|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٤ شباط / فبراير ٢٠٢٥
الدوافع المادّية للاستعمار تكمن في النهب، نهب ما ندعوه الموارد. ولكنّ فكرة النهب نفسها تنبع من النظر إلى الأرض نظرة افتراسيّة ترى الأرض وما عليها مجرّد وسيلة ربح، مجرّد موارد. بالطبع، يحتاج الاستعمار إلى تكنولوجيا، فهناك جدليّة بين النفس والواقع المادّي حولها، فالنظرة الافتراسيّة نفسها (أو أيّ رغبة أخرى) تبقى غير مهمّة إلّا عندما تتوفّر الظروف المادّية لتنفيذها، فلا وزن لرغبة إنسانٍ عاش في الغابات بأن يستحوذ على الفاكهة والحبوب لنفسه فقط ليأكلها ساعة يشاء، إذ ليس لديه وسيلة ليحفظها دون تلف (إهراءات أو برّاد مثلاً). لكنّ نظرة الاستعمار الافتراسيّة تذهب أبعد من النظر إلى الطبيعة الجامدة كوسيلة، فهي ترى أيضاً الإنسان الآخر ساكن الأرض وسيلة، تراه شيئاً يجب استخدامه لجني الأرباح، أو عقبةً يجب أن تُزاح. في الحالتين، هناك ضرورة لإقناع الذات والفريق الاستعماريّ بأنّ المستعمَر ليس بإنسان، أو أنّه «بدائيّ» ولا يمتلك ولا يستحقّ أن يستخدم أرضه أو يكون سيّداً فيها؛ فهو ليس بإنسان، وإنّما شكل من أشكال الحياة التي يجب النظر إليها من زاوية الرغبة الافتراسيّة وحدها. ولهذا، فإنّ فكرة علاقة المُستعمَر مع أرضه غائبة بالضرورة في ذهن المستعمِر، ويريد إنكارها ونفيها من الوجود، ومن هنا اقتراح الصهيونيّة الدائم، والذي عبّر عنه ترامب، بنقل الفلسطينيّين وتوزيعهم كأشياء على أراضٍ أخرى. ولكن يجب إخفاء الرغبة الافتراسيّة، ولهذا يجب نكران إنسانيّة الآخر المستعمَر لكي يبدو الافتراس إنسانيّاً، أو عقلانيّاً، ليحفظ المستعمِر احترامه لذاته واحترام الآخرين له، بل ليتمرأى بمرآة كذبة «تفوّقه» الأخلاقيّ الذي لا يشابه الأخلاق «البدائيّة» للمستعمَر. كلّ أدوات الدعاية وقدرات اللغة توظَّف من أجل هذا: تجميل الافتراس وإلباسه لبوس الحضارة والأخلاق. لهذا تتضمّن خططُ الاستعمار حُكماً النكران الدائم لإنسانيّة المُستعمَر، ومنع هذا الأخير من التعبير عن أيّ شيء يجعله شبيهاً بالمستعمِر. فالمستعمِر يحتاج إلى بشر يستخدمهم أدوات استعماريّة لإخضاع المستعمَر ونهبه أو قتله، والناس في فريق المستعمِر ككلّ الناس لديهم وازع أخلاقيّ داخليّ يجعله يأبى قتل إنسان آخر، ولذلك فإنّ دخول أيّ حرب معاصرة لا يتمّ إلّا بعد التحضير لها كي يقتنع الناس الذين سيقومون بقتل آخرين، بأنّهم ذاهبون للقيام بعمل أخلاقيّ أمام عدوّ شرس لا يقيم للإنسانيّة اعتباراً، ويهدّد حياتهم، بل يهدّد الإنسانيّة. وإن كان الوازع الأخلاقيّ يدقّ ناقوس الخطر، رغم كلّ الدعاية، فنرى من المحاربين عبر العصور مَن ينتحر لارتكابه الفظائع إن لم يتخدّر ضميره بشكل كامل. حاجة المستعمِر لإنكار إنسانيّة المستعمَر تفسّر الغضب الإسرائيليّ من كلّ تعبير فرحٍ لدى الفلسطينيين، وضغط السلطات الاستعماريّة الصهيونيّة الدائم كي يمتنع أهالي المفرَج عنهم عن التعبير عن فرحهم بخروج أحبّائهم من المعتقلات، إن كان داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 أو في الضفّة. لا يستطيع الاستعمار الإسرائيليّ أن يحتمل فكرة الفرح الفلسطينيّ، فكرة أنّ الفلسطينيّين بشرٌ كاملون، فكرة أنّهم لم يخضعوا تماماً؛ فالفرح يعني أنّ الإنسان الفلسطينيّ حيّ ويشتعل فيه الأمل ويتطلّع إلى المستقبل، يعني أنّه لا يزال يشعر بأنّ الحياة لم تنته، وبأنّ المستقبل قد يكون مختلفاً. الفرح تعبير مقاومة حاضرة متوثّبة. الفرح يقول: نحن لم نخضع للمأساة. نحن أحرار من المستعمِر وآلته الوحشيّة التي تريد أن تحرمنا من إنسانيّتنا. والفرح أيضاً يكسر مرآة المستعمِر؛ تلك الدعاية التي يبثّها من خلال نظامه التربويّ ووسائل إعلامه وعظات رجال دينه وفلاسفته، والتي يكذب بها على نفسه ليقول إنّه هو الوحيد الذي يتمتّع بالإنسانيّة على الأرض التي يحتلّها. الفرح يكسر كذب المرآة لأنّه دليلٌ واضح بأنّ المستعمَر يمتلك هو أيضاً تلك القدرة الإنسانيّة. والفرح أيضاً يبيّن منع عمليّة الاستغلال الاقتصاديّ والتهديم المنهجيّ لإمكانيّات الحياة لدى المستعمَر من الوصول إلى هدف تحويل المستعمَرين إلى أشياء، بإبقائهم في ظروف من الفقر المدقع والعمل القسري، بحيث لا يعود لهم مجال للراحة أو الاستمتاع أو تحقيق الذات والتعبير عنها. والفرح ليس عملاً فرديّاً، بل تعبير جماعيّ، يتضمّن الموسيقى والرقص والاحتفالات الجماعية، والأخيرة هي دائماً مصدر للفرح والهويّة، وبذلك تعزّز التضامن والمقاومة. لذلك يكره المستعمِر الفرح الجماعيّ ويريد قمعه لأنّه تعبير قوّة جماعيّة، وقدرة كامنة لا تزال تهدّد مشروعه الافتراسيّ. وأخيراً، فإنّ الفرح يفضح كذب الدعاية الاستعماريّة بأنّ المستعمَر مجرّد كتلة عنف ينبغي إنهاء وجوده، أو أقلّ إنسانيّة يجب «تحضيره»، وبذلك يسحب الفرح البساط من تحت الركيزة الأساس في المشروع الاستعماريّ. إنّ التحرّر السياسيّ - الاقتصاديّ للفلسطينيّين ليس هدفاً إلّا بقدر ما أنّ فرح الفلسطينيّين هدف. إنّ التحرّر في الحقيقة هو عملية لاستعادة التجربة الإنسانية الكاملة ومن ضمنها الفرح؛ والنضال، رغم صعوباته، هو أيضاً وسيلة لإعادة اكتشاف القدرة على الشعور، والاحتفال، والوجود كبشر كاملي الإنسانيّة. إن التحرّر الحقيقي لا يعني فقط كسر القيود السياسية والاقتصادية، بل أيضاً استعادة الحق في الفرح وتأكيد إنسانيّة الإنسان المستعمَر على أرضه. الفرح مقاومة ونحن فرحون لخروج الأسرى، رغم كلّ شيء. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed