقيقيّة تبدأ حين يحاول المرء أن يرى المحبوب كما هو، لا كما يريده. وهذا طريق يستغرق العمر كله، لأنّه مسار في التخلّي، في الإصغاء، في المحبّة التي تحترم الاختلاف. هذا الموقف الإنساني الجوهري، يمكن تطبيقه في الذكاء الاصطناعي. فالأنظمة الذكية التي تُصمَّم لخدمة الناس، قد تكون منحازة ضدّهم من حيث لا يدري مصمّموها، وهو أمر مثبت. لماذا؟ لأنّ التصميم يبدأ غالباً من فهم المصمّم نفسه للناس، وليس من فهم الناس لأنفسهم. يجمع «البيانات» عنهم بحسب ما يراه المصمّم مهمّاً، لا بحسب ما يراه الناس أنفسهم مهمّاً. والأسوأ، أنّ الغاية من التصاميم كثيراً ما تُحدّدها الجهات المموّلة، لا المجتمعات التي توجّه إليها؛ وبالتالي فإنّ التصاميم قد لا تخدم بالفعل الناس الذين تتوجّه إليهم، بل قد تستخدمهم لغايات أخرى. لهذا، إن أردنا تصميم ذكاء اصطناعي عادل، خادم لحياة الذين يتوجّه لهم، على المصمّمين أن يبدأوا من الآخر: أن يصغوا إليها أولاً. أن يدعوه ليكون شريكاً منذ لحظة التفكير بالمشروع، لا بعد إنجازه، أو أثناء التصميم فقط (بعد أن يكون القرار بالأهداف متّخذاً). أن يشارك الآخر في تحديد الأهداف، في وضع الأسئلة، في اختيار نوع المعرفة التي يجب جمعها، في تقييم النتائج. لأنّ الآخر هو المعني، هو الذي سيتأثّر. فكيف نقبل أن نبني للآخر، لمجموعة بشريّة (مرضى مثلاً)، نظاماً أو برنامجاً دون أن نعرف رؤيتهم هم لحياتهم وأهدافهم وكرامتهم واحتياجاتهم؟ يتحقّق الذكاء الاصطناعي العادل حين ينبع من شراكة قائمة على المحبّة، لا على الاستغلال. حين يكون مشروعاً أخلاقياً قبل أن يكون تكنولوجياً. وحين نرى في «الآخر» كائناً مساوياً في الكرامة، لا «حال» أدنى مرتبة يجب أن نحلّ لها مشاكلها. هذا الفكر لا ينسجم مع منطق الربح الرأسمالي، لكنه ينسجم مع الأخلاقيّات الدينيّة والفلسفيّة التي نتغنّى بها دون أن نفعّلها أحياناً في أعمالنا: إنّ التقنيات يجب ألّا تؤذي، بل أن تخدم. المحبّة وحدها، حين تتجسّد في طريقة العمل، قادرة على إنقاذ الإنسان من أن يتحوّل إلى مجرّد رقم في معادلة. وفي مجال الذكاء الاصطناعي الموقف المصغي للمحبّة، الموقف الذي يحترم التنوّع للمحبّة، يجنّب مشاريع الذكاء الاصطناعي من الانحراف إلى الأذى، وهو ما يرديه المصمّمون إن لم يكن من أجل المحبّة فمن أجل تجنّب الملاحقة القانونيّة. إنّ موقف المحبّة ليس من دون فائدة علميّة وعمليّة حتّى في الذكاء الاصطناعي، وهو فوق ذلك يريح صاحبه، ولو خالف الكثرة، فكثيراً ما تكون الكثرة على ضلال. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed